ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والإجتماعية، وحشد من المؤمنين، وقال في خطبته الأولى:
من كلام لأمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (ع): "عباد الله، زنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وحاسبوها قبل أن تُحاسَبوا"، ومن كلمة له (ع) أيضاً: "فحاسب نفسك لنفسك، فإن غيرها من الأنفس لها حسيب غيرك، واعلم أنّ حساب الله أعظم من حساب الناس".. هذا النوع من الفكر انطلق من خط القرآن، وذلك في قوله سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدّمت لغد}.
نقد النفس قبل الحساب
إن الإمام عليّ (ع) يريد أن يتوجه إلى الفرد في كل عناصر شخصيته وفي كل حركته في الواقع، وإلى المجتمع، ليطلب من الفرد أن ينقد ذاته، وذلك أن يقوم بعملية دراسة لذاته، ليسأل نفسه: مَن أنا كمسلم؟ ما هي أفكاري في العقيدة أو في السياسة أو في الاجتماع؟ ما هي مفاهيمي للحياة؟ هل أنا أحمل أفكار الإسلام في فكري، أم أن هناك أفكاراً غير إسلامية زحفت إلى فكري من خلال طبيعة البيئة والتربية والقراءة والسماع من دون أن أشعر؟ لا بدّ للإنسان من أن ينقد قلبه - والقلب مركز العاطفة - ليدرس الأساس الذي انطلق منه حبّه لمن أحبّ، وبغضه لمن أبغض، هل القضية أنه رأى الناس يحبون شخصاً أو يبغضونه، فأحبّه أو أبغضه من دون أن يناقش عناصر هذا الحب أو البغض؟!
ولا بدّ للإنسان من أن ينقد أخلاقه، والأخلاق تمثل أساس الشخصية السلوكية في الواقع، ليدرس سيرته في الصدق والكذب.. وهل هو من الأمناء أو من الخائنين؟ هل هو من الأعفّاء في عفّة اليد واللسان والشهوة أو أنه ليس عفيفاً؟! وهكذا في بقية النواحي الأخلاقية التي تحكم سلوكية الإنسان في نفسه وأهله والناس من حوله. ثم عليه أن ينقد عمله في عباداته، هل هو ممّن يعبد الله ويقوم بالعبادات التي فرضها عليه؟ هل هو ممّن يؤدي لله حقوقه في جسده وماله وأهله؟!!
وتمتد المسألة لدى الإنسان ليسأل نفسه: هل أني أطيع الله في الواقع السياسي الذي أؤيد فيه شخصاً وأرفض فيه شخصاً؟ أو حين أتبنى مشروعاً سياسياً وأرفض مشروعاً آخر؟ وهكذا في الواقع الاجتماعي، أن تدرس كل نفسك وكل حياتك من أجل أن ترصد مسألة الربح والخسارة في ذلك كله، لأن المسألة هي أن هذه العناصر في فكرك وقلبك وحياتك وأخلاقك وعملك، هي التي سوف تُحشر بها إلى ربك.. قد تستطيع أن تخفي العناصر السلبية من شخصيتك لأن الناس ربما لم يطّلعوا على ما أنت فيه، لا سيما في الأمور السرّية التي تكتمها عن الناس، لكن يوم القيامة هو اليوم الذي تُبلى فيه السرائر وتنكشف فيه أمام الناس، وسوف يحاسبك الله تعالى على عقيدتك كيف آمنت بها، وهل استقمت بها على الخط المستقيم، وعلى أخلاقك وسلوكك، وعليك أن تتولى الدفاع والمحاجاة عن نفسك أمام ربّ العالمين وتجادل عنها {يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها}.
وزن النفس قبل الخسران
إنّ الإمام عليّ (ع) يقول: هناك ميزان سوف توزنون به يوم القيامة، فمن الناس من يخفّ ميزانهم لأنهم لم يضعوا فيه ما يثقله من العمل، وآخرون يثقل ميزانهم، فلا بدّ لك أن تعرف كيف تملأ ميزانك يوم توضع الموازين، بأن تزن نفسك وتعرف كم تساوي.. البعض يزن نفسه بالمال ويحسب كم يملك من الرصيد في البنوك ومن أوراق "الطابو"، ولكن يوم القيامة لا بد أن ترى نفسك وتعرف كم تزن من الحسنات وأعمال الخير والأخلاق، ولا أعتقد أننا معنيّون بهذا الحساب، لأن مشكلتنا أننا مشغولون عن أنفسنا بغيرنا، والإمام (ع) ينبّه لهذه القضية، فيقول: "حاسب نفسك لنفسك، فإن غيرك من الأنفس لها حسيب غيرك"..
وهذه قضية أساسية في الدنيا والآخرة، لأن الإنسان الذي يغفل عن نفسه ولا يدرس ما يزحف إلى عقله وقلبه وحياته من أمراض، سوف تفتك به هذه الأمراض وتقتله، تماماً كالأمراض الجسدية التي تزحف إليه دون أن يشعر بها، وتنمو وتزداد، حتى إذا وصل المرض إلى حدّ طاغٍ شعر به، ولكن حيث لا ينفع ذلك، والأمراض الأخلاقية والروحية أشد خطراً من الأمراض الجسدية، لذلك، على كل إنسان أن يرتّب أموره في الدنيا قبل فوات الأوان، "زنوا أنفسكم قبل أن توزنوا وحاسبوها قبل أن تحاسبوا".
أهل الذكر ومحاسبة النفس
ويحدثنا الإمام عليّ (ع) عن جماعة يقول عنهم إنهم "أهل الذكر"، فلنستمع كيف يحدثنا عن الحالة النفسية والروحية كما لو كانوا في حالة طوارئ وهم يدرسون السلبيات الموجودة في نفوسهم، فيقول (ع): "فلو مثّلتهم لعقلك - أهل الذكر - في مقاماتهم المحمودة ومجالسهم المشهودة، وقد نشروا دواوين أعمالهم - جعلوها بين أيديهم، بحيث بسطوا كل أعمالهم في كل ذكرياتهم أمامهم - وفرغوا لمحاسبة أنفسهم في كل صغيرة وكبيرة أُمروا بها فقصّروا عنها، أو نهوا عنها ففرطوا فيها - لأن الصغير يصير كبيراً، ولأن الكبير قد يتضخّم، فلا بد للإنسان من أن يعالج المشكلة عندما تبدأ، لأنه لو تركها لاستفحلت، وأغلب المعاصي تكون صغيرة فتكبر - وحمّلوا ثقل أوزارهم ظهورهم فضعفوا عن الاستقلال بها، فنشجوا نشيجا - بكاءً - وتجاوبوا نحيبا، يعجّون إلى ربهم من مقام ندمٍ واعتراف - لو رأيت هؤلاء - لرأيت أعلام هدى ومصابيح دجى"..
ويقول الإمام عليّ (ع) لمن لا يخاف حساب الله ويخاف حساب الناس: "واعلم أن حساب الله أعظم من حساب الناس"، قد تخسر بعض الشيء من حساب الناس لك في ما يكرهونه منك أو ينقدونك به، ولكنك في حساب الله إذا سقطت في الامتحان، فإن مصيرك كله يسقط، {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدّمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون * ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون * لا يستوي اصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجّنة هم الفائزون}، وللجنة طريقها فخذوا بطريق الجنة، وللنار طريقها فابتعدوا عن طريق النار، لأن القضية أن "اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل".
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتقوا الله في كل واقعكم الفردي والاجتماعي، وعلى كل خلية من خلايا المجتمع أن تنقد مسارها الاجتماعي، بدءاً بالأسرة في علاقة الأب والأم والأولاد مع بعضهم البعض، لأن هذه الخلية الحيوية هي أول محضن يتعلم فيه الإنسان كيف يكون مجتمعياً، فتنمّي عقله وتفتح قلبه وتحدد له سلوكه وتنظّم له أخلاقه. لذلك، لا بدّ أن يجلس أفراد الأسرة مع بعضهم البعض في كل أسبوع وشهر، لتدرس الأسرة ما لديها من السلبيات في مفاهيمها وأخلاقها وعلاقاتها بالآخرين. وما نتحدث به عن العائلة الصغيرة، نتحدث به عن العائلة الكبيرة، وعن العشيرة، لأن للعشائر عصبياتها وللعائليات أنانياتها، وربما تظلم العشيرة عشيرة أخرى بوحي العصبية والأنانية..
وهكذا، لا بدّ للجمعيات سواء كانت خيرية أو اجتماعية أو عائلية، أن تنقد نفسها فيما تضعه من نظام أو تتّخذه من مواقف، وفيما اؤتمنت عليه من مال قدّمه الناس لأعمال الخير. وهكذا الأحزاب والحركات السياسية، حيث لا تطغى بها قوتها عندما تمتلك أسباب القوة، كي لا تتحول إلى قوة ضد سلام الناس وأمنهم وكرامتهم، حيث يتسلّط الأقوياء منها على الناس اضطهاداً وتخويفاً، فلا بدّ أن تدرس ذلك كله، وأن تدرس العصبية الحزبية التي تجعل الناس ينكمشون في داخلها ولا ينفتحون على الناس الآخرين، لأن الحزبية إنما تكون خيراً للمجتمع إذا كانت منفتحة على المجتمع كله، سواءٌ على من يؤيدها أو على من يعارضها.. وعلى كل المواقع الحزبية والحركية أن تجلس في مواقعها القيادية، لا لتبحث بوضع الخطط السياسية فحسب، ولكن لتبحث بوضع الخطط الأخلاقية ومواقع رضى الله، ولتبحث ما يؤدي إلى خط الانحراف أو الاستقامة في كل صغيرة وكبيرة، وفي كل عنصر من عناصرها، لأن المجتمع لا بدّ أن ينقد نفسه.. ونحن لا نزال نعيش مشاكل كثيرة في قضايانا العامة، ولا بدّ أن يكون لنا موقفٌ منها ونكون الواعين لمواقف الآخرين منها، لأنها قضايا تتصل بقضايا الأمّة كلها، فتعالوا لنعرف ماذا هناك:
إصرارٌ سوري على الثوابت
الموقف في المنطقة - حول التسوية - لا يزال يراوح مكانه، من خلال اللعبة الإسرائيلية بحجّة أوضاعها الداخلية، وسلطة الحكم الذاتي تلهث وراء أمريكا دون جدوى، للضغط على إسرائيل للقبول ببعض ما رفضته صراحة في موقفها الاستراتيجي حول القدس وعودة اللاجئين والمستوطنات.. وإسرائيل تلعب لعبة "القطّ والفأر"، مستغلّة نقاط الضعف في الإدارة الأمريكية وهي على أبواب الانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة..
إننا نرى في الموقف العربي السوري الذي يظلّ مصرّاً على الثوابت، الموقف الصامد، بالرغم من كل الضغوط الأمريكية الداعية للتنازل عن بعض الحدود الجغرافية والسياسية، لأن القضية قضية حق وعدل وكرامة، لا قضية لعبة سياسية، ما يُبعد الموقف عن العجلة في السعي وراء التسوية..
ومع أن مواقف بعض الدول العربية تتحرك في أجواء الضعف أمام الضغط الأمريكي، إلا أن الموقف السوري يبقى على قوته، لا سيما وأن التسوية التي تسعى لها أمريكا بكل قوة لن تصل إلى نهايتها بدون سوريا، وهذا هو سرّ القوة في الموقف، إضافة إلى حال الصمود الذاتي الاستراتيجي، والعلاقات الإيرانية - السورية التي لا تزال في أقوى مواقعها الاستراتيجية، بالرغم من محاولة بعض الإعلام الإساءة إليها في استنتاجاته الخاطئة.. والموقف اللبناني - في وحدة المسارين - لا يزال صامداً، على أساس أن قوة الموقف السوري هو الذي يمنح الموقف اللبناني القوة..
التسوية ضرورة إسرائيلية
إننا نؤكد - بصرف النظر عن موقفنا الشرعي الثابت من التسوية - أن العرب إذا عملوا على دعم الموقف السوري - اللبناني، ومعه الفلسطيني، بقوة، لاستطاعوا أن يستعيدوا الكثير من كرامتهم السياسية وحقوقهم المشروعة المهدورة، لأن إسرائيل في أضعف مواقفها السياسية الآن، فالعرب ليسوا مضطرين للتسوية كاضطرار العدوّ لها، وعليهم أن يعرفوا أن الصبر قيمة سياسية في ساحة الصراع من حيث هو قيمة أخلاقية، فمن يصرخ أولاً عليه التوقيع على قرار الذلّ، ومن يصبر يملك الموقف كله في قضاياه الحيوية..
وعلى المسؤولين الفلسطينيين أن يفهموا أن أمريكا في إدارتها اليهودية لن تمنحهم شيئاً، فالمطلوب منهم أمريكياً أن يقدّموا لـ"باراك" بعض الحل لمشكلته، وللانتخابات الأمريكية ما يسهّل نجاح الحزب الديمقراطي، بالمزيد من التنازلات عن الحقوق الفلسطينية لليهود، بالإضافة إلى التنازلات السابقة.. إنّ عليهم العودة إلى الشعب الفلسطيني صاحب الحق في القضية المصيرية، وسيرون أنه يرفض المفاوضات وكل نتائجها في لعبة التنازلات المستمرة.
مخاطر الحلف التركي ـ الإسرائيلي
وإلى جانب ذلك، فإن إيران قد تحدثت بالصوت العالي في تركيا عن خطورة الحلف التركي - الإسرائيلي على الأمن الإسلامي في المنطقة، وعلى العرب أن يؤكدوا ذلك في علاقاتهم بتركيا، ليعرف هذا البلد أن ما يربحه من إسرائيل ليس بأكثر مما يخسره من المنطقة العربية والإسلامية.. ولكن المشكلة هي في عداوة النظام التركي للإسلام في العمق والامتداد، باسم العلمانية التي لم نجد في العالم مثيلاً لها بالتطرف..
بين ثبات المقاومة وأزمات الداخل
ويبقى الشيشان الجرح الإسلامي النازف الذي لا بدّ للمسلمين من الوقوف مع شعبه البطل المجاهد الذي يدافع عن حريته واستقلاله، بقطع النظر عن اللعبة السياسية في الصراع بين الغرب وروسيا، لأنه لا يعمل لحساب أحد، بل لحساب مستقبله وموقعه بين الشعوب..
وفي لبنان، يبقى المجاهدون في خطّ النار يتابعون جهادهم، فيُنزلون بالعدوّ - بين وقت وآخر - بعض الخسائر التي تُسقط خطته في إبعاد جنوده عن الخطر، ليثبتوا أن المقاومة لن تخضع لأي اعتبار سياسي في المفاوضات، أو للتهويل الإسرائيلي في تهديدات مسؤوليه وفي عدوان جيشه على المدنيين، فإنّ شعبنا في كل تجربته التاريخية، استطاع أن يؤكد الصمود في الموقع، والثبات في الموقف، والقوة في المواجهة، ولن يسقط أمام العدوان والتهديد..
وتبقى الأزمة الاجتماعية الاقتصادية في انتظار الحلّ الذي لن يتحرك إلا مع السعي لإشاعة جوّ الوحدة في الوسط السياسي، بعيداً عن الطموحات الشخصية، والعمل لإطلاق ورشة الإصلاح الإداري والاقتصادي، وحلّ القضايا الداخلية التي تعيق البلد من الانطلاق، ليحصل الجميع على حقوقهم المشروعة، ومنهم أساتذة الجامعة والمعلّمون..
أيها السياسيون، أيها المسؤولون: ليكن كل نشاطكم في تأكيد قوة البلد في طموحاته في الاستقلال والتقدم، لا في تأكيد مواقعكم الشخصية. |