قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[الأحزاب: 33].
من أهل هذا البيت، الإمام جعفر بن محمَّد الصَّادق (ع)، هذا الإمام الَّذي ملأ الدّنيا علماً وفقهاً وروحانيّةً وفلسفةً وامتداداً في كلِّ ما يحتاجه الإنسان في تلك المرحلة، هذا الإمام الَّذي كان يحاور كلَّ النَّاس، وكان يؤكِّد في سيرته وفي حديثه، أنَّ على الإنسان العالِم أن يفتح عقله وقلبه وعلمه لكلِّ إنسانٍ يطرح مشكلة، ويثير شبهة، ويلتزم عقيدة، حتَّى لو كان هذا الإنسان يختلف معك في الأسس، لأنَّ العنف أمام الَّذي يختلف معك في العقيدة، أو في الخطِّ السياسيّ، أو في غير ذلك، لن يستطيع أن يقنعك.. عندما تضرب إنساناً تختلف معه، فإنَّ ضربتك لن تستطيع أن تغيِّر عقله؛ قد تسكته، ولكنَّها تجعله يختزن في داخله الحقد ضدَّك، ويتعصَّب لعقيدته أكثر.
إمامُ الفكرِ والحوارِ
لذلك، كان الإمام جعفر الصَّادق (ع) إمامَ الحوار؛ كان يجلس في بيت الله الحرام ليحاور المثقَّفين الكبار في ذلك العصر، من العلمانيِّين الَّذين كان الكثير منهم يلتزمون الإلحاد، وينكرون على الإسلام، وينكرون على الأديان كلِّها.. كان يجلس إليهم بعقل مفتوح، وصدر واسع، ليستمع إليهم بكلِّ هدوء، حتَّى في الحالات الَّتي كان كلامهم قاسياً، وربَّما كان بعضهم يتحدَّث بأسلوب السّخرية لما يقوم به المسلمون من الحدّ، ولكنَّ الإمام الصَّادق (ع) كان ينتظر انتهاءهم من كلامهم، من أجل أن يطلق عليهم الحجَّة الَّتي إذا لم يقتنعوا بها عناداً، فإنَّها تسكتهم.
وهكذا كنَّا نرى الإمام جعفر الصَّادق (ع) يتدخَّل فكريَّاً في كلِّ القضايا الَّتي تثار في مرحلته، كان لا يقتصر على جانبٍ من الجوانب، بل إنَّه كان إذا انطلقت أيُّ مشكلةٍ ثقافيَّة، في الجوانب الكلاميَّة، أو في الجوانب الفلسفيَّة، أو في الجوانب الفقهيَّة أو التّفسيريَّة، يطلقُ حديثه، ويحرِّك مواقفه، وكان يدفع بتلامذته إلى أن لا يتركوا علامةَ استفهامٍ في وجدانِ أيِّ إنسان، سواء كان ممَّن أطلقها، أو ممَّن سمعها، لأنَّ الإمام (ع) كان يريد لأيِّ مرحلة يعيشها إمامٌ أو عالمٌ أو مفكِّرٌ، أن يحتوي كلَّ القضايا الَّتي تثار في مرحلته.
لذلك، ليس هناك مجالٌ للإنسانِ المسؤول أن يعيش في موقع اللَّامبالاة أمام كلِّ الثَّقافات الَّتي تتحدَّى الإسلام، وأمام كلّ التيَّارات الَّتي تواجه حركته، وأمام كلِّ الأوضاع الَّتي تحيط به، لا يستغرق العالِمُ في جانب معيَّن، بل لا بدَّ له أن يتحرَّك في كلِّ الجوانب، حتَّى يقيم الحجَّة على النَّاس في ذلك.
وهكذا أئمَّتنا (ع)، كانوا يملأون المرحلة الَّتي يعيشون فيها، ويجيبون عن كلِّ مسألة، ويعملون على حلِّ أيّ مشكلة، بحسب ما تسمح لهم الظّروف بذلك.
مدرسةُ الانفتاحِ
وقد كانت مدرسة الإمام جعفر الصَّادق (ع) المدرسة المفتوحة لكلِّ من يريد أن يتعلَّم، لم تتعقَّد مدرسة الإمام الصَّادق أمام أيِّ مذهب من المذاهب، كان أهل المذاهب الفقهيَّة والكلاميَّة يأتون إلى الإمام الصَّادق (ع)، ويستقبلهم، ويعلِّمهم، ويحاورهم، ويتحدَّث إليهم في كلّ شيء.. لم يكن المجتمع منفصلاً في ذلك الوقت، كان المجتمع الإسلاميّ منفتحاً بعضه على بعض؛ لم يكن الشيعة منعزلين عن السنَّة، ولم يكن السنَّة منعزلين عن الشيعة، كان علماء الشيعة يجلسون لدى أهل السنَّة، وكان علماء السنَّة يجلسون لدى علماء الشيعة، حتَّى إنَّه لم يكن هناك مسجدٌ للشيعة يختلف عن مسجدٍ للسنَّة، كما كان يتعارف عليه النَّاس آنذاك...كان الجميع يواجهون القضايا على أساس أنَّ هناك وجهات نظر لا بدَّ أن يناقشوها ويتحاوروا حولها وما إلى ذلك.
ولهذا رأينا أبا حنيفة النّعمان، إمام المذهب الحنفي، يأتي ليتلمَّذ على الإمام الصَّادق، ويقول: "لولا السَّنتان – اللّتان تلمّذ فيهما عند الإمام (ع) - لهلك النّعمان". وكان مالك بن أنس، إمام المذهب المالكي، يأتي ليستمع إلى الإمام الصَّادق (ع) ويروي عنه ويلتزمه في كثيرٍ من الحالات. وكان الكثيرون من المثقَّفين والمفكِّرين يأتون إلى الإمام.
ولذلك، كان الإمام الصَّادق (ع) معلِّم تلك المرحلة، وقد نقل بعضهم أنَّه دخل مسجد الكوفة، وكانت الجامعات في المساجد آنذاك، وقال: "أدركْتُ في هذا المسجدِ تسعمائةَ شيخٍ، كلٌّ يقولُ: حدَّثَني جعفرُ بنُ محمَّد".
ويروي عنه بعض الكتَّاب، أنَّ الَّذين رووا أحاديث الإمام جعفر الصَّادق (ع)، هم أربعة آلاف راوٍ، ما يعني أنَّ الإمام الصَّادق بقي يغذِّي مرحلته بالعلم، ويغذِّي المراحل القادمة أيضاً بالعلم، بحيث إنَّه لم يملأ مرحلة واحدة، ولكنَّه أعدَّ الأساتذة للمراحل الَّتي أعقبته.
ولهذا، كان أغلب علم أهل البيت (ع)، في كلِّ الجوانب، من حديث الإمام الصَّادق (ع)، من خلال مرحلته الَّتي أفسحت له المجال بذلك.
الالتزامُ بنهجِ الأئمَّةِ (ع)
ونحن، أيُّها الأحبَّة، عندما نثير ذكراه في ذكرى وفاته (ع)، فإنَّنا نريد أن نلتزمه فكراً وحركةً ومنهجاً، لأنَّ معنى أن تأتمَّ بالإمام وتلتزم إمامته، أن تسير في الخطِّ الَّذي سار فيه، وأن تعمل بالعلم الَّذي أودعه لديك، وأن تنطلق في رسالته لتكمل هذه الرّسالة.
لذلك، فإنَّ على كلِّ شبابنا من ذكورٍ وإناثٍ، وعلى كلِّ النَّاس، أن يتثقَّفوا بثقافة أهل البيت (ع).. إنَّ التشيُّع ليس مجرَّد عاطفة تنبض بها قلوبنا، ولكنَّه في المعنى الإسلاميّ، وفي الخطِّ الإسلاميّ، باعتباره الخطَّ الأصيل في الإسلام، يمثِّلُ ثقافةَ فكرنا، ويمثِّل انفتاح عاطفتنا، ويمثِّل حركةَ مواقفنا، ويمثِّل انطلاقتنا في العالم، من أجل أن نحركه في ثقافة العالم وفي حركته.
لذلك، لا تستغرقوا في الجانب العاطفيّ منه، ولكن انفتحوا على الجانب الثقافي منه، فإنَّ أئمَّة أهل البيت (ع) كان كلّ جهدهم أن يملأوا العالم من حولهم بكلِّ أسرار الإسلام؛ في ثقافته، وفي روحانتيَّه، وفي منهجه، وفي حركته، فإذا كنَّا أتباع أئمَّة أهل البيت (ع)، فلنفتح عقول النَّاس في هذا العصر على الإسلام في خطِّ أهلِ البيت، كما فتحَ أهلُ البيتِ العصرَ الَّذي عاشوه في ذلك.
ملامحُ المؤمنِ
ونحن نريد أن نتوقَّف أمام بعض اللَّقطات من حديث الإمام جعفر الصَّادق (ع). ويحدَّثنا الإمام (ع) فيما روي عنه عن المؤمن وملامحه.
في الحديثِ الأوَّلِ، يتحدَّث (ع) عن المؤمنِ في حركتِهِ في المجتمعِ، وفي حركتِهِ أمام التَّجربة، يقول (ع): "المؤمنُ حسنُ المعونةِ – هو الَّذي لا ينكمش في ذاته، ولكنَّه يعيش مع النَّاس ليعاونهم ويساعدهم فيما يحتاجونه من طاقته، أيّاً كانَتْ طاقته.
- خفيفُ المؤونةِ - لا يُثقلُ على النَّاس؛ لا يُثقل على أهل بيته، ولا على أصدقائه، ولا على جيرانه، ولا على النَّاس من حوله، لا يكلِّف النّاس شيئاً كبيراً ليرهقهم في تحمّل مسؤوليَّاته.
- جيِّدُ التَّدبيرِ لمعاشِهِ - يعرف كيف يتحرَّك في معاشه، سواء كان معاشاً في حجم تحصيل الرِّزق، أو معاشاً في صرف ما رزقه الله، أو معاشاً اجتماعيّاً... إنّ المؤمن ليس بسيطاً، وإنَّما هو يملك عقلاً لتدبير المعيشة؛ يملك كيف يحصِّل رزقه بالحلال، ويملك كيف ينفقه من دون إسرافٍ ومن دون تبذيرٍ في الحلال، ويعرف كيف يدير أموره في الحياة الاجتماعيَّة العامَّة.
- لا يُلسَعُ من جحرٍ مرَّتين"، بل يستفيد من تجاربه، فإذا وضع يده في مكانٍ ولسعته فيه عقرب، سواء كانت عقرباً بشريّة أو عقرباً حيوانيّة، فإنَّه يستفيد من هذه التجربة، فلا يضع يده في المكان نفسه مرّة ثانية.
ويحدِّثنا الإمام (ع) عن المؤمن فيقول: "المؤمنُ له قوَّةٌ في دينٍ - فهو قويّ، ولكن في إطار حركةِ الدّين في معنى القوَّة - وحزمٌ في لينٍ – فهو حازم، ولكنَّ حزمه ليس قسوة، فهو يحزم، ولكنَّه ليِّنٌ في أسلوب ممارسة الحزم - وإيمانٌ في يقينٍ - فهو مؤمن، ويتعمَّق إيمانه في داخل يقينه - وحرصٌ في فِقْهٍ – فهو يحرص على الأمور من حوله، ولكن في الدَّائرة الَّتي يعرف فيها تكليفه، ويفهم واقعه - ونشاطٌ في هدى - فالمؤمن متحرّك، ولكنَّه في خطِّ الهدى لا في خطِّ الضَّلال - وبرٌّ في استقامةٍ - يعيش البرَّ والخير، ولكن في خطِّ الاستقامة والخير الَّذي يبعده عن الانحراف - وعلمٌ في حلمٍ - يملك العلم، ولكن مع سعة الصَّدر عندما يواجه التحدّيات - وكَيْسٌ في رفقٍ- الكيس هو التعقُّل، ولكن في رفقٍ لا في شدَّة - وسخاءٌ في حقٍّ - يسخو ويعطي ولكن في دائرة الحقِّ - وقصدٌ في غِنَى - عندما يكون لديه غنى في المال، فإنَّه يقتصد فيه، ولا يسرف ولا يبذِّر - وتجمُّلٌ في فاقةٍ - إذا افتقرَ، فإنَّه لا يسقطُ ولا يذلُّ نفسَه، بل إنَّه يتجمَّل، حتَّى يحسبه الجاهل غنيّاً في تعفّفه - وعفوٌ في مقدرةٍ - إذا كان قادراً على الآخر، فإنَّه يعفو عنه – وطاعةٌ للهِ في نصيحةٍ – هو يطيع، ولكن في دائرة النَّصيحة - وانتهاءٌ في شهوةٍ - إذا واجهته الشَّهوة، فإنَّه ينهى نفسَهُ عنها - وورعٌ في رغبةٍ - فإذا انطلقت رغباته، فلا يندفع معها، بل إنَّه يعيش الورع في هذا المجال - وحرصٌ في جهادٍ، وصلاةٌ في شغلٍ، وصبرٌ في شدَّةٍ.
- في الهزاهزِ وقورٌ - لا يهتزّ مع الهزاهز الحياتيّة أو غير الحياتيّة - وفي المكارهِ صبورٌ، وفي الرَّخاءِ شكورٌ. ولا يغتابُ، ولا يتكبَّر، ولا يقطعُ الرَّحمَ، وليسَ بواهنٍ، ولا فظٍّ، ولا غليظٍ. لا يسبقُه بصرُهُ - بل إنَّه يحرّك بصره باختياره - ولا يفضحُهُ بطنُهُ - لينطلق مع صرخات بطنه ليبيع دينه بدنياه - ولا يغلبُهُ فرجُهُ – عندما تثور غريزته، فإنّها لا تغلبه على إيمانِهِ - ولا يحسدُ النَّاسَ - بل يرضى بما أنعمَ اللهُ عليه وعلى النَّاس – ولا يعيِّرُ ولا يعيَّر، ولا يسرقُ، وينصرُ المظلومَ".
هذه صفات المؤمن باختصار، يختصر بها الإمام كلَّ مواقع المؤمن وكلَّ أوضاعه.
ثمَّ يقول (ع): "إنَّ الله عزَّ وجلَّ فوَّضَ إلى المؤمنِ أمورَهُ كلَّها، ولم يفوِّضْ إليه أن يكون ذليلاً، أما تسمعُ قولَ اللهِ عزَّ وجلَّ: {وللهِ العزّةُ ولرسولِهِ وللمؤمنين}[المنافقون: 8]، فالمؤمنُ يكونُ عزيزاً ولا يكونُ ذليلاً، إنَّ المؤمنَ أعزُّ منَ الجبلِ، إنَّ الجبلَ يُستقلُّ منْهُ بالمعاولِ، والمؤمنُ لا يُستَقلُّ من دينِهِ شيءٌ"، عندما تأتيه التحدّيات والضّغوط والإغراءات، لتقتطع شيئاً من دينه هنا، وشيئاً من دينه هناك، فإنَّه لا يستطيع أحدٌ أن يقتطع شيئاً من دين المؤمن.
هذه بعض أحاديث الإمام الصَّادق (ع) في مسألة المؤمن.
إرادةُ المؤمنِ
أمَّا مسألة الإرادة، فإنَّ الإمام (ع) يقول لك، كن قويَّ الإرادة، ولا تحاول أن تضعف أمام التحدّيات. يقول (ع): "ما ضَعُفَ بَدَنٌ عمَّا قَوِيَت علَيهِ النِّيَّةُ".
فإذا كانت إرادتك في نفسك قويَّة، فإنَّ قوَّة إرادتك تمنح جسدك قوَّة، بحيث يستطيع أن يقوم بما تنفتح عليه الإرادة، حتَّى لو كان جسمك ضعيفاً. إنَّ قوَّة طاقتك في جسدك، تنطلق من قوَّة إرادتك في عزيمتك. إذا كنت الإنسان الَّذي يعزم على الأشياء، ويريد الأشياء، فلا مشكلة في أن تكون ضعيفاً في جسدك.
الاهتمامُ بأمرِ المسلمين
ثمَّ يحدِّثنا الإمام (ع) عن مسألة الاهتمام بأمور المسلمين، مستشهداً بكلام رسول الله (ص)، قال: "مَنْ لمْ يهتمَّ بأمور المسلمينَ فليسَ بمسلمٍ، إنَّ رسولَ اللهِ (ص) قالَ: مَنْ أصبحَ لا يهتمُّ بأمورِ المسلمينَ فليسَ منهم، ومن سمعَ رجلاً ينادي يا للمسلمين ولم يجبْه، فليسَ بمسلمٍ".
إنَّ هذه الكلمة الَّتي انطلق بها الإمام (ع) في نفي صفة الإسلام عن الإنسان اللَّامبالي، الَّذي مهما حدثَ للمسلمين من مآسٍ ومشاكلَ وهزائم، وما إلى ذلك، فإنَّ ذلك لا يحرِّك عقلَه ليفكِّر، ولا يحرِّك قلبَه من أجلِ أن يتعاطف، ولا يحرِّك موقفَه من أجل أن يقف... إنَّه يقولُ صلِّ ما شئْتَ، وصم ما شئْتَ، وحجَّ ما شئْتَ، فإذا وقفْتَ موقف اللامبالاة أمام مشاكل المسلمين، فلست بمسلم.
ثمَّ يقول (ع): "اجعلُوا أمرَكُم هذا للهِ - عندما تعمل في خطِّ الإسلام، وفي خطِّ أهل البيت، وفي حركتك في الواقع، على المستوى الاجتماعيّ أو السياسيّ أو الأمنيّ، اجعله لله، اقصد به القربة لله، وانفتح به على الله - ولا تجعلُوه للنَّاسِ، فإنَّه ما كانَ للهِ فهوَ للهِ، وما كانَ للنَّاسِ، فلا يصعدُ إلى اللهِ".
لذلك، لا بدَّ لنا، أيُّها الأحبَّة، أن نُحكمَ العملَ الَّذي نعمله في قلوبنا، ليكونَ قربةً إلى الله، ولا يكونَ قربةً إلى النَّاس... لا تقلْ إنّي أعملُ لحساب فلان ولسواد عيونه، فحتَّى لو كان العمل لمصلحه النَّاس، اعمله لله، فإنَّك تحصل بذلك على محبَّة الله أوّلاً، ومحبَّة النَّاس من خلال الله، لأنَّ الله مقلِّب القلوب، وهو الَّذي يفتح قلوبَ النَّاسِ عليك في هذا وغيره.
تجنُّبُ الخصومةِ والغضبِ
"إيَّاكم والخصومةَ - يعني إيَّاكم أن تتخاصموا، وأن تختلفوا، وأن تتعادوا، وأن تتحاقدوا، وأن تتباغضوا، لأمر دنيا هنا، ولمشكلةٍ سياسيَّة أو اجتماعيَّةٍ هناك، حاوروا بعضكم بعضاً، فإن تنازعتم في شيءٍ فردّوه إلى اللهِ والرَّسول، حاولوا أن تبتعدوا عن الخصومة - فإنَّها تشغلُ القلبَ، وتورثُ النِّفاقَ، وتكسبُ الضَّغائنَ".
"مَنْ زرعَ العداوةَ، حصدَ ما بذرَ"، فأنت تزرع العداوة، ولكنَّ الحصاد في النَّتائج السلبيَّة لا بدَّ أن يرجع إليك في نهاية المطاف.
"مَنْ لمْ يملكْ غضبَهُ، لمْ يملكْ عقلَهُ"، سيطر على غضبك، لتجعل عقلك يفكّر بهدوء، فإذا جعلت عقلك هادئاً في تفكيره، فإنَّك تستطيع في نهاية المطاف أن تأخذ الرأي الصَّحيح.
الحذرُ منَ الهوى والأعداءِ
وهكذا يقولُ الإمام (ع): "احذروا أهواءَكم كما تحذرونَ أعداءَكم، فليس بشيءٍ أعدى للرِّجالِ من اتَّباعِ أهوائِهم وحصائدِ ألسنتِهم"، لأنَّ ذلك يجعلك لا تنطلق من قاعدة، ففي كلِّ يوم لك هوى، وفي كلِّ يوم لك مزاج في الأشياء، وفي كلِّ يوم لك شهوة، فإذا كنت تتَّبع أهواءك وشهواتك ومزاجك من دون أساس، فإنَّك تكون كالخشبة في مجرى التيَّار، لا تعرف إلى أيِّ مدى يمكن أن تصلَ بك؛ إلى الشَّاطئ الأمين، أو إلى أعماق البحر.
ثمَّ يقول الإمام (ع): "الفقهاءُ أمناءُ الرّسلِ - هم الَّذين يأتمنهم الرّسل على رسالتهم وعلى قضيَّتهم، وعلى النَّاس من بعدهم - فإذا رأيتُمُ الفقهاءَ قد رَكبوا إلى السَّلاطينِ فاتَّهموهم"، إذا رأيتموهم اتَّبعوا السُّلطان الجائر وخضعوا له، واندفعوا إليه، ليبحث كلّ واحد منهم عن رزقِه وعن موقعِه من خلاله، ليبيع دينه بدنياه، فإذا ركبوا يريدون شيئاً من سلطانه على حساب دينهم، فاتَّهموهم على دينكم، ولا تقبلوا منهم، لأنَّ معنى ذلك، أن تخضعوا لهذا الخطِّ المنحرف في هذا المجال وذاك.
ويريدُ الإمامُ للأمَّة، أن يأخذ الأقوياء فيها الحقَّ للضّعفاء: "ما قُدِّسَتْ أمَّةٌ لم يُؤخَذْ لضعيفِها بِحقِّهِ مِنْ قويِّها".
وصيَّتُهُ (ع) إلى أصحابِهِ
وأخيراً، أيُّها الأحبَّة، في نهاية المطاف، يقول في وصيَّته لكم، باعتباركم امتداداً لأصحابه: "صِلُوا عشائرَكم – حتّى لو اختلفوا معكم في المذهب - واشهدُوا جنائزَهم، وعودُوا مرضاهم، وأدُّوا حقوقَهم، فإنَّ الرَّجلَ منْكُم، إذا ورعَ في دينِهِ، وصدقَ الحديثَ، وأدَّى الأمانةَ، وحسنَ خلقُهُ معَ النَّاسِ، قيلَ: هذا جعفريٌّ، فيسرُّني ذلكَ، ويدخلُ عليَّ منْهُ السّرورُ، وقيلَ: هذا أدبُ جعفرَ. وإذا كانَ على غيرِ ذلكَ – يكذب، يخون الأمانة، شرس في طباعه، لا يحسن خلقه مع النَّاس، لا يعيش مع النَّاس بالطَّريقة المعقولة - دخلَ عليَّ بلاؤُهُ وعارُهُ".
ولذلك، يقول الإمام (ع) إنَّ عليكم أن تنتبهوا إلى كلِّ ما تقومون به، فعندما تنتسبون إليَّ، فإنَّ كلَّ عملكم سينعكس عليّ، سلباً أو إيجاباً. لذلك انطلقوا في خطِّ الإيجاب، وفي خطِّ الإسلام والاستقامة، حتَّى يقول النَّاس: انظروا إلى الجعفريّ كيف يعيش الاستقامة في خطِّ الله، وكيف يكونُ بركةً على النَّاس كلِّهم، وهذا طبعاً بالنِّسبة إلى المسلمين جميعاً.
أيُّها الأحبَّة، هذا هو الإمام الصَّادق (ع) في كلِّ الغنى الثَّقافيّ والعلميّ والرّوحيّ والعمليّ والمنهجيّ والحركيّ، هذا الإمام الَّذي لا بدَّ لنا أن نتعلَّم منه الكثير، وأن نسير معه في كلِّ مسيرته، وأن نستفيد من ذلك كلِّه في حياتنا العامَّة والخاصَّة.
الخطبة الثَّانية
عباد الله، اتَّقوا الله، وواجهوا التحدّيات الكبرى الَّتي يوجِّهها أعداء الله وأعداء الإنسانيَّة إلى الأمَّة كلِّها، سواء في سياستها واقتصادها وأمنها، وفي كلّ قضاياها الحيويّة، ولا سيَّما القضايا الَّتي تتَّصل بالمصير كلِّه.
إنَّ علينا، أيُّها الأحبَّة، أن نكون الأمَّة الَّتي تعيش الاهتمامات الكبرى في كلِّ قضاياها، أن لا نواجه التحدّيات والضّغوط مواجهة اللَّامبالاة، أن لا نبتعد عن تحمّل المسؤوليَّة أمام العالم كلِّه، في كلِّ ما يواجهنا من ضغوطه ومن مشاكله، لأنَّ مسألة أن نكون أمَّة، هي أن نتفاعل فكريّاً ليكون فكرنا فكراً واحداً، وأن نتفاعل شعوريّاً ليكون شعورنا شعوراً واحداً، وأن نتفاعل حركيّاً لتكون حركتنا حركة واحدة، أن نتوحَّد في همومنا وفي قضايانا المصيريَّة، وأن لا نفسحَ في المجال لأيِّ شخصٍ يثير الفتنة فيما بيننا، أن نلاحق كلَّ الَّذين يعملون على إثارة الفتنة ليبغضَ الأخُ أخاه، وليلعنَ المسلمُ المسلمَ، وليكفِّر المسلمُ المسلمَ... حاصروا كلَّ الذين يثيرون الفتنة، ويريدون أن يشغلوا ساحة المسلمين بالخلافات الهامشيَّة هنا وهناك.
ربَّما يأتي بعض النَّاس ليقولوا لكم إنَّ هذه القضيَّة الهامشيَّة حيويَّة ومهمَّة، لا تنفعلوا معهم، لأنَّنا عندما نواجه الواقعَ الصَّعبَ الَّذي نعيشه في حياتنا وفي مرحلتنا هذه، فإنَّنا نعرف كم أنَّ العالم يجتمع علينا، ويندفع إلينا، ويتجمَّع كما تتجمَّع الأكلةُ إلى قصعتها.. كلّ فريق في العالم يريد أن يقتطع قطعةً من اقتصادنا لحساب اقتصاده، وقطعةً من أمننا لحساب أمنه، وقطعةً من سياستنا لحساب سياسته، لنكون مجرَّد أمَّةٍ تعيش على فتات الأمم الأخرى، ولتخدم الأمم الأخرى، والله يقول: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}[آل عمران: 110] .
لذلك، أيُّها الأحبَّة، على مستوى الواقع الصَّغير والواقع الكبير، لتكن مواقفنا واحدةً، وليكن صوتنا واحداً، وليكن خطُّنا واحداً.. علينا أن نجمِّد كلَّ خلافاتنا، وعلينا أن نحارب كلَّ دعاة الفتنة فينا.. انتبهوا إلى أكثر من وسواسٍ خنَّاسٍ يحاول أن يوسوس في عقولكم ليزرع فيها الباطل، وفي قلوبكم ليزرع فيها الحقد، وفي حياتكم ليزرع فيها التمزّق والتفرقة.
أيُّها الأحبَّة، إنَّ المرحلة الآن هي من أصعب المراحل، فهناك المستكبرون القريبون والبعيدون يعملون على إسقاط الأمَّة، وعلى إلحاق الهزيمة بها. لذلك، كونوا الواعين، كونوا المبادرين، كونوا الَّذين يفهمون ما حولهم ومَنْ حولهم، لأنَّهم يستغلّون غفلتنا في كلِّ شيء.
تعالوا لنعرف ماذا هناك.
طرحٌ خطيرٌ حولَ الـ"425"
يعيش لبنان في هذه الأيَّام حرباً سياسيَّة إسرائيليَّة جديدة، في طرح تفسير جديد للقرار 425 مؤيَّد من أمريكا، على لسان سفيرها في بيروت، الَّذي قال إنَّ هناك تفسيرات عديدة للقرار، وأفضل طريقة لحلِّ المشكلة هي عبر المفاوضات.
ولعلَّ خطورة هذا الطَّرح، أنَّه يحاول أن ينزع من لبنان سلاحاً سياسيّاً للمطالبة بالانسحاب الإسرائيلي من أرضه دون قيد أو شرط، باعتبار الحديث عن أنَّ القرار مثير للجدل، لأنَّه ليس واضحاً بما فيه الكفاية ليطرح للتَّنفيذ. هكذا يقولون، كما يحاول أن يثير سجالاً لبنانيّاً داخليّاً قد يخلقُ حالةً من اللا استقرار الدَّاخلي، بفعل الأصوات المتناغمة مع هذا الهدف الإسرائيليّ الخفيّ، ويمنح العدوَّ، بالتّالي، موقع قوَّة في الأمم المتحدة، قد يتحوَّل إلى حالة ضغط على لبنان وسوريا لتحريك الفتن في لبنان.
إنَّنا ندعو المسؤولين إلى وعي خطورة هذه المرحلة الَّتي تتهدَّد المنطقة في مصيرها، وذلك بالموقف الموحَّد الَّذي يواجهون فيه كلَّ المندوبين الأمريكيّين ومندوب الأمم المتَّحدة، بالكلمة الواحدة، وهي تنفيذ القرار 425 بدون قيدٍ أو شرطٍ، والارتفاع إلى مستوى المسؤوليَّة في الحفاظ على الوطن، وعدم الدّخول في لعبة الكواليس الخفيَّة الَّتي يوحي بها البعض في السّرّ بغير ما يتحدَّث عنه في العلن.
التَّهديدُ الأمريكيُّ للعراق
وعلى خطٍّ آخر، فإنَّ الطريقة التي تدير بها أمريكا حملتها السياسيَّة والعسكريَّة ضدَّ العراق، تؤكِّد أنَّها أصبحت تأخذ دور الشّرطيّ العالميّ الَّذي يحاول دائماً اتّهام دولة هنا ودولة هناك بالخروج عن الشَّرعيَّة الدوليَّة، وبالتَّهديد الخطير للسِّلم العالمي، ليقوم هذا الشّرطيّ بالمطالبة بحماية العالم من هذا الخطر الكبير، كما يقول، باعتباره الممثِّل للقانون في العالم.
إنَّ أمريكا تعمل على استعراض عضلاتها العسكريَّة والسياسيَّة، من أجل أن توحي بالتَّهديد لكلِّ الدول الكبيرة والصَّغيرة الَّتي تعارض سياستها، بأنَّها ليست بحاجة إلى قرار الأمم المتَّحدة لتتدخَّل عسكريّاً في ترتيب أيِّ وضعٍ أمنيّ أو سياسيّ في أيِّ مكانٍ في العالم، فهي الَّتي تحدِّد المجرمَ بطريقتها الخاصَّة، وهي الَّتي تحدِّد العقوبة والتَّنفيذ. وهكذا رأيناها كيف تبادر مع حليفتها بريطانيا، إلى فرض الحصار باسم الأمم المتَّحدة، على أكثرِ من بلدٍ عربيّ، بحجَّة العمل بإلزامه بتنفيذ قراراتها، ولكنَّها في الوقتِ نفسِهِ، تمنع تنفيذ أيِّ قرارٍ للأممِ المتَّحدة بما يتَّصل بإسرائيل، بل إنَّها تمنع الأمم المتَّحدة من إدانة إسرائيل على جرائمها.
إنَّ أمريكا ترسل أساطيلها وجنودها إلى المنطقة، في تهويلٍ إعلاميّ عسكريّ ضدّ العراق، بحجَّة حريَّة التفتيش عن الأسلحة. ولكنَّنا نعلم أنّ القضيَّة ليست قضيَّة التفتيش عن الأسلحة، ولكنَّها قضيَّة مصالحها الخاصَّة في السيطرة الاقتصاديَّة والسياسيَّة والأمنيَّة على العراق جملةً وتفصيلاً، وفي توفير الظّروف الموضوعيَّة الَّتي تؤمِّنُ لإسرائيل أرضيّة جديدة على أكثر من مستوى، على أساس اعتراف العالم العربيّ بها قانونياً بعد الاعتراف الواقعيّ، وفي التَّأكيد على الهزيمة الجديدة للعرب جميعاً، سواء تمَّت الضَّربة العسكريَّة للعراق أو لم تتمّ، ما يفرض عليهم – العرب - التَّعامل مع إسرائيل من موقع المهزوم أمام المنتصر، كما كان الحال بعد عاصفة الصحراء!
إنَّ على العالم العربي والإسلامي مواجهة المرحلة بالقوَّة الَّتي تفرضها خطورتها، بعيداً من كلِّ هذا الضّعف والتقاعس الَّذي ضاعف من اندفاعة أمريكا في الاستعراض أكثر بعد أن ضخَّمت قوَّة العراق، وعلى الشّعوب العربيَّة والإسلاميَّة العمل على معاقبة أمريكا بمقاطعة البضائع الأمريكيَّة، بكلِّ ما تستطيع من ذلك، والتحرّك بكلِّ قوَّة في صوت شعبيّ موحَّد هادر، لإسقاط السياسة الأمريكيَّة في كلِّ مواقعها في المنطقة، فإنَّها تعمل مع كلِّ عملائها على إسقاط المنطقة كلِّها في دائرة مصالحها من دون قيدٍ أو شرط.
معالجةُ الملفَّاتِ الدَّاخليَّة
أمَّا على المستوى اللّبنانيّ الداخليّ، فإنَّنا نرفض مصادرة القرارات الداخليَّة بحجَّة التطوّرات الكبيرة في المنطقة، لأنَّ ذلك يؤدّي إلى تراكم المشاكل الدَّاخليّة، واستفحال الأزمات الاقتصاديّة. ونحن لا ننكر أنَّ بعض الأمور في المنطقة قد تستدعي تجميد السِّجال الدَّاخليّ الَّذي يؤثِّر سلباً في القضيَّة الكبرى، لكنَّ ذلك لا يعني طيّ ملفَّات كبرى لها تأثيرها السّلبيّ في واقع النَّاس الاقتصادي والسياسي، فلا يجوز أن نعطي الَّذين يلعبون بالبلد حريَّة اللَّعب به ضدَّ مصالحه، باسم استحقاقات كبيرة، وباسم التطوّرات في المنطقة.
إنَّنا نحذِّر من أنَّ طريقة إدارة البلد في نطاق الخلافات الشخصانيَّة والحرطقات السياسيَّة، قد تقضي على المؤسَّسات، لتبقى مجرَّد صورة شكليَّة لا روح لها، لأنَّ الجميع يصادرونها لحساب الأشخاص. وإذا كانت تطوّرات المنطقة تؤخذ بالاعتبار كأولويَّة لا بدَّ للواقع السياسيّ الدَّاخليّ أن يرصدها، فلماذا لا توضع أولويَّة دعم المقاومة، على المستوى الرَّسمي والشَّعبي، لتكون في رأس الأولويَّات، باعتبارها التحدّي القويّ أمام الهجمة الأمريكيَّة الإسرائيليَّة على العرب والمسلمين.
إنَّ الاهتمام بالثَّبات في الدَّاخل، وحدةً وصموداً وتخطيطاً ووعياً، هو وحده الَّذي يمكن أن يحقِّق النَّتائج الكبرى على مستوى الأهداف في ثبات الموقف للخارج.
لا تتلاعبوا بالوطن لتركلوه بأقدامكم لخدمة مصالحكم، تماماً لو كان الوطن كرةً تتقاذفها الأقدام، ليسجِّل هذا هدفاً لصالحه، وذاك هدفاً لصالحه.
كفّوا عن إثارة القضايا المثيرة للفتنة، وانطلقوا لإثارة القضايا الحيويَّة الَّتي تربط الشَّعب بوطنه، في عمليَّة اعتزاز بالانتماء إليه، وتحمُّلٍ للمسؤوليَّة في حمايته.
*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 20/2/98.
قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[الأحزاب: 33].
من أهل هذا البيت، الإمام جعفر بن محمَّد الصَّادق (ع)، هذا الإمام الَّذي ملأ الدّنيا علماً وفقهاً وروحانيّةً وفلسفةً وامتداداً في كلِّ ما يحتاجه الإنسان في تلك المرحلة، هذا الإمام الَّذي كان يحاور كلَّ النَّاس، وكان يؤكِّد في سيرته وفي حديثه، أنَّ على الإنسان العالِم أن يفتح عقله وقلبه وعلمه لكلِّ إنسانٍ يطرح مشكلة، ويثير شبهة، ويلتزم عقيدة، حتَّى لو كان هذا الإنسان يختلف معك في الأسس، لأنَّ العنف أمام الَّذي يختلف معك في العقيدة، أو في الخطِّ السياسيّ، أو في غير ذلك، لن يستطيع أن يقنعك.. عندما تضرب إنساناً تختلف معه، فإنَّ ضربتك لن تستطيع أن تغيِّر عقله؛ قد تسكته، ولكنَّها تجعله يختزن في داخله الحقد ضدَّك، ويتعصَّب لعقيدته أكثر.
إمامُ الفكرِ والحوارِ
لذلك، كان الإمام جعفر الصَّادق (ع) إمامَ الحوار؛ كان يجلس في بيت الله الحرام ليحاور المثقَّفين الكبار في ذلك العصر، من العلمانيِّين الَّذين كان الكثير منهم يلتزمون الإلحاد، وينكرون على الإسلام، وينكرون على الأديان كلِّها.. كان يجلس إليهم بعقل مفتوح، وصدر واسع، ليستمع إليهم بكلِّ هدوء، حتَّى في الحالات الَّتي كان كلامهم قاسياً، وربَّما كان بعضهم يتحدَّث بأسلوب السّخرية لما يقوم به المسلمون من الحدّ، ولكنَّ الإمام الصَّادق (ع) كان ينتظر انتهاءهم من كلامهم، من أجل أن يطلق عليهم الحجَّة الَّتي إذا لم يقتنعوا بها عناداً، فإنَّها تسكتهم.
وهكذا كنَّا نرى الإمام جعفر الصَّادق (ع) يتدخَّل فكريَّاً في كلِّ القضايا الَّتي تثار في مرحلته، كان لا يقتصر على جانبٍ من الجوانب، بل إنَّه كان إذا انطلقت أيُّ مشكلةٍ ثقافيَّة، في الجوانب الكلاميَّة، أو في الجوانب الفلسفيَّة، أو في الجوانب الفقهيَّة أو التّفسيريَّة، يطلقُ حديثه، ويحرِّك مواقفه، وكان يدفع بتلامذته إلى أن لا يتركوا علامةَ استفهامٍ في وجدانِ أيِّ إنسان، سواء كان ممَّن أطلقها، أو ممَّن سمعها، لأنَّ الإمام (ع) كان يريد لأيِّ مرحلة يعيشها إمامٌ أو عالمٌ أو مفكِّرٌ، أن يحتوي كلَّ القضايا الَّتي تثار في مرحلته.
لذلك، ليس هناك مجالٌ للإنسانِ المسؤول أن يعيش في موقع اللَّامبالاة أمام كلِّ الثَّقافات الَّتي تتحدَّى الإسلام، وأمام كلّ التيَّارات الَّتي تواجه حركته، وأمام كلِّ الأوضاع الَّتي تحيط به، لا يستغرق العالِمُ في جانب معيَّن، بل لا بدَّ له أن يتحرَّك في كلِّ الجوانب، حتَّى يقيم الحجَّة على النَّاس في ذلك.
وهكذا أئمَّتنا (ع)، كانوا يملأون المرحلة الَّتي يعيشون فيها، ويجيبون عن كلِّ مسألة، ويعملون على حلِّ أيّ مشكلة، بحسب ما تسمح لهم الظّروف بذلك.
مدرسةُ الانفتاحِ
وقد كانت مدرسة الإمام جعفر الصَّادق (ع) المدرسة المفتوحة لكلِّ من يريد أن يتعلَّم، لم تتعقَّد مدرسة الإمام الصَّادق أمام أيِّ مذهب من المذاهب، كان أهل المذاهب الفقهيَّة والكلاميَّة يأتون إلى الإمام الصَّادق (ع)، ويستقبلهم، ويعلِّمهم، ويحاورهم، ويتحدَّث إليهم في كلّ شيء.. لم يكن المجتمع منفصلاً في ذلك الوقت، كان المجتمع الإسلاميّ منفتحاً بعضه على بعض؛ لم يكن الشيعة منعزلين عن السنَّة، ولم يكن السنَّة منعزلين عن الشيعة، كان علماء الشيعة يجلسون لدى أهل السنَّة، وكان علماء السنَّة يجلسون لدى علماء الشيعة، حتَّى إنَّه لم يكن هناك مسجدٌ للشيعة يختلف عن مسجدٍ للسنَّة، كما كان يتعارف عليه النَّاس آنذاك...كان الجميع يواجهون القضايا على أساس أنَّ هناك وجهات نظر لا بدَّ أن يناقشوها ويتحاوروا حولها وما إلى ذلك.
ولهذا رأينا أبا حنيفة النّعمان، إمام المذهب الحنفي، يأتي ليتلمَّذ على الإمام الصَّادق، ويقول: "لولا السَّنتان – اللّتان تلمّذ فيهما عند الإمام (ع) - لهلك النّعمان". وكان مالك بن أنس، إمام المذهب المالكي، يأتي ليستمع إلى الإمام الصَّادق (ع) ويروي عنه ويلتزمه في كثيرٍ من الحالات. وكان الكثيرون من المثقَّفين والمفكِّرين يأتون إلى الإمام.
ولذلك، كان الإمام الصَّادق (ع) معلِّم تلك المرحلة، وقد نقل بعضهم أنَّه دخل مسجد الكوفة، وكانت الجامعات في المساجد آنذاك، وقال: "أدركْتُ في هذا المسجدِ تسعمائةَ شيخٍ، كلٌّ يقولُ: حدَّثَني جعفرُ بنُ محمَّد".
ويروي عنه بعض الكتَّاب، أنَّ الَّذين رووا أحاديث الإمام جعفر الصَّادق (ع)، هم أربعة آلاف راوٍ، ما يعني أنَّ الإمام الصَّادق بقي يغذِّي مرحلته بالعلم، ويغذِّي المراحل القادمة أيضاً بالعلم، بحيث إنَّه لم يملأ مرحلة واحدة، ولكنَّه أعدَّ الأساتذة للمراحل الَّتي أعقبته.
ولهذا، كان أغلب علم أهل البيت (ع)، في كلِّ الجوانب، من حديث الإمام الصَّادق (ع)، من خلال مرحلته الَّتي أفسحت له المجال بذلك.
الالتزامُ بنهجِ الأئمَّةِ (ع)
ونحن، أيُّها الأحبَّة، عندما نثير ذكراه في ذكرى وفاته (ع)، فإنَّنا نريد أن نلتزمه فكراً وحركةً ومنهجاً، لأنَّ معنى أن تأتمَّ بالإمام وتلتزم إمامته، أن تسير في الخطِّ الَّذي سار فيه، وأن تعمل بالعلم الَّذي أودعه لديك، وأن تنطلق في رسالته لتكمل هذه الرّسالة.
لذلك، فإنَّ على كلِّ شبابنا من ذكورٍ وإناثٍ، وعلى كلِّ النَّاس، أن يتثقَّفوا بثقافة أهل البيت (ع).. إنَّ التشيُّع ليس مجرَّد عاطفة تنبض بها قلوبنا، ولكنَّه في المعنى الإسلاميّ، وفي الخطِّ الإسلاميّ، باعتباره الخطَّ الأصيل في الإسلام، يمثِّلُ ثقافةَ فكرنا، ويمثِّل انفتاح عاطفتنا، ويمثِّل حركةَ مواقفنا، ويمثِّل انطلاقتنا في العالم، من أجل أن نحركه في ثقافة العالم وفي حركته.
لذلك، لا تستغرقوا في الجانب العاطفيّ منه، ولكن انفتحوا على الجانب الثقافي منه، فإنَّ أئمَّة أهل البيت (ع) كان كلّ جهدهم أن يملأوا العالم من حولهم بكلِّ أسرار الإسلام؛ في ثقافته، وفي روحانتيَّه، وفي منهجه، وفي حركته، فإذا كنَّا أتباع أئمَّة أهل البيت (ع)، فلنفتح عقول النَّاس في هذا العصر على الإسلام في خطِّ أهلِ البيت، كما فتحَ أهلُ البيتِ العصرَ الَّذي عاشوه في ذلك.
ملامحُ المؤمنِ
ونحن نريد أن نتوقَّف أمام بعض اللَّقطات من حديث الإمام جعفر الصَّادق (ع). ويحدَّثنا الإمام (ع) فيما روي عنه عن المؤمن وملامحه.
في الحديثِ الأوَّلِ، يتحدَّث (ع) عن المؤمنِ في حركتِهِ في المجتمعِ، وفي حركتِهِ أمام التَّجربة، يقول (ع): "المؤمنُ حسنُ المعونةِ – هو الَّذي لا ينكمش في ذاته، ولكنَّه يعيش مع النَّاس ليعاونهم ويساعدهم فيما يحتاجونه من طاقته، أيّاً كانَتْ طاقته.
- خفيفُ المؤونةِ - لا يُثقلُ على النَّاس؛ لا يُثقل على أهل بيته، ولا على أصدقائه، ولا على جيرانه، ولا على النَّاس من حوله، لا يكلِّف النّاس شيئاً كبيراً ليرهقهم في تحمّل مسؤوليَّاته.
- جيِّدُ التَّدبيرِ لمعاشِهِ - يعرف كيف يتحرَّك في معاشه، سواء كان معاشاً في حجم تحصيل الرِّزق، أو معاشاً في صرف ما رزقه الله، أو معاشاً اجتماعيّاً... إنّ المؤمن ليس بسيطاً، وإنَّما هو يملك عقلاً لتدبير المعيشة؛ يملك كيف يحصِّل رزقه بالحلال، ويملك كيف ينفقه من دون إسرافٍ ومن دون تبذيرٍ في الحلال، ويعرف كيف يدير أموره في الحياة الاجتماعيَّة العامَّة.
- لا يُلسَعُ من جحرٍ مرَّتين"، بل يستفيد من تجاربه، فإذا وضع يده في مكانٍ ولسعته فيه عقرب، سواء كانت عقرباً بشريّة أو عقرباً حيوانيّة، فإنَّه يستفيد من هذه التجربة، فلا يضع يده في المكان نفسه مرّة ثانية.
ويحدِّثنا الإمام (ع) عن المؤمن فيقول: "المؤمنُ له قوَّةٌ في دينٍ - فهو قويّ، ولكن في إطار حركةِ الدّين في معنى القوَّة - وحزمٌ في لينٍ – فهو حازم، ولكنَّ حزمه ليس قسوة، فهو يحزم، ولكنَّه ليِّنٌ في أسلوب ممارسة الحزم - وإيمانٌ في يقينٍ - فهو مؤمن، ويتعمَّق إيمانه في داخل يقينه - وحرصٌ في فِقْهٍ – فهو يحرص على الأمور من حوله، ولكن في الدَّائرة الَّتي يعرف فيها تكليفه، ويفهم واقعه - ونشاطٌ في هدى - فالمؤمن متحرّك، ولكنَّه في خطِّ الهدى لا في خطِّ الضَّلال - وبرٌّ في استقامةٍ - يعيش البرَّ والخير، ولكن في خطِّ الاستقامة والخير الَّذي يبعده عن الانحراف - وعلمٌ في حلمٍ - يملك العلم، ولكن مع سعة الصَّدر عندما يواجه التحدّيات - وكَيْسٌ في رفقٍ- الكيس هو التعقُّل، ولكن في رفقٍ لا في شدَّة - وسخاءٌ في حقٍّ - يسخو ويعطي ولكن في دائرة الحقِّ - وقصدٌ في غِنَى - عندما يكون لديه غنى في المال، فإنَّه يقتصد فيه، ولا يسرف ولا يبذِّر - وتجمُّلٌ في فاقةٍ - إذا افتقرَ، فإنَّه لا يسقطُ ولا يذلُّ نفسَه، بل إنَّه يتجمَّل، حتَّى يحسبه الجاهل غنيّاً في تعفّفه - وعفوٌ في مقدرةٍ - إذا كان قادراً على الآخر، فإنَّه يعفو عنه – وطاعةٌ للهِ في نصيحةٍ – هو يطيع، ولكن في دائرة النَّصيحة - وانتهاءٌ في شهوةٍ - إذا واجهته الشَّهوة، فإنَّه ينهى نفسَهُ عنها - وورعٌ في رغبةٍ - فإذا انطلقت رغباته، فلا يندفع معها، بل إنَّه يعيش الورع في هذا المجال - وحرصٌ في جهادٍ، وصلاةٌ في شغلٍ، وصبرٌ في شدَّةٍ.
- في الهزاهزِ وقورٌ - لا يهتزّ مع الهزاهز الحياتيّة أو غير الحياتيّة - وفي المكارهِ صبورٌ، وفي الرَّخاءِ شكورٌ. ولا يغتابُ، ولا يتكبَّر، ولا يقطعُ الرَّحمَ، وليسَ بواهنٍ، ولا فظٍّ، ولا غليظٍ. لا يسبقُه بصرُهُ - بل إنَّه يحرّك بصره باختياره - ولا يفضحُهُ بطنُهُ - لينطلق مع صرخات بطنه ليبيع دينه بدنياه - ولا يغلبُهُ فرجُهُ – عندما تثور غريزته، فإنّها لا تغلبه على إيمانِهِ - ولا يحسدُ النَّاسَ - بل يرضى بما أنعمَ اللهُ عليه وعلى النَّاس – ولا يعيِّرُ ولا يعيَّر، ولا يسرقُ، وينصرُ المظلومَ".
هذه صفات المؤمن باختصار، يختصر بها الإمام كلَّ مواقع المؤمن وكلَّ أوضاعه.
ثمَّ يقول (ع): "إنَّ الله عزَّ وجلَّ فوَّضَ إلى المؤمنِ أمورَهُ كلَّها، ولم يفوِّضْ إليه أن يكون ذليلاً، أما تسمعُ قولَ اللهِ عزَّ وجلَّ: {وللهِ العزّةُ ولرسولِهِ وللمؤمنين}[المنافقون: 8]، فالمؤمنُ يكونُ عزيزاً ولا يكونُ ذليلاً، إنَّ المؤمنَ أعزُّ منَ الجبلِ، إنَّ الجبلَ يُستقلُّ منْهُ بالمعاولِ، والمؤمنُ لا يُستَقلُّ من دينِهِ شيءٌ"، عندما تأتيه التحدّيات والضّغوط والإغراءات، لتقتطع شيئاً من دينه هنا، وشيئاً من دينه هناك، فإنَّه لا يستطيع أحدٌ أن يقتطع شيئاً من دين المؤمن.
هذه بعض أحاديث الإمام الصَّادق (ع) في مسألة المؤمن.
إرادةُ المؤمنِ
أمَّا مسألة الإرادة، فإنَّ الإمام (ع) يقول لك، كن قويَّ الإرادة، ولا تحاول أن تضعف أمام التحدّيات. يقول (ع): "ما ضَعُفَ بَدَنٌ عمَّا قَوِيَت علَيهِ النِّيَّةُ".
فإذا كانت إرادتك في نفسك قويَّة، فإنَّ قوَّة إرادتك تمنح جسدك قوَّة، بحيث يستطيع أن يقوم بما تنفتح عليه الإرادة، حتَّى لو كان جسمك ضعيفاً. إنَّ قوَّة طاقتك في جسدك، تنطلق من قوَّة إرادتك في عزيمتك. إذا كنت الإنسان الَّذي يعزم على الأشياء، ويريد الأشياء، فلا مشكلة في أن تكون ضعيفاً في جسدك.
الاهتمامُ بأمرِ المسلمين
ثمَّ يحدِّثنا الإمام (ع) عن مسألة الاهتمام بأمور المسلمين، مستشهداً بكلام رسول الله (ص)، قال: "مَنْ لمْ يهتمَّ بأمور المسلمينَ فليسَ بمسلمٍ، إنَّ رسولَ اللهِ (ص) قالَ: مَنْ أصبحَ لا يهتمُّ بأمورِ المسلمينَ فليسَ منهم، ومن سمعَ رجلاً ينادي يا للمسلمين ولم يجبْه، فليسَ بمسلمٍ".
إنَّ هذه الكلمة الَّتي انطلق بها الإمام (ع) في نفي صفة الإسلام عن الإنسان اللَّامبالي، الَّذي مهما حدثَ للمسلمين من مآسٍ ومشاكلَ وهزائم، وما إلى ذلك، فإنَّ ذلك لا يحرِّك عقلَه ليفكِّر، ولا يحرِّك قلبَه من أجلِ أن يتعاطف، ولا يحرِّك موقفَه من أجل أن يقف... إنَّه يقولُ صلِّ ما شئْتَ، وصم ما شئْتَ، وحجَّ ما شئْتَ، فإذا وقفْتَ موقف اللامبالاة أمام مشاكل المسلمين، فلست بمسلم.
ثمَّ يقول (ع): "اجعلُوا أمرَكُم هذا للهِ - عندما تعمل في خطِّ الإسلام، وفي خطِّ أهل البيت، وفي حركتك في الواقع، على المستوى الاجتماعيّ أو السياسيّ أو الأمنيّ، اجعله لله، اقصد به القربة لله، وانفتح به على الله - ولا تجعلُوه للنَّاسِ، فإنَّه ما كانَ للهِ فهوَ للهِ، وما كانَ للنَّاسِ، فلا يصعدُ إلى اللهِ".
لذلك، لا بدَّ لنا، أيُّها الأحبَّة، أن نُحكمَ العملَ الَّذي نعمله في قلوبنا، ليكونَ قربةً إلى الله، ولا يكونَ قربةً إلى النَّاس... لا تقلْ إنّي أعملُ لحساب فلان ولسواد عيونه، فحتَّى لو كان العمل لمصلحه النَّاس، اعمله لله، فإنَّك تحصل بذلك على محبَّة الله أوّلاً، ومحبَّة النَّاس من خلال الله، لأنَّ الله مقلِّب القلوب، وهو الَّذي يفتح قلوبَ النَّاسِ عليك في هذا وغيره.
تجنُّبُ الخصومةِ والغضبِ
"إيَّاكم والخصومةَ - يعني إيَّاكم أن تتخاصموا، وأن تختلفوا، وأن تتعادوا، وأن تتحاقدوا، وأن تتباغضوا، لأمر دنيا هنا، ولمشكلةٍ سياسيَّة أو اجتماعيَّةٍ هناك، حاوروا بعضكم بعضاً، فإن تنازعتم في شيءٍ فردّوه إلى اللهِ والرَّسول، حاولوا أن تبتعدوا عن الخصومة - فإنَّها تشغلُ القلبَ، وتورثُ النِّفاقَ، وتكسبُ الضَّغائنَ".
"مَنْ زرعَ العداوةَ، حصدَ ما بذرَ"، فأنت تزرع العداوة، ولكنَّ الحصاد في النَّتائج السلبيَّة لا بدَّ أن يرجع إليك في نهاية المطاف.
"مَنْ لمْ يملكْ غضبَهُ، لمْ يملكْ عقلَهُ"، سيطر على غضبك، لتجعل عقلك يفكّر بهدوء، فإذا جعلت عقلك هادئاً في تفكيره، فإنَّك تستطيع في نهاية المطاف أن تأخذ الرأي الصَّحيح.
الحذرُ منَ الهوى والأعداءِ
وهكذا يقولُ الإمام (ع): "احذروا أهواءَكم كما تحذرونَ أعداءَكم، فليس بشيءٍ أعدى للرِّجالِ من اتَّباعِ أهوائِهم وحصائدِ ألسنتِهم"، لأنَّ ذلك يجعلك لا تنطلق من قاعدة، ففي كلِّ يوم لك هوى، وفي كلِّ يوم لك مزاج في الأشياء، وفي كلِّ يوم لك شهوة، فإذا كنت تتَّبع أهواءك وشهواتك ومزاجك من دون أساس، فإنَّك تكون كالخشبة في مجرى التيَّار، لا تعرف إلى أيِّ مدى يمكن أن تصلَ بك؛ إلى الشَّاطئ الأمين، أو إلى أعماق البحر.
ثمَّ يقول الإمام (ع): "الفقهاءُ أمناءُ الرّسلِ - هم الَّذين يأتمنهم الرّسل على رسالتهم وعلى قضيَّتهم، وعلى النَّاس من بعدهم - فإذا رأيتُمُ الفقهاءَ قد رَكبوا إلى السَّلاطينِ فاتَّهموهم"، إذا رأيتموهم اتَّبعوا السُّلطان الجائر وخضعوا له، واندفعوا إليه، ليبحث كلّ واحد منهم عن رزقِه وعن موقعِه من خلاله، ليبيع دينه بدنياه، فإذا ركبوا يريدون شيئاً من سلطانه على حساب دينهم، فاتَّهموهم على دينكم، ولا تقبلوا منهم، لأنَّ معنى ذلك، أن تخضعوا لهذا الخطِّ المنحرف في هذا المجال وذاك.
ويريدُ الإمامُ للأمَّة، أن يأخذ الأقوياء فيها الحقَّ للضّعفاء: "ما قُدِّسَتْ أمَّةٌ لم يُؤخَذْ لضعيفِها بِحقِّهِ مِنْ قويِّها".
وصيَّتُهُ (ع) إلى أصحابِهِ
وأخيراً، أيُّها الأحبَّة، في نهاية المطاف، يقول في وصيَّته لكم، باعتباركم امتداداً لأصحابه: "صِلُوا عشائرَكم – حتّى لو اختلفوا معكم في المذهب - واشهدُوا جنائزَهم، وعودُوا مرضاهم، وأدُّوا حقوقَهم، فإنَّ الرَّجلَ منْكُم، إذا ورعَ في دينِهِ، وصدقَ الحديثَ، وأدَّى الأمانةَ، وحسنَ خلقُهُ معَ النَّاسِ، قيلَ: هذا جعفريٌّ، فيسرُّني ذلكَ، ويدخلُ عليَّ منْهُ السّرورُ، وقيلَ: هذا أدبُ جعفرَ. وإذا كانَ على غيرِ ذلكَ – يكذب، يخون الأمانة، شرس في طباعه، لا يحسن خلقه مع النَّاس، لا يعيش مع النَّاس بالطَّريقة المعقولة - دخلَ عليَّ بلاؤُهُ وعارُهُ".
ولذلك، يقول الإمام (ع) إنَّ عليكم أن تنتبهوا إلى كلِّ ما تقومون به، فعندما تنتسبون إليَّ، فإنَّ كلَّ عملكم سينعكس عليّ، سلباً أو إيجاباً. لذلك انطلقوا في خطِّ الإيجاب، وفي خطِّ الإسلام والاستقامة، حتَّى يقول النَّاس: انظروا إلى الجعفريّ كيف يعيش الاستقامة في خطِّ الله، وكيف يكونُ بركةً على النَّاس كلِّهم، وهذا طبعاً بالنِّسبة إلى المسلمين جميعاً.
أيُّها الأحبَّة، هذا هو الإمام الصَّادق (ع) في كلِّ الغنى الثَّقافيّ والعلميّ والرّوحيّ والعمليّ والمنهجيّ والحركيّ، هذا الإمام الَّذي لا بدَّ لنا أن نتعلَّم منه الكثير، وأن نسير معه في كلِّ مسيرته، وأن نستفيد من ذلك كلِّه في حياتنا العامَّة والخاصَّة.
الخطبة الثَّانية
عباد الله، اتَّقوا الله، وواجهوا التحدّيات الكبرى الَّتي يوجِّهها أعداء الله وأعداء الإنسانيَّة إلى الأمَّة كلِّها، سواء في سياستها واقتصادها وأمنها، وفي كلّ قضاياها الحيويّة، ولا سيَّما القضايا الَّتي تتَّصل بالمصير كلِّه.
إنَّ علينا، أيُّها الأحبَّة، أن نكون الأمَّة الَّتي تعيش الاهتمامات الكبرى في كلِّ قضاياها، أن لا نواجه التحدّيات والضّغوط مواجهة اللَّامبالاة، أن لا نبتعد عن تحمّل المسؤوليَّة أمام العالم كلِّه، في كلِّ ما يواجهنا من ضغوطه ومن مشاكله، لأنَّ مسألة أن نكون أمَّة، هي أن نتفاعل فكريّاً ليكون فكرنا فكراً واحداً، وأن نتفاعل شعوريّاً ليكون شعورنا شعوراً واحداً، وأن نتفاعل حركيّاً لتكون حركتنا حركة واحدة، أن نتوحَّد في همومنا وفي قضايانا المصيريَّة، وأن لا نفسحَ في المجال لأيِّ شخصٍ يثير الفتنة فيما بيننا، أن نلاحق كلَّ الَّذين يعملون على إثارة الفتنة ليبغضَ الأخُ أخاه، وليلعنَ المسلمُ المسلمَ، وليكفِّر المسلمُ المسلمَ... حاصروا كلَّ الذين يثيرون الفتنة، ويريدون أن يشغلوا ساحة المسلمين بالخلافات الهامشيَّة هنا وهناك.
ربَّما يأتي بعض النَّاس ليقولوا لكم إنَّ هذه القضيَّة الهامشيَّة حيويَّة ومهمَّة، لا تنفعلوا معهم، لأنَّنا عندما نواجه الواقعَ الصَّعبَ الَّذي نعيشه في حياتنا وفي مرحلتنا هذه، فإنَّنا نعرف كم أنَّ العالم يجتمع علينا، ويندفع إلينا، ويتجمَّع كما تتجمَّع الأكلةُ إلى قصعتها.. كلّ فريق في العالم يريد أن يقتطع قطعةً من اقتصادنا لحساب اقتصاده، وقطعةً من أمننا لحساب أمنه، وقطعةً من سياستنا لحساب سياسته، لنكون مجرَّد أمَّةٍ تعيش على فتات الأمم الأخرى، ولتخدم الأمم الأخرى، والله يقول: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}[آل عمران: 110] .
لذلك، أيُّها الأحبَّة، على مستوى الواقع الصَّغير والواقع الكبير، لتكن مواقفنا واحدةً، وليكن صوتنا واحداً، وليكن خطُّنا واحداً.. علينا أن نجمِّد كلَّ خلافاتنا، وعلينا أن نحارب كلَّ دعاة الفتنة فينا.. انتبهوا إلى أكثر من وسواسٍ خنَّاسٍ يحاول أن يوسوس في عقولكم ليزرع فيها الباطل، وفي قلوبكم ليزرع فيها الحقد، وفي حياتكم ليزرع فيها التمزّق والتفرقة.
أيُّها الأحبَّة، إنَّ المرحلة الآن هي من أصعب المراحل، فهناك المستكبرون القريبون والبعيدون يعملون على إسقاط الأمَّة، وعلى إلحاق الهزيمة بها. لذلك، كونوا الواعين، كونوا المبادرين، كونوا الَّذين يفهمون ما حولهم ومَنْ حولهم، لأنَّهم يستغلّون غفلتنا في كلِّ شيء.
تعالوا لنعرف ماذا هناك.
طرحٌ خطيرٌ حولَ الـ"425"
يعيش لبنان في هذه الأيَّام حرباً سياسيَّة إسرائيليَّة جديدة، في طرح تفسير جديد للقرار 425 مؤيَّد من أمريكا، على لسان سفيرها في بيروت، الَّذي قال إنَّ هناك تفسيرات عديدة للقرار، وأفضل طريقة لحلِّ المشكلة هي عبر المفاوضات.
ولعلَّ خطورة هذا الطَّرح، أنَّه يحاول أن ينزع من لبنان سلاحاً سياسيّاً للمطالبة بالانسحاب الإسرائيلي من أرضه دون قيد أو شرط، باعتبار الحديث عن أنَّ القرار مثير للجدل، لأنَّه ليس واضحاً بما فيه الكفاية ليطرح للتَّنفيذ. هكذا يقولون، كما يحاول أن يثير سجالاً لبنانيّاً داخليّاً قد يخلقُ حالةً من اللا استقرار الدَّاخلي، بفعل الأصوات المتناغمة مع هذا الهدف الإسرائيليّ الخفيّ، ويمنح العدوَّ، بالتّالي، موقع قوَّة في الأمم المتحدة، قد يتحوَّل إلى حالة ضغط على لبنان وسوريا لتحريك الفتن في لبنان.
إنَّنا ندعو المسؤولين إلى وعي خطورة هذه المرحلة الَّتي تتهدَّد المنطقة في مصيرها، وذلك بالموقف الموحَّد الَّذي يواجهون فيه كلَّ المندوبين الأمريكيّين ومندوب الأمم المتَّحدة، بالكلمة الواحدة، وهي تنفيذ القرار 425 بدون قيدٍ أو شرطٍ، والارتفاع إلى مستوى المسؤوليَّة في الحفاظ على الوطن، وعدم الدّخول في لعبة الكواليس الخفيَّة الَّتي يوحي بها البعض في السّرّ بغير ما يتحدَّث عنه في العلن.
التَّهديدُ الأمريكيُّ للعراق
وعلى خطٍّ آخر، فإنَّ الطريقة التي تدير بها أمريكا حملتها السياسيَّة والعسكريَّة ضدَّ العراق، تؤكِّد أنَّها أصبحت تأخذ دور الشّرطيّ العالميّ الَّذي يحاول دائماً اتّهام دولة هنا ودولة هناك بالخروج عن الشَّرعيَّة الدوليَّة، وبالتَّهديد الخطير للسِّلم العالمي، ليقوم هذا الشّرطيّ بالمطالبة بحماية العالم من هذا الخطر الكبير، كما يقول، باعتباره الممثِّل للقانون في العالم.
إنَّ أمريكا تعمل على استعراض عضلاتها العسكريَّة والسياسيَّة، من أجل أن توحي بالتَّهديد لكلِّ الدول الكبيرة والصَّغيرة الَّتي تعارض سياستها، بأنَّها ليست بحاجة إلى قرار الأمم المتَّحدة لتتدخَّل عسكريّاً في ترتيب أيِّ وضعٍ أمنيّ أو سياسيّ في أيِّ مكانٍ في العالم، فهي الَّتي تحدِّد المجرمَ بطريقتها الخاصَّة، وهي الَّتي تحدِّد العقوبة والتَّنفيذ. وهكذا رأيناها كيف تبادر مع حليفتها بريطانيا، إلى فرض الحصار باسم الأمم المتَّحدة، على أكثرِ من بلدٍ عربيّ، بحجَّة العمل بإلزامه بتنفيذ قراراتها، ولكنَّها في الوقتِ نفسِهِ، تمنع تنفيذ أيِّ قرارٍ للأممِ المتَّحدة بما يتَّصل بإسرائيل، بل إنَّها تمنع الأمم المتَّحدة من إدانة إسرائيل على جرائمها.
إنَّ أمريكا ترسل أساطيلها وجنودها إلى المنطقة، في تهويلٍ إعلاميّ عسكريّ ضدّ العراق، بحجَّة حريَّة التفتيش عن الأسلحة. ولكنَّنا نعلم أنّ القضيَّة ليست قضيَّة التفتيش عن الأسلحة، ولكنَّها قضيَّة مصالحها الخاصَّة في السيطرة الاقتصاديَّة والسياسيَّة والأمنيَّة على العراق جملةً وتفصيلاً، وفي توفير الظّروف الموضوعيَّة الَّتي تؤمِّنُ لإسرائيل أرضيّة جديدة على أكثر من مستوى، على أساس اعتراف العالم العربيّ بها قانونياً بعد الاعتراف الواقعيّ، وفي التَّأكيد على الهزيمة الجديدة للعرب جميعاً، سواء تمَّت الضَّربة العسكريَّة للعراق أو لم تتمّ، ما يفرض عليهم – العرب - التَّعامل مع إسرائيل من موقع المهزوم أمام المنتصر، كما كان الحال بعد عاصفة الصحراء!
إنَّ على العالم العربي والإسلامي مواجهة المرحلة بالقوَّة الَّتي تفرضها خطورتها، بعيداً من كلِّ هذا الضّعف والتقاعس الَّذي ضاعف من اندفاعة أمريكا في الاستعراض أكثر بعد أن ضخَّمت قوَّة العراق، وعلى الشّعوب العربيَّة والإسلاميَّة العمل على معاقبة أمريكا بمقاطعة البضائع الأمريكيَّة، بكلِّ ما تستطيع من ذلك، والتحرّك بكلِّ قوَّة في صوت شعبيّ موحَّد هادر، لإسقاط السياسة الأمريكيَّة في كلِّ مواقعها في المنطقة، فإنَّها تعمل مع كلِّ عملائها على إسقاط المنطقة كلِّها في دائرة مصالحها من دون قيدٍ أو شرط.
معالجةُ الملفَّاتِ الدَّاخليَّة
أمَّا على المستوى اللّبنانيّ الداخليّ، فإنَّنا نرفض مصادرة القرارات الداخليَّة بحجَّة التطوّرات الكبيرة في المنطقة، لأنَّ ذلك يؤدّي إلى تراكم المشاكل الدَّاخليّة، واستفحال الأزمات الاقتصاديّة. ونحن لا ننكر أنَّ بعض الأمور في المنطقة قد تستدعي تجميد السِّجال الدَّاخليّ الَّذي يؤثِّر سلباً في القضيَّة الكبرى، لكنَّ ذلك لا يعني طيّ ملفَّات كبرى لها تأثيرها السّلبيّ في واقع النَّاس الاقتصادي والسياسي، فلا يجوز أن نعطي الَّذين يلعبون بالبلد حريَّة اللَّعب به ضدَّ مصالحه، باسم استحقاقات كبيرة، وباسم التطوّرات في المنطقة.
إنَّنا نحذِّر من أنَّ طريقة إدارة البلد في نطاق الخلافات الشخصانيَّة والحرطقات السياسيَّة، قد تقضي على المؤسَّسات، لتبقى مجرَّد صورة شكليَّة لا روح لها، لأنَّ الجميع يصادرونها لحساب الأشخاص. وإذا كانت تطوّرات المنطقة تؤخذ بالاعتبار كأولويَّة لا بدَّ للواقع السياسيّ الدَّاخليّ أن يرصدها، فلماذا لا توضع أولويَّة دعم المقاومة، على المستوى الرَّسمي والشَّعبي، لتكون في رأس الأولويَّات، باعتبارها التحدّي القويّ أمام الهجمة الأمريكيَّة الإسرائيليَّة على العرب والمسلمين.
إنَّ الاهتمام بالثَّبات في الدَّاخل، وحدةً وصموداً وتخطيطاً ووعياً، هو وحده الَّذي يمكن أن يحقِّق النَّتائج الكبرى على مستوى الأهداف في ثبات الموقف للخارج.
لا تتلاعبوا بالوطن لتركلوه بأقدامكم لخدمة مصالحكم، تماماً لو كان الوطن كرةً تتقاذفها الأقدام، ليسجِّل هذا هدفاً لصالحه، وذاك هدفاً لصالحه.
كفّوا عن إثارة القضايا المثيرة للفتنة، وانطلقوا لإثارة القضايا الحيويَّة الَّتي تربط الشَّعب بوطنه، في عمليَّة اعتزاز بالانتماء إليه، وتحمُّلٍ للمسؤوليَّة في حمايته.
*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 20/2/98.