يقول الله في كتابه المجيد: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[الأحزاب: 33].
من أهل هذا البيت، الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع)، الَّذي يصادف ذكرى شهادته في اليوم الخامس والعشرين من شهر رجب.
ونحن عندما نتوقَّف عند ذكرى هذا الإمام، فإنَّنا نذكر الإمام الَّذي استطاع أن يملأ المنطقة الإسلاميَّة علماً واسعاً عميقاً منفتحاً على كلّ قضايا الإسلام، في عقيدته وشريعته ومفاهيمه، وكلّ قضايا النَّاس، في كلّ ما يحتاجون إليه في شؤونهم العامَّة والخاصَّة. كانت مدرسته (ع) المدرسةَ الَّتي يلتقي عليها النَّاس جميعاً، مع اختلاف مذاهبهم وقوميَّاتهم، وكان يجيب كلّ أحد عن سؤاله.
مسؤوليَّةُ رفضِ الظّلم
وهكذا، أيُّها الأحبَّة، كان الإمام الكاظم (ع) يؤكّد على أصحابه أن يكونوا المسلمين الَّذين يرفضون الظّلم كلَّه، ويرفضون الظَّالم بكلّ أنواعه، وكان يعلّمهم تبعاً للمصلحة، أن يقاطعوا الظَّالم هنا، وأن يتوظَّفوا عند الظَّالم هناك، لأنَّ المقاطعة في بعض الحالات قد تكون مصلحةً للمسلمين، ونذيراً للظَّالم بأنَّ ظلمه قد يؤدّي إلى مقاطعة المسلمين له، كما أنَّ التوظّف عند الظَّالم قد يكون مصلحة للمسلمين، إذا كان هذا الشَّخص الَّذي يتوظَّف عند الظَّالم واعياً، ثابت الإيمان، لا يبيع نفسه ولا موقفه، بل يستفيد من وجوده في هذه الوظيفة أو تلك، في قضاء حوائج المظلومين والمستضعفين، وقد جاء في الحديث عنه (ع): "كفَّارةُ عَمَلِ السُّلطانِ، قَضاءُ حَوَائِجِ الإخوانِ". وعُرِفَ من أصحابه عليّ بن يقطين، الَّذي أراد له الإمام أن يدخل في بلاط الخلافة، من أجل أن يرفع ظلم المظلومين، ويقضي حاجة المحتاجين.
وبذلك، رسم الإمام الكاظم (ع) لنا خطّاً في مسألة أن يتوظَّف الإنسان عند سلطةٍ غير شرعيَّة، أو عند شخصٍ ظالم، فالأصل أنَّه لا يجوز للإنسان أن يساعد الظّالم في ظلمه، أو أن يقوّي سلطانه، حتَّى لو لم يساعده في الظّلم.
الأمناءُ على الرّسالة
وقد كان الإمام (ع) يروي عن رسول الله (ص) فيما كان يحدّث به أصحابه: "الْفُقَهَاءُ أُمَنَاءُ الرُّسُلِ - هم الأمناء على رسالة الرّسل، يحفظونها، ويبلّغونها للنَّاس، ويعرّفون النَّاس كيف يمارسونها - مَا لَمْ يَدْخُلُوا فِي الدُّنْيَا – بمعنى أنَّ العلماء يبقون الأمناء على الرّسل وعلى الرّسالة ما لم يدخلوا في الدّنيا دخول الحريص عليها، المستسلم لها، الخاضع لشهواتها وأطماعها، فإذا دخل العالم في الدّنيا، فإنَّ ذلك يؤدّي به إلى أن يبيع رسالته من أجل أن يحصل على دنياه.
- قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا دُخُولُهُمْ فِي الدُّنْيَا؟ - كيف يتمثَّل دخول العلماء في الدّنيا؟ - قَالَ: اتِّبَاعُ السُّلْطَانِ - أن يكون العالم في خدمة السّلطان الجائر، وأن يكون من بطانته، وأن يؤيّد حكمه وظلمه، ويمنحه الشَّرعيَّة عند النَّاس - فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ، فَاحْذَرُوهُمْ عَلَى دِينِكُم"، لأنَّ الإنسان الَّذي يبيع رسالته وموقفه وخطَّه لسلطان جائر، ليقوّي بذلك ملكه، وليدعم بذلك ظلمه، فإنَّه لا يكون مؤتمناً على الدّين، لأنَّ الدّينَ يرفض الظّلم كلّه والجور كلّه.
الإمامُ المتواضعُ
وهكذا، أيُّها الأحبَّة، كان الإمام الكاظم (ع) الإمامَ المتواضع. يروى عنه أنَّه "مَرَّ بِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ السَّوَادِ دَمِيمِ المَنظَرِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَنَزَلَ عِندَهُ وَحَادَثَهُ طَوِيلًا، ثُمَّ عَرَضَ (ع) عَلَيْهِ نَفْسَهُ فِي القِيَامِ بِحَاجَةٍ إِنْ عَرَضَتْ لَهُ، فَقِيلَ لَهُ: يَا بْنَ رَسُولِ اللَّهِ، أَتَنزِلُ إِلَى هَذَا ثُمَّ تَسْأَلُهُ عَنْ حَوَائِجِهِ، وَهُوَ إِلَيْكَ أَحْوَجُ؟ فَقَالَ (ع): عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، وَأَخٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَجَارٌ فِي بِلَادِ اللَّهِ، يَجْمَعُنَا وَإِيَّاهُ خَيْرُ الآبَاءِ آدَمُ (ع)، وَأَفْضَلُ الأَدْيَانِ الإِسْلَامُ، وَلَعَلَّ الدَّهْرَ يَرُدُّ مِنْ حَاجَاتِنا إِلَيْهِ، فَيرَانَا، بَعْدَ الزَّهْوِ عَلَيْهِ، مُتَوَاضِعِينَ بَيْنَ يَدَيْهِ".
كأنَّه (ع) يريد أن يعطيهم درساً، بأن لا تستضعفوا أحداً، ولا تسخروا من أحد، لا تكن قضيَّة احترامكم للنَّاس وتواضعكم لهم على أساس ما يملكون من ثروة، وما يملكون من موقع اجتماعيّ أو سياسيّ، تواضعوا لإنسانيَّة الإنسان، حاولوا أن تعيشوا مع النَّاس كما كان رسول الله (ص) يعيش معهم، حيث قال القائل وهو يتحدَّث عن سيرته: "كَانَ فِينَا كأَحَدِنَا"، يعيش مع المسلمين كما لو كان واحداً منهم، لا يميّزه شيء عنهم، وهو المميَّز عند الله وفي الدّنيا.
دروسٌ في كظمِ الغيظ
وهكذا، أيُّها الأحبَّة، كان الإمام الكاظم (ع) السَّخيَّ في عطائه، لم يكن يقصده أحد إلَّا ويستجيب له في حاجاته، إذا كان قادراً على أن يقضيها له، وكان واسع الخلق، كاظم الغيظ، ينفتح حتَّى على أعدائه الّذين كانوا يشتمونه ويتحدَّثون عنه بالسّوء، ولا يقول لهم إلَّا خيراً، ولا يتصرَّف معهم إلَّا بالخير.
قيل في سيرته إنَّ "رَجُلًا كانَ بِالْمَدِينَةِ يؤْذي الإِمَامَ مُوسَى الكَاظِمَ (ع) وَيَسُبُّهُ إِذَا رَآهُ، وَيَشْتُمُ عَلِيًّا (ع)! فَقَالَ لَهُ بَعْضُ جُلَسَائِهِ يَوْمًا: دَعْنَا نَقْتُلُ هَذَا الفَاجِرَ، فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ أَشَدَّ النَّهْيِ، وَزَجَرَهُمْ أَشَدَّ الزَّجْرِ، وَسَأَلَ عَنِ العُمَرِيِّ، فَذُكِرَ أَنَّهُ يَزْرَعُ بِنَاحِيَةٍ مِنْ نَوَاحِي الْمَدِينَةِ، فَرَكِبَ فَوَجَدَهُ فِي مَزْرَعَةٍ، فَدَخَلَ الْمَزْرَعَةَ بِحَمَارِهِ، فَصَاحَ بِهِ العُمَرِيُّ: لَا تُوطِئْ زَرْعَنَا، فَتَوَطَّأَهُ الإِمَامُ (ع) بِالْحَمَارِ، حَتَّى وَصَلَ إِلَيْهِ، فَنَزَلَ وَجَلَسَ عِندَهُ وَبَاسَطَهُ وَضَاحَكَهُ. وَقَالَ لَهُ: كَمْ غَرِمْتَ فِي زَرْعِكَ هَذَا؟ قَالَ لَهُ: مِائَة دِينَارٍ. قَالَ: وَكَمْ تَرْجُو أَنْ تُصِيبَ فِيهِ؟ قَالَ: لَسْتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ. قَالَ: إِنَّمَا قُلْتُ لَكَ: كَمْ تَرْجُو أَنْ يَجِيئَكَ فِيهِ؟ قَالَ: أَرْجُو فِيهِ مائَتَيْ دِينَارٍ. قَالَ: فَأَخْرَجَ لَهُ أَبُو الحَسَنِ (ع) صَرَّةً فِيهَا ثَلاثُ مِائَةِ دِينَارٍ، وَقَالَ: هَذَا زَرْعُكَ عَلَى حَالِهِ، وَاللَّهُ يَرْزُقُكَ فِيهِ مَا تَرْجُو. قَالَ: فَقَامَ العُمَرِيُّ فَقَبَّلَ رَأْسَهُ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَصْفَحَ عَنْ فَارِطِهِ، فَتَبَسَّمَ إِلَيْهِ الإِمَامُ (ع) وَانصَرَفَ. قَالَ: وَرَاحَ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَوَجَدَ العُمَرِيَّ جَالِسًا، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ قَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالتَهُ. قَالَ: فَوَثَبَ أَصْحَابُهُ إِلَيْهِ فَقَالُوا: مَا قِصَّتُكَ؟ قَدْ كُنْتَ تَقُولُ غَيْرَ هَذَا. فَقَالَ لَهُمْ: قَدْ سَمِعْتُمْ مَا قُلْتُ الآنَ، وَجَعَلَ يَدْعُو لِلإِمَامِ (ع)، فَخَاصَمُوهُ وَخَاصَمَهُمْ. فَلَمَّا رَجَعَ الإمامُ إِلَى دَارِهِ، قَالَ لِجُلَسَائِهِ الَّذِينَ سَأَلُوهُ فِي قَتْلِ العُمَرِيّ: أَيُّهُمَا كَانَ خَيْرًا؛ مَا أَرَدْتُمْ أَمْ مَا أَرَدْتُ؟ إِنَّنِي أَصْلَحْتُ أَمْرَهُ بِالْمِقْدَارِ الَّذِي عَرَفْتُمْ، وَكَفَيْتُهُ بِهِ شَرَّهُ".
وكأنَّ الإمام (ع) بما فعله يقول لأصحابه: أيُّ أسلوبٍ هو الأفضل؛ أسلوبكم أم أسلوبي؟! فلو قتلتموه، لخلقتم أكثر من مشكلة، ولكنّي بما فعلته، قتلت حقده وعداوته.
وهذا درس لا بدَّ لنا أن نتعلَّمه، أيُّها الأحبَّة، أن تكون لنا سعة الصَّدر، بحيث إذا واجهنا في حياتنا الاجتماعيَّة شخصاً يحقد علينا ويسبُّنا ويتَّهمنا، فعلينا أن نعمل على أن نقتل حقده وعداوته وبغضه ويبقى إنساناً، لأنَّ مشكلتنا مع الكافر والحاقد، كما كنّا نقول دائماً، ليست مع إنسانيَّته، ولكن مع كفره وفسقه وحقده وعداوته، فإذا أمكننا أن نقتل فيه الكفر والفسق ويبقى إنساناً يصادقنا ونصادقه ويتعاون معنا، فهو أفضل، ولكنَّ ذلك يحتاج إلى صبرٍ ووعيٍ وإيمانٍ، وإلى أن يكون الإنسان رساليّاً، يفكّر كيف يؤكّد رسالته في الحياة الاجتماعيَّة، لا كيف ينفّس عن حقده وغضبه، وهذا الَّذي جعل الإمام (ع) يسمَّى بالكاظم، لأنَّه كان الإنسان الَّذي يحبس غيظه في صدره، ولا يعبّر عنه بأيّ ردّ فعل. وقد حدَّثنا الله عن أهل الجنَّة بأنَّ من صفاتهم {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاس ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[آل عمران: 134].
أيُّها الأحبَّة، هؤلاء هم أئمَّتنا، هذه هي أخلاقهم، هذا هو تواضعهم، هذه هي حركتهم في خطّ المسؤوليَّة، هذه هي محبَّتهم للنَّاس، وهذا هو صبرهم:
فَتَشَبَّهوا إِنْ لَم تَكُونوا مِثلَهُم إِنَّ التَّشَبّهَ بِالكِرامِ فَلاحُ
الاقتداءُ بأهلِ البيت (ع)
وقصَّة التشيّع لأئمَّة أهل البيت (ع) ليست كلمةً تقولونها، ولا هتافاً تهتفون به، ولكنَّ التشيّع هو الاتّباع، أن تتَّبعوهم في كلّ ما قالوه، وأن تقتدوا بهم في كلّ ما عملوه، حتَّى يكون قولنا قولهم، وحتَّى يكون عملنا عملهم، وحتَّى يتجسَّدوا فينا قدوةً وممارسة، كانوا يملكون سعة الصَّدر بأوسع مما بين السَّماء والأرض، وقد قال أبوهم وجدّهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع): "آلَةُ الرِّيَاسَةِ سَعَةُ الصَّدْرِ"، أن تكون رئيساً لا بالمعنى الذَّاتيّ للرّئاسة، بل بالمعنى الاجتماعيّ لها، أن يتَّسع صدرك للنَّاس كلّهم، أن تغفر لهذا، وأن تسامح ذاك، وأن تتحمَّل الأذى من ذلك {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}[الفرقان: 63]، {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}[الأعراف: 199].
استشهادُ الإمام (ع)
ونحن نعرف أنَّ هذه السّيرة للإمام الكاظم (ع)، هي الَّتي فتحت له عقول النَّاس كما فتحت له قلوبهم، وفتحت له كلّ الدّروب الَّتي يتحركون فيها، حتَّى عاش في تلك المرحلة وهو محلّ ثقة النَّاس كلّهم، ومحبَّة النَّاس كلّهم، حتَّى خاف منه هارون الرَّشيد على ملكه، ولذلك بادر إلى سجنه. ولعلَّ بعض الأئمَّة سجنوا في عهد هذا الخليفة أو ذاك، لكنَّ الإمام الكاظم (ع) سجن السّجن المؤبَّد، لأنَّه استشهد مسموماً في السّجن بعد أربعة عشر عاماً من السّجن، وقد نقل عنه الَّذين أشرفوا على سجنه من البصرة إلى واسط إلى بغداد، أنَّهم لم يسمعوا كلمة سوء للَّذين سجنوه، لأنَّه كان مشغولاً بعبادة الله سبحانه وتعالى في سجنه، وكان يناجي ربَّه ويقول: "يَا رَبّ، إنَّني سَأَلْتُكَ أَنْ تُفَرّغَني لعبادتِكَ وقدْ فَعَلْتَ، فلَكَ الحَمْدُ"، لأنَّ الأعمال والأشغال الَّتي كانت تحيط بي، كانت تمنعني من أن أفرّغَ وقتي في عبادتك صلاةً وصوماً ودعاءً وابتهالاً، ولكنّي الآن في هذا السّجن، أجلس معك، وأبتهل إليك، وأدعوك وأعيش في أجوائك الرّوحيَّة، يا ربّ، فلك الحمد.
ولكنَّه (ع) كان من القوَّة بأن أرسلَ إلى هارون الرَّشيد رسالةً وهو في السّجن: "إِنَّهُ لَن يَنقَضِي عَنِّي يَوْمٌ مِنَ البَلَاءِ، إِلَّا انقَضَى عَنكَ مَعَهُ يَوْمٌ مِنَ الرَّخَاءِ - ربما أتابع أيَّامي وأنا في رحلة إلى لقاء ربي، حيث ينتهي بلائي في السّجن، ولكن اعرف أنَّه ما من يوم ينقضي عني من البلاء، إلَّا وسوف ينقضي عنك يوم من الرّخاء - حَتَّى نَقْضِي جَمِيعًا إِلَى يَوْمٍ - وهو يوم القيامة - لَيْسَ لَهُ انقِضَاءٌ، يَخْسَرُ فِيهِ المُبْطِلُونَ"، وستخسر أنت، لأنَّك سرت في خطّ الباطل، واضطهدت السَّائرين على خطّ الحقّ.
وهكذا استشهد الإمام (ع) في اليوم الخامس والعشرين من شهر رجب، وهو الإمام الَّذي نتقرَّب به إلى الله شفيعاً، والَّذي نؤمن بأنَّه وصيُّ رسول الله (ص)، ومن الَّذين لا بدَّ لنا أن نطيعهم ونتحرَّك معهم في كلّ ما قالوه وفعلوه، ولأنَّه كذلك، لا بدَّ لنا من أن نقف بعض الوقفات حول بعض كلماته الَّتي تركها لنا.
محاسبةُ النَّفس
في بعض الرّوايات، يقول (ع): "لَيسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُحاسِبْ نَفْسَهُ في كُلِّ يَومٍ، فإنْ عَمِلَ خَيراً اسْتَزادَ اللّه مِنْهُ وحَمدَ اللّهَ علَيهِ، وَإِنْ عَمِلَ شَرّاً اسْتَغْفَرَ اللّهَ وتابَ إلَيهِ".
فالإمام (ع) يقول إنَّ النَّاس الَّذين ينتسبون إلينا، ينبغي أن يسيروا في خطّنا، ومن خطّنا أنَّك كما تحاسب نفسك في آخر النَّهار في المسألة الماديَّة، كم ربحت وكم خسرت في تجارتك وعملك، كذلك قبل أن تنام، عندما تأتي إلى بيتك، فكّر في أعمالك، في كلّ ما تكلَّمت به من خير أو شرّ، في كلّ ما عملته، في كلّ ما أكلت وشربت، في كلّ حركة علاقاتك، في بيتك، مع أهلك ومع النَّاس، في كلّ مواقفك، تأييداً لهذا أو رفضاً لذاك، فكّر، وقم بجردة حساب، فإذا رأيت أنَّك عملت حسناً، دعوْتَ الله أن يزيدك من هذا الحسن في الأيَّام القادمة، وإذا رأيت أنّك عملت سيّئاً، استغفرت الله في اليوم نفسه وتبت إليه، لتصلح يومك القادم، فلا تكون فيه سيّئاً، لأنَّ عالم السيّئات مثل الميكروب، ألا يقول الأطبّاء إنّنا إذا اكتشفنا المرض في أوَّله نستطيع أن نسيطر عليه، ولكن إذا اكتشفناه متأخّرين فلا نسطيع أن نسيطر عليه؟! وكما أنَّ هناك أمراضاً جسديَّة، هناك أمراض فكريَّة وروحيَّة ونفسيَّة، فالإنسان الَّذي يحاسب نفسه دائماً ويدرس أعماله وأقواله الَّتي قالها في اليوم نفسه، يستطيع أن يعالج الأشياء قبل أن تتحوَّل إلى مرض، ويستطيع أن ينفتح على الخير الصَّادر عنه، حتَّى يجعل أعماله في خانة الخير لا في خانة الشَّرّ، كما في عمليَّة الخسارة والرّبح، فإذا وجدْتَ نفسك رابحاً، تعمل على أن تستزيد من فرص الرّبح، وإذا وجدت نفسك خاسراً، تلافيت أسباب الخسارة.
العلمُ الواجبُ تحصيله
الحديث الآخر للإمام (ع) يحدّثنا عن الأشياء الَّتي يجب أن نتعلَّمها، فهناك أشياء ترتبط بعملنا وأشياء لا ترتبط به، يقول (ع) إنَّه ينبغي عليكم أن تتعلَّموا الأشياء الَّتي ترتبط بالعقيدة والشَّريعة، وما يجب أن تمارسوه في الحياة، أمَّا القضايا الَّتي ليس لها دخل بالعقيدة أو بالمسؤوليَّة الشَّرعيَّة، ولا بالواقع الاجتماعيّ أو السياسيّ، فلا تشغلوا أنفسكم بها.
يقول الإمام (ع): "أَوْلَى العِلْمِ بِكَ ما لا يَصْلُحُ لَكَ العَمَلُ إلَّا بِهِ – وهو العلم المرتبط بالعمل، والَّذي إذا لم تتعلَّمه فسد عملك - وَأوجَبُ العَمَلِ عَلَيْكَ – فالإنسان يقوم بأعمال كثيرة في الحياة، ولكنَّ العمل الأوجب عليه - ما أنتَ مَسؤولٌ عَنِ العَمَلِ بِهِ - ما يريد الله لك أن تعمله - وَألزَمُ العِلْمِ لَكَ، مَا دَلَّكَ عَلَى صَلاحِ قَلبِكَ – ما يصلح قلبك، والمراد بالقلب العقل والعاطفة والإحساس - وَأَظْهَرَ لَكَ فَسَادَهُ، وَأَحمَدُ العِلمِ عاقِبَةً – يعني أكثر العلم في العاقبة الطيّبة - ما زادَ في عَمَلِكَ العاجِلِ، فَلا تَشتَغِلَنَّ بِعِلمِ ما لا يَضُرُّكَ جَهلُهُ – يعني لا تشغل نفسك بالعلم الَّذي إذا جهلته لا يضرّك - ولا تَغفَلَنَّ عَن عِلْمِ ما يَزيدُ في جَهلِكَ تَركُهُ"، لا تترك العلم الّذي تحتاج إليه.
وخلاصة الكلمة، أنَّ الإمام (ع) يقول إنَّ هناك أشياء تتَّصل بحياتك ومسؤوليَّتك وعقيدتك ومصالحك في الحياة، فهذه عليك أن تتعلَّمها، وأمَّا الأشياء الَّتي لا دخل لها بعقيدتك، ولا بمسؤوليَّتك الشَّرعيَّة أو مصالحك ومفاسدك ومصيرك، فلا تصرف وقتك عليها، بل اصرفه في تحصيل العلم الَّذي له علاقة بمصيرك، وفي العمل الَّذي أنت مسؤولٌ عنه أمام ربّ العالمين.
وعلى هذا الأساس، فإنَّ الكثير من المناقشات والمنازعات الَّتي تكون بين النَّاس غالباً هي من باب "ذاكَ عِلمٌ لا يَضُرُّ مَن جَهِلَهُ، ولا يَنفَعُ مَن عَلِمَهُ"، وهذا خطٌّ يجب أن نتعلَّمه، وبذلك نتفادى الكثير من المناقشات والأشياء الّتي لا علاقة لها بدنيانا ولا بآخرتنا على مستوى المسؤوليَّة الإلزاميَّة.
تقسيمُ الوقت
وهكذا نجد أنَّ الإمام يقسّم لنا الوقت، يقول (ع): "اجْتَهِدوا في أن يَكونَ زَمانُكُم أربَعَ ساعاتٍ – كناية عن تقسيم الوقت أربعة أقسام - ساعَةً لِمُناجاةِ اللّهِ - تفتح قلبك لله في حاجاتك وفي كلّ أمورك - وساعَةً لِأَمرِ المَعاشِ، وساعَةً لِمُعاشَرَةِ الإِخوانِ وَالثِّقاتِ الَّذينَ يُعَرِّفونَكُم عُيوبَكُم ويَخلُصونَ لَكُم فِي الباطِنِ - وليس معاشرة أيّ كان، فلا تعاشر من يغتاب الآخرين وينمّ عليهم، بل عاشر من يدلّونك على ما فيك من نقاط الضّعف ونقاط القوَّة، بحيث تستفيد من جلستهم - وساعَةً تَخلونَ فيها لِلَذّاتِكُم في غَيرِ مُحَرَّمٍ، وَبِهَذِهِ السَّاعَةِ تَقْدِرُونَ عَلَى الثَّلَاثِ سَاعَاتٍ"، أن تضبط هذه السَّاعة الَّتي تقضي فيها لنفسك حاجتها من الشَّهوة واللَّعب واللَّهو، حتّى لا تأكل كلّ السَّاعات الأخرى.
فالإمام (ع) يقول خطّطوا ليومكم، وقسّموا ساعاته على كلّ ما تحتاجونه من عبادة ربّكم، ومن القيام بأمر معاشكم، ومن الجلوس مع إخوانكم، ومن إشباع لذَّاتكم من حلال.
أمرٌ يفسدُ العملَ
ثمَّ يتحدَّث الإمام (ع) عن بعض النَّاس الَّذي إذا فعل شيئاً من الخير أُعجب بنفسه، وهو ما يسمَّى بالعجب.
يقول أحد أصحاب الإمام (ع): "سَأَلْتُهُ عَنْ العُجْبِ الَّذِي يُفْسِدُ العَمَلَ؟ فَقَالَ: العُجْبُ دَرَجَاتٌ، مِنْهَا أَنْ يُزَيَّنَ لِلْعَبْدِ سُوءُ عَمَلِهِ فَيَرَاهُ حَسَنًا، فَيُعْجِبُهُ وَيَحْسِبُ أَنَّهُ يُحْسِنُ صُنْعًا – فقد يعمل المرء السّوء، ولكن بسبب إعجابه بنفسه، واعتقاده أنَّ كلَّ ما يفعله هو خير، فقد يتصوَّر السّوء خيراً - وَمِنْهَا أَنْ يُؤْمِنَ العَبْدُ بِرَبِّهِ، فَيَمُنَّ عَلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَلِلَّهِ عَلَيْهِ فِيهِ الْمَنُّ"، فهو يصلّي ويصوم ويحجّ ويعتمر، فيقول ماذا يريد الله منّي بعد كلّ ذلك، وكأنَّ له على الله جميلاً، ولكنَّك صلَّيت وصمت وحججت وفعلت ما فعلت بما أعطاك الله من قوَّة، فالله هو الّذي له المنّة عليك، ولا منَّة لك عليه أبداً. فعلى الإنسان أن يجتنب ذلك، ولا يخرج نفسه من حدّ التَّقصير.
العلاقةُ بالإخوان
وهناك موضوع أيضاً حول العلاقة مع الإخوان، قال: "قُلْتُ لَهُ: جُعِلْتْ فِدَاكَ، الرَّجُلُ مِنْ إِخْوَانِي يبْلِغُنِي عَنْهُ الشَّيْءَ الَّذِي أَكْرَهُهُ، فَأَسْأَلُهُ عَنْهُ فَيُنْكِرُ ذَلِكَ، وَقَدْ أَخْبَرَنِي عَنْهُ قَوْمٌ ثِقَاتٌ، فَقَالَ لِي: يَا مُحَمَّدُ، كَذِّبْ سَمْعَكَ وَبَصَرَكَ عَنْ أَخِيكَ، فَإِنْ شَهِدَ عِندَكَ خَمْسُونَ قِسَامَةً - يَحْلِفُونَ لَكَ بِاللَّهِ - وَقَالَ لَكَ قَوْلًا، فَصَدِّقْهُ وَكَذِّبْهُمْ، وَلَا تَذِيعَنَّ عَلَيْهِ شَيْئًا تُشِينُهُ بِهِ، وَتَهْدِمُ بِهِ مَرُوءَتَهُ - فإذا سمعت عن أخيك المؤمن شيئاً، فلا تحاول أن تذيع ذلك بين النَّاس لتسقطه عندهم وتهدم به مروءته.
وهذا أمر موجود - ما شاء الله - بين النّساء والرّجال في مجتمعنا، فلمجرَّد أن نسمع أيّ كلمة، تصبح محطّة كلام عندنا، وننتقل بالخبر من مكان إلى مكان، وقد لا يكون ما ننقله صحيحاً ودقيقاً، فإذا فعلت ذلك - فَتَكُونُ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ عنهم: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةَ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}"[النّور: 19]. وإشاعة الفاحشة ليست فقط ما يتَّصل بالعرض، بل هي كلّ ما تجاوز الحدّ، أي كلّ ما لا يرضاه الله سبحانه وتعالى، وهذه وصيَّة الإمام الكاظم (ع).
وزرُ السُّباب
وأخيراً، حديثه (ع) حول السّباب، قال عبد الرّحمن بن الحجَّاج: "سَأَلْتُهُ لـما رَأَى رَجُلَيْنِ يَتَسَابَّانِ، قَالَ: البَادِيُ مِنهُمَا أَظْلَمُ – لأنَّ الأوَّل هو الّذي قام بالفعل، بينما الآخر كان له ردّ الفعل - وَوِزْرُهُ وَوِزْرُ صَاحِبِهِ عَلَيْهِ – لأنَّ "سُبَابَ الـمُؤْمِنِ فُسُوقٌ"، سواء سببت أخاك أو زوجتك أو ابنك أو أيّ أحد آخر، فإذا سببت أنت أوّلًا وردَّ لك الآخر السّباب، فأنت الّذي تتحمَّل وزر سبّك ووزر سبّ الآخر - مَا لَمْ يَعْتَذِرْ إِلَى الْمَظْلُومِ"، إلّا إذا اعتذر إلى الَّذي ظلمه بالسّباب.
على نهجِ الإمام (ع)
أيُّها الأحبَّة، هذا هو الإمام الكاظم (ع) في بعض سيرته وكلماته، وعلينا أن نقتدي به، لأنَّ ما سمعتموه من كلامٍ عنه هو حجَّة الله عليكم، وسيحتَجُّ علينا جميعاً أنّنا قرأنا وسمعنا، ولا بدَّ أن لا نجعل ما سمعناه مجرَّد كلام يدخل من أذن ويخرج من أذن، بل أن نحوّله إلى خلق من أخلاقنا، وعلم من علومنا، وخطّ من خطوطنا، وهذا هو سرّ التزامنا بأهل البيت (ع).
الخطبة الثَّانية
عباد الله، لتكن تقوى الله زادكم في الدّنيا والآخرة، فبالتَّقوى تصلح أمورنا في الدّنيا، وتنتظم أوضاعنا، ونشعر بالثّقة فيما بيننا، لأنَّ من يتَّقي الله ويخافه، لا يمكن أن يأكلَ مالَ أحد، ولا أن يسيء إلى أحد، أو أن يظلم أحداً في نفسه وماله وعرضه، ولا يمكن أن يخون، ولا أن يكذب، ولا أن يضرَّ النَّاس في كلّ أعماله وأقواله. ولذلك، فإنَّ الأتقياء يمنحون المجتمع أمناً اجتماعيّاً واقتصاديّاً وسياسيّاً، لأنَّهم {يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}[المؤمنون: 60]، لأنَّهم يخافون الله في السَّرّاء والضَّرَّاء فيما يقولون ويعملون. لذلك، كلَّما استطعنا أن نلتزم بالتَّقوى في كلماتنا وأعمالنا وعلاقاتنا ومواقفنا ومواقعنا، استطعنا أن نثبّت الأرض تحت أقدامنا، وأن نخطّط لمستقبلنا من خلال حركتنا في الحاضر، من أجل أن يكون المستقبل مستقبلاً منفتحاً على الله وعلى عباده في خطّ المسؤوليَّة والمحبَّة.
الحرصُ على الوحدة
ومن التَّقوى، أيُّها الأحبَّة، أن نتحمَّل مسؤوليَّتنا عن كلّ المسلمين، في كلّ مكان في الأرض؛ أن نحمل همَّهم، أن نتألَّم لآلامهم، أن نحرص عليهم، أن نرأف بهم، أن نعيش من أجل أن نعاونهم ونساعدهم، كلٌّ بحسب قدرته وطاقته؛ بالكلمة إن كانت الكلمة هي ما نستطيعه، وبالفعل إذا كان الفعل هو ما نستطيعه. وعلى كلّ مسلم ومسلمة أن يعيش همَّ الأمَّة كلّها، كما يعيش همَّ نفسه وهمَّ عائلته؛ أن يثقله ما يثقلها ويصيبها، وأن يفكّر دائماً كيف يمكن أن يعطيها شيئاً من فكره أو ماله أو طاقاته، وقد قال رسول الله (ص): "مَنْ لم يَهْتَمَّ بِأُمورِ المسلمينَ فليْسَ بِمُسْلِمٍ"، "مَنْ سَمِعَ مُنَادِياً يُنَادِي يَا لِلْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يُجِبْهُ فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ".
ولا بدَّ لنا في التَّقوى، أيُّها الأحبَّة، أن نحافظَ على وحدة مجتمعنا في خطّ القضايا الكبرى، وأن نحافظَ على وحدة المسلمين، قد نختلف مذهبيّاً مع مسلمٍ هنا ومسلمٍ هناك، ولكن علينا عندما نواجه الكفر كلَّه أن نتوحَّد مسلمين، وإن اختلفنا مذاهب، لأنَّ الكفر يريد رأس الإسلام، ولأنَّ الاستكبار يريد رأس المسلمين جميعاً في اقتصادهم وثرواتهم. لذلك، في الأزمات الكبرى، وفي المراحل الصَّعبة، لا يجوز لنا أن نثير، في أيّ واقع إسلاميّ، القضايا المذهبيَّة على خطّ إثارة الحقد والبغضاء، وعلى أساس أن يكفّر بعضنا بعضاً، وأن يضلّل بعضنا بعضاً. إنَّ الَّذين يفعلون ذلك هم الَّذين يستغرقون في أوضاعهم الذَّاتيَّة، ولا ينفتحون على قضايا الإسلام والمسلمين.
إنَّنا، أيُّها الأحبَّة، عندما نتصوَّر كلَّ هذه الضَّجَّة الَّتي تثار الآن، فهناك ضجَّة في العالم تستهدف واقع العراق، وهناك ضجَّة في المنطقة تستهدف واقع فلسطين، وهناك أكثر من ضجَّة تستهدف واقع المسلمين في كلّ مكان في العالم، عندما نتصوَّر ذلك كلّه، فماذا نرى؟ كيف هي الصّورة الآن؟
العراقُ بينَ حصارين
الصّورة هي أنَّنا عندما نواجه مسألة العراق، نعرف أنَّ الشَّعب العراقيَّ المسلم المستضعف يعيش بين نارين؛ نار النّظام الَّذي يقمع حريَّته، ويصادر كلَّ قضاياه، ويغتال علماءه، ويحاصر كلَّ واقعه الدّينيّ، ويعبث به منذ ما يزيد عن الثَّلاثين عاماً، والشَّعب لا يستطيع أن يفعل شيئاً، وهناك واقع الحصار الَّذي فُرِضَ عليه أمريكيّاً باسم مجلس الأمن، فهناك حصار اقتصاديّ بحجَّة أنَّهم يريدون تدمير كلّ أسلحة الدَّمار الشَّامل، وأن يبقى الحصار ضاغطاً على واقع العراق حتَّى زوال الحاكم.
ونحن نعرف جيّداً، كما تحدَّثنا أكثر من مرَّة، أنَّ هذا الحاكم باق من خلال الخطَّة الأمريكيَّة بالذّات، الَّتي رفضت في حرب الخليج الثَّانية عند الهجوم على العراق، أن تقضي عليه، بل إنَّها ساعدته بكلّ أنواع المساعدة، في الوقت الَّذي انتفض الشَّعب العراقيّ آنذاك، وقدَّمت إليه كلَّ الوسائل الَّتي قمع بها الانتفاضة الشَّعبيَّة العراقيَّة، ولا تزال تقدّم إليه المعلومات الَّتي تنقذه من كلّ الخطط الَّتي يُراد من خلالها تغيير النّظام، لأنَّه حاجة لأمريكا، كما كان حاجةً في حرب الخليج الأولى ضدَّ إيران والكويت، والَّتي مكَّنت أمريكا وكثيراً من دول العالم الاستكباريّ من السّيطرة على المنطقة أكثر، وتحويل الخليج إلى قواعد عسكريَّة أكثر، وتخويف هذا البلد وذاك البلد، ليبتزّوا الخليج والمنطقة بما يريدونه من ابتزاز، فهم الّذين يحمونه، حتَّى إنَّهم الآن يقولون لا نريد تغيير النّظام، ولكن نريد استمرار البحث عن أسلحة الدَّمار الشَّامل.
إنَّنا نلاحظ في هذه الحالة، أنَّ أمريكا الَّتي تعتبر نفسها قائدة العالم، أصبحت تمارس القوَّة، وتتصرَّف هنا وهناك بما يخدم سياستها. إنَّ أمريكا لا يهمّها أن يموت أطفال الشَّعب العراقيّ، أو أن يجوع هذا الشَّعب أو يحاصر، ولا يهمّها اقتصاده، ولا تهمّها المنطقة إلَّا من خلال مصالحها، هناك همان لأمريكا؛ مصالحها، والمصالح الإسرائيليَّة في المنطقة، هذه هي القضيَّة.
ومن المؤسف أن نرى العالم في هذه المرحلة يقف مع أمريكا الَّتي تهدّد بضربة عسكريَّة لا ندري هل ستكون كبيرة أم صغيرة، هل هي محدودة بزمان معيّن أم لا، إنَّ هناك عرض عضلات إعلاميَّة سياسيَّة عسكريَّة أمريكيَّة، ولا نعرف ماذا يحدث بعد ذلك.
تقاعسُ العالمِ العربيّ
ومن المؤسف أنَّ العالم العربيَّ لم يقف مع الشَّعب العراقيّ، نحن لا نريده أن يقف مع حاكم العراق، ولكنَّنا نريده أن يقف مع الشَّعب العراقيّ ليمنع الحصار عنه، لأنَّ الحاكم لا يتأذّى من ذلك ما دام حاكماً، بل الشَّعب العراقيّ هو الَّذي يُقتل ويدمَّر ويحاصَر وما إلى ذلك.
إنَّ أمريكا تعمل على أساس أن تقتل كلَّ قوَّة عربيَّة أو إسلاميَّة، ولذلك فهي تحاصر العراق، وتحاصر ليبيا، وتحاصر السّودان، وتحاصر إيران، تفعل ذلك كلَّه باسم الأمم المتَّحدة، وباسم الحرب ضدَّ الإرهاب، ولكنَّها تعمل على حماية إرهاب إسرائيل في داخل فلسطين وخارجها، وعلى حماية احتلال إسرائيل لفلسطين وللبنان وللجولان، في الوقت الَّذي تحرَّر العالم كلّه من الاحتلال، وقد فرضت على الفلسطينيّين فروضاً، بحيث خرج الفلسطينيّون من اتّفاق أوسلو إلى اتّفاق جديد، واليهود يعملون على إذلالهم بين وقتٍ وآخر، وعلى إيجاد فتنة فيما بينهم، وعلى إيقاعهم في اليأس، بالحديث عن أنَّهم إذا أعلنوا الدَّولة، فسوف يعود الاحتلال إلى مناطق معيَّنة هنا وهناك.
أيُّها الأحبَّة، هذا هو الواقع الإسلاميّ الَّذي نعيشه، إنَّ المسلمين مشغولون بالمشاكل بين بعضهم البعض، والعرب قد استسلموا للضَّغط الأمريكيّ، ولا سيَّما بعدما اتَّصلت وزارة الخارجيَّة الأمريكيَّة بهذا وذاك، من أجل أن لا يعارضوا ضربةً عسكريَّة في العراق، والواقع الشَّعبيّ واقع محاصَر بأنظمته وحكَّامه ومشاكله الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة وما إلى ذلك، ونحن محاصَرون باحتلال إسرائيل لقسمٍ من بلادنا، كما أنَّنا محاصَرون بالمشاكل الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والتَّربويَّة، والكلّ يصرخون من أجل أن يكون هناك حلّ للمشاكل الّتي يعانونها؛ المعلّمون يصرخون، والعمَّال يصرخون، والنَّاس يصرخون، والنَّاس لا يستطيعون مع كلّ هذه المشاكل أن يطمئنّوا إلى حياتهم. إنَّ المسألة الَّتي تواجهنا هي أنَّنا في كلّ يوم نستفيق على عدوان إسرائيليّ لهذا البلد أو ذاك البلد، ونستفيق على اللّعبة السياسيَّة الَّتي تهزم الكثير من قضايانا، وتعقّد الواقع، وتشغل النَّاس بما لا منفعة لهم فيه.
دعمُ المقاومةِ ضدَّ الاحتلال
أيُّها الأحبَّة، أمام هذا الواقع الَّذي نعيشه، نشعر بأنَّ علينا جميعاً أن نقف من أجل مواجهة كلّ هذا العدوان، أن نقف مع المقاومة، وخصوصاً المقاومة الإسلاميَّة، ولا سيّما في يوم الشَّهيد، عندما نستذكر العمليَّة البطوليَّة الأولى الَّتي فجَّرت مركز المخابرات الإسرائيليّة في صور، والَّتي استطاعت أن تهزَّ العدوَّ في أمنه وسياسته، وفتحت الكثير من الآفاق للمقاومين والمجاهدين هنا وهناك، في عمليَّات نوعيَّة هنا وعمليَّات قويّة هناك، حتَّى استطاعت أن تحوّل الاحتلال إلى مأزق.
أيُّها الأحبَّة، إنَّ علينا أن نشدَّ علي أيدي هؤلاء المجاهدين، وأن نحميهم من أنفسنا ومن الآخرين، وأن نبقى قوّةً واحدة في هذا الوطن، من أجل أن نفرض على المسؤولين في هذا العهد وغيره، أن يواجهوا الأولويَّات في المشاكل الصَّعبة الَّتي يعيشها المجتمع، وأن نعمل على أساس أن نلغي الكثير مما نختلف فيه، مما لا يتَّصل بقضايا المصير في الدّنيا والآخرة.
علينا أن نتحمَّل مسؤوليَّتنا في ذلك: "كلُّكُمْ رَاعٍ، وكلّ راعٍ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ". إنَّ الله سيسألنا عن ذلك كلّه، كلّ بحسب طاقته وقدرته.
والحمد لله ربّ العالمين.
*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 13/11/1998م.
يقول الله في كتابه المجيد: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[الأحزاب: 33].
من أهل هذا البيت، الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع)، الَّذي يصادف ذكرى شهادته في اليوم الخامس والعشرين من شهر رجب.
ونحن عندما نتوقَّف عند ذكرى هذا الإمام، فإنَّنا نذكر الإمام الَّذي استطاع أن يملأ المنطقة الإسلاميَّة علماً واسعاً عميقاً منفتحاً على كلّ قضايا الإسلام، في عقيدته وشريعته ومفاهيمه، وكلّ قضايا النَّاس، في كلّ ما يحتاجون إليه في شؤونهم العامَّة والخاصَّة. كانت مدرسته (ع) المدرسةَ الَّتي يلتقي عليها النَّاس جميعاً، مع اختلاف مذاهبهم وقوميَّاتهم، وكان يجيب كلّ أحد عن سؤاله.
مسؤوليَّةُ رفضِ الظّلم
وهكذا، أيُّها الأحبَّة، كان الإمام الكاظم (ع) يؤكّد على أصحابه أن يكونوا المسلمين الَّذين يرفضون الظّلم كلَّه، ويرفضون الظَّالم بكلّ أنواعه، وكان يعلّمهم تبعاً للمصلحة، أن يقاطعوا الظَّالم هنا، وأن يتوظَّفوا عند الظَّالم هناك، لأنَّ المقاطعة في بعض الحالات قد تكون مصلحةً للمسلمين، ونذيراً للظَّالم بأنَّ ظلمه قد يؤدّي إلى مقاطعة المسلمين له، كما أنَّ التوظّف عند الظَّالم قد يكون مصلحة للمسلمين، إذا كان هذا الشَّخص الَّذي يتوظَّف عند الظَّالم واعياً، ثابت الإيمان، لا يبيع نفسه ولا موقفه، بل يستفيد من وجوده في هذه الوظيفة أو تلك، في قضاء حوائج المظلومين والمستضعفين، وقد جاء في الحديث عنه (ع): "كفَّارةُ عَمَلِ السُّلطانِ، قَضاءُ حَوَائِجِ الإخوانِ". وعُرِفَ من أصحابه عليّ بن يقطين، الَّذي أراد له الإمام أن يدخل في بلاط الخلافة، من أجل أن يرفع ظلم المظلومين، ويقضي حاجة المحتاجين.
وبذلك، رسم الإمام الكاظم (ع) لنا خطّاً في مسألة أن يتوظَّف الإنسان عند سلطةٍ غير شرعيَّة، أو عند شخصٍ ظالم، فالأصل أنَّه لا يجوز للإنسان أن يساعد الظّالم في ظلمه، أو أن يقوّي سلطانه، حتَّى لو لم يساعده في الظّلم.
الأمناءُ على الرّسالة
وقد كان الإمام (ع) يروي عن رسول الله (ص) فيما كان يحدّث به أصحابه: "الْفُقَهَاءُ أُمَنَاءُ الرُّسُلِ - هم الأمناء على رسالة الرّسل، يحفظونها، ويبلّغونها للنَّاس، ويعرّفون النَّاس كيف يمارسونها - مَا لَمْ يَدْخُلُوا فِي الدُّنْيَا – بمعنى أنَّ العلماء يبقون الأمناء على الرّسل وعلى الرّسالة ما لم يدخلوا في الدّنيا دخول الحريص عليها، المستسلم لها، الخاضع لشهواتها وأطماعها، فإذا دخل العالم في الدّنيا، فإنَّ ذلك يؤدّي به إلى أن يبيع رسالته من أجل أن يحصل على دنياه.
- قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا دُخُولُهُمْ فِي الدُّنْيَا؟ - كيف يتمثَّل دخول العلماء في الدّنيا؟ - قَالَ: اتِّبَاعُ السُّلْطَانِ - أن يكون العالم في خدمة السّلطان الجائر، وأن يكون من بطانته، وأن يؤيّد حكمه وظلمه، ويمنحه الشَّرعيَّة عند النَّاس - فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ، فَاحْذَرُوهُمْ عَلَى دِينِكُم"، لأنَّ الإنسان الَّذي يبيع رسالته وموقفه وخطَّه لسلطان جائر، ليقوّي بذلك ملكه، وليدعم بذلك ظلمه، فإنَّه لا يكون مؤتمناً على الدّين، لأنَّ الدّينَ يرفض الظّلم كلّه والجور كلّه.
الإمامُ المتواضعُ
وهكذا، أيُّها الأحبَّة، كان الإمام الكاظم (ع) الإمامَ المتواضع. يروى عنه أنَّه "مَرَّ بِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ السَّوَادِ دَمِيمِ المَنظَرِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَنَزَلَ عِندَهُ وَحَادَثَهُ طَوِيلًا، ثُمَّ عَرَضَ (ع) عَلَيْهِ نَفْسَهُ فِي القِيَامِ بِحَاجَةٍ إِنْ عَرَضَتْ لَهُ، فَقِيلَ لَهُ: يَا بْنَ رَسُولِ اللَّهِ، أَتَنزِلُ إِلَى هَذَا ثُمَّ تَسْأَلُهُ عَنْ حَوَائِجِهِ، وَهُوَ إِلَيْكَ أَحْوَجُ؟ فَقَالَ (ع): عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، وَأَخٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَجَارٌ فِي بِلَادِ اللَّهِ، يَجْمَعُنَا وَإِيَّاهُ خَيْرُ الآبَاءِ آدَمُ (ع)، وَأَفْضَلُ الأَدْيَانِ الإِسْلَامُ، وَلَعَلَّ الدَّهْرَ يَرُدُّ مِنْ حَاجَاتِنا إِلَيْهِ، فَيرَانَا، بَعْدَ الزَّهْوِ عَلَيْهِ، مُتَوَاضِعِينَ بَيْنَ يَدَيْهِ".
كأنَّه (ع) يريد أن يعطيهم درساً، بأن لا تستضعفوا أحداً، ولا تسخروا من أحد، لا تكن قضيَّة احترامكم للنَّاس وتواضعكم لهم على أساس ما يملكون من ثروة، وما يملكون من موقع اجتماعيّ أو سياسيّ، تواضعوا لإنسانيَّة الإنسان، حاولوا أن تعيشوا مع النَّاس كما كان رسول الله (ص) يعيش معهم، حيث قال القائل وهو يتحدَّث عن سيرته: "كَانَ فِينَا كأَحَدِنَا"، يعيش مع المسلمين كما لو كان واحداً منهم، لا يميّزه شيء عنهم، وهو المميَّز عند الله وفي الدّنيا.
دروسٌ في كظمِ الغيظ
وهكذا، أيُّها الأحبَّة، كان الإمام الكاظم (ع) السَّخيَّ في عطائه، لم يكن يقصده أحد إلَّا ويستجيب له في حاجاته، إذا كان قادراً على أن يقضيها له، وكان واسع الخلق، كاظم الغيظ، ينفتح حتَّى على أعدائه الّذين كانوا يشتمونه ويتحدَّثون عنه بالسّوء، ولا يقول لهم إلَّا خيراً، ولا يتصرَّف معهم إلَّا بالخير.
قيل في سيرته إنَّ "رَجُلًا كانَ بِالْمَدِينَةِ يؤْذي الإِمَامَ مُوسَى الكَاظِمَ (ع) وَيَسُبُّهُ إِذَا رَآهُ، وَيَشْتُمُ عَلِيًّا (ع)! فَقَالَ لَهُ بَعْضُ جُلَسَائِهِ يَوْمًا: دَعْنَا نَقْتُلُ هَذَا الفَاجِرَ، فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ أَشَدَّ النَّهْيِ، وَزَجَرَهُمْ أَشَدَّ الزَّجْرِ، وَسَأَلَ عَنِ العُمَرِيِّ، فَذُكِرَ أَنَّهُ يَزْرَعُ بِنَاحِيَةٍ مِنْ نَوَاحِي الْمَدِينَةِ، فَرَكِبَ فَوَجَدَهُ فِي مَزْرَعَةٍ، فَدَخَلَ الْمَزْرَعَةَ بِحَمَارِهِ، فَصَاحَ بِهِ العُمَرِيُّ: لَا تُوطِئْ زَرْعَنَا، فَتَوَطَّأَهُ الإِمَامُ (ع) بِالْحَمَارِ، حَتَّى وَصَلَ إِلَيْهِ، فَنَزَلَ وَجَلَسَ عِندَهُ وَبَاسَطَهُ وَضَاحَكَهُ. وَقَالَ لَهُ: كَمْ غَرِمْتَ فِي زَرْعِكَ هَذَا؟ قَالَ لَهُ: مِائَة دِينَارٍ. قَالَ: وَكَمْ تَرْجُو أَنْ تُصِيبَ فِيهِ؟ قَالَ: لَسْتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ. قَالَ: إِنَّمَا قُلْتُ لَكَ: كَمْ تَرْجُو أَنْ يَجِيئَكَ فِيهِ؟ قَالَ: أَرْجُو فِيهِ مائَتَيْ دِينَارٍ. قَالَ: فَأَخْرَجَ لَهُ أَبُو الحَسَنِ (ع) صَرَّةً فِيهَا ثَلاثُ مِائَةِ دِينَارٍ، وَقَالَ: هَذَا زَرْعُكَ عَلَى حَالِهِ، وَاللَّهُ يَرْزُقُكَ فِيهِ مَا تَرْجُو. قَالَ: فَقَامَ العُمَرِيُّ فَقَبَّلَ رَأْسَهُ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَصْفَحَ عَنْ فَارِطِهِ، فَتَبَسَّمَ إِلَيْهِ الإِمَامُ (ع) وَانصَرَفَ. قَالَ: وَرَاحَ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَوَجَدَ العُمَرِيَّ جَالِسًا، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ قَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالتَهُ. قَالَ: فَوَثَبَ أَصْحَابُهُ إِلَيْهِ فَقَالُوا: مَا قِصَّتُكَ؟ قَدْ كُنْتَ تَقُولُ غَيْرَ هَذَا. فَقَالَ لَهُمْ: قَدْ سَمِعْتُمْ مَا قُلْتُ الآنَ، وَجَعَلَ يَدْعُو لِلإِمَامِ (ع)، فَخَاصَمُوهُ وَخَاصَمَهُمْ. فَلَمَّا رَجَعَ الإمامُ إِلَى دَارِهِ، قَالَ لِجُلَسَائِهِ الَّذِينَ سَأَلُوهُ فِي قَتْلِ العُمَرِيّ: أَيُّهُمَا كَانَ خَيْرًا؛ مَا أَرَدْتُمْ أَمْ مَا أَرَدْتُ؟ إِنَّنِي أَصْلَحْتُ أَمْرَهُ بِالْمِقْدَارِ الَّذِي عَرَفْتُمْ، وَكَفَيْتُهُ بِهِ شَرَّهُ".
وكأنَّ الإمام (ع) بما فعله يقول لأصحابه: أيُّ أسلوبٍ هو الأفضل؛ أسلوبكم أم أسلوبي؟! فلو قتلتموه، لخلقتم أكثر من مشكلة، ولكنّي بما فعلته، قتلت حقده وعداوته.
وهذا درس لا بدَّ لنا أن نتعلَّمه، أيُّها الأحبَّة، أن تكون لنا سعة الصَّدر، بحيث إذا واجهنا في حياتنا الاجتماعيَّة شخصاً يحقد علينا ويسبُّنا ويتَّهمنا، فعلينا أن نعمل على أن نقتل حقده وعداوته وبغضه ويبقى إنساناً، لأنَّ مشكلتنا مع الكافر والحاقد، كما كنّا نقول دائماً، ليست مع إنسانيَّته، ولكن مع كفره وفسقه وحقده وعداوته، فإذا أمكننا أن نقتل فيه الكفر والفسق ويبقى إنساناً يصادقنا ونصادقه ويتعاون معنا، فهو أفضل، ولكنَّ ذلك يحتاج إلى صبرٍ ووعيٍ وإيمانٍ، وإلى أن يكون الإنسان رساليّاً، يفكّر كيف يؤكّد رسالته في الحياة الاجتماعيَّة، لا كيف ينفّس عن حقده وغضبه، وهذا الَّذي جعل الإمام (ع) يسمَّى بالكاظم، لأنَّه كان الإنسان الَّذي يحبس غيظه في صدره، ولا يعبّر عنه بأيّ ردّ فعل. وقد حدَّثنا الله عن أهل الجنَّة بأنَّ من صفاتهم {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاس ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[آل عمران: 134].
أيُّها الأحبَّة، هؤلاء هم أئمَّتنا، هذه هي أخلاقهم، هذا هو تواضعهم، هذه هي حركتهم في خطّ المسؤوليَّة، هذه هي محبَّتهم للنَّاس، وهذا هو صبرهم:
فَتَشَبَّهوا إِنْ لَم تَكُونوا مِثلَهُم إِنَّ التَّشَبّهَ بِالكِرامِ فَلاحُ
الاقتداءُ بأهلِ البيت (ع)
وقصَّة التشيّع لأئمَّة أهل البيت (ع) ليست كلمةً تقولونها، ولا هتافاً تهتفون به، ولكنَّ التشيّع هو الاتّباع، أن تتَّبعوهم في كلّ ما قالوه، وأن تقتدوا بهم في كلّ ما عملوه، حتَّى يكون قولنا قولهم، وحتَّى يكون عملنا عملهم، وحتَّى يتجسَّدوا فينا قدوةً وممارسة، كانوا يملكون سعة الصَّدر بأوسع مما بين السَّماء والأرض، وقد قال أبوهم وجدّهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع): "آلَةُ الرِّيَاسَةِ سَعَةُ الصَّدْرِ"، أن تكون رئيساً لا بالمعنى الذَّاتيّ للرّئاسة، بل بالمعنى الاجتماعيّ لها، أن يتَّسع صدرك للنَّاس كلّهم، أن تغفر لهذا، وأن تسامح ذاك، وأن تتحمَّل الأذى من ذلك {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}[الفرقان: 63]، {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}[الأعراف: 199].
استشهادُ الإمام (ع)
ونحن نعرف أنَّ هذه السّيرة للإمام الكاظم (ع)، هي الَّتي فتحت له عقول النَّاس كما فتحت له قلوبهم، وفتحت له كلّ الدّروب الَّتي يتحركون فيها، حتَّى عاش في تلك المرحلة وهو محلّ ثقة النَّاس كلّهم، ومحبَّة النَّاس كلّهم، حتَّى خاف منه هارون الرَّشيد على ملكه، ولذلك بادر إلى سجنه. ولعلَّ بعض الأئمَّة سجنوا في عهد هذا الخليفة أو ذاك، لكنَّ الإمام الكاظم (ع) سجن السّجن المؤبَّد، لأنَّه استشهد مسموماً في السّجن بعد أربعة عشر عاماً من السّجن، وقد نقل عنه الَّذين أشرفوا على سجنه من البصرة إلى واسط إلى بغداد، أنَّهم لم يسمعوا كلمة سوء للَّذين سجنوه، لأنَّه كان مشغولاً بعبادة الله سبحانه وتعالى في سجنه، وكان يناجي ربَّه ويقول: "يَا رَبّ، إنَّني سَأَلْتُكَ أَنْ تُفَرّغَني لعبادتِكَ وقدْ فَعَلْتَ، فلَكَ الحَمْدُ"، لأنَّ الأعمال والأشغال الَّتي كانت تحيط بي، كانت تمنعني من أن أفرّغَ وقتي في عبادتك صلاةً وصوماً ودعاءً وابتهالاً، ولكنّي الآن في هذا السّجن، أجلس معك، وأبتهل إليك، وأدعوك وأعيش في أجوائك الرّوحيَّة، يا ربّ، فلك الحمد.
ولكنَّه (ع) كان من القوَّة بأن أرسلَ إلى هارون الرَّشيد رسالةً وهو في السّجن: "إِنَّهُ لَن يَنقَضِي عَنِّي يَوْمٌ مِنَ البَلَاءِ، إِلَّا انقَضَى عَنكَ مَعَهُ يَوْمٌ مِنَ الرَّخَاءِ - ربما أتابع أيَّامي وأنا في رحلة إلى لقاء ربي، حيث ينتهي بلائي في السّجن، ولكن اعرف أنَّه ما من يوم ينقضي عني من البلاء، إلَّا وسوف ينقضي عنك يوم من الرّخاء - حَتَّى نَقْضِي جَمِيعًا إِلَى يَوْمٍ - وهو يوم القيامة - لَيْسَ لَهُ انقِضَاءٌ، يَخْسَرُ فِيهِ المُبْطِلُونَ"، وستخسر أنت، لأنَّك سرت في خطّ الباطل، واضطهدت السَّائرين على خطّ الحقّ.
وهكذا استشهد الإمام (ع) في اليوم الخامس والعشرين من شهر رجب، وهو الإمام الَّذي نتقرَّب به إلى الله شفيعاً، والَّذي نؤمن بأنَّه وصيُّ رسول الله (ص)، ومن الَّذين لا بدَّ لنا أن نطيعهم ونتحرَّك معهم في كلّ ما قالوه وفعلوه، ولأنَّه كذلك، لا بدَّ لنا من أن نقف بعض الوقفات حول بعض كلماته الَّتي تركها لنا.
محاسبةُ النَّفس
في بعض الرّوايات، يقول (ع): "لَيسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُحاسِبْ نَفْسَهُ في كُلِّ يَومٍ، فإنْ عَمِلَ خَيراً اسْتَزادَ اللّه مِنْهُ وحَمدَ اللّهَ علَيهِ، وَإِنْ عَمِلَ شَرّاً اسْتَغْفَرَ اللّهَ وتابَ إلَيهِ".
فالإمام (ع) يقول إنَّ النَّاس الَّذين ينتسبون إلينا، ينبغي أن يسيروا في خطّنا، ومن خطّنا أنَّك كما تحاسب نفسك في آخر النَّهار في المسألة الماديَّة، كم ربحت وكم خسرت في تجارتك وعملك، كذلك قبل أن تنام، عندما تأتي إلى بيتك، فكّر في أعمالك، في كلّ ما تكلَّمت به من خير أو شرّ، في كلّ ما عملته، في كلّ ما أكلت وشربت، في كلّ حركة علاقاتك، في بيتك، مع أهلك ومع النَّاس، في كلّ مواقفك، تأييداً لهذا أو رفضاً لذاك، فكّر، وقم بجردة حساب، فإذا رأيت أنَّك عملت حسناً، دعوْتَ الله أن يزيدك من هذا الحسن في الأيَّام القادمة، وإذا رأيت أنّك عملت سيّئاً، استغفرت الله في اليوم نفسه وتبت إليه، لتصلح يومك القادم، فلا تكون فيه سيّئاً، لأنَّ عالم السيّئات مثل الميكروب، ألا يقول الأطبّاء إنّنا إذا اكتشفنا المرض في أوَّله نستطيع أن نسيطر عليه، ولكن إذا اكتشفناه متأخّرين فلا نسطيع أن نسيطر عليه؟! وكما أنَّ هناك أمراضاً جسديَّة، هناك أمراض فكريَّة وروحيَّة ونفسيَّة، فالإنسان الَّذي يحاسب نفسه دائماً ويدرس أعماله وأقواله الَّتي قالها في اليوم نفسه، يستطيع أن يعالج الأشياء قبل أن تتحوَّل إلى مرض، ويستطيع أن ينفتح على الخير الصَّادر عنه، حتَّى يجعل أعماله في خانة الخير لا في خانة الشَّرّ، كما في عمليَّة الخسارة والرّبح، فإذا وجدْتَ نفسك رابحاً، تعمل على أن تستزيد من فرص الرّبح، وإذا وجدت نفسك خاسراً، تلافيت أسباب الخسارة.
العلمُ الواجبُ تحصيله
الحديث الآخر للإمام (ع) يحدّثنا عن الأشياء الَّتي يجب أن نتعلَّمها، فهناك أشياء ترتبط بعملنا وأشياء لا ترتبط به، يقول (ع) إنَّه ينبغي عليكم أن تتعلَّموا الأشياء الَّتي ترتبط بالعقيدة والشَّريعة، وما يجب أن تمارسوه في الحياة، أمَّا القضايا الَّتي ليس لها دخل بالعقيدة أو بالمسؤوليَّة الشَّرعيَّة، ولا بالواقع الاجتماعيّ أو السياسيّ، فلا تشغلوا أنفسكم بها.
يقول الإمام (ع): "أَوْلَى العِلْمِ بِكَ ما لا يَصْلُحُ لَكَ العَمَلُ إلَّا بِهِ – وهو العلم المرتبط بالعمل، والَّذي إذا لم تتعلَّمه فسد عملك - وَأوجَبُ العَمَلِ عَلَيْكَ – فالإنسان يقوم بأعمال كثيرة في الحياة، ولكنَّ العمل الأوجب عليه - ما أنتَ مَسؤولٌ عَنِ العَمَلِ بِهِ - ما يريد الله لك أن تعمله - وَألزَمُ العِلْمِ لَكَ، مَا دَلَّكَ عَلَى صَلاحِ قَلبِكَ – ما يصلح قلبك، والمراد بالقلب العقل والعاطفة والإحساس - وَأَظْهَرَ لَكَ فَسَادَهُ، وَأَحمَدُ العِلمِ عاقِبَةً – يعني أكثر العلم في العاقبة الطيّبة - ما زادَ في عَمَلِكَ العاجِلِ، فَلا تَشتَغِلَنَّ بِعِلمِ ما لا يَضُرُّكَ جَهلُهُ – يعني لا تشغل نفسك بالعلم الَّذي إذا جهلته لا يضرّك - ولا تَغفَلَنَّ عَن عِلْمِ ما يَزيدُ في جَهلِكَ تَركُهُ"، لا تترك العلم الّذي تحتاج إليه.
وخلاصة الكلمة، أنَّ الإمام (ع) يقول إنَّ هناك أشياء تتَّصل بحياتك ومسؤوليَّتك وعقيدتك ومصالحك في الحياة، فهذه عليك أن تتعلَّمها، وأمَّا الأشياء الَّتي لا دخل لها بعقيدتك، ولا بمسؤوليَّتك الشَّرعيَّة أو مصالحك ومفاسدك ومصيرك، فلا تصرف وقتك عليها، بل اصرفه في تحصيل العلم الَّذي له علاقة بمصيرك، وفي العمل الَّذي أنت مسؤولٌ عنه أمام ربّ العالمين.
وعلى هذا الأساس، فإنَّ الكثير من المناقشات والمنازعات الَّتي تكون بين النَّاس غالباً هي من باب "ذاكَ عِلمٌ لا يَضُرُّ مَن جَهِلَهُ، ولا يَنفَعُ مَن عَلِمَهُ"، وهذا خطٌّ يجب أن نتعلَّمه، وبذلك نتفادى الكثير من المناقشات والأشياء الّتي لا علاقة لها بدنيانا ولا بآخرتنا على مستوى المسؤوليَّة الإلزاميَّة.
تقسيمُ الوقت
وهكذا نجد أنَّ الإمام يقسّم لنا الوقت، يقول (ع): "اجْتَهِدوا في أن يَكونَ زَمانُكُم أربَعَ ساعاتٍ – كناية عن تقسيم الوقت أربعة أقسام - ساعَةً لِمُناجاةِ اللّهِ - تفتح قلبك لله في حاجاتك وفي كلّ أمورك - وساعَةً لِأَمرِ المَعاشِ، وساعَةً لِمُعاشَرَةِ الإِخوانِ وَالثِّقاتِ الَّذينَ يُعَرِّفونَكُم عُيوبَكُم ويَخلُصونَ لَكُم فِي الباطِنِ - وليس معاشرة أيّ كان، فلا تعاشر من يغتاب الآخرين وينمّ عليهم، بل عاشر من يدلّونك على ما فيك من نقاط الضّعف ونقاط القوَّة، بحيث تستفيد من جلستهم - وساعَةً تَخلونَ فيها لِلَذّاتِكُم في غَيرِ مُحَرَّمٍ، وَبِهَذِهِ السَّاعَةِ تَقْدِرُونَ عَلَى الثَّلَاثِ سَاعَاتٍ"، أن تضبط هذه السَّاعة الَّتي تقضي فيها لنفسك حاجتها من الشَّهوة واللَّعب واللَّهو، حتّى لا تأكل كلّ السَّاعات الأخرى.
فالإمام (ع) يقول خطّطوا ليومكم، وقسّموا ساعاته على كلّ ما تحتاجونه من عبادة ربّكم، ومن القيام بأمر معاشكم، ومن الجلوس مع إخوانكم، ومن إشباع لذَّاتكم من حلال.
أمرٌ يفسدُ العملَ
ثمَّ يتحدَّث الإمام (ع) عن بعض النَّاس الَّذي إذا فعل شيئاً من الخير أُعجب بنفسه، وهو ما يسمَّى بالعجب.
يقول أحد أصحاب الإمام (ع): "سَأَلْتُهُ عَنْ العُجْبِ الَّذِي يُفْسِدُ العَمَلَ؟ فَقَالَ: العُجْبُ دَرَجَاتٌ، مِنْهَا أَنْ يُزَيَّنَ لِلْعَبْدِ سُوءُ عَمَلِهِ فَيَرَاهُ حَسَنًا، فَيُعْجِبُهُ وَيَحْسِبُ أَنَّهُ يُحْسِنُ صُنْعًا – فقد يعمل المرء السّوء، ولكن بسبب إعجابه بنفسه، واعتقاده أنَّ كلَّ ما يفعله هو خير، فقد يتصوَّر السّوء خيراً - وَمِنْهَا أَنْ يُؤْمِنَ العَبْدُ بِرَبِّهِ، فَيَمُنَّ عَلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَلِلَّهِ عَلَيْهِ فِيهِ الْمَنُّ"، فهو يصلّي ويصوم ويحجّ ويعتمر، فيقول ماذا يريد الله منّي بعد كلّ ذلك، وكأنَّ له على الله جميلاً، ولكنَّك صلَّيت وصمت وحججت وفعلت ما فعلت بما أعطاك الله من قوَّة، فالله هو الّذي له المنّة عليك، ولا منَّة لك عليه أبداً. فعلى الإنسان أن يجتنب ذلك، ولا يخرج نفسه من حدّ التَّقصير.
العلاقةُ بالإخوان
وهناك موضوع أيضاً حول العلاقة مع الإخوان، قال: "قُلْتُ لَهُ: جُعِلْتْ فِدَاكَ، الرَّجُلُ مِنْ إِخْوَانِي يبْلِغُنِي عَنْهُ الشَّيْءَ الَّذِي أَكْرَهُهُ، فَأَسْأَلُهُ عَنْهُ فَيُنْكِرُ ذَلِكَ، وَقَدْ أَخْبَرَنِي عَنْهُ قَوْمٌ ثِقَاتٌ، فَقَالَ لِي: يَا مُحَمَّدُ، كَذِّبْ سَمْعَكَ وَبَصَرَكَ عَنْ أَخِيكَ، فَإِنْ شَهِدَ عِندَكَ خَمْسُونَ قِسَامَةً - يَحْلِفُونَ لَكَ بِاللَّهِ - وَقَالَ لَكَ قَوْلًا، فَصَدِّقْهُ وَكَذِّبْهُمْ، وَلَا تَذِيعَنَّ عَلَيْهِ شَيْئًا تُشِينُهُ بِهِ، وَتَهْدِمُ بِهِ مَرُوءَتَهُ - فإذا سمعت عن أخيك المؤمن شيئاً، فلا تحاول أن تذيع ذلك بين النَّاس لتسقطه عندهم وتهدم به مروءته.
وهذا أمر موجود - ما شاء الله - بين النّساء والرّجال في مجتمعنا، فلمجرَّد أن نسمع أيّ كلمة، تصبح محطّة كلام عندنا، وننتقل بالخبر من مكان إلى مكان، وقد لا يكون ما ننقله صحيحاً ودقيقاً، فإذا فعلت ذلك - فَتَكُونُ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ عنهم: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةَ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}"[النّور: 19]. وإشاعة الفاحشة ليست فقط ما يتَّصل بالعرض، بل هي كلّ ما تجاوز الحدّ، أي كلّ ما لا يرضاه الله سبحانه وتعالى، وهذه وصيَّة الإمام الكاظم (ع).
وزرُ السُّباب
وأخيراً، حديثه (ع) حول السّباب، قال عبد الرّحمن بن الحجَّاج: "سَأَلْتُهُ لـما رَأَى رَجُلَيْنِ يَتَسَابَّانِ، قَالَ: البَادِيُ مِنهُمَا أَظْلَمُ – لأنَّ الأوَّل هو الّذي قام بالفعل، بينما الآخر كان له ردّ الفعل - وَوِزْرُهُ وَوِزْرُ صَاحِبِهِ عَلَيْهِ – لأنَّ "سُبَابَ الـمُؤْمِنِ فُسُوقٌ"، سواء سببت أخاك أو زوجتك أو ابنك أو أيّ أحد آخر، فإذا سببت أنت أوّلًا وردَّ لك الآخر السّباب، فأنت الّذي تتحمَّل وزر سبّك ووزر سبّ الآخر - مَا لَمْ يَعْتَذِرْ إِلَى الْمَظْلُومِ"، إلّا إذا اعتذر إلى الَّذي ظلمه بالسّباب.
على نهجِ الإمام (ع)
أيُّها الأحبَّة، هذا هو الإمام الكاظم (ع) في بعض سيرته وكلماته، وعلينا أن نقتدي به، لأنَّ ما سمعتموه من كلامٍ عنه هو حجَّة الله عليكم، وسيحتَجُّ علينا جميعاً أنّنا قرأنا وسمعنا، ولا بدَّ أن لا نجعل ما سمعناه مجرَّد كلام يدخل من أذن ويخرج من أذن، بل أن نحوّله إلى خلق من أخلاقنا، وعلم من علومنا، وخطّ من خطوطنا، وهذا هو سرّ التزامنا بأهل البيت (ع).
الخطبة الثَّانية
عباد الله، لتكن تقوى الله زادكم في الدّنيا والآخرة، فبالتَّقوى تصلح أمورنا في الدّنيا، وتنتظم أوضاعنا، ونشعر بالثّقة فيما بيننا، لأنَّ من يتَّقي الله ويخافه، لا يمكن أن يأكلَ مالَ أحد، ولا أن يسيء إلى أحد، أو أن يظلم أحداً في نفسه وماله وعرضه، ولا يمكن أن يخون، ولا أن يكذب، ولا أن يضرَّ النَّاس في كلّ أعماله وأقواله. ولذلك، فإنَّ الأتقياء يمنحون المجتمع أمناً اجتماعيّاً واقتصاديّاً وسياسيّاً، لأنَّهم {يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}[المؤمنون: 60]، لأنَّهم يخافون الله في السَّرّاء والضَّرَّاء فيما يقولون ويعملون. لذلك، كلَّما استطعنا أن نلتزم بالتَّقوى في كلماتنا وأعمالنا وعلاقاتنا ومواقفنا ومواقعنا، استطعنا أن نثبّت الأرض تحت أقدامنا، وأن نخطّط لمستقبلنا من خلال حركتنا في الحاضر، من أجل أن يكون المستقبل مستقبلاً منفتحاً على الله وعلى عباده في خطّ المسؤوليَّة والمحبَّة.
الحرصُ على الوحدة
ومن التَّقوى، أيُّها الأحبَّة، أن نتحمَّل مسؤوليَّتنا عن كلّ المسلمين، في كلّ مكان في الأرض؛ أن نحمل همَّهم، أن نتألَّم لآلامهم، أن نحرص عليهم، أن نرأف بهم، أن نعيش من أجل أن نعاونهم ونساعدهم، كلٌّ بحسب قدرته وطاقته؛ بالكلمة إن كانت الكلمة هي ما نستطيعه، وبالفعل إذا كان الفعل هو ما نستطيعه. وعلى كلّ مسلم ومسلمة أن يعيش همَّ الأمَّة كلّها، كما يعيش همَّ نفسه وهمَّ عائلته؛ أن يثقله ما يثقلها ويصيبها، وأن يفكّر دائماً كيف يمكن أن يعطيها شيئاً من فكره أو ماله أو طاقاته، وقد قال رسول الله (ص): "مَنْ لم يَهْتَمَّ بِأُمورِ المسلمينَ فليْسَ بِمُسْلِمٍ"، "مَنْ سَمِعَ مُنَادِياً يُنَادِي يَا لِلْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يُجِبْهُ فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ".
ولا بدَّ لنا في التَّقوى، أيُّها الأحبَّة، أن نحافظَ على وحدة مجتمعنا في خطّ القضايا الكبرى، وأن نحافظَ على وحدة المسلمين، قد نختلف مذهبيّاً مع مسلمٍ هنا ومسلمٍ هناك، ولكن علينا عندما نواجه الكفر كلَّه أن نتوحَّد مسلمين، وإن اختلفنا مذاهب، لأنَّ الكفر يريد رأس الإسلام، ولأنَّ الاستكبار يريد رأس المسلمين جميعاً في اقتصادهم وثرواتهم. لذلك، في الأزمات الكبرى، وفي المراحل الصَّعبة، لا يجوز لنا أن نثير، في أيّ واقع إسلاميّ، القضايا المذهبيَّة على خطّ إثارة الحقد والبغضاء، وعلى أساس أن يكفّر بعضنا بعضاً، وأن يضلّل بعضنا بعضاً. إنَّ الَّذين يفعلون ذلك هم الَّذين يستغرقون في أوضاعهم الذَّاتيَّة، ولا ينفتحون على قضايا الإسلام والمسلمين.
إنَّنا، أيُّها الأحبَّة، عندما نتصوَّر كلَّ هذه الضَّجَّة الَّتي تثار الآن، فهناك ضجَّة في العالم تستهدف واقع العراق، وهناك ضجَّة في المنطقة تستهدف واقع فلسطين، وهناك أكثر من ضجَّة تستهدف واقع المسلمين في كلّ مكان في العالم، عندما نتصوَّر ذلك كلّه، فماذا نرى؟ كيف هي الصّورة الآن؟
العراقُ بينَ حصارين
الصّورة هي أنَّنا عندما نواجه مسألة العراق، نعرف أنَّ الشَّعب العراقيَّ المسلم المستضعف يعيش بين نارين؛ نار النّظام الَّذي يقمع حريَّته، ويصادر كلَّ قضاياه، ويغتال علماءه، ويحاصر كلَّ واقعه الدّينيّ، ويعبث به منذ ما يزيد عن الثَّلاثين عاماً، والشَّعب لا يستطيع أن يفعل شيئاً، وهناك واقع الحصار الَّذي فُرِضَ عليه أمريكيّاً باسم مجلس الأمن، فهناك حصار اقتصاديّ بحجَّة أنَّهم يريدون تدمير كلّ أسلحة الدَّمار الشَّامل، وأن يبقى الحصار ضاغطاً على واقع العراق حتَّى زوال الحاكم.
ونحن نعرف جيّداً، كما تحدَّثنا أكثر من مرَّة، أنَّ هذا الحاكم باق من خلال الخطَّة الأمريكيَّة بالذّات، الَّتي رفضت في حرب الخليج الثَّانية عند الهجوم على العراق، أن تقضي عليه، بل إنَّها ساعدته بكلّ أنواع المساعدة، في الوقت الَّذي انتفض الشَّعب العراقيّ آنذاك، وقدَّمت إليه كلَّ الوسائل الَّتي قمع بها الانتفاضة الشَّعبيَّة العراقيَّة، ولا تزال تقدّم إليه المعلومات الَّتي تنقذه من كلّ الخطط الَّتي يُراد من خلالها تغيير النّظام، لأنَّه حاجة لأمريكا، كما كان حاجةً في حرب الخليج الأولى ضدَّ إيران والكويت، والَّتي مكَّنت أمريكا وكثيراً من دول العالم الاستكباريّ من السّيطرة على المنطقة أكثر، وتحويل الخليج إلى قواعد عسكريَّة أكثر، وتخويف هذا البلد وذاك البلد، ليبتزّوا الخليج والمنطقة بما يريدونه من ابتزاز، فهم الّذين يحمونه، حتَّى إنَّهم الآن يقولون لا نريد تغيير النّظام، ولكن نريد استمرار البحث عن أسلحة الدَّمار الشَّامل.
إنَّنا نلاحظ في هذه الحالة، أنَّ أمريكا الَّتي تعتبر نفسها قائدة العالم، أصبحت تمارس القوَّة، وتتصرَّف هنا وهناك بما يخدم سياستها. إنَّ أمريكا لا يهمّها أن يموت أطفال الشَّعب العراقيّ، أو أن يجوع هذا الشَّعب أو يحاصر، ولا يهمّها اقتصاده، ولا تهمّها المنطقة إلَّا من خلال مصالحها، هناك همان لأمريكا؛ مصالحها، والمصالح الإسرائيليَّة في المنطقة، هذه هي القضيَّة.
ومن المؤسف أن نرى العالم في هذه المرحلة يقف مع أمريكا الَّتي تهدّد بضربة عسكريَّة لا ندري هل ستكون كبيرة أم صغيرة، هل هي محدودة بزمان معيّن أم لا، إنَّ هناك عرض عضلات إعلاميَّة سياسيَّة عسكريَّة أمريكيَّة، ولا نعرف ماذا يحدث بعد ذلك.
تقاعسُ العالمِ العربيّ
ومن المؤسف أنَّ العالم العربيَّ لم يقف مع الشَّعب العراقيّ، نحن لا نريده أن يقف مع حاكم العراق، ولكنَّنا نريده أن يقف مع الشَّعب العراقيّ ليمنع الحصار عنه، لأنَّ الحاكم لا يتأذّى من ذلك ما دام حاكماً، بل الشَّعب العراقيّ هو الَّذي يُقتل ويدمَّر ويحاصَر وما إلى ذلك.
إنَّ أمريكا تعمل على أساس أن تقتل كلَّ قوَّة عربيَّة أو إسلاميَّة، ولذلك فهي تحاصر العراق، وتحاصر ليبيا، وتحاصر السّودان، وتحاصر إيران، تفعل ذلك كلَّه باسم الأمم المتَّحدة، وباسم الحرب ضدَّ الإرهاب، ولكنَّها تعمل على حماية إرهاب إسرائيل في داخل فلسطين وخارجها، وعلى حماية احتلال إسرائيل لفلسطين وللبنان وللجولان، في الوقت الَّذي تحرَّر العالم كلّه من الاحتلال، وقد فرضت على الفلسطينيّين فروضاً، بحيث خرج الفلسطينيّون من اتّفاق أوسلو إلى اتّفاق جديد، واليهود يعملون على إذلالهم بين وقتٍ وآخر، وعلى إيجاد فتنة فيما بينهم، وعلى إيقاعهم في اليأس، بالحديث عن أنَّهم إذا أعلنوا الدَّولة، فسوف يعود الاحتلال إلى مناطق معيَّنة هنا وهناك.
أيُّها الأحبَّة، هذا هو الواقع الإسلاميّ الَّذي نعيشه، إنَّ المسلمين مشغولون بالمشاكل بين بعضهم البعض، والعرب قد استسلموا للضَّغط الأمريكيّ، ولا سيَّما بعدما اتَّصلت وزارة الخارجيَّة الأمريكيَّة بهذا وذاك، من أجل أن لا يعارضوا ضربةً عسكريَّة في العراق، والواقع الشَّعبيّ واقع محاصَر بأنظمته وحكَّامه ومشاكله الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة وما إلى ذلك، ونحن محاصَرون باحتلال إسرائيل لقسمٍ من بلادنا، كما أنَّنا محاصَرون بالمشاكل الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والتَّربويَّة، والكلّ يصرخون من أجل أن يكون هناك حلّ للمشاكل الّتي يعانونها؛ المعلّمون يصرخون، والعمَّال يصرخون، والنَّاس يصرخون، والنَّاس لا يستطيعون مع كلّ هذه المشاكل أن يطمئنّوا إلى حياتهم. إنَّ المسألة الَّتي تواجهنا هي أنَّنا في كلّ يوم نستفيق على عدوان إسرائيليّ لهذا البلد أو ذاك البلد، ونستفيق على اللّعبة السياسيَّة الَّتي تهزم الكثير من قضايانا، وتعقّد الواقع، وتشغل النَّاس بما لا منفعة لهم فيه.
دعمُ المقاومةِ ضدَّ الاحتلال
أيُّها الأحبَّة، أمام هذا الواقع الَّذي نعيشه، نشعر بأنَّ علينا جميعاً أن نقف من أجل مواجهة كلّ هذا العدوان، أن نقف مع المقاومة، وخصوصاً المقاومة الإسلاميَّة، ولا سيّما في يوم الشَّهيد، عندما نستذكر العمليَّة البطوليَّة الأولى الَّتي فجَّرت مركز المخابرات الإسرائيليّة في صور، والَّتي استطاعت أن تهزَّ العدوَّ في أمنه وسياسته، وفتحت الكثير من الآفاق للمقاومين والمجاهدين هنا وهناك، في عمليَّات نوعيَّة هنا وعمليَّات قويّة هناك، حتَّى استطاعت أن تحوّل الاحتلال إلى مأزق.
أيُّها الأحبَّة، إنَّ علينا أن نشدَّ علي أيدي هؤلاء المجاهدين، وأن نحميهم من أنفسنا ومن الآخرين، وأن نبقى قوّةً واحدة في هذا الوطن، من أجل أن نفرض على المسؤولين في هذا العهد وغيره، أن يواجهوا الأولويَّات في المشاكل الصَّعبة الَّتي يعيشها المجتمع، وأن نعمل على أساس أن نلغي الكثير مما نختلف فيه، مما لا يتَّصل بقضايا المصير في الدّنيا والآخرة.
علينا أن نتحمَّل مسؤوليَّتنا في ذلك: "كلُّكُمْ رَاعٍ، وكلّ راعٍ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ". إنَّ الله سيسألنا عن ذلك كلّه، كلّ بحسب طاقته وقدرته.
والحمد لله ربّ العالمين.
*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 13/11/1998م.