إنَّ الشعر العربيّ في التجارب الشعريَّة الأخيرة ابتعد عن أنْ يكون شعرًا عربيًّا. فكثير من الشّعراء العرب الذين يملكون عمق الإحساس، وعمق الفكرة، وروعة اللّفتة الفنيَّة والإيحائية، لا تشعر بأنّهم يجسِّدون إنساننا، لا بل تشعر وكأنّهم يقرأون تجارب الآخرين.
في تصوّري، إنَّ هذا الشّعر ليس شعرًا عربيًّا في ما يعبّر عن الإنسان العربيّ، كما أنَّه لا يستطيع أن يخدم هذا الإنسان، لأنّه أصبح شعر النُّخبة التي تعيش في أبراج عاجيّة ومسوّرة.. لذلك، أصبحت النُّخبة يتحدَّث بعضها مع بعض كما لو كانت لها لغة خاصَّة.
ونحن لا نتعقَّد من النُّخبة، ولكن بشرط أن لا تعيش العقليَّة النخبويّة، فالنُّخبة قد تمثّل مستوى فكريًّا معيّنًا، ولكن لا بدَّ لها أن تعيش الذهنية الإنسانية التي تستطيع أن تتحرّك مع الإنسان لتفهمه ولتأخذ منه وتعطيه.
وعلى هذا الأساس، يمكن أن يقول الشعراء المحدثون: إنّنا من جيل تعوّدت أذنه على موسيقى معيَّنة للشعر، أو من جيل تعوَّدت ذهنيّته على أسلوب معيّن من الفنّ. ولكلِّ جيل لغته. وأنا أتصوَّر أنَّني أستطيع أن أتحدَّث عن مجموعة من الجيل الجديد، جيل أولادنا الَّذي يعيش تطوّر الموسيقى واللّفتة الفنّيَّة، حتى هؤلاء لا نشعر بأنّ هذا الشعر يهزّهم.
لا أُريد أن أتكلَّم بالمطلق، هناك تجاربُ جيّدة ناجحة، لكن يبدو أنَّ هناك ذهنيّةً أصبحت تقول: «إنّك بمقدار ما تكون معقَّدًا، تكون مُبدِعًا».
عندما أقرأ بدر شاكر السيَّاب، وحتى صلاح عبد الصبور ومحمّد الفيتوري وآخرين من هذا التيار، أحسّ بعمق التجربة الفنّية وبامتدادها، لكن عندما أقرأ عبد الوهاب البياتي الَّذي تكتب عنه الكتب والمقالات الكثيرة، لا أستطيع أن أهتزّ أو أنفعل أو أشعر بأيّ حالة تغيير في نفسي.
أنا لا أتعقَّد من الوزن، ولا أعتبر أنَّ الموسيقى يمكن أن تصدر بمرسوم، موسيقى الحياة مثل خرير الأنهار أو موسيقى الشلَّال، تفرض نفسها. لا نستطيع أن نتجمَّد عند الموسيقى التي عاشها السابقون، المهمّ أن يقول الشاعر بموسيقى، أمّا تفاعيله، وكيف تكون، فهذه تخضع لطبيعة تطوّر الإحساس الموسيقي.
وأنا لا أؤمن بمسألة، أن تفرض على الشاعر التزامًا، فالشّعر مثل الماء والهواء، لا تستطيع أن تعلِّبه، لكن في كثير من الحالات، فإنَّ الهواء بطبيعته يحمل بعض الخصائص، والماء يحمل بعض الخصائص.
فالخصوصيّة سوف تحدِّد للشَّاعر حركته، أيًّا كانت هذه الخصوصيَّة، ففي بعض الحالات، تنسجم الخصوصيّة مع ذهنيَّة القارئ، وفي بعض الحالات الأخرى لا تنسجم. وعندما لا تنسجم مع شخصيَّة القارئ، فإنّه يحاول أن يعطيَ الشَّاعر فكرة تجريدية يحبّها، وهو في هذه الحالة، يدخل حبّه في الحكم، أو كما يقول البعض، إنَّنا لا نحبّ الجمال في إطاره، وإنّما نحبّ أنفسنا في الجمال، ونحبّ فكرنا في الجمال، ذلك أنّه ليس هناك حالة موضوعيَّة، بل هنالك حالة ذاتيّة يحاول الإنسان أن يحرّكها كما لو كانت شيئًا موضوعيًّا.
وحتى عندما يتمثّل الشَّاعر «الجمال»، ومأساة الإنسان وأحلامه، أو مظاهر الإبداع في الحياة، وكلّ الخلجات والنبضات التي يحتضنها الإنسان، فإنّنا نتساءل: ما قيمة الشّعر إذا لم يبنِ المجتمع، إذا نظرنا إلى المجتمع كمحور إنساني يحاول أن يتحرّك في الحياة بشكل يلتقي بها ويخدمها ويحتضنها ويعيش كلّ إيماءاتها وأوضاعها؟!
والشِّعر إذا لم يبنِ المجتمع في كلِّ حاجات المجتمع الفنيَّة والإبداعيَّة والفكريَّة والسياسيَّة، فإنّه يكون بلا مضمون، لأنَّ الشِّعر إذا ابتعد عن مضمون الحياة، يصبح شيئًا لا معنى له.
*من مقدّمة ديوان"على شاطئ الوجدان".