م ـ 47: الاحتياط مأخوذ لغة من الحذر والتحرز، وفي الشرع هو: العمل الذي يبعث على الاطمئنان واليقين ببراءة الذمة وتحقيق رضا اللّه تعالى بامتثال التكليف الواقعي المجهول، وذلك عند اختلاف المجتهدين في الحكم، أو مطلقاً.
م ـ 48: لا بأس أن يعمل المكلّف بالاحتياط في كلّ حكم غير يقيني، سواء اتفق عليه العلماء أو اختلفوا، شرط أن لا يتحول إلى نوع من الوسواس وسيطرة الذهنية الاحتياطية عليه والعمل غير العقلائي المستهجن، كذلك فإنَّه لا بأس بالعمل بالاحتياط في خصوص موارد الاختلاف بين الفقهاء، بل إنَّ مرجع التقليد قد يطلب من مقلديه العمل بالاحتياط استحباباً أو وجوباً عندما يشوب الدليل الفقهي شيء من عدم الوضوح، وكلّ الاحتياط حسن ومحبوب للّه تعالى.
م ـ 49: يمكن العمل بالاحتياط في معظم الحالات التي يبتلى فيها المكلّف، وهي خصوص الحالات التالية:
1 ـ إذا دار الحكم في شيء بين الإباحة والوجوب، أو بين الاستحباب والوجوب، وذلك كما في شرب الماء على الريق للمريض بالكلى مثلاً، فالاحتياط يقتضي الإتيان بالفعل تحرزاً من مخالفة التكليف لو كان واجباً، فإن لـم يكن واجباً في الواقع فهو مستحب أو مباح فيكون فعله مقبولاً ولا ضير فيه.
2 ـ دوران الحكم في شيء بين الإباحة والحرمة، أو بين الكراهة والحرمة، وذلك كما في النظر إلى ما بين السرة والركبة من النساء المحارم، فالاحتياط يستلزم ترك النظر، لأنَّه إذا كان حراماً فقد تركه، وإن كان مباحاً أو مكروهاً فإنَّ تركه مقبول لا ضير فيه.
3 ـ دوران الأمر بين واجبين، وذلك كما لو دار أمر الصلاة المؤلفة من أربع ركعات من الصلوات اليومية بين الإتيان بها قصراً أو تماماً، فالاحتياط يستوجب تكرار الصلاة مرتين، مرة قصراً ومرة تماماً، وبذلك يكون قد أدّى الواجب حتماً.
وهناك موارد أخرى تستلزم التكرار، مثل اشتباه القبلة بين عدّة جهات، ومثل اشتباه الثوب الطاهر مع ثوب آخر نجس، أو اشتباه ماء الوضوء بين المطلق والمضاف، وغير ذلك ممّا يرد خلال البحوث القادمة.
أمّا إذا دار حكم شيء بين الحرمة والوجوب، كالجهاد الابتدائي في زمن الغيبة مثلاً، فإنَّه لا يمكن العمل بالاحتياط هنا، لأنَّ المكلّف إذا ترك فإنَّه قد يكون واجباً فيأثـم بالترك، وإن فعل فقد يكون حراماً فيأثـم بالفعل، وحينئذٍ لا بُدَّ من حسم التكليف بالاجتهاد أو التقليد الذي يحدّد كون الحكم واجباً أو حراماً.
م ـ 50: يميّز الفقهاء بين نوعين من الاحتياط هما:
1 ـ الفتوى بالاحتياط: ويُراد به جعل الاحتياط حكماً شرعياً ملزماً وواجباً بصفته الوظيفة العملية المطلوبة من المكلّف، وذلك في مقابل ما يسمى بالتخيير والبراءة والاستصحاب، والتي هي أصول عملية يرجع إليها في مقام الاستنباط.
2 ـ الاحتياط في الفتوى: ويُراد به الحالة التي يفتي فيها الفقيه بشيء استناداً إلى النص مثلاً، ولكنَّه لا يكون مرتاحاً إلى وضوح الدليل فيطلب من مقلديه العمل بالاحتياط كخيار أفضل، لا كفتوى أصيلة.
والفرق بينهما من ناحية عملية، أنَّ الفتوى بالاحتياط لا يجوز فيها الرجوع إلى مرجع آخر لأنَّها هي التكليف المفتى به والمنجَّز في حقّ المكلّف، بينما الاحتياط في الفتوى يعني عدم وجود فتوى للمرجع واقعاً، فيجوز فيه الرجوع إلى غير مرجع التقليد.
هذا وينبغي التنبيه إلى أنَّ معظم الاحتياطات الواردة في هذا الكتاب (فقه الشريعة) هي من النوع الثاني، وقليلة هي الموارد التي يفتي فيها المرجع بالاحتياط من النوع الأول، وقد يصعب على غير المتخصص بالفقه التمييز بينهما، وسوف نحاول تسهيل ذلك على المكلّف عند صياغتنا لمثل هذه الفتاوى إن شاء اللّه تعالى.
م ـ 51: قد يطرأ على العمل بالاحتياط ما يوجب ترك العمل به، وذلك كمن اختار في ذكر الركعة الثالثة والرابعة قول التسبيحات ثلاث مرات من باب الاحتياط بدل قولها مرة واحدة، فإنَّه قد يضيق معه الوقت بنحو يستوجب العمل بالاحتياط وقوعَ جزء من الصلاة خارج الوقت، فالواجب هنا ترك الاحتياط واللجوء إلى الاجتهاد أو التقليد، فإن كان يكفي قولها مرة واحدة وجب الاقتصار عليه وترك الاحتياط مراعاة لضيق الوقت.
م ـ 52: يحتاج العمل بالاحتياط إلى اطلاع واسع على الأحكام الشرعية وإحاطة ببعض الأمور الدقيقة، الأمر الذي يجعل الاحتياط على غير الخبير صعباً، بل قد يوقعه في ما ينافي الاحتياط، كالمثال الذي ذكر في المسألة السالفة