شهر الطاعة والجهاد
إننا نستعد لوداع شهر رمضان المبارك في هذين اليومين... ونحن في هذه الرحلة التي قطعناها في شهر رمضان، بين صيام وقيام ودعاء وابتهال وحساب للنفس، في كل ما عاشه الإنسان في تاريخه، مما عصى الله تعالى فيه أو أطاعه، وفي كل عزم على تجديد إسلامه والتزامه وتقواه في ما يستقبله من حياته، لا بد لنا أن نقف لدراسة ما حصلنا عليه في هذا الشهر، وقد جاء في حديث الإمام عليّ (ع): "إنما هو عيد لمن قبل الله صيامه وقيامه ـ فهو عيد القيام بالمسؤولية، ونحن نحتفل بيوم العيد لأننا أطعنا الله في هذا الشهر ـ وكل يوم لا يعصى الله فيه فهو عيد"، حيث يستطيع الإنسان المؤمن أن يجعل كل أيام السنة أعياداً.
وهذا هو ما يُعبَّر عنه بالجهاد، لأن الجهاد لا يقتصر على جهاد الأعداء، بل يمتد إلى جهاد النفس وتوجيهها إلى ما أراده الله منها في العبادة وفي الطاعة، وقد وردت الأحاديث المتنوعة في الكتاب والسنّة في هذا المجال، مما لا بد لنا أن نعيشه في كل حياتنا، لأن المسألة هي أننا راحلون إلى الله: {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه}، نحن الكادحون والعمّال الذين أراد الله لنا أن نحوّل كل العمر إلى ورشة عمل، وذلك بالقيام بما أمرنا الله به، والاجتناب عما نهانا عنه. هذه هي المهمة التي أوكلها الله إلينا في كل جوانب حياتنا، وقد ورد أن "الدنيا مزرعة الآخرة"، إنك في الدنيا تزرع ما شئت مما تريد أن تجنيه للآخرة، فإن زرعت خيراً حصدت خيراً، وإن زرعت شراً حصدت شراً، وهذا هو قوله تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره* ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره}.
وهذا ما يحتاج الإنسان إلى أن يتعمّق في التفكير فيه، لأن المشكلة في حياتنا الاجتماعية أننا مشغولون بالآخرين ولسنا مشغولين بأنفسنا، نحن نتحدث عن الآخرين: فلان يدخل الجنة وفلان يدخل النار وما إلى ذلك، أما هل إن الله راضٍ عنا أو أنه ليس راضياً، فكم مرة نفكر بها في اليوم؟ في العشر الأواخر من شهر رمضان نقرأ: "اللهمّ إنّي أسألك إن كنت رضيت عني في هذا الشهر أن تزيدني في ما بقي من عمري رضى، وإن كنت لم ترض عني في هذا الشهر فمن الآن فارضَ عني"، فعلى الإنسان أن يفكر هل أن الله راضٍ عنه أو أنه ليس راضياً، وذلك بدراسة كل أعماله وأقواله، ومحاولة تصحيح ما فسد من عمله والاستزادة مما صلح منه.
الاجتهاد في طاعة الله
ولنقرأ بعض النصوص التي تتحدث عن جهاد النفس الذي هو الجهاد الأكبر... يقول تعالى: {والذين جاهدوا فينا ـ بمعنى أنهم خطّطوا لأن يجاهدوا أنفسهم فيخضعوها لطاعة الله تعالى، وإذا عرف الله منّا أننا نجاهد أنفسنا فنحاسبها ونراقبها ونرصدها من أجل أن نصححها ونجعلها مطيعة لله، فإن الله سوف يزيدنا من ذلك ـ لنهدينّهم سبلنا ـ يدلنا على الطرق التي تؤدي بنا إليه ـ وإن الله لمن المحسنين". ويقول تعالى: {وجاهدوا في الله حق جهاده}، {من جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين}، {ومن تزكّى فإنما يتزكّى لنفسه}.
وفي الأحاديث التي توجّه الإنسان إلى طاعة الله ومجاهدة النفس، في رواية عن الإمام الصادق(ع) يقول: "أعطوا الله من أنفسكم الاجتهاد في طاعته ـ وطاعة الله هي عنوان للإتيان بما أمر والاجتناب عمّا نهى ـ فإن الله لا يُدرك شيء من الخير عنده إلا بطاعته واجتناب محارمه"، فإذا أردت أن تحصل من الله على كلِّ ما يحقِّق لك النجاة ويرفع درجتك عنده، فعليك بالطاعة، وهذا أمر ورد على لسان رسول الله(ص) في آخر حياته عندما قال: "أيها الناس، لا يدّعي مدعٍ، ولا يتمنّى متمنٍ، والذي بعثني بالحقّ نبيّاً، لا ينجي إلا عمل مع رحمة، ولو عصيت لهويت"، وهذا ما نقرأه في القرآن الكريم عندما كان النبي(ص) يخاطب الناس الذين كانوا يريدون له أن يسير على خطهم: {قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم}.
ويقول الإمام الصادق (ع): "اعلموا أنه ليس بين الله وبين أحد من خلقه ملك مقرّب ولا نبي مرسل ولا من دون ذلك أقلّ من خلقه كلهم إلا طاعتهم له، فاجتهدوا في طاعة الله"، ويقول الإمام عليّ (ع): "عليكم بالجدّ والاجتهاد ـ لا تعيشوا الحياة على أساس العبث واللامبالاة ـ والتأهّب ـ لما تقبلون عليه ـ والاستعداد والتزوّد في منزل الزاد، ولا تغرنّكم الحياة الدنيا كما غرّت من كان قبلكم من الأمم الماضية والقرون الخالية"، الناس الذين كانوا قبلنا كانت لهم أحلامهم وأطماعهم وأهواؤهم، فأين صاروا؟ وسنصير إلى ما صاروا إليه.
وفي الحديث عن رسول الله (ص): "أفضل الجهاد من أصبح لا يهمّ بظلم أحد"، فأفضل ما تعيشه في علاقتك بالآخرين، هو أن لا تفكر في ظلم أيّ إنسان، والظلم هو أن تمنع الناس من حقهم، فعليك أن تعرف حقوق الناس لتعطي كلَّ ذي حق حقه. ويقول الإمام عليّ(ع): "جاهد في الله حق جهاده ولا تأخذك في الله لومة لائم"، قف مع الحق الذي يريد الله منك أن تقف معه ولو كان الناس كلهم ضدك، لا تفكر بملامة الناس لك، بل فكّر في رضى الله وضميرك وقناعتك، فالإمام (ع) يطلب منا أن نقتدي به، فقد عاش مع الحق وما ترك له من صديق، فقد كان "عليّ مع الحق والحق مع عليّ"، ولذلك كنا نقول إن الولاية لعليّ(ع) مكلفة، لأنها تقتضي أن تسير في خطه، وخطه هو الحق، ولذلك كان(ع) يقول: "ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفّةٍ وسداد". فعلينا أن نأخذ بالحق ونتحمّل السبّ والشتّم في سبيل ذلك، وقدوتنا في ذلك رسول الله(ص) الذي بقي مصرّاً على دعوته بالرغم من كل الاتهامات، وعليّ (ع) الذي سُبّ سبعين سنة على المنابر، ولكن أين عليّ وأين هؤلاء؟ إن الله تعالى هو الذي يرفع وهو الذي يضع.
ونقرأ عن رسول الله (ص): "أشدُّ الناس اجتهاداً من ترك الذنوب"... وجاء شخص إلى الإمام الباقر(ع) وقال له: إني ضعيف العمل، قليل الصلاة، قليل الصوم، ولكن أرجو أن لا آكل إلا حلالاً، ولا أنكح إلا حلالاً، فقال له الإمام (ع): "وأيّ جهاد أفضل من عفّة بطن وفرج"؟
لذلك، في نهاية هذا الشهر وقد عشنا فيه الكثير من الأعمال، ونسأل الله تعالى أن تكون أعمالنا مقبولة، لكن المهم أن نحتفظ بمداد هذا الشهر، لنمد كل الروحانية التي عشناها، والطاعة التي انطلقنا فيها، والقرب من الله الذي حصلنا عليه، إلى كل أيام السنة، لأن شهر رمضان هو الشهر الذي أراد الله أن يؤكد فيه علاقة الإنسان بربه، لتكون كل حياتنا شهر رمضان، لا في الصوم فحسب، ولكن في طاعة الله، بالإتيان بما أمر به والاجتناب عمّا نهى عنه، وليس كمثل بعض الناس الذي يصوم ويصلي في شهر رمضان، فإذا ذهب الشهر ترك الصلاة.
يوم العيد هو يوم الجوائز التي يقف فيها الإنسان منتظراً "العيدية" من الله، وعيدية الله مغفرته ورحمته ورضوانه، فعلينا أن نستعدَّ لتقبّل جوائز الله تعالى، وكل عام وأنتم بخير.
* من خطبة الجمعة لسماحته 12-11-2004 م
شهر الطاعة والجهاد
إننا نستعد لوداع شهر رمضان المبارك في هذين اليومين... ونحن في هذه الرحلة التي قطعناها في شهر رمضان، بين صيام وقيام ودعاء وابتهال وحساب للنفس، في كل ما عاشه الإنسان في تاريخه، مما عصى الله تعالى فيه أو أطاعه، وفي كل عزم على تجديد إسلامه والتزامه وتقواه في ما يستقبله من حياته، لا بد لنا أن نقف لدراسة ما حصلنا عليه في هذا الشهر، وقد جاء في حديث الإمام عليّ (ع): "إنما هو عيد لمن قبل الله صيامه وقيامه ـ فهو عيد القيام بالمسؤولية، ونحن نحتفل بيوم العيد لأننا أطعنا الله في هذا الشهر ـ وكل يوم لا يعصى الله فيه فهو عيد"، حيث يستطيع الإنسان المؤمن أن يجعل كل أيام السنة أعياداً.
وهذا هو ما يُعبَّر عنه بالجهاد، لأن الجهاد لا يقتصر على جهاد الأعداء، بل يمتد إلى جهاد النفس وتوجيهها إلى ما أراده الله منها في العبادة وفي الطاعة، وقد وردت الأحاديث المتنوعة في الكتاب والسنّة في هذا المجال، مما لا بد لنا أن نعيشه في كل حياتنا، لأن المسألة هي أننا راحلون إلى الله: {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه}، نحن الكادحون والعمّال الذين أراد الله لنا أن نحوّل كل العمر إلى ورشة عمل، وذلك بالقيام بما أمرنا الله به، والاجتناب عما نهانا عنه. هذه هي المهمة التي أوكلها الله إلينا في كل جوانب حياتنا، وقد ورد أن "الدنيا مزرعة الآخرة"، إنك في الدنيا تزرع ما شئت مما تريد أن تجنيه للآخرة، فإن زرعت خيراً حصدت خيراً، وإن زرعت شراً حصدت شراً، وهذا هو قوله تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره* ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره}.
وهذا ما يحتاج الإنسان إلى أن يتعمّق في التفكير فيه، لأن المشكلة في حياتنا الاجتماعية أننا مشغولون بالآخرين ولسنا مشغولين بأنفسنا، نحن نتحدث عن الآخرين: فلان يدخل الجنة وفلان يدخل النار وما إلى ذلك، أما هل إن الله راضٍ عنا أو أنه ليس راضياً، فكم مرة نفكر بها في اليوم؟ في العشر الأواخر من شهر رمضان نقرأ: "اللهمّ إنّي أسألك إن كنت رضيت عني في هذا الشهر أن تزيدني في ما بقي من عمري رضى، وإن كنت لم ترض عني في هذا الشهر فمن الآن فارضَ عني"، فعلى الإنسان أن يفكر هل أن الله راضٍ عنه أو أنه ليس راضياً، وذلك بدراسة كل أعماله وأقواله، ومحاولة تصحيح ما فسد من عمله والاستزادة مما صلح منه.
الاجتهاد في طاعة الله
ولنقرأ بعض النصوص التي تتحدث عن جهاد النفس الذي هو الجهاد الأكبر... يقول تعالى: {والذين جاهدوا فينا ـ بمعنى أنهم خطّطوا لأن يجاهدوا أنفسهم فيخضعوها لطاعة الله تعالى، وإذا عرف الله منّا أننا نجاهد أنفسنا فنحاسبها ونراقبها ونرصدها من أجل أن نصححها ونجعلها مطيعة لله، فإن الله سوف يزيدنا من ذلك ـ لنهدينّهم سبلنا ـ يدلنا على الطرق التي تؤدي بنا إليه ـ وإن الله لمن المحسنين". ويقول تعالى: {وجاهدوا في الله حق جهاده}، {من جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين}، {ومن تزكّى فإنما يتزكّى لنفسه}.
وفي الأحاديث التي توجّه الإنسان إلى طاعة الله ومجاهدة النفس، في رواية عن الإمام الصادق(ع) يقول: "أعطوا الله من أنفسكم الاجتهاد في طاعته ـ وطاعة الله هي عنوان للإتيان بما أمر والاجتناب عمّا نهى ـ فإن الله لا يُدرك شيء من الخير عنده إلا بطاعته واجتناب محارمه"، فإذا أردت أن تحصل من الله على كلِّ ما يحقِّق لك النجاة ويرفع درجتك عنده، فعليك بالطاعة، وهذا أمر ورد على لسان رسول الله(ص) في آخر حياته عندما قال: "أيها الناس، لا يدّعي مدعٍ، ولا يتمنّى متمنٍ، والذي بعثني بالحقّ نبيّاً، لا ينجي إلا عمل مع رحمة، ولو عصيت لهويت"، وهذا ما نقرأه في القرآن الكريم عندما كان النبي(ص) يخاطب الناس الذين كانوا يريدون له أن يسير على خطهم: {قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم}.
ويقول الإمام الصادق (ع): "اعلموا أنه ليس بين الله وبين أحد من خلقه ملك مقرّب ولا نبي مرسل ولا من دون ذلك أقلّ من خلقه كلهم إلا طاعتهم له، فاجتهدوا في طاعة الله"، ويقول الإمام عليّ (ع): "عليكم بالجدّ والاجتهاد ـ لا تعيشوا الحياة على أساس العبث واللامبالاة ـ والتأهّب ـ لما تقبلون عليه ـ والاستعداد والتزوّد في منزل الزاد، ولا تغرنّكم الحياة الدنيا كما غرّت من كان قبلكم من الأمم الماضية والقرون الخالية"، الناس الذين كانوا قبلنا كانت لهم أحلامهم وأطماعهم وأهواؤهم، فأين صاروا؟ وسنصير إلى ما صاروا إليه.
وفي الحديث عن رسول الله (ص): "أفضل الجهاد من أصبح لا يهمّ بظلم أحد"، فأفضل ما تعيشه في علاقتك بالآخرين، هو أن لا تفكر في ظلم أيّ إنسان، والظلم هو أن تمنع الناس من حقهم، فعليك أن تعرف حقوق الناس لتعطي كلَّ ذي حق حقه. ويقول الإمام عليّ(ع): "جاهد في الله حق جهاده ولا تأخذك في الله لومة لائم"، قف مع الحق الذي يريد الله منك أن تقف معه ولو كان الناس كلهم ضدك، لا تفكر بملامة الناس لك، بل فكّر في رضى الله وضميرك وقناعتك، فالإمام (ع) يطلب منا أن نقتدي به، فقد عاش مع الحق وما ترك له من صديق، فقد كان "عليّ مع الحق والحق مع عليّ"، ولذلك كنا نقول إن الولاية لعليّ(ع) مكلفة، لأنها تقتضي أن تسير في خطه، وخطه هو الحق، ولذلك كان(ع) يقول: "ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفّةٍ وسداد". فعلينا أن نأخذ بالحق ونتحمّل السبّ والشتّم في سبيل ذلك، وقدوتنا في ذلك رسول الله(ص) الذي بقي مصرّاً على دعوته بالرغم من كل الاتهامات، وعليّ (ع) الذي سُبّ سبعين سنة على المنابر، ولكن أين عليّ وأين هؤلاء؟ إن الله تعالى هو الذي يرفع وهو الذي يضع.
ونقرأ عن رسول الله (ص): "أشدُّ الناس اجتهاداً من ترك الذنوب"... وجاء شخص إلى الإمام الباقر(ع) وقال له: إني ضعيف العمل، قليل الصلاة، قليل الصوم، ولكن أرجو أن لا آكل إلا حلالاً، ولا أنكح إلا حلالاً، فقال له الإمام (ع): "وأيّ جهاد أفضل من عفّة بطن وفرج"؟
لذلك، في نهاية هذا الشهر وقد عشنا فيه الكثير من الأعمال، ونسأل الله تعالى أن تكون أعمالنا مقبولة، لكن المهم أن نحتفظ بمداد هذا الشهر، لنمد كل الروحانية التي عشناها، والطاعة التي انطلقنا فيها، والقرب من الله الذي حصلنا عليه، إلى كل أيام السنة، لأن شهر رمضان هو الشهر الذي أراد الله أن يؤكد فيه علاقة الإنسان بربه، لتكون كل حياتنا شهر رمضان، لا في الصوم فحسب، ولكن في طاعة الله، بالإتيان بما أمر به والاجتناب عمّا نهى عنه، وليس كمثل بعض الناس الذي يصوم ويصلي في شهر رمضان، فإذا ذهب الشهر ترك الصلاة.
يوم العيد هو يوم الجوائز التي يقف فيها الإنسان منتظراً "العيدية" من الله، وعيدية الله مغفرته ورحمته ورضوانه، فعلينا أن نستعدَّ لتقبّل جوائز الله تعالى، وكل عام وأنتم بخير.
* من خطبة الجمعة لسماحته 12-11-2004 م