أثار إقدام بعض الجماعات المتطرّفة على إحراق الطّيّار الأردنيّ، موجة غضب عارمة في العالم، على اعتبار أنَّ هذا العمل أسلوب بشع، ويعبّر عن وحشيَّة وقسوة غير مبرّرة. وأعتقد أنّ النار الَّتي التهمت جسد الطيّار، أصابت ـ فيما أصابت ـ بشرارتها صورة المسلمين جميعاً، وصورة الإسلام نفسه، حيث أظهرت المسلمين بأنهم جماعة وحشيَّة متعطّشة للقتل وسفك الدم، ولا تعرف الرحمة إلى قلوبهم سبيلاً، كما أظهرت التّشريع الإسلاميّ نفسه بأنّه تشريع ينتمي إلى العصور الحجريَّة.
وقد حاول البعض أن يجد مستنداً إسلاميّاً لقضيَّة الحرق، وأن ينسب الأمر إلى الإمام عليّ(ع)، الأمر الَّذي يعني أنَّ هؤلاء لم يفعلوا شيئاً جديداً أو منكراً، وإنما ساروا على نهج السَّلف الصّالح في ذلك، الأمر الَّذي دفع الكثيرين إلى التّساؤل حقّاً عن مدى إقرار التَّشريع الإسلاميّ بعقوبة الإحراق، وهل أحرق عليّ(ع) أحداً من النَّاس فعلاً؟
وقد وفَّقني الله تعالى إلى بحث هذه المسألة بحثاً مفصَّلاً، وذلك في دراسة مستقلَّة حول الفقه الجنائي في الإسلام، وحيث إنَّ الدّراسة المذكورة لم تطبع بعد، واستجابةً لرغبة بعض الأخوة، وإجابةً عن العديد من الأسئلة الّتي وجِّهت إليّ، فإني أضع بين أيدي القرّاء والمهتمّين خلاصة بحثي في المسألة، والّذي وصلت فيه إلى أنّه لم يثبت أنَّ الإمام عليّاً(ع) قد أحرق الغلاة أو غيرهم، وأنّ الرّوايات الواردة في ذلك لا يمكن الوثوق بها.
وفيما يلي، نستعرض الرّوايات الواردة في هذا المجال، والّتي تنسب إلى الإمام عليّ(ع) إحراق بعض الأشخاص، والَّتي يمكن تصنيفها إلى عدّة مجاميع:
أوّلاً: إحراق ابن سبأ
المجموعة الأولى: ما ورد في إحراق عبد الله بن سبأ، وهي عدّة روايات:
ما رواه الكشّي في رجاله بإسناده عن عبد الله بن سنان، عن أبيه، عن أبي جعفر(ع)، قال: "إنَّ عبد الله بن سبأ كان يدَّعي النبوَّة، وكان يزعم أنّ أمير المؤمنين(ع) هو الله ـ تعالى عن ذلك ـ فبلغ ذلك أمير المؤمنين(ع)، فدعاه فسأله، فأقرَّ وقال: نعم، أنت هو، وقد كان أُلقي في روعي أنّك أنت الله وأنا نبيّ، فقال له أمير المؤمنين(ع): ويلك، قد سخر منك الشّيطان! فارجع عن هذا ثكلتك أمّك وتُبْ، فأبى، فحبسه واستتابه ثلاثة أيّام، فلم يتب، فأخرجه، فأحرقه بالنّار.."[1]. وروى الكشّي أيضاً بإسناده عن هشام بن سالم، قال: سمعت أبا عبد الله(ع) يقول ـ وهو يحدّث أصحابه بحديث عبد الله بن سبأ، وما ادّعى من الربوبية لأمير المؤمنين(ع) ـ فقال: "إنّه لما ادَّعى ذلك فيه، استتابه، فأبى أن يتوب، فأحرقه بالنّار"[2]. ونقل الكشّي عن "بعض أهل العلم، أنَّ عبد الله بن سبأ كان يهوديّاً فأسلم"[3].
وتعليقاً على هذه المجموعة من الرّوايات، نقول: لو سلَّمنا بوجود عبد الله بن سبأ، وغضَّينا الطرف عما ذهب إليه بعض المحقّقين، وعلى رأسهم العلامة السيّد مرتضى العسكريّ، من أنّ ابن سبأ شخصيَّة وهميَّة، فإنَّ ذلك لا يثبت صحَّة القصَّة المذكورة حول إحراق الإمام عليّ(ع) لعبد الله بن سبأ أو قتله له، لأنَّ في أيدينا قرائن عديدة تنفي حصول ذلك، أو تبعث على التَّشكيك فيه:
ما رواه الكشي بإسناده إلى أبي حمزة الثمالي، قال: "قال عليّ بن الحسين(ع): لعن الله من كذب علينا، إني ذكرت عبد الله بن سبأ، فقامت كلّ شعرة في جسدي، لقد ادّعى أمراً عظيماً ما له لعنه الله. كان عليّ(ع) والله عبداً لله صالحاً، أخو رسول الله(ص).."[4]. فإنّ ظاهر الحديث أنّه كان حيّاً إلى زمن الإمام زين العابدين(ع)، ولذا قال(ع): "ما له لعنه الله!".
ولكن قد يعترض على هذا الشَّاهد، بأنّه لا ظهور لعبارة اللّعن المذكورة في كونه حيّاً إلى زمانه(ع)، إذ يُمكن أن يلعنه وهو ميت أيضاً، على أنَّ من المحتمل أن يكون قوله(ع): "لعنه الله" إخباراً، وليس إنشاءً.
تصرِّح بعض المصادر أنَّ الإمام علياً(ع) قد نفاه ولم يقتله، يقول النّوبختي: "إنّ فرقةً قالت: إنَّ عليّاً(ع) لم يُقتَل ولم يمت.. وهذه الفرقة تسمَّى السبئيَّة؛ أصحاب عبد الله بن سبأ، وكان ممّن أظهر الطّعن على أبي بكر وعمر وعثمان والصحابة وتبرّأ منهم، وقال: إنَّ عليّاً(ع) أمره بذلك، فأخذه عليّ(ع)، فسأله عن قوله هذا فأقرَّ به، فأمر بقتله، فصاح النّاس إليه: يا أمير المؤمنين، أتقتل رجلاً يدعو إلى حبِّكم أهل البيت(ع) وإلى ولايتك والبراءة من أعدائك؟! فصيّره(ع) إلى المدائن ـ إلى أن قال ـ ولما بلغ عبد الله بن سبأ نعي أمير المؤمنين(ع)، قال للّذي نعاه: كذبت، ولو جئتنا بدماغه في سبعين صرّة، وأقمت على قتله سبعين عدلاً، لعلمنا أنّه لم يمت ولم يُقتَلْ، ولا يموتُ حتى يملك الأرض"[5].
ويؤكِّد الشهرستاني أيضاً فرضيّة النفي، فيقول: "السّبئيّة: أصحاب عبد الله بن سبأ الَّذي قال لعليّ (كرّم الله وجهه)، أنت أنت، يعني أنت الإله، فنفاه إلى المدائن، زعموا أنّه كان يهوديّاً فأسلم"[6].
وفرضيّة النّفي إلى المدائن، ينقلها ابن أبي الحديد عن أبي العباس الثقفي، حيث إنّه، وبعد أن يذكر رواية إحراق الإمام(ع) جمعاً من الغلاة، يقول: "إنَّ جماعة من أصحاب علي، منهم عبد الله بن عباس، شفعوا في عبد الله بن سبأ خاصّة، وقالوا: يا أمير المؤمنين، إنه قد تاب فاعف عنه، فأطلقه بعد أن اشترط عليه أن لا يقيم بالكوفة، فقال: أين أذهب؟ قال: المدائن، فنفاه إلى المدائن، فلما قُتل أمير المؤمنين(ع)، أظهر مقالته، وصارت له طائفة وفرقة يصدِّقونه ويتبعونه، وقال لما بلغه قتل عليّ(ع): والله، لو جئتمونا بدماغه في سبعين صرّة، لعلمنا أنّه لم يمت ولا يموت حتى يسوق العرب بعصاه"[7].
إنَّ هذه الشَّواهد وغيرها، تشير إلى أنَّ عبد الله بن سبأ بقي على قيد الحياة إلى ما بعد مقتل أمير المؤمنين(ع)، ما ينفي قصَّة مقتله على يديه(ع).
ويلاحظ أنَّ نفيه إلى المدائن، وبقاءه فيها إلى أن بلغه استشهاد أمير المؤمنين(ع)، جاء في عدّة مصادر. فمضافاً إلى ما ذكره الشّهرستاني، والنّوبختي، وابن أبي الحديد، في الكلام الآنف، فقد ورد ذلك في مقتل أمير المؤمنين(ع) لابن أبي الدنيا .
ثانياً: إحراق جمعٍ من الغلاة
المجموعة الثانية: ما ورد في إحراق جماعةٍ من الناس غير ابن سبأ، اعتقدوا بربوبيَّة الإمام عليّ(ع)، وإليك روايات هذه الطّائفة:
الرّواية الأولى: ما رواه الكشّي بإسناده إلى عبد الله بن شريك عن أبيه، قال: "بينا كان عليّ(ع) عند امرأةٍ له من عنزة، وهي أمّ عمرو، إذ أتاه قنبر، فقال: إنَّ عشرة بالباب يزعمون أنّك ربهم، فقال: أدخلْهم، قال: فدخلوا عليه، فقال: ما تقولون؟ فقالوا: إنّك ربنا! وأنت الَّذي خلقتنا وأنت الّذي ترزقنا! فقال لهم: ويلكم ربي وربّكم الله، ويلكم توبوا وارجعوا، فأبوا وقالوا: لا نرجع عن مقالتنا وأنت ربّنا وترزقنا وأنت خلقتنا! فقال: يا قنبر، آتني بالفعلة، فخرح قنبر، فأتاه بعشرة رجال مع الزُّبُل والمُرُور[8]، فأمرهم أن يحفروا لهم في الأرض، فلمّا حفروا خدّاً (شقّاً)، أمرهم بالحطب والنّار، فطُرِحَ فيه حتّى صار ناراً تتوقَّد، قال لهم: ويلكم توبوا وارجعوا، فأبوا وقالوا: لا نرجع، فقذف عليّ(ع) بعضهم، ثم قذف بقيّتهم في النار، ثم قال: إنّي إذا أبصرت أمراً منكراً، أوقدت ناري ودعوت قنبراً"[9].
ونلاحظ على الاستدلال بالرّواية :
أوّلاً: ضعف السّند بشريك، فهو ممن لم تثبت وثاقته، وأمَّا سائر الرواة، فيمكن توثيقهم.
ثانياً: إنَّ الزّوجة المدّعاة لعليّ(ع)، أعني أم عمرو العنزيّة، غير معروفة، ولم تُذكَر في عداد زوجاته[10].
هذا إضافةً إلى الملاحظات العامَّة الآتية.
الرّواية الثّانية: قال ابن شهر آشوب في المناقب: "روي أنّ سبعين رجلاً من الزطّ أتوه ـ يعني أمير المؤمنين(ع) ـ بعد قتال أهل البصرة، يدعونه إلهاً بلسانهم، وسجدوا له، فقال لهم: لا تفعلوا، إنّما أنا مخلوق مثلكم، فأبوا عليه، فقال: لئن لم ترجعوا عما قلتم فيّ وتتوبوا لأقتلنّكم، فأبوا، فخدّ(ع) لهم أخاديد، وأوقد ناراً، فكان قنبر يحمل الرجل على منكبه، فيقذفه في النار، ثم قال(ع): إنّي إذا أبصرت أمراً منكراً، أوقدت ناري ودعوت قنبر[11].
والرّواية، كما هو واضح، مرسلة، فلا تصلح للاستناد إليها لاستنباط الحكم الشَّرعيّ[12].
الرّواية الثّالثة: ما أورده البخاري من رواية عكرمة، قال: "أُتي عليّ(ع) بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عبّاس، فقال: لو كنتُ أنا، لم أحرقْهم، لنهي رسول الله(ص): "لا تعذِّبوا بعذاب الله"، ولقتلتُهم، لقول رسول الله(ص): "من بدَّل دينه فاقتلوه"[13].
ويلاحظ على هذه الرّواية بملاحظتين:
الملاحظة الأولى: إنَّ راوي الحديث عن ابن عباس هو عكرمة، وما أدراك ما عكرمة! فقد اتّهم بالكذب، ولا سيَّما على سيّده ومولاه ابن عباس، حتى ضرب المثل بكذبه عليه. روي أنَّ سعيد بن المسيب كان يقول لغلامه بُرْد: يا بُرْد، لا تكذب عليَّ كما يكذب عكرمة على ابن عباس. ونسب إلى ابن عمر أنّه قال ذلك لنافع، أي قال له: لا تكذب عليّ كما كذب عكرمة على ابن عباس. وقد رماه بالكذب كلّ من عطاء، وسعيد بن جبير، وابن سيرين. وكان مالك لا يراه ثقةً، وأمر أن لا يؤخذ عنه، وتجنّبه مسلم في صحيحه. وقد ورد أنَّ عليّاً بن عبد الله بن عباس، قد نهى عكرمة عن الكذب على والده، وربطه على باب الكنيف. روى جرير بن عبد الحميد، عن يزيد بن أبي زياد، قال: دخلت على عليّ بن عبد الله بن عباس، وعكرمة مقيَّدٌ على باب الحشّ، قال: ما لهذا كذا؟! قال: إنّه يكذب على أبي. وعن عبد الله بن الحارث: دخلت على عليّ بن عبد الله، فإذا عكرمة في وثاق عند باب الحشّ، فقلت له (أي لعلي): ألا تتقي الله! فقال: إنّ هذا الخبيث يكذب على أبي[14].
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإنَّ عكرمة رُمي بأنّه كان خارجيّاً، إما نجدياً أو صفرياً أو أباضي[15]، ومن كان كذلك، فهو متَّهم في الرواية عن عليّ(ع). ومن القريب، أنه وضع الرّواية المذكورة بداعي الطعن والانتقاص من الإمام عليّ(ع)، وإثبات مخالفته لرسول الله(ص)، وربما لهذا زعم عكرمة أنّ ابن عبّاس كان خارجي[16]، في كذبٍ مفضوح. واستطراداً في مسلسل الكذب هذا، فقد حدَّث بعضهم عن الإمام عليّ(ع) أنّه قال، بعد اعتراض ابن عباس عليه في عمليّة الإحراق: "ويح ابن عباس، إنّه لغوّاص على الهنات!"[17]، إنّها الهنات إذاً الّتي يراد تسجيلها على عليّ(ع)!
الملاحظة الثّانية: إنّه كيف يغيب عن عليّ(ع) قول رسول الله(ص): "لا يعذِّب بالنَّار إلاّ الله"؟! مع أنّه من أقرب الصَّحابة إليه، وأكثرهم ملازمةً له ولصوقاً به، فقد كان يتبعه اتّباع الفصيل أثر أمِّه[18]، ويسأله حين يسكت الآخرون، ويدفع ما تيسَّر له من مال صدقاتٍ في سبيل الله، بهدف مناجاته(ص)[19]، وهل كان عكرمة أو غيره أعلم بكلام النّبيّ(ص) من باب مدينة علمه، ولا سيَّما أنَّ قضيَّة الحرق المزعومة، حدثت في زمن خلافة الإمام(ع)، أي بعد صدور الكلام المذكور عن النبيّ(ص)، بما يزيد على عقدين من الزّمن؟! فكيف لم يسمع(ع) طيلة هذه المدَّة بهذا الحديث، على فرض أنّه لم يكن مطَّلعاً عليه أو أنّه لم يسمعه من النبيّ(ص) مباشرةً؟!
الملاحظات العامَّة على روايات إحراق الغلاة
إضافةً إلى ما تقدَّم من ملاحظاتٍ خاصَّةٍ على كلّ روايةٍ أو مجموعةٍ من الأخبار، فإنَّ ثمة ملاحظات عامَّة يمكن أن نسجِّلها على كلِّ الرّوايات المتقدِّمة الواردة في الإحراق، على اختلاف طوائفها:
الملاحظة الأولى: إنَّ العمدة في روايات الإحراق، سواء ما ورد في المجموعة الأولى أو الثَّانية، هو ما رواه الكشِّي، أمَّا روايات غيره، فهي مراسيل لا تصلح للاعتماد عليها. وروايات الكشِّي لا تخلو من إشكال، والوجه في ذلك: أنَّ كتابه الرّجالي قد وقعت فيه تصحيفات كثيرة، باعتراف جمعٍ من الأعلام. قال النّجاشي في ترجمته: "وكان ثقة عيناً، وروى عن الضّعفاء كثيراً .. له كتاب الرجال، كثير العلم، وفيه أغلاط كثيرة"[20].
وقال المحقّق التستري: "وأمّا رجال الكشي، فلم تصل نسخته صحيحة إلى أحد حتى الشيخ والنجاشي.. وتصحيفاته ـ تصحيفات الكتاب ـ أكثر من أن تحصى، وإنّما السّالم منه معدود.. وقد تصدّينا فيما سوى ذلك في كلّ ترجمة إلى تحريفاتها، بل قلّ ما تسلم رواية من رواياته عن التّصحيف، بل وقع في كثير من عناوينه، بل وقع فيه خلطُ أخبارِ ترجمةٍ بأخبارِ ترجمةٍ أخرى، وخلطُ طبقةٍ بأخرى.. ثم إنَّ الشّيخ اختار مقداراً منه ما فيه من الخلط والتَّصحيف.. وبعدما قلنا من وقوع التّحريفات في أصل الكشّي بتلك المرتبة، لا يمكن الاعتماد على ما فيه، إذا لم تقم قرينةً على صحّة ما فيه.. ثم إنّه حدث في الاختيار[21] أيضاً، تحريفات غير ما كان في أصله، فإنّه شأن كلِّ كتاب، إلا أنّها لم تكن بقدر الأصل، ولذا نرى نسخ الاختيار أيضاً مختلفة"[22].
الملاحظة الثّانية: إنَّ الإحراق يُمَثِّلُ طريقةً غير معهودة ولا مألوفة في إقامة الحدود، ولم يُفْتِ به أحد من فقهاء المسلمين، باعتباره عقوبةً تُطبَّق على المرتدّ، بل إنَّه يتنافى مع روحيَّة التَّشريع الإسلاميّ في هذا المجال.
الملاحظة الثَّالثة: إنَّ روايات الإحراق معارضة بجملة من النّصوص:
أوّلاً :بما دلَّ على أنَّ وسيلة إقامة الحدود هي القتل دون سواه، كما أسلفنا في حديث الوطء بالأقدام. ويزداد الأمر إشكالاً، لو أخذنا بنظر الاعتبار الرّواية الَّتي تقول إنَّ هؤلاء إنّما أحرقوا بسبب ردَّتهم، وليس بسبب ادّعائهم ربوبيّة الإمام عليّ(ع)، كما ورد ذلك في أنساب الأشراف عن ابن سيرين، حيث قال: "ارتدّ قومٌ بالكوفة، فقتلهم عليّ(ع)، (و) أحرقهم..."[23].
وممّا يبعث على الرّيبة أيضاً في قضيَّة الإحراق، أنَّ الرّوايات المشار إليها، تضمَّنت إنشاد الإمام عليّ(ع) لبيتٍ من الشِّعر، قال فيه:
إنّي إذا أبصرت أمراً منكرا أوقدْتُ ناراً ودعوْتُ قنبراً [24]
فهل إنَّ عليّاً(ع) يؤجِّج ناراً لكلِّ أمرٍ منكر يرتكبه بعض النَّاس، كما هو ظاهر هذا الكلام، وكأنَّ النَّار هي سلاحه في مواجهة المنكر؟! إنَّ هذا ليس له وجه صحيح، اللَّهمَّ إلاّ إذا كان الغرض هو الطَّعن في عليٍّ(ع)، كما سيأتي!
ثانياً: بما ورد من أنّه لا يعذّب بالنار إلا ربّ النار، وهي عدّة روايات، نذكر منها اثنتين:
الرّواية الأولى: ما ورد في النَّهي عن إحراق الحيوانات، ففي الحديث الَّذي رواه ابن داوود في سننه، بإسناده إلى عبد الرّحمن بن عبد الله عن أبيه، قال: كُنَّا مع رسول الله(ص) في سفرٍ، فانطلق لحاجته، فرأينا حُمَّرة معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمّرة، فجعلت تفرش[25]، فجاء النبيّ(ع) فقال: من فجع هذه بولدها؟ ردّوا ولدها إليها، ورأى(ص) قرية نمل قد حرقناها، فقال: من حرق هذه؟! قلنا: نحن، قال: إنّه لا ينبغي أن يُعذِّب بالنّار إلا ربّ النّار"[26].
واستناداً إلى الرّواية الأخيرة، لو تمَّ سندها، يمكن القول إنَّ المشرِّع إذا منع من إحراق الحشرات بالنّار، فبالأولى أن يمنع من إحراق النّاس بها.
قد يقال: إنَّه يمكن التّفريق بين الأمرين، فإحراق الإنسان في الحدِّ لا يهدف إلى الانتقام والتشفّي، وإنما يهدف ـ بناءً على شرعيّته ـ إلى إيجاد ردعٍ في النّفوس، فلا يجترئ الآخرون على ارتكاب هذه الجريمة، وهي الردّة عن دين الله، وهذا يتحقَّق بهذه الوسيلة. لكن هذا لا معنى له في إحراق النّمل أو غيره من الحشرات، فلا يستفاد من المنع عن إحراق الحشرات المنع عن إحراق الإنسان.
والجواب: إنَّ الرّواية في نفيها أن يكون من حقّ أحد عن أن يعذّب بالنّار إلا ربّ النار، هي مطلقة وشاملة لكلّ أشكال التّعذيب، سواء كانت تعذيباً انتقامياً أو ردعياً .
الرواية الثانية: ما ورد عن أبي هريرة، أنَّ رسول الله(ص) أمّره على سريّة، قال: فخرجت فيها، وقال(ص): "إنْ وجدتم فلاناً فاقتلوه ولا تحرقوه، فإنّه لا يعذّب بالنّار إلاّ ربّ النّار"[27].
فكيف يخفى على عليّ(ع)، وهو أقرب النّاس إلى رسول الله(ص)، أنّه(ص) قد نهى عن إحراق أحد بالنّار؟!
الملاحظة الرّابعة: إنّ روايات الإحراق متعارضة، فبعضها يؤكِّد الإحراق من خلال إلقائهم بالنّار، ولكنّ البعض الآخر يؤكّد أنَّ الإمام(ع) لم يحرق تلك الجماعة، وإنّما أقام الحدَّ عليهم بطريقة الخنق وحبس الأوكسجين. كما جاء في رواية عن أبي عبد الله(ع).
قال: "أتى قومٌ أمير المؤمنين(ع)، فقالوا: يا ربّنا! فاستتابهم، فلم يتوبوا، فحفر لهم حفيرة، وأوقد فيها ناراً، وحفر حفيرةً إلى جانبها أخرى وأفضى بينهما، فلما لم يتوبوا ألقاهم في الحفيرة، وأوقد في الحفيرة الأخرى حتى ماتوا"[28].
فالمستفاد من هاتين الرّوايتين، أنَّ ما حدث هو حبس الهواء المؤدّي إلى الموت، وليس الإحراق.
وإذا قيل: لعلَّ الواقعة قد تعدَّدت، فأحرق(ع) قوماً، وحبس الهواء عن آخرين. قلت: إنّنا نستبعد تعدّد الواقعة، وذلك لعدّة قرائن، أهمّها:
أوّلاً: إنَّ مضمون الحوار الَّذي جرى بينهم وبين الإمام(ع)، ودعوة الإمام(ع) لهم إلى التوبة والرّجوع، وإبائهم ذلك، وارد في روايات "الحرق" وروايات "الخنق" معاً، ما يشهد لوحدة القضيَّة.
ثانياً: إنَّ الجماعة قد وصُفت في الطّائفتين معاً بأنّها من الزّطّ، وهو شاهد آخر على وحدة القضيّة. أجل، ثمة اختلاف بسيط بين الرّوايات، وهو الاختلاف في عددهم، بين كونهم سبعين رجلاً أو عشرة رجال.
ترجيح الوضع في روايات الإحراق
إنَّ من المحتمل جدّاً أن تكون قصَّة إحراق الإمام عليّ(ع) لهؤلاء الجماعة، أو لعبد الله بن سبأ، موضوعة، ومن نسج الخيال: فإمّا أنّها موضوعة من قِبَلِ بعض الغلاة، بهدف إثبات زعمهم ومدعاهم حول ربوبيَّة الإمام(ع)، على اعتبار أنّه قد ورد في الحديث: "لا يعذّب بالنّار إلا ربّ النار"، وحيث إنّه(ع) قد أحرقهم بالنّار، فهو الله إذاً، تعالى الله عمّا يقولون علوّاً كبيراً. وهذا ما نقل عن بعض الغلاة، حيث قال قائلهم بعدما نسبوا إليه(ع) أنّه أحرق جماعة ـ حسب زعمهم ـ: "الآن حقَّقنا أنّه الله، لا يعذِّب بالنّار إلا الله". قال الشّيخ الصّدوق: "إنّ الغلاة ـ لعنهم الله ـ يقولون: لو لم يكن عليّ ربّاً لما عذَّبهم بالنّار"[29]، ومن الطبيعيّ أنَّ هذه حجَّة سخيفة، وقد فنّدها الصَّدوق نفسه[30].
أو أنّها موضوعة منْ قِبل بعض خصوم أمير المؤمنين(ع)، بهدف إثبات مخالفته ـ فيما فعله بزعمهم من الإحراق ـ لرسول الله(ص)، الَّذي نهى عن أن يعذّب بالنّار إلا ربها، وهذا ما احتملناه في رواية عكرمة كما سلف، ولذا، نسبوا إلى عليّ(ع) أنّه قال لابن عبّاس: إنّك لغوّاص عن الهنات!
أو أنّها موضوعة مِنْ قبل أصحاب العصبيَّات البغيضة، الَّذين تحركوا في وضع الأحاديث على قاعدة مقابلة المثلبة بمثلها، بهدف التَّخفيف مما فعلته بعض الرّموز الّتي ينتسبون إليها، والإيحاء بأنهم لم ينفردوا بهذا الفعل. وفي المقام، فإنَّ أبا بكر قد عرف عنه أنّه أحرق الفجأة السّلمي، وكذلك، فإنَّ خالد بن الوليد قد أحرق بني سُليم، وقصّة إحراق الفجأة مذكورة في المصادر التاريخيَّة، حيث إنَّ الفجأة قَدِمَ على أبي بكر، وقال له: "أعنّي بسلاح، ومُرْني بما شئت من أهل الردة، فأعطاه سلاحاً وأمره أمْرَه، فخالف أَمْرَه إلى المسلمين، فخرج حتى نزل بالجواء وبعث ـ أي الفجأة ـ نجيّة بن أبي الميثاء من بني الشريد، وأمره بالمسلمين، فشنّها غارةً على كلّ مسلم في سليم وعامر وهوزان، وبلغ ذلك أبا بكر، فأرسل إلى طريفة بن حاجز يأمره أن يجمع له (أي يجمع المقاتلين للفجأة بهدف قتاله)، وأن يسير إليه.. فلحقه طريفة فأسره، ثم بعث به، فقدم به على أبي بكر، فأمر (أبو بكر)، فأُوقِدَ له ناراً في مصلى المدينة على حطب كثير، ثم رمى به فيها مقموطاً"[31]، بيان: المقموط: هو المشدود اليدين والرجلين[32].
وهكذا، فإنّ خالد بن الوليد قد أحرق بني سليم عندما ارتدّ بعضهم، فقد روي: أنّه جمع "رجالاً منهم في الحظائر، ثم أحرقها عليهم بالنارّ! فبلغ ذلك عمر، فأتى أبا بكر، فقال: أتدع رجلاً يُعذِّب بعذاب الله عزَّ وجل! فقال أبو بكر: لا أشيم (أُغْمِدُ) سيفاً سلّه الله على المشركين"[33]. وتذكر بعض المصادر أنّ الأمر بالإحراق صدر عن أبي بكر نفسه[34].
وربما تكون روايات الإحراق موضوعةً من قبل بعض خصوم الإمام(ع) بهدف تشويه صورته، والإيحاء بقساوته وشدّته في التعامل مع الناس، الأمر الَّذي يبعث على التَّشكيك في أهليّته لتولّي الخلافة وسياسة العباد، كما كان يوحي به بعض خصومه. ولهذا، نجد أنَّ قصَّة الإحراق لم تلصق بأحدٍ غير أمير المؤمنين(ع). فكلّ هذه الرّوايات، حتى فيما روي في شأن عقوبة الشّاذّ جنسيّاً، تنتهي إلى عليّ(ع)، ولو بواسطة أحد الأئمَّة(ع)، ولم يُرو عن أحد من الأئمّة(ع)، أنَّ حكم الغلاة أو غيرهم، هو الإحراق، مع أنّهم(ع) قد ابتلوا بهذه الظّاهرة.
ومن أمارات الوضع في هذه الرّوايات، هذا التَّلاعب الملحوظ فيها، في توصيف الجماعة الَّذين ادّعي أنّه تمّ إحراقهم. فبينما عُرِفَ أنَّه(ع) أحرقهم لأنّهم قالوا بربوبيَّته، نجد في رواية أخرى أنّهم كانوا من الزّنادقة، وظاهرها أنَّ ذلك هو سبب إحراقه لهم، ففي كنز العمال "أتي عليّ(ع) بقوم من الزّنادقة، فأمر بحفرتين، فحفرتا وأوقد النار، ثم قذفهم فيها"[35].
ومن الغريب أنّه قد جاء في بعض الرّوايات أنّهم من الشّيعة، إذ قيل: "جاء نفر من الشّيعة إلى عليّ وقالوا أنت هو.."[36]، وهكذا نجدُ أنَّ الإسفراييني في الملل والنحل، يقول: "إنّ الّذين أحرقهم عليّ(ع) طائفة من الرّوافض، ادّعوا فيه الإلهيَّة وهم السبئيّة"[37]، والتوظيف المذهبي والسياسي في هذا المجال بيّن ولا يكاد يخفى.
ولعلّه لما ذكرنا في الملاحظتين الآنفتين، وما سنذكره فيما يأتي، ذهب بعض الأعلام إلى أنَّ دعوى الإحراق غير صحيحة[38].
وهناك روايات أخرى ذكر فيها الإحراق، وهي أيضاً ضعيفة السَّند أيضاً، ولكنَّنا نكتفي بهذا القدر من البحث، ونترك الباقي إلى البحث التفصيليّ الّذي أشرنا إليه.
[1] وسائل الشيعة، ج 28، ص 336، الباب 6 من أبواب حدّ المرتد، الحديث 4.
[2] وسائل الشيعة، ج 28، ص 336، ب 6 من أبواب حدّ المرتد، الحديث 5.
[3] المصدر نفسه، الحديث 6 من الباب.
[4] اختيار معرفة الرجال، ج 1، ص 324.
[5] فرق الشيعة، ص 22.
[6] الملل والنحل، ج 1، ص 174.
[7] شرح نهج البلاغة، ج 5، ص 7.
[8] بيان: الزّبل: جمع الزّبيل: القفّة أو الجرب، أو الوعاء، والمرور: جمع المر، وهو المسحاة. راجع: بحار الأنوار، ج 25، ص 299.
[9] اختيار معرفة الرجال، ج 1، ص 288.
[10] نبّه على ذلك السيّد مرتضى العسكري في كتابه عبد الله بن سبأ، ج 2، ص 195.
[11] بحار الأنوار، ج 25، ص 28.
[12] والزطّ كما قيل: جيل من الهند أو جنس من السّودان. انظر: مجمع البحرين.
[13] صحيح البخاري، ج 8، ص 49، ونحوه غيره.
[14] راجع: ميزان الاعتدال، ج 3، ص 94، تهذيب التهذيب، ج 7، ص 237، سير أعلام النبلاء، ج 5، ص 23.
[15] راجع: المصادر نفسها. والصفرية قوم من الخوارج، نُسبوا إلى عبد الله بن صفار، أو إلى زياد بن الأصفر، أو إلى صفرة ألوانهم، أو لخلوّهم من الدين. والأباضيّة هم أتباع عبد الله بن أباض، ولهم وجود إلى الآن في سلطنة عُمان والجزائر وغيرهما من الدّول، وتجدر الإشارة إلى أنَّ الأباضيّة ينكرون أن يكونوا من جملة الخوارج .
[16] المصدر نفسه.
[17] راجع: المصادر نفسها.
[18] انظر: نهج البلاغة، ج 2، ص 157.
[19] ما ورد في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[المجادلة: 12]، وقد ورد أنّه لم يعمل بهذه الآية غير عليّ(ع)، انظر: المستدرك للحاكم، ج 2، ص 482.
[20] رجال النجاشي، ص 372.
[21] يقصد اختيار الشّيخ من كتاب الكشي، وهو الواصل إلينا من رجال الكشي.
[22] قاموس الرجال، ج 1، ص 58 ـ 62.
[23] أنساب الأشراف، ص 166.
[24] كما جاء في رواية الكشي والمناقب، ونحوه ما في دعائم الإسلام، ج 1، ص 49، وج 2، ص 482.
[25] تفرش الطائر، أي ترفرف بجناحيها وتقترب من الأرض، انظر: معجم مقاييس اللّغة، ج 4، ص 486.
[26] المصدر نفسه، ج 1، ص 603.
[27] سنن أبي داوود، ج 1، ص 603.
[28] الكافي، ج 7، ص 257.
[29] من لا يحضره الفقيه، ج 3، ص 151.
[30] راجع: المصدر نفسه.
[31] انظر: تاريخ الطبري، ج 2، ص 492. وأيضاً، الكامل في التاريخ، ج 2، ص 351.
[32] وقد شكّل إحراق الفجأة السلمي ـ واسمه أياس بن عبد ياليل ـ مدخلاً إلى الطعن في الخليفة، واتهامه بأنّه يجهل الحكم الشرعيّ المستفاد من الحديث النبويّ في المنع عن إحراق الناس بالنار، وردَّ علماء الكلام من أهل السنّة على ذلك، بأنه اجتهد في ذلك، وأنه لم يبلغه النّصّ، أو تأوّله في غير الزنديق، فإنّ الفجأة كان زنديقاً، ورُدَّ عليهم بأنّه لم يثبت أنه كان زنديقاً، بل ذُكر أنّه كان يقول: أنا مسلم. انظر حول ذلك: شرح المواقف، ج 8، ص 357، والصّوارم المهرقة، ص 134. والظّاهر أنّ حكم الفجأة السلمي، هو حكم المفسد في الأرض، وهو مذكور في القرآن، وليس فيه الحرق.
[33] المصنّف، ج 5، ص 212، وتاريخ مدينة دمشق، ج 16، ص 240.
[34] مسند أبي يعلى، ج 13، ص 146.
[35] كنز العمال، ج 11، ص 303.
[36] طبقات المحدثين بأصبهان، ج 2، ص 342، وراجع أيضاً: تاريخ مدينة دمشق، ج 42، ص 476.
[37] انظر: نيل الأوطار، ج 8، ص 6.
[38] شرح أصول الكافي، ج 4، ص 183.