المنهج هو الأَمر الأَساسيّ في تحديد الوجهة التي يستند إليها المفكِّر أَو الفقيه في استنتاجاته وفي صَوْغ نظريَّاته، ولذلك أَولى الفقهاء، والدِّراسة الدِّينيَّة، اهتمامًا مهمًّا بمسألة المنهج ودراسته؛ لأَنَّ الفقيه، والمفكِّر عموماً، من دون منهج، لا يملك قاعدةً صلبةً لإنتاج المعرفة.
ويمتاز الفقهاء والمفكِّرون عادةً بمناهجهم التي يتَّبعونها، كما يمتازون أَيضًا بتفعيلهم لعناصر المنهج أَو بعدم تفعيلهم لها، بمعنى أَنَّنا قد نجد هناك مفكِّرَيْن يتَّبعان المنهج نفسه، وينطلقان من العناصر نفسها المكوِّنة لهذا المنهج، لكنَّ أَحدهما يختلف في نتائج تفكيره عن الآخر، من خلال ملاحظتنا أَنَّ أَحدهما يستخدم كلَّ عناصر المنهج، أَو أَكثر من الآخر الّذي يستخدم بعض العناصر ويُهمل عناصر أُخرى، نتيجة عوامل عديدة.
ولذلك، إذا أَردنا أَن نرصد التَّميُّز الّذي نعتقد أَنَّ المجدّد والفقيه السَّيِّد محمد حسين فضل الله حصل عليه، مقابل، أَو في موازاة علماء آخرين، فنستطيع أَن نلمح عدَّة أُمورٍ أَساسيَّة:
الأَمر الأَوَّل: هو المزج بين الأَصالة والمعاصرة، بمعنى أَنَّه كان ينطلق في فهمه من خلال النَّصِّ الدِّينيّ، ولكنَّه في الوقت نفسه، كان يُحاول أَن يفهم الواقع كما هو. ومن خلال ملاحظاته للواقع وللحياة، وهضمه لطريقة تصرّف الإنسان عمومًا في شتَّى المجالات، كانت تتكوَّن لديه معطياتٌ جديدة. هذه المعطيات يُضيفها إلى المعطيات العلميَّة الّتي يُقدِّمها القرآن الكريم، والتي تُقدِّمها السُّنَّة الشَّريفة.
وأَنا أَقول هنا، معطيات، أَقصد المعنى الدَّقيق للكلمة، بمعنى أَنَّ القرآن الكريم، طالما أَنَّنا نتحدَّث عن بناء نظريَّةٍ من خلال القرآن والسُّنَّة، فإنَّ القرآن الكريم والسُّنَّة الشَّريفة عندما يتحدَّثان عن موضوعٍ معيَّن، في آيةٍ معيَّنة، أَو في روايةٍ معيَّنة، فإنَّهما لا يُقدِّمان معرفةً ناجزةً بحسب الفرضيَّة العلميَّة؛ لأَنَّ المعرفة إنَّما تتكوَّن من خلال استخدام المنهج بكلِّ قواعده، بما فيها أَن نفهم، وأَن نحلَّ التَّعارض الّذي قد نجده بين مدلول آيةٍ هنا ومدلول آية هناك، أَو بين مدلول روايةٍ هنا أو هناك.
ولذلك كان السَّيِّد فضل الله ـ وكلّ فقيه ينبغي عليه ذلك ـ يتعاطى مع الآيات القرآنيَّة كمعطيات، ومع الرِّوايات التي تأتي في السُّنَّة الشَّريفة كمعطيات. وأَيضًا الواقع والعلم، وكلُّ مصادر المعرفة الأُخرى التَّجريبيَّة وحتَّى التَّأَمُّليَّة، كانت تُقدِّم معطيات جديدة. كان يهضم كلَّ هذه المعطيات، ثمَّ يأتي من خلال تفكيره، بمحاولة الخروج باستنتاجٍ ناشئٍ ومرتكزٍ على كلِّ هذه المعطيات.
ولذلك أَعتقد أَنَّ ممَّا تميَّز به السَّيِّد فضل الله، هو معرفته الاجتماعيَّة العالية، ومراقبته لحركة المجتمع، بحيث كان يفهم عندما يحتكُّ بالإشاعة مثلاً، الإشاعة التي تُلقى فيها فكرةٌ معيَّنةٌ ثمَّ تتحوَّل إلى حقيقة في أذهان عامّة النّاس، فكان يأخذ هذا المعطى ليُلقي بظلاله عنده، على إمكانيَّة أَن تتحوَّل بعض الأَفكار إلى حقائق من دون أَن يكون لها أَساسٌ صحيح. وبالتَّالي، هذا يُعطيه سَعة أُفق وشموليَّة أَوسع في فهمه للأجواء العامّة للمعرفة عموماً، بما قد يتّصل بعالم النصّ الديني، فكان يستخدمها في هذا الإطار ليحصل على النَّتائج.
إضافةً إلى ذلك، يتمتَّع السَّيِّد فضل الله بذوقٍ أَدبيٍّ عالٍ ورفيع، لأَنَّه كان أَديبًا، وكان شاعرًا، واحتكَّ باللُّغة كواقع، كحالةٍ وجدانيَّة، وليس كقواعد ربَّما تكون ناشئةً من اجتهاداتٍ المنظِّرين اللُّغويِّين، ما يجعلهم مختلفين فيما بينهم تبعاً لاجتهاداتهم. ولذلك عيشُ اللُّغة كأَدب، وَعي الاستخدامات اللُّغويَّة، التَّعبيرات اللُّغويَّة، هذا يُعطيه جودةً في فهم مضامين القرآن الكريم، ومضامين السُّنَّة الشَّريفة، بما يختلف عن فهم الآخرين الّذين ربَّما يتَّبعون القواميس اللُّغويَّة الّتي تجعلهم يفهمون من خلال فهم الآخرين، ولا يجعلهم يفهمون من خلال فهمهم هم.
إضافةً إلى ذلك، امتاز السَّيِّد فضل الله بأَنَّه كان يذهب إلى المصدر الأَصيل، بمعنى أَنَّه كان يعتبر بأَنَّ هناك تراثًا من التَّفكير الإسلاميّ في أَيِّ موضوعٍ من الموضوعات، وهذا التَّفكير تراكم عبر الزَّمن، وربَّما تأَثَّر بعضه ببعض، وربَّما أَخذ من ضعف البعض الآخر، أَو من قوَّة البعض الآخر في تفكيرهم، ليكوِّن في النهاية تفكير العلماء حول النصّ. والفكر المتكوِّن اليوم، حتَّى المشهورات، وحتّى ما يتَّفق عليه المسلمون (الإجماع)، هو ناشئٌ من تفكير العلماء في أَغلب الأَحيان، وقد يكون تفكيرهم مصيبًا، وقد لا يكون مصيبًا.
الّذي تميَّز به السَّيِّد فضل الله، منذ بداية دراسته، وانشغاله بالتَّفكير في الإسلام، فقهاً وفكراً ومفاهيم، أَنَّه كان يذهب مباشرةً إلى النَّصّ الأَصليّ، الذي من المفترض أَن يكون العلماء قدِ استخرجوا منه، ثمَّ يكوِّن فهمه لهذا النَّصّ، ثمَّ يُحاول أَن يقرأ ويستوعب ما كَتَبَه العلماء الآخرون، ليكون هناك فكرُه الّذي أَنتجه وفكرُ العلماء الآخرين. فإذا صمد فكره أَمام أَفكار الآخرين، فإنّ فكره إذاً يُعتبر هو الفكر الأَقوى الّذي يُعبِّر عن اجتهادٍ دقيقٍ ومتين. وإذا لم يصمد أَمام أَفكار الآخرين، فهذا يعني أَنَّ فكره ناشئ من ملاحظة جانب من الصَّورة. فعندما اطَّلع على الجوانب الأُخرى، أَعطاه غنًى ومعطًى جديدًا، فغيَّر وجهة نظره.
إذًا كمبدأ، الاجتهاد في النَّصِّ هو غير الاجتهاد في كلمات العلماء، وغيرُ الاجتهاد في نِتاج المفكِّرين. يُمكننا أَن نرصد اليوم خللاً في الاجتهاد، سواءٌ في المدرسة الإسلاميَّة الشِّيعيَّة، أَو في المدرسة الإسلاميَّة السُّنِّيَّة، وهو أَنَّ أَغلب الاجتهادات هي اجتهاداتٌ في كلمات العلماء، حتَّى إنَّ بعضهم أَصبح يفهم النَّصّ الدِّينيّ، القرآن الكريم والسُّنَّة الشَّريفة، من خلال قول المفسّرين والفقهاء، وليس من خلال ما يستخرجه هو من خلال ثقافته ومعارفه المتراكمة، الّتي قد تختلف عمَّا عند الآخرين، وقد يكون لديه ما ليس عند الآخرين.
وهذا ما أَمَّن للسَّيِّد فضل الله الانفتاح على فرضيَّاتٍ أَوسع من التَّي يذكرها العلماء، لأَنَّنا نعرف أَنَّ الذِّهنيَّة العلميَّة الموجودة في زمنٍ معيَّن، قد تكون محدودةً بحدود ثقافة هذا المجتمع وانفتاحه الاجتهاديّ، وبالتَّالي، يُمكن أَن يكون لدينا عددٌ محدودٌ من الفرضيَّات. إذا جعلنا تفكيرنا منحصرًا في دائرة هؤلاء، فإنَّه عندئذٍ لن ننفتح. نحن حكمنا مسبقًا على أَنَّ هذه الفرضيَّات هي فقط الفرضيَّات المحتملة، بينما الفكر البشريُّ هو أَوسع من ذلك، وقادرٌ على أَن يفترض فرضيَّاتٍ علميَّةً من خلال انشغاله بالمعطيات الجديدة الّتي تؤمّنها مجالات أخرى للمعرفة، وفرضيّاتٍ أُخرى أَوسع من هذه الفرضيَّات التي أَنتجها العلماء السَّابقون.
ولذلك، إنَّ خطورة أَن نقتصر في اجتهادنا على نِتاج العلماء، أَو أَن نفهم النُّصوص الأَساسيَّة التي نجتهد فيها في خلال فهم العلماء السَّابقين، هي أَنَّنا نُوجِدَ حدودًا للعقل العلميّ والاجتهاديّ في أَن ينفتح على إمكانيَّاتٍ للنَّصّ لم ينفتح عليها العلماء السَّابقون.
كلُّ العلماء اليوم يقولون في منهجهم الاجتهاديّ: «لا بدَّ من أَن يكون الاجتهاد في الكتاب والسُّنَّة»، لكن على مستوى الممارسة العمليَّة، نجدهم ينزلقون من حيث يشعرون أَو لا يشعرون، ربَّما نتيجة عوامل عديدة، منها: النَّصُّ العربيُّ أَحيانًا الّذي قد يكون يُواجه مشكلةً في فهم الإنسان غير العربيّ، فيحتاج إلى الشُّرَّاح الذين شرحوا هذا النَّصّ ليفهمه. عندئذٍ، هو يفهم هذا النَّصّ من خلال فهم هؤلاء.
إذًا، إنَّ المشكلة التي قد ينزلق إليها الفكر الاجتهاديّ، هو عندما ينطلق ليجتهد في كلمات العلماء، ويجتهد في النَّصّ من خلال كلمات العلماء. عندئذٍ نقع في إمكانيَّة الجمود في العقل الاجتهاديّ وعدم التَّطوير، لأَنَّ التَّطوير هو رهنٌ لتراكم المعرفة والانشغال الفكريّ عمومًا.
لذلك أَعتقد أَنَّه من أَهمِّ عناصر المنهج الاجتهاديّ لدى السَّيِّد فضل الله، هو انفتاح الاجتهاد لديه، بمعنى أَنَّه لا يقف عند حدود النِّتاج الموجود، ثمّ الذَّهاب إلى عمق النَّصّ الأَصليّ، وليس إلى الحواشي والهوامش المتراكمة حوله؛ وأَيضًا، الفهم الدَّقيق لحركة المجتمع والحياة، لأَنَّ النَّصّ كان يُلقى إلى المجتمع، ويتحرَّك في إطار نقل الرُّواة له (باستثناء القرآن الكريم)؛ وبالتَّالي الفهم العُرفيّ للنَّصّ، والفهم العامّ للنَّصّ، انطلاقاً من اللُّغة الّتي تعيش في إطار المجتمع.
ولذلك، فهم كلِّ هذه العناصر مع بعضها البعض، كان يؤَمِّن له حيويَّةً اجتهاديَّةً من جهةٍ، وشموليَّةً في النَّظرة إلى المسائل الاجتهاديَّة من جهةٍ ثانية؛ وكان يؤَمِّن له أَدواتٍ معرفيَّةً فكريَّة، ذوقيَّةً أَدبيَّةً رفيعةً، يستطيع من خلالها أَن يُمارس اجتهاده براحةٍ أَكبر. طبعًا، لديه تراكم معرفيٌّ ناشئ من تفسيره للقرآن، لأَنَّه فسَّر القرآن، واطَّلع على التَّفاسير الموجودة. إذًا، هو على اطِّلاعٍ أَكثر من غيره، الذين ربَّما لم يُفسِّروا القرآن، وإنَّما ينقلون تفسيراتٍ من هنا وهناك. لديه ذوقٌ أَدبيٌّ، أيضاً لديه الذَّهاب إلى النَّصّ مباشرةً قبل التأثّر بأقوال القارئين لها. كلُّ ذلك أَمَّن له انفتاحًا في الاجتهاد، استطاع من خلاله أَن يقرأَ النَّصّ بجودةٍ عاليةٍ أَكبر، وبشموليَّةٍ أَوسع، وبأَدواتٍ معرفيَّةٍ أَكثر من غيره.
أمّا دور القوَّة في نظر السَّيِّد فضل الله في الإسلام كنظام، وكيف هي مرتبطةٌ بفكرته الشَّرعيَّة، فقد دافع السَّيِّد فضل الله عن الإسلام باعتباره نظام قوَّة... فلنقل إنّي أَحسب أَنَّ هذه الشُّموليَّة التي أَمَّنت للسَّيِّد فضل الله القدرة على الابتعاد إلى مسافةٍ علميَّةٍ بعيدة، ليرى المشهد الإسلاميّ من بُعْد، ويرى الحركة الإسلاميَّة في كلِّ تجلِّياتها الواقعيَّة؛ أَيضًا من مسافةٍ تسمح له برؤية المشهد العامّ، من دون الاستغراق في كلِّ تفصيلٍ، أَمَّن له أَن يرصد بعض المفاهيم في شموليَّتها واتِّساع تجلِّياتها في الإسلام.
بتعبيرٍ آخر، لا أَستطيع أن آخذ مسافةً ناشئةً من أَنَّ منهجي يؤَمِّن لي حالةً من الاستغراق في جزئيَّاتٍ معيَّنة. يعني أَنَّ طبيعة صياغة شخصيَّتي العلميَّة والمعرفيَّة، أَو ذهنيَّتي العلميَّة والمعرفيَّة، تنزع نحو الخصوصيَّة والجزئيَّة. إنَّ السَّيِّد فضل الله قادرٌ على أَن يستغرق في الخصوصيَّة، لكنَّه يجد نفسه دائمًا معنيًّا بملاحظة المركَّب، النِّظام، النَّسَق. ولذلك، لم يستغرق السَّيِّد فضل الله، كفقهاء آخرين، في مسأَلة القوَّة في القوَّة المادِّيَّة، بحيث يرصد أَنَّ الإسلام اعتمد على الإعداد لرباط الخيل، والإعداد بالقوَّة العسكريّ، والعتاد، وما إلى ذلك، بل حاول أَن يخرج من ذلك، ليجد التَّركيب الإسلاميّ، في كلِّ حركته، يستهدف بناء عنصر القوَّة والتَّماسك في الشَّخصيَّة وفي تجلِّياتها وحركاتها، بحيث يغدو، في نهاية المطاف، مسأَلة استخدام القوَّة المادِّيَّة، أَعني في الجانب الجهاديّ أَو في الجانب العسكريّ، يُصبح جزئيَّةً صغيرةً تفرضها الظُّروف والوقائع قياسًا بحركة القوَّة كمفهومٍ وكهدفٍ استراتيجيٍّ في الإسلام.
لذلك نجد مثلاً أَنَّ السَّيِّد فضل الله يتحدَّث عن القوَّة الماليَّة: "المؤمن القويُّ خيرٌ من المؤمن الضَّعيف"، كما في الحديث الشريف. هذا يجعله يرصد عناصر القوَّة، فالصَّلاة (العبادة الّتي يُمارسها الإنسان)، تستهدف بناء عنصر القوَّة الرُّوحيَّة في مواجهة المتغيِّرات الّتي يُمكن أَن تضغط على الإنسان في مزاجه. فالإنسان المؤمن إنسانٌ قويّ، قادرٌ على ضبط انفعاله أَمام المستفزَّات، وأَمام عنصر الغضب أو الانحراف الّذي يأتي من هنا.
الإنسان المؤمن إنسانٌ قويّ يملك القدرة على التَّماسك، وعدم الانزلاق إلى أَيِّ موقف يُخالف قناعاته ومبادئه عندما يضغط عليه الفقر، أَو حتَّى عندما يضغط عليه الغنى، أَو عندما يُراد استمالته عبر المال، أَو عندما يُراد استمالته عبر الجنس، أَو عندما يُراد أَن يتحرَّك في إطار الرُّضوخ لعنصر القوَّة السُّلطويَّة، بمعنى أن تفرض عليه السُّلطة مواقف لا يقتنع بها.
ونجد أَنَّ المتانة الرُّوحيَّة الّتي يسعى الإسلام إلى بنائها عبر العبادة (وهي الصَّلاة)، أَو عبر الصِّيام، أَو عبر الزَّكاة، حتَّى بمعنى إخراج حبِّ المال من نفس الإنسان، بذل المال، الإحساس بالآخرين، النَّظر إلى المال كأَمرٍ زائدٍ عن الشَّخصيَّة وليس في عمق الشَّخصيَّة، وما إلى ذلك، كلُّ هذا يهدف إلى تدريب الإنسان على استخراج عنصر القوَّة في داخل شخصيَّته أو امتلاك هذا العنصر، ليكون هذا الخارج (تحرُّكه) تعبيرًا عن الدَّاخل.
من الطَّبيعيّ عندئذٍ أَن يجد السَّيِّد فضل الله أَهمِّيَّة البناء الرُّوحيّ، لكن ليس كمسأَلةٍ تجعل الإنسان يستغرق في البناء الرُّوحيّ بمعزلٍ عن حركته في المجتمع. يعني، نجد أَنَّ إنسانًا ما، قد يعيش الانغماس في العبادة، إلى درجةٍ يشعر بالقوَّة الرُّوحيَّة التي تنفتح به على الله سبحانه وتعالى، أَو تنفتح به على الإحساس بالخشوع بين يدي الله، لكنَّ هذا الإنسان انعزل عن المجتمع، فانعزل عن التَّدرُّب على استخدام قوَّته الرُّوحيَّة في مجالاتٍ أُخرى. ولذلك عندما يخرج هذا الإنسان إلى اختبارٍ بسيطٍ متعلِّقٍ بالمال، أَّو اختبارٍ بسيطٍ متعلِّقٍ بالأَخلاق، أَو اختبارٍ بسيطٍ متعلِّقٍ بالغضب، قد لا يملك هذا الإنسان القوَّة في هذا الجانب بما يسمح له بالتوازن وأخذ الخيار المنسجم مع مبادئه.
ولذلك، التَّركيز على جانب القوَّة العباديَّة فقط، لا يُعطي بالضَّرورة قوَّةً في الجانب الاجتماعيّ، أَو في الجانب السِّياسيّ، أَو في الجانب الاقتصاديّ، أَو ما إلى ذلك، فهناك فرق. مثلاً لدى السَّيِّد فضل الله، هناك فرقٌ ـ وهذا طبعًا من خلال الرِّوايات، ومن خلال النُّصوص الدِّينيَّة ـ بين أن لا يعصي الإنسانُ اللهَ سبحانه وتعالى، وبين أَن لا ينزلق إلى أَن يقف موقفًا ضدَّ مبادئه، لأَنَّه لا يملك الأَدوات. بمعنى، هو لم يُبتلَ بعد، وبالتَّالي، هو معزولٌ عن المجتمع، ومن الطَّبيعي أَنَّه سيكون أَخلاقيًّا. لماذا؟ لأَنَّه لم يحتكّ بأَحدٍ يُغضبه، لم يحتكّ بأَحدٍ يُؤذيه، لم يحتكّ بأَحدٍ يُسيء إليه. وبالتَّالي، لم يُختبر عندئذٍ، هل يغضب أَو لا يغضب؛ لم يُختبر أَنَّه هل يعفو أَو يقتصّ؛ لم يُختبر، كيف يتصرَّف مع الإساءة من قِبَل الآخرين. إذًا، نقول هو أَخلاقيّ، لأَنَّه لم يحتكّ بأَيِّ مثيراتٍ للجانب الأَخلاقيّ لديه.
لكنّ هناك فرقاً بين هذا النَّحو من الصِّفة الأَخلاقيَّة وبين نحوٍ آخر، وهو أَنَّ الإنسان يُصلِّي في المسجد ثمَّ يخرج إلى المجتمع، ويُريد للزَّاد الرُّوحيّ، الّذي حصل عليه من صلاته، أَن يتحرَّك في المجتمع، ليجد الإنسان، هل إنَّ صلاته مستثمرةٌ بشكلٍ جيِّدٍ أَو لا.
إذًا، هنا يبني الإسلام عنصر القوَّة، ويُريد من الإنسان أَن يعبد الله من خلال الصّلاة ونحوها، ولكن يريد من الإنسان أَن يعبد الله عبادةً أُخرى، هي عبادته في المجتمع، بمعنى أَن يُحقِّق من نفسه امتثال المبادئ. وهكذا نجد أَنَّ هناك ترابطاً بين الصَّلاة كعبادة، بين الصَّلاة كتعبيرٍ عن العقيدة، وهي التَّوحيد الّذي يُخرج الإنسان من داخله، ومن وفكره ، ومن وِوجدانه، كلِّ شيء، ما عدا الله سبحانه وتعالى، وبين الحياة الاجتماعيَّة الّتي يختبر فيها الإنسان مَلَكاته، وبين الجانب النَّفسيّ عندما يواجه الإنسان الصِّعاب والشَّدائد؛ وبين الجانب الجهاديّ عندما يواجه الإنسان العدوّ.
ولذلك قيل عن الجهاد إنَّه صنفان: جهادٌ أَصغر، وهو جهاد العدوّ الذي يراه الإنسان؛ وجهادٌ أَكبر، هو جهاد هذه النَّفس من الدَّاخل، في محاولة تقويتها لمواجهة العدوِّ الدَّاخليّ الّذي هو هذه النَّفس ، أَو هو الشَّيطان، كما عبَّر القرآن الكريم والدّين عموماً.
فالشُّموليَّة إذا، والقدرة على الدُّخول إلى عمق التَّفاصيل والخروج إلى ما هو أَبعد من المساحة الّتي يستغرق فيها الإنسان بالتَّفاصيل، حيث يصبح يرى المشهد ككلّ، سمحا للسَّيِّد فضل الله باختبار الجزئيّ كما باختبار الكلِّيّ. سمحا له برؤية المفردات، وسمحا له بتركيب النَّسق؛ النَّسق العام والنِّظام العامّ. ولذلك نجد السَّيِّد فضل الله لا يطرح الأُمور مفصولةً عن بعضها البعض، ولا يؤمن بالاستغراق بجانبٍ دون جانب، بل يُحاول دائمًا أَن يرصد المشهد العامّ للإسلام، ويُحاول أَن يُركِّب لدى الإنسان كلَّ عناصر هذا المشهد العامّ، ليجد الإنسان الصُّورة كلَّها أَمامه.
ولذلك، لم يقع السَّيِّد فضل الله، حتَّى في مواقفه، في منزلقاتٍ جزئيَّة، ليستعدي الغرب بكلِّه؛ وليعتبر أَنّ كلَّ علمٍ نشأَ في الغرب، مثلاً، هو ليس علمًا إسلاميًّا؛ أو ليعتبر، مثلاً، أَنَّ العقل الإسلاميّ هو العقل الكامل المتطوِّر، بينما العقل الآخر هو العقل الّذي لا يفقه شيئًا. بالعكس، اعتبر السَّيِّد فضل الله أَنَّ التَّجربة الإنسانيَّة الفكريَّة هي تجربةٌ يُمكن أَن تُسهم في بلورة فهم الإنسان للواقع وللإنسان وللمجتمع، قد يُخطئ الآخرون وقد نُخطئ نحن.
لذلك، انتقد من هم خارج الإطار الإسلاميّ من المفكِّرين، وانتقد من هم داخل الإطار الإسلاميّ من المفكِّرين، وحاول أَن يلتمس العنصر الشَّامل والنَّظام الكامل، من أَجل أَن لا يستغرق المسلمون في جزئيَّةٍ هنا أَو جزئيَّةٍ هناك؛ لأَنَّنا نحتاج إلى أَن نختبر الرّؤية الكلّية للنظام الإسلامي؛ لأنّ هذه الرؤية تُعطي البعد الحضاريّ للإسلام، الّذي يستطيع أَن يفهمه الذين يشتغلون في الأَبعاد الحضاريَّة للاتِّجاهات، ليقف الإسلام إلى جانب كلِّ الأَنظمة الكلِّيَّة التي ينطلق بها المفكِّرون: نظام علمانيّ، نظام اشتراكيّ أو شيوعي، أو نظام رأسماليّ، أو اتِّجاه مثاليّ أو براغماتي. نقول: هذا الإسلام، بنظامه المتكامل، الّذي لا ينفصل فيه شيءٌ عن شيء، ويطرح نفسه كبديلٍ من هذه الأَنظمة الحضاريَّة الموجودة، هذا الإسلام، لن يكون من خلال الاستغراق في جزئيَّات، وإنَّما يحتاج إلى الرُّؤية الكلِّيَّة.
رصد السَّيِّد القوَّة الرُّوحيَّة، رصد القوَّة الاجتماعيَّة الّتي لها علاقةٌ بتماسك المجتمع ككلّ، لأَنَّ كثيرًا من التَّعاليم قد نفهمها على أَنَّها مسائلُ بسيطةٌ مرتبطةٌ بعالم الأَخلاقيَّة الفرديَّة، بينما هي قد تدلُّ على مسأَلة كبرى.
القوَّة الاقتصاديَّة مثلاً: عندما جعل الإسلام الشُّكر للنِّعمة، شكر الله على النِّعم الّتي أَعطانا إيَّاها، هو مسأَلةٌ تطويريَّةٌ للحياة الاقتصاديَّة، وللثَّروات الطَّبيعيَّة والاستفادة منها. لذلك، مثلاً، عندما يكون لدى الإنسان نهر ماء، فإنَّ شكر النِّعمة على هذا النَّهر ليُولِّد منه الطَّاقة الكهربائيَّة؛ شكر الله على هذه النِّعمة هو أَن يستخدمه في ريِّ المزروعات؛ شكر الله على ذلك بأَن يُعطيه حتَّى للآخرين، أَن يُنفقه في سبيل الله للّذين يحتاجونه، وهكذا.
إذًا، نحن أَمام ربط وإيجاد عناصر القوَّة الاقتصاديَّة في الإسلام، حتَّى من خلال الأَخلاقيَّة العاديَّة. عندما يُقال لك: لا تُسرف ولو كنتَ على نهرٍ جارٍ. معنى ذلك أَنَّك مسؤولٌ عن ابتداع أَو اكتشاف عناصر السِّياسة التَّي لا تلتقي بالهدر، هدر الطَّاقات، وهدر الثَّروات، وما إلى ذلك. هذا كلُّه يعني أَنَّ عمليَّة بناء القوَّة لا تقتصر على جانبٍ دون جانب، بل هي تتحرَّك ضمن الاتِّجاهات العقلائيَّة التي تتحرَّك بها كلُّ الحضارات.
غاية ما هناك، أَنَّ الإسلام يختلف عن كلِّ هذه الحركات الحضاريَّة، والاتِّجاهات الحضاريَّة العالميَّة، أَنَّ لديه نظامًا متماسكًا، يتجانس فيه الفكر العقيديّ مع الجانب العباديّ، مع الجانب الفرديّ، مع الجانب الاجتماعيّ، مع الجانب المثاليّ، مع الجانب الواقعيّ، مع الجانب الأَخلاقيّ، مع الجانب العمليّ السُّلوكيّ. كلُّ هذه العناصر تتشابك فيما بينها.
والسَّيِّد فضل الله، من خلال ما تحدَّثت عنه من عناصر منهجيَّة، استطاع أَن يرصد هذا المشهد العامّ، وهذه الصُّورة المتكاملة.
* قسم من مقابلة بحثية حول العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله(رض)