وفيه مسائل:
ـ الوكالة من العقود، فلا بد فيها من الإيجاب والقبول بكل ما يدل عليهما من لفظ أو كتابة أو معاطاة، فلو دفع إلى شخص ماله بقصد أن يتوكل عنه في بيعه، فأخذه الآخر قاصداً التوكل عنه، تحقّقت به الوكالة.
وهي من العقود الجائزة من الطرفين، فللوكيل أن يعزل نفسه ويخرج من عهدة الوكالة ساعة يشاء، سواءً مع حضور الموكل وعلمه أو مع غيبته وجهله؛ وكذا يحق للموكِّل أن يعزله ـ أيضاً ـ بنفس النحو، لكنَّ فِعْليَّة الانعزال مشروطة بعلم الوكيل بها، فلو أنشأ عزله دون أن يبلغ الوكيل، وتصرف الوكيل خلال ذلك بالنحو الذي كان موكلاً به، صح ما وقع منه ولم يكن للموكِّل الرجوع فيه إن كان لازماً.
نعم، إذا اشترط أحدهما على الآخر عدم فسخ الوكالة دائماً أو إلى مدة معينة، وجب الوفاء بالشرط، فإن خالف الموكِّلُ الشرط ففسخ الوكالة، أو خالف الوكيلُ شرط الموكِّل فاعتزل العمل وفسخ الوكالة، أثم المخالف على كل حال، ولكن انفساخ الوكالة محل إشكال، فلا يترك الاحتياط بلزوم مراعاة آثار الانعزال وعدمه من قبل الطرفين. وهذا النحو من الاشتراط يصطلح عليه بــ(شرط الفعل)، وحكمه الذي تقدم لا يقتصر على الوكالة، بل يجري في كل عقد جائز اشتُرط عدم فسخه، سواءً ضمن عقد جائز أو لازم. غير أن ثمة نوعاً آخر من الاشتراط يصطلح عليه بــ (شرط النتيجة)، وذلك كما لو قالت المرأة: «زوجتك نفسي بشرط أن أكون وكيلة عنك في طلاق نفسي»، فإن الوكالة تكون لازمة إذا قبل الرجل.
ـ تنفسخ الوكالـة وتبطـل ـ إضافة لفسخها اختياراً من قبل أحدهما ـ بأمور:
الأول: بموت الوكيل أو الموكل؛ وكذا بموت أحد الوكيلين المنضمين (
أنظر المسألة: 430).
الثاني: بغياب عقل أحدهما غياباً دائماً بالجنون أو الإغماء، وكذا لو كان الغياب لمدة طويلة تقدر بالأشهر والسنين؛ أما إذا كان أدوارياً، واقتصرت مدة غيابه على الأيام والأسابيع، فالأقوى عدم البطلان.
الثالث: بتلف موضوع المعاملة الموكَّل بها، كأنْ وكَّله بشراء كتاب فتلف، أو بتزوج امرأة فماتت. أما لو وكله بقبض دينه من شخص، أو مخاصمته عند الحاكم بحق له عنده، فمات المدين أو الخصم، بطلت الوكالة ما لم يكن قد نص على توكيله بقبضه من ورثته أو مخاصمتهم.
الرابع: بقيام الموكِّل بتصرف مخالف لمضمون الوكالة الخاصة، كأن يوكله ببيع داره فيوقفها الموكِّل أو يهبها؛ وكذا تبطل الوكالة بإنجاز الموكل ما وكله بفعله، كأن يوكله ببيع داره فيبيعها هو قبل أن يبيعها الوكيل، فإن حدث ذلك صحت معاملة الموكِّل ما دامت هي السابقة إضافة إلى بطلان الوكالة بها، أما إذا كان بيع الوكيل هو السابق فإنه يصح عمله وينفذ دون بيع الموكِّل، وينتهي بذلك دوره كوكيل خاص تلقائياً؛ ولو فرض أنهما قد أوقعا المعاملة في وقت واحد، بطلتا معاً، وبطلت بها وكالة الوكيل، ولزم الموكِّل إنشاءُ معاملة البيع مرة ثانية.
هذا إضافة إلى ما سنذكره من موارد بطلان الوكالة في مواضعها المناسبة، وذلك كبطلانها بعروض السفه على الموكِّل، وبمخالفة الوكيل مقتضيات مَوْقعه في المرافعة لصالح وكيله وانقلابه ضده. (
أنظر المسألة: 440).
ـ لا تثبت الوكالة عند الاختلاف إلا بإقامة مدّعي الوكالة البيّنة على مدّعاه، فإن لم تكن له بينة كان القول للمنكر مع يمينه. نعم إذا تقدم شخص بدعوى على غيره مدّعياً وكالته عن المدعي دون أن تكون معه بيّنة على مدّعاه، وأحضر معه خصماً يُصدِّقه على ادعاء الوكالة، لزم الحاكم سماعُه والنظرُ في دعواه رغم عدم ثبوت وكالته عن المدعي، وذلك دون أن يثبت باستماع الحاكم له كونه وكيلاً عمن يدعي وكالته، ولا أن يحتـج به ـ فيما بعد ـ على الموكل لو أنكر توكيله؛ فإذا كانت نتيجة المرافعة ثبوت حق على المدّعى عليه لزمه أداؤه بعدما كان قد صدّق مدعي الوكالة وقبِلَ بمخاصمته، وأما إذا ثبت الحقُّ للمدعى عليه عند مدعي الوكالة، ومن خلاله عند موكِّله، رَجَعَ الأمر إلى (الموكِّل)، فإن صدّقه في وكالته لزمه الحكم الصادر لصالح المدّعى عليه، وإن لم يصدقه، وحلف على عدم توكيله له، مضى مدعي الوكالة ولا شيء عليه؛ ولكن رغم تَنْحية مدّعي الوكالة وسقوط ادعائه الوكالة عن (الموكِّل، ولْنُسمِّه: زيداً)، وهو الذي صدر الحكم عليه لصالح المدعى عليه، فإن القضية المتداعى بها تظل قائمة إذا أخذ زيد صفة المدعي بدلاً عن الوكيل المُنَحَّى، وكان عليه إثبات حقه بالبينة، فإن لم يقدم بيّنة على إثبات حقه عند المدعى عليه، والمفروض أن المدعى عليه كان قد أثبت عدمه بالبينة أو بالحلف، مضى المدّعى عليه دون أن يكون عليه شيء للمدعي.
ـ يعتبر في المتعاقدين أمور نذكرها كما يلي:
أولاً: يعتبر فيهما العقل والقصد والاختيار.
ثانياً: يعتبر في الموكِّل إذنُ الولي إذا كان صبياً مميِّزاً، فيما لا يعتبر ذلك في الوكيل بل يصح توكيل الصبي المميز بدون إذن وليه، وتنفذ تصرفاته وتصح في جميع ما وُكِّل فيه.
ثالثاً: يعتبر في الموكِّل عدم الحجر بسفه إذا كانت الوكالة في الماليات، فإذا وكَّل السفيهُ لم تصح الوكالة، بل ولا يصح تصرف الوكيل من قبله حتى لو وقع التصرف بعدما ارتفع سفه الموكِّل، ولزمه إنشاء وكالة جديدة. في حين تصح وكالة المحجور عليه لفلس في أمواله المحجور عليها لكن لا ينفذ تصرف الوكيل خلال فترة الحجر، فإذا زال صح تصرف الوكيل ونفذ.
أما الوكيل فلا يعتبر فيه عدم الحجر بفلس أو سفه ما دام الموكل غير محجور عليه، لاختصاص مانعيتهما بأموال المفلِّس والسفيه لا بأموال غيرهما.
رابعاً: يعتبر أن يكون الوكيل قادراً على مباشرة ما وَكِّل فيه، فلا يصح ـ بل يحرم ـ توكيل المُحْرم بما يَحرُمُ عليه فعله حال إحرامه، حتى لو كان التوكيل بلحاظ فعله بعد الإحلال من إحرامه، مثل توكيله بشراء الصيد أو قبض ما اشتراه منه أو إنشاء عقد النكاح، ومثل ما لو وكَّلَ الحائض بكنس المسجد عنه، ونحو ذلك.
ـ لا يشتـرط الإسـلام فـي الوكيـل، فيصح توكُّـل الكافـر ـ بل والمرتد عن فطرة ـ عن المسلم، بما في ذلك توكيله باستيفاء حق هذا المسلم من مسلم آخر، أو مخاصمته فيه.
ـ لا يعتبر التنجيز في الوكالة، بل يجوز تعليقها على أمر آخر، كأن يجعله وكيلاً إذا قدم زيد من السفر، أو إذا حل رأس الشهر؛ فضلاً عن أنه يجوز تعليق ما وكله القيام به، كأن يجعله وكيلاً في بيع داره إذا ارتفع سعرها، أو في الوقت الفلاني، فإنه يكون وكيلاً عنه ولكن لا ينفذ تصرفه إلا بتحقّق ما علقه عليه.
ـ يجوز أن يتوكل إثنان فصاعداً عن واحد في أمر واحد، فإن فُهم من كلام الموكل جعل كل منهما وكيلاً منفرداً عنه، ساغ لكل منهما أن يبادر إلى فعل ما وكَّله فيه دون مراجعة الآخر؛ وإن لم يُفهم ذلك منه، بل صَرَّح بالإنضمام أو أطلق التوكيل، كأن قال: «وكلتكما» لم يجز تصرف أحدهما دون موافقة الآخر أو مشاركته؛ ويترتب على ذلك أنه مع الإنفراد لا تبطل وكالة أحدهما بموت الآخر، فيما تبطل وكالته بموته مع الإطلاق أو التصريح بالانضمام. وكذا يجوز أن يتوكل شخص واحد عن اثنين أو أكثر في عمل واحد، كشراء شيء لهم على نحو الاشتراك، أو في أعمال مختلفة، وذلك ما عدا الترافع في مخاصمة، فإنه لا يصح أن يتوكل في قضية واحدة عن كلا المترافعين معاً، فيما يصح أن يتوكل في أكثر من قضية عن طرف واحد في كل قضية.