يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}.
من أهل البيت (ع) خاتمة الإمامة، إمام العصر والحياة والعدل، الّذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً.
نستقبل ليلة النّصف من شهر شعبان، ليلة العبادة والدّعاء والابتهال والقرب إلى الله تعالى في الانفتاح عليه، في حساب النّفس والتّخطيط لأن يكون الإنسان طائعاً لله في عبوديته المطلقة أمام الألوهيّة المطلقة، حتى يقترب الإنسان من ربّه، فيقترب من الإنسان الآخر ومن الحياة كلّها.
الحلم الكبير
في هذه الليلة المباركة، كانت ولادة إمامنا (عج)، الذي التقت كل آفاق سرّه ومعناه والإعداد الإلهي لشخصيّته، ليجعل بذلك نهاية الحياة نهاية الظّلم كلّه، ولتصبح الحياة كلّها عدلاً ـ ولأوّل مرة ـ لا يظلم فيها إنسان إنساناً، ولا يعتدي فيها إنسان على إنسان.
هذا هو الحلم الكبير الذي لايزال الناس في كلِّ أجيالهم يتطلّعون إليه، لأن الناس منذ قابيل وهابيل عرفوا كيف ينطلق الإنسان في عدوانيّته التي تتحرك من خلال الحسد أو العناصر السلبيّة الأخرى في شخصيّته ليقتل أخاه.. وهكذا عاشت البشرية ظلماً بعد ظلم، وأرسل الله الأنبياء لإزاحة هذا الظلم، ولكنّ أعداء الله والحياة كانوا يقتلون النبيّين بغير حقّ، كما هي سيرة اليهود في تاريخهم، وينقضون عهد الله من بعد ميثاقه.
لذلك، كانت مسألة المهدية في الإسلام التي خُتمت بها الإمامة التي تمثّل الامتداد الحركي والثقافي للرسالة، فالأئمّة (ع) رسل الرسول (ص)، وهم الذين ينطقون عنه ويؤصّلون كلَّ ما ورد من سنّته، ليقدّموها إلى الناس، ليروا في السنّة تفاصيل الكتاب، وليروا في الكتاب عناوين السنّة.
المهدي فكرة جامعة
ويلتقي المسلمون كلّهم بفكرة الإمام المهدي (عج)، وإن اختلفوا في بعض التّفاصيل. وقد ذكر ابن خلدون في مقدّمته أن الروايات التي وردت عن النبي (ص) في الإمام المهدي (عج) بلغت حدّ التواتر، بحيث أصبحت من الضروريات التي لا يمكن أن يشكّ فيها أحد. ولذلك، روى السنّة والشيعة عن رسول الله (ص) ذلك، فمن الروايات التي رواها علماء أهل السنّة: "لا تذهب الدنيا حتى يلي رجل من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي". وعن أبي حذيفة الصحابي قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: "ويح هذه الأمّة من ملوك جبابرة، كيف يقتلون ويخيفون المطيعين إلا من أظهر طاعتهم، فالمؤمن التقي يصانعهم بلسانه، ويفرّ منهم بقلبه، فإذا أراد الله عزّ وجلّ أن يعيد الإسلام عزيزاً، قصم كلّ جبّار عنيد، وهو القادر على ما يشاء أن يصلح أمَّة بعد فسادها"، وهو (ص) يتحدث عن المستقبل الذي تتغيّر فيه حالة الإنسان من الظلم إلى العدل. ثم قال (ص): "يا حذيفة ـ وهو يشير إلى الشخصية التي يمكن أن تقود هذا التغيير الجذري ـ لو لم يبقَ من الدنيا إلا يوم واحد، لطوّل الله ذلك اليوم حتى يملك رجل من أهل بيتي تجري الملاحم على يديه ويُظهر الإسلام، لا يُخلف الله وعده، إنه سريع الحساب"، إنّه وعد الله الذي لا بدّ أن يتحقّق.
وفي الحديث عن النبي (ص) رواه أبو سعيد الخدري: "لاتنقضي السّاعة حتى يملك الأرض رجل من أهل بيتي، يملأها عدلاً كما ملئت من قبل جوراً". ويقول (ص): "إني مخلّف فيكم الثقلين؛ كتاب الله عزّ وجلّ وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض"، ليؤكّد (ص) من خلال هذا الحديث، أنه مادام الكتاب بين أيدي المسلمين، فهناك رجل من عترته في الموقع القيادي للإمامة، وهذا لا ينطبق إلا عليه(عج).
حضور دائم
عندما نتذكره (عج) في هذه المرحلة من حياتنا، فكيف نستوحي ذلك؟ لن نخوض في الحديث عن مسألة طول العمر وقصره، لأنّ الله تعالى حدّثنا عن نبيّه نوح (ع) أنه لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، والعلم يقول بأن لا مانع من أن يعيش الإنسان عندما يُكتشف سرّ الحياة آلاف السنين، والله تعالى حدّثنا عن خلود المتقين في الجنة وعن خلود الكافرين في النار، فالمسألة بُحثت ولم يبق فيها إشكال.
إن هناك كلاماً لايزال يدور، وهو أن الإمامة تمثل في الواقع الإسلامي، على المستوى القيادي والثقافي والحركي، حضوراً دائماً متحرّكاً للإمام الذي يعيّنه الله تعالى من خلال رسوله (ص)، فما الفائدة من إمام يغيب عن أنظارنا لا نستمع إلى أيّ توجيه من توجيهاته، ولا إلى أيّ درس من دروسه، ولا نجد أيّ حركة قيادية في نشاطه؟ إن الجواب عن هذا هو أنّ الله تعالى جعل للإمامة دورين؛ دوراً يتحرّك في تفاصيل الواقع الذي يعيش فيه الإمام، وفي هذه الحالة يقوم الإمام ـ كما قام الأئمة الأحد عشر ـ بدوره في تأصيل الثقافة الإسلاميّة ضدّ من يريدون أن يهمّشوها، وفي الإيحاء بالحركة المواجهة للكفر والظلم وإيجاد الخطط اللازمة تبعاً للظّروف المحيطة بالإمام.
وقد ترك الأئمة من أهل البيت (ع) ثروة ثقافيّة فكريّة عقيديّة شرعيّة منهجيّة حياتيّة، بما يكفي الناس في جزئياتها وكلياتها وفي كل قواعدها. ولهذا رأينا الإمام الحجّة (عج) في توقيعه الذي أرسله إلى بعض من سأله في أيام الغيبة الصغرى، عن طريق سفرائه، عن بعض المسائل، فأجاب عنها، ثم قال: "وأما الحوادث الواقعة ـ عند طروء بعض الأحداث التي تريدون أن تعرفوا حكمها والطريقة في العمل عليها ـ فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا"، ورواة أحاديثهم هم العلماء الذين يحملون كلّ هذا التراث، ويعرفون كتاب الله معرفة ثقافية منفتحة على الحياة كلّها وعلى الإنسان كلّه، والذين يعرفون سنّة رسول الله (ص) في ما صدر عنه من قوله وفعله وتقريره، ويعرفون ما صدر عن عليّ (ع) والأئمة من ولده، والذين استطاعوا إغناء العقل الإنساني والحياة الإنسانيّة بكلّ الثقافة الإسلامية، كما لو كان النبي والأئمة موجودين. فالإمام (عج) عندما استأثر الله بغيبته، لم يترك الأمة في فراغ ثقافي، لأن ما بقي للأمّة من تراث إسلامي يمكن أن يملأ كلّ فراغها.
ولذلك، لانزال حتى الآن في طول العالم الإسلامي وعرضه، ننهل من معين هذا التراث، وكذلك كلّ المجمعات الثقافية والحوزات العلميّة وكلّ ساحات الصراع الفكري مع الآخرين، ولاتزال الأمّة من خلال علمائها ومفكّريها تغتني بما لديها من كتاب الله تعالى وسنّة رسوله (ص) وتراث أئمّة أهل البيت (ع)، مما اجتهد به المجتهدون وفكّر فيه المفكّرون، من دون أن تشعر بأيّ فراغ هناك، كما لو كان الإمام (ع) موجوداً بينهم، لأنّ وجود الإمام لا يقتصر على وجوده البارز، ولكن يتمثل وجوده بوجود الإمامة، ووجود الإمامة إنما هو من خلال كلّ هذا الغنى الثقافيّ.
ولذلك، إذا أردتم أن تستشعروا ذلك بوجدانكم، فإننا نذكر رسول الله (ص)، هل يحسّ أحد منكم بأنه ميت؟ نحن نشعر بأنه حيّ كما لو أنّه أمامنا، لأننا عندما نعيش كل ما قاله وعمله في سيرته وما قرّره، نشعر بأنه أمامنا، وهو أكثر حضوراً من كثير من الناس الذين يعيشون بيننا. وهكذا عندما نتذكر عليّاً (ع)، نشعر بأنه حيّ، لأن الحياة الفكرية والروحية هي امتداد للإنسان أكثر من الحياة المادية..
لذلك، نحن نشعر بأن رسول الله (ص) والأئمّة (ع) من بعده والصحابة الذين كانوا معه أشدّاء على الكفار رحماء بينهم، لايزالون أحياء بيننا في كلّ هذا التاريخ الذي يحمل فكر الإسلام. هذا دورٌ من أدوار الإمامة، وقد قام الأئمّة بدورهم خير قيام في كلّ مسؤوليّاتهم القيادية والثقافية والروحية.
إقامة العدل في الأرض
وهناك دور آخر للإمامة، وهو دور الإمامة المتحركة عالمياً وإنسانياً، والتي يختم الله فيها الحياة، كما جاء في حديث رسول الله (ص): "لا تنقضي الدنيا حتى يملك رجل من أهل بيتي، يُظهر الإسلام ويهلك كلّ جبار عنيد، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً". وهذه الإمامة تختلف عن تلك، وإن كانتا تلتقيان في أصل المبدأ، فهما تتحرّكان من رسول الله ودين الله، لأنّ الإمام لا يأتي بدين جديد، فهم ينطلقون من الإسلام، ولذا نحن نقول في دعاء الافتتاح: "اللّهمّ أظهر به دينك وسنّة نبيّك، حتى لا يستخفي بشيء من الحقّ، مخافة أحدٍ من الخلق". فالقضيّة أنه يأتي ليُظهر الدين ظهوراً فكريّاً حركيّاً على مستوى العالم. والإمامة على مستوى العالم، في الحركة القياديّة التي تجدّد الحركة الثقافيّة بعد أن ابتعدت عن عقول النّاس، تحتاج إلى إعداد إلهيّ مباشر، وذلك لتقريبها إلى عقول النّاس بعد أن ابتعدت عنهم.
سرّ إلهيّ
ولذلك، نحن لا نملك أيّ معلومات تفصيليّة كيف هي حياة الإمام المهدي (عج)، لأنّ غيبته هي سرّ من أسرار الله، وغيبٌ من غيب الله لم يطلعنا عليه، ولأنّ الإمام (عج) يعيش في ذلك الأفق الإلهيّ الرّوحيّ الذي يصنعه الله فيه على عينه، كما أوحى الله تعالى إلى موسى (ع): "ولتُصنع على عيني"، فهناك، مما يحتفظ الله بسرّه، نوعٌ من الإعداد الرّوحي والفكري والنفسي والقيادي والحركي للإمام تحت سمع الله وبصره، لتتكامل شخصيّته بشكل مباشر في رعاية الله وتربيته وإعداده لها، لأنّ دور الإمام (عج) هو أن يختصر كلّ رسالات الأنبياء في حركته ودوره. لذلك، فلا بد له أن يعيش الأنبياء والأئمة بكلّ رسالاتهم ودعواتهم، ولا بد له أن يعيش الحياة كلّها والإنسان كلّه تحت رعاية الله وليصنعه على عينه.
لذلك، فإن هذا سرّ من أسرار الله وغيب من غيبه، استأثر الله به، وأراد تعالى ـ بحسب حكمته وتدبيره ـ إعداده لهذا الدّور العالمي الرّحب، حتى لا يبقى في العالم شيء اسمه الظّلم والباطل، ليعيش النّاس أخلاق الجنّة في الدّنيا قبل أن ينتقلوا إلى الجنّة في الآخرة، فللجنة أخلاقها وقوانينها وأجواؤها، فلا يجوز أن ندخل الجنّة ونحن معقّدون وظالمون ومنحرفون، ونحن نكره بعضنا بعضاً، ويتعصّب بعضنا ضدّ بعض. إنّ عليّاً (ع) ـ ومَن منّا يفهم عليّاً؟! ـ يقول: "أبمثل هذه الأعمال تريدون أن تجاوروا الله في دار قدسه؟! هيهات! لا يُخدع الله عن جنّته".
الارتقاء إلى مستوى المناسبة
في ذكرى هذه الولادة المباركة، وفي ليلة النصف من شعبان التي تصادف هذه الليلة، علينا أن نرتفع بأرواحنا إلى الله تعالى، ونفتح قلوبنا لله، حتى ننزع منها كل حقد وبغضاء وسوء، لأنّ قلوبنا هي عرش الله، فهل تقبلون أن يكون عرش الله محلاً لعصبياتكم وأحقادكم وظلمكم؟ إنّ رسالة الإمام المهدي (عج) لكلّ الناس: كونوا مع العدل العالمي الشامل، كونوا مع كل صوت للعدل حتى لو كان هذا الصوت لا يلتقي معكم في دينكم، لأنّ الله تعالى يريد العدل لكلّ الناس، فالعدل فوق الصداقات والعداوات: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى? أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى?}. وقد عاش الإمام زين العابدين (ع) هذا الجوّ الرسالي في دعائه، إذ يقول: "اللّهمّ ارزقني التحفظ من الخطايا، والاحتراس من الزلل، في الدنيا والآخرة، في حال الرّضى والغضب، حتى أكون بما يرد عليّ منهما بمنزلة سواء، عاملاً بطاعتك، مؤثراً لرضاك على ما سواهما في الأولياء والأعداء، حتى يأمن عدوّي من ظلمي وجوري، وييأس وليّي من ميلي وانحطاط هواي".
نسأل الله تعالى أن يرينا تلك الطلعة الرّشيدة والغرّة الحميدة، وأن يجعلنا من أنصاره وأعوانه والمجاهدين والمستشهدين بين يديه، ليجعلنا مع محمّد وآله (سلام الله عليهم)، حتى نستطيع أن ننطلق معهم إلى الله ولا شيء إلا الله.
*من خطب الجمعة الدّينيّة - العام 2003.