أشاد الإسلام بالعقل وأحكامه، ودعا إلى تحرّره من التقاليد والأوهام، ونعى على العرب وغير العرب الذين لا يفقهون ولا يعقلون، ويؤمنون بالسّخافات والخرافات، وقد أنزل الله في ذلك عشرات الآيات، وتواترت به عن الرّسول الأعظم الأحاديث والروايات، وأفرد له علماء المسلمين أبواباً خاصّة في كتب الحديث والكلام والأصول.
سؤال: وتسأل - أيّها القارئ - هل معنى إشادة الإسلام بالعقل أنّه يدرك صحّة كلّ أصل من أصول الإسلام، وكلّ حكم من أحكام الشّريعة، بحيث إذا حقّقنا ومحّصنا أيّة قضية دينيّة في ضوء العقل، لصدقها وآمن بها إيمانه بأنّ الاثنين أكثر من الواحد؟
الجواب: كلا. ولو أراد الإسلام هذا من تأييده للعقل، لقضى على نفسه بنفسه، ولكان وجوده كعدمه، ولوجب أن يؤخذ الدّين من العلماء والفلاسفة، لا من الأنبياء وكتب الوحي. إنّ للعقل دائرة، وللدّين أخرى، وكلّ منهما يترك للآخر الحكم في دائرته واختصاصه، والإنسان بحاجة إلى الاثنين، حيث لا تتم له السعادة والنجاح إلا بهما معاً.
إن الغرض الأول الذي يهدف إليه الإسلام من الإشادة بالعقل، هو أن يؤمن بالإنسان بما يستقلّ به من أحكام، ولا يصدق شيئاً يكذبه العقل ويأباه. إن العقل لا يدرك كل شيء، وإنما يدرك شيئاً ولا يدرك شيئاً، والّذي يعلم كل شيء هو الله وحده. فوجود الله وعلمه وحكمته، وإعجاز القرآن الدالّ على صدق محمد في دعوته، وما إلى ذاك، يدركه العقل مستقلاً، ويقدّم عليه البرهان القاطع. أما وجود الملائكة والجنّ، والسّير غداً على صراط أدقّ من الشّعرة، وأحدّ من السيف، وشهادة الأيدي والأرجل على أصحابها، وتطاير الكتب، وسؤال منكر ونكير، ونحو ذلك مما لا يبلغه الإحصاء، وثبت بضرورة الدّين، أما هذه، فلا تفسَّر بالعلم، وليس فيه للعقل حكم بالنّفي أو الإثبات. إنّ الدين غير محصور ولا مقصور فيما يدركه العقل، بل يتعدّاه إلى أمور غيبية يؤمن بوجودها كلّ من آمن بالله والرّسول واليوم الآخر. ولكن الدين في جميع أحكامه وتعاليمه لا يعلم النّاس ما يراه العقل محالاً أو مضراً.
وبالتالي، فليس كلّ ما هو حقّ يجب أن يثبت بطريق العقل، ولا كلّ ما لم يثبت بالعقل يكون باطلاً. مثلاً، إنّ مسألة المهدي المنتظر لا يمكن إثباتها بالأدلة العقلية، لا لأنها غير صحيحة، وباطلة من الأساس، بل لأنها ليست من شؤون العقل واختصاصه، إن عجز العقل عن إدراك قضية من القضايا شيء، وكونها حقاً أو باطلاً شيء آخر.
فرق بين ما هو ممتنع الوقوع في نفسه، بحيث لا يمكن أن يقع بحال، حتى على أيدي الأنبياء والأولياء، كاجتماع النَّقيضين، وجعل الواحد أكثر من اثنين، وبين ما هو ممكن الوقوع في نفسه، ولكن العادة لم تجر بوقوعه، كالأمثلة الآتية، وما كان من النّوع الأوّل يسمَّى بالمحال العقلي، وما كان من النّوع الثّاني يسمَّى بالمحال العادي، وكثير من النّاس يخلطون بين النوعين، ويتعذّر عليهم التّمييز بينهما، فيظنّون أنّ كلّ ما هو محال عادة هو محال عقلاً.
وإليك الأمثلة: لقد اعتدنا أن لا نرى عودة الأموات إلى هذه الدّنيا، وأن يولد الصّبي، ولا يكلّم الناس ساعة ولادته، وإذا جاع أحدنا، لا تنزل عليه مائدة من السّماء، وإذا أصابه العمى والبرص، لا يشفى بدون علاج، وإذا سبّح الله وحمده، لا تردّد الجبال والطير معه التسبيح والتحميد، وإذا أخذ الحديد بيده، لا يلين له كالشمع، وإذا سمع منطق الطّير، لا يفهم منه شيئاً، كما يخفى عليه حديث النّمل، ويعجز عن تسخير الجنّ في عمل المحاريب والتّماثيل. ولم يشاهد إنساناً حيّاً منذ قرون، ولا انقلاب العصا إلى ثعبان، ولا وقوف مياه البحر كالجبال، ولا جلوس الإنسان في النّار دون أن يناله أيّ أذى. فكلّ هذه، وما إليها، لم تجر العادة بوقوعها، ولم يألف الناس مشاهدتها، لذا ظنّ من ظنّ أنها مستحيلة في حكم العقل، مع أنها ممكنة عقلاً، بعيدة عادةً، بل وقعت بالفعل.
فلقد أخبر القرآن الكريم بصراحة لا تقبل التأويل، أن السيد المسيح كلَّم الناس وهو في المهد، وأحيا الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص، وأنزل مائدةً من السّماء، وأنه مازال حياً، وسيبقى حياً إلى يوم يبعثون، وأنّ النار كانت برداً وسلاماً على إبراهيم، وأنّ عصا موسى صارت ثعباناً، وأنّ الحديد لانَ لداود، وسبّح معه الطير والجبال، وأنّ سليمان استخدم الجان، وعرف لغة الطّيور والنّمل. إنّ هذه الخوارق محال بحسب العادة، جائزة في نظر العقل، ولو كانت محالاً في نفسها، لامتنع وقوعها للأنبياء وغير الأنبياء.
فكذلك بقاء المهدي حياً ألف سنة أو ألوف السّنين، واختفاؤه عن الأنظار - كما يقول الإماميّة - بعيد عادةً، جائز عقلاً، واقع ديناً بشهادة الأحاديث الثّابتة عن رسول الله (ص)، فمن أنكر إمكان وجود المهديّ، محتجاً بأنه محال في نظر العقل، يلزمه أن ينكر هذه الخوارق التي ذكرها القرآن، وآمن بها كلّ مسلم، ومن اعترف بها، يلزمه الاعتراف بإمكان وجود المهدي، والتفكيكُ تحكُّم وعناد، إذ لا فرق في نظر العقل بين بقاء المهدي حياً ألوف السنين، وهذه الخوارق من حيث الإمكان وجواز الوقوع، مادام الجميع من سنخ واحد.
أحاديث المهدي:
ألّف علماء الإمامية كتباً خاصة في المهدي، منهم محمد بن إبراهيم النعماني، والصدوق، والشيخ الطوسي، والمجلسي الّذي خصّص له المجلد الثالث عشر من بحاره، وذكر هؤلاء العلماء وغيرهم كلّ ما يتصل بالمهدي من الأحاديث النبويّة، بخاصّة ما جاء في كتب السنّة، وبصورة أخصّ الصّحاح الستّة، وقد استقصاها السيد محسن الأمين في القسم الثالث من الجزء الرابع من "أعيان الشيعة" طبعة سنة 1954. ورغم ثقتي بهؤلاء الأعلام، ويقيني بصدقهم عما ينقلونه عن غيرهم، فإني تتبّعت بنفسي ما تيسّر لي مراجعته من كتب السنّة، خشية الاشتباه بالنقل، أو في فهم الحديث وقبوله للتأويل، ولأنّ القدامى وأكثر الجدد من علمائنا ينقلون عن الكتاب الذي يبلغ المجلّدات دون أن يشيروا إلى رقم الصّفحة، ولا تاريخ الطّبع، حتى ولا اسم المجلَّد، وربما اكتفوا بالقول: "جاء في كتب السنّة أو قال السنّة ".
وأكتفي هنا بنقل ما جاء في ثلاثة كتب من الصّحاح الستّة؛ لأنّ لفظ أحاديثها هو بالذات لفظ الأحاديث المرويّة في كتب الإمامية. قال ابن ماجه1 :قال رسول الله: "إنّا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدّنيا، وإنّ أهل بيتي سيلقون بعدي بلاءً شديداً، وتطريداً، حتى يأتي قوم من قبل المشرق، معهم رايات سود، فيسألون الخير فلا يعطونه، فيقاتلون فينتصرون، فيعطون ما سألوا، فلا يقبلونه، حتى يدفعونها إلى رجل من أهل بيتي، فيملأها قسطاً، كما ملئت جوراً ".
قال رسول الله: "يكون في أمّتي المهدي، إن قصَّر فسبع، وإلا فتسع، تنعم فيه أمّتي نعمة لم تنعم مثلها قطّ، تأتي أكلها، ولا تدّخر منه شيئاً، والمال يومئذٍ كدوس، فيقوم الرّجل يقول: يا مهدي أعطني. فيقول: خذ"2، "المهدي منّا أهل البيت3"، "المهدي من ولد فاطمة"4، "نحن بني عبد المطّلب سادة أهل الجنّة: أنا وحمزة وعليّ وجعفر والحسن والحسين والمهدي"5 .
وقال أبو داود السجستاني: قال رسول الله: "لو لم يبق من الدّنيا إلا يوم، لطوّل الله ذلك اليوم، حتى يبعث رجلاً من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً"6 .
وفي حديث آخر: "المهدي مني، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً، ويملك سبع سنين".
وجاء في قول رسول الله: "لا تذهب الدنيا، حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي 7".
قال رسول الله: "يلي رجل من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي، ولو لم يبق من الدّنيا إلا يوم واحد، لطوّل الله ذلك اليوم، حتّى يلي"8، "أبشري يا فاطمة، المهديّ منك"9.
هذا المهديّ الذي أثبته الإمام المناوي وصحاح السنّة، وكثير من مؤلفاتهم، هو بالذات المهدي المنتظر الّذي قالت به الإمامية، فإذا كان المهدي خرافة وأسطورة، فالسبب الأول والأخير لهذه الأسطورة هو رسول الله، تعالى الله ورسوله علوّاً كبيراً، حتى لفظ "يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً"، حتى هذه الجملة الّتي عابوها على الإمامية، وسخروا منها ومنهم، هي بحروفها للرّسول الأعظم، لا للإمامية، فإن يك من ذنب، فالنبي هو المسؤول، حاشا الله والرّسول.
إنّ الذين يسخرون من فكرة المهدي، إنما يسخرون من الإسلام، ونبيّ الإسلام، من حيث يشعرون أو لا يشعرون، وينطبق عليهم الحديث الذي نقله "صاحب الأعيان" في الجزء الرّابع عن "فوائد السّمطين" لمحمد بن إبراهيم الحموني الشّافعي عن النبيّ: "من أنكر خروج المهدي، فقد كفر بما أنزل على محمّد".
قال بعض المؤلّفين: "اخترع الشّيعة فكرة المهدي، لكثرة ما لاقوه وعانوه من العسف والجور، فسلوا أنفسهم، ومنوّهاً بالمهدي الذي يملأ الأرض عدلاً، وينصفهم من الظالمين والمجرمين".
ولو كان هذا القائل على شيء من العلم بسنّة الرّسول، لما قال هذا، لقد تخيّل أشياء لا أصل لها ولا أساس، ثم أعلنها على أنها عين الحقّ والواقع، ولست أعرف أحداً أجهل وأجرأ على الباطل ممن يكتب في موضوع ديني، ويعطي أحكاماً قاطعة، قبل أن يرجع إلى كتاب الله وسنّة الرسول، وقبل أن يبحث وينقّب عن أقوال العلماء وآرائهم. إنّ العلم هو معرفة الشّيء عن دليله، أمّا القول بالظنّ والتخرّص، كما فعل الذين أنكروا وجود المهدي، فجهالة وضلالة.
وبالتالي، فإنّ الإماميّة لولا هذه الأحاديث الّتي أوردها أصحاب الصّحاح، لكانوا في غنى عن القول بالمهدي، وبكلّ ما يتصل به من قريب أو بعيد، ولكن ما العمل، وهم يتلون قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}.
وبكلمة، لقد أخبر النبيّ بالمهدي، فوجب التّصديق به، تماماً كما وجب التّصديق بمن سبق من الأنبياء، لأنّ القرآن الكريم أخبر عنهم.
ولادته:
وربّ قائل: إن الأحاديث النبوية التي نقلتها عن صحاح السنّة، إنما دلت على خروج المهدي في آخر الزّمان، دون أن تتعرّض من قريب أو بعيد إلى وقت ولادته، إذاً، فمن الجائز أنّه يولد في القرن الّذي يخرج فيه، لا أنّه قد ولد بالفعل وقبل خروجه بقرون، كما قال الإماميّة.
الجواب: إنّ القول بخروج المهدي وولادته، وكلّ ما يتّصل به، لا مستند له إلا الأحاديث النبويّة. غاية الأمر، أن خروجه في آخر الزمان ثبت بطريق السنّة والإمامية، أما ولادته، فقد ثبتت بطريق الإماميّة فقط، وليس من الضّروريّ لأن يؤمن المسلم بشيء أن يثبت بطريق الفريقين، وإنما الواجب أن يؤمن بما يثبت عنده، على شريطة أن لا يناهض إيمانه حكم العقل ويصادمه، وقد بينَّا أن بقاء المهدي حياً، تماماً كالخوارق التي حدثت لإبراهيم وداود وسليمان وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء، لا تتنافى وشيئاً مع حكم العقل بالإمكان، لأنها قد حدثت بالفعل، والدالّ على الوقوع دالّ على الإمكان بالضّرورة.
هذا، وإنّ جماعة من كبار علماء السنّة قالوا بمقالة الإماميّة، وآمنوا بأنّ المهدي قد ولد، وأنّه مازال حياً، وقد ذكر السيّد الأمين أسماءهم في الجزء الرّابع من الأعيان، ونقل الثّناء على علمهم والثّقة بدينهم عن كثير من المصادر المعتبرة عند أهل السنّة10.
هذي هي مسألة المهدي المنتظر، عرضناها على العقل فلم ينكرها، وعلى القرآن الكريم، فوجدنا لها أشباهاً ونظائر، وعلى سنّة الرّسول (ص)، فكانت هي المصدر الأوّل، وعلى علماء السنّة، فألفيناهم مجمعين عليها، ومنهم هؤلاء الّذين قالوا: إنّه ولد، وإنّه حيّ إلى أن يأذن الله، فأين مكان الغرابة والخرافة في قول الإماميّة؟!...
الهامش:
*من كتاب "الشّيعة في الميزان".
1 سنن ابن ماجه ،ج 2 ، طبعة سنة 1953، الحديث رقم 4082.
2 م.س ، حديث رقم 4083.
3 م.س ، حديث رقم 4085.
4 م.س. حديث رقم 4086.
5 م.س، الحديث رقم 4087.
6 سنن السجستاني، ج 2، طبعة سنة 1952، ص 422.
7 صحيح الترمذي، ج 9، طبعة سنة 1934، ص 74.
8 م.س. ص 75.
9 كتاب "كنوز الحقائق" للإمام المناوي، المطبوع مع كتاب "الفتح المبين" سنة 1317 هـ، ص 3.
10 وهم: 1 - كمال الدين محمد بن طلحة الشافعي في كتابه "مطالب السؤول في مناقب آل الرسول" .2 - محمد بن يوسف الكنجي الشافعي، في كتابيه "البيان في أخبار صاحب الزمان"، و"كفاية الطالب في مناقب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب" .3- عليّ بن محمد الصباغ المالكي في كتابه "الفصول المهمّة" .4 – أبو المظفّر يوسف البغدادي الحنفي المعروف بسبط ابن الجوزي في كتابه "تذكرة الخواصّ" .5 - محيي الدين بن العربي الشهير في كتابه "الفتوحات المكيّة" .6 - عبد الرحمن بن أحمد الدشني الحنفي .7 - عبد الوهاب الشعراني في كتابه "عقائد الأكابر" .8 - عطاء الله بن غياث الدين في كتابه "روضة الأحباب في سيرة النبي والآل والأصحاب" .9 - محمد بن محمد البخاري المعروف بخواجة بارسا الحنفي في كتابه "فصل الخطاب" .10 - العارف عبد الرحمن في كتابه "مرآة الأسرار" .11 - الشيخ حسن العراقي .12 - أحمد بن إبراهيم البلاذري في "الحديث المتسلسل". 13 - عبد الله بن أحمد المعروف بابن الخشاب في كتابه "تواريخ مواليد الأئمة ووفياتهم".
أشاد الإسلام بالعقل وأحكامه، ودعا إلى تحرّره من التقاليد والأوهام، ونعى على العرب وغير العرب الذين لا يفقهون ولا يعقلون، ويؤمنون بالسّخافات والخرافات، وقد أنزل الله في ذلك عشرات الآيات، وتواترت به عن الرّسول الأعظم الأحاديث والروايات، وأفرد له علماء المسلمين أبواباً خاصّة في كتب الحديث والكلام والأصول.
سؤال: وتسأل - أيّها القارئ - هل معنى إشادة الإسلام بالعقل أنّه يدرك صحّة كلّ أصل من أصول الإسلام، وكلّ حكم من أحكام الشّريعة، بحيث إذا حقّقنا ومحّصنا أيّة قضية دينيّة في ضوء العقل، لصدقها وآمن بها إيمانه بأنّ الاثنين أكثر من الواحد؟
الجواب: كلا. ولو أراد الإسلام هذا من تأييده للعقل، لقضى على نفسه بنفسه، ولكان وجوده كعدمه، ولوجب أن يؤخذ الدّين من العلماء والفلاسفة، لا من الأنبياء وكتب الوحي. إنّ للعقل دائرة، وللدّين أخرى، وكلّ منهما يترك للآخر الحكم في دائرته واختصاصه، والإنسان بحاجة إلى الاثنين، حيث لا تتم له السعادة والنجاح إلا بهما معاً.
إن الغرض الأول الذي يهدف إليه الإسلام من الإشادة بالعقل، هو أن يؤمن بالإنسان بما يستقلّ به من أحكام، ولا يصدق شيئاً يكذبه العقل ويأباه. إن العقل لا يدرك كل شيء، وإنما يدرك شيئاً ولا يدرك شيئاً، والّذي يعلم كل شيء هو الله وحده. فوجود الله وعلمه وحكمته، وإعجاز القرآن الدالّ على صدق محمد في دعوته، وما إلى ذاك، يدركه العقل مستقلاً، ويقدّم عليه البرهان القاطع. أما وجود الملائكة والجنّ، والسّير غداً على صراط أدقّ من الشّعرة، وأحدّ من السيف، وشهادة الأيدي والأرجل على أصحابها، وتطاير الكتب، وسؤال منكر ونكير، ونحو ذلك مما لا يبلغه الإحصاء، وثبت بضرورة الدّين، أما هذه، فلا تفسَّر بالعلم، وليس فيه للعقل حكم بالنّفي أو الإثبات. إنّ الدين غير محصور ولا مقصور فيما يدركه العقل، بل يتعدّاه إلى أمور غيبية يؤمن بوجودها كلّ من آمن بالله والرّسول واليوم الآخر. ولكن الدين في جميع أحكامه وتعاليمه لا يعلم النّاس ما يراه العقل محالاً أو مضراً.
وبالتالي، فليس كلّ ما هو حقّ يجب أن يثبت بطريق العقل، ولا كلّ ما لم يثبت بالعقل يكون باطلاً. مثلاً، إنّ مسألة المهدي المنتظر لا يمكن إثباتها بالأدلة العقلية، لا لأنها غير صحيحة، وباطلة من الأساس، بل لأنها ليست من شؤون العقل واختصاصه، إن عجز العقل عن إدراك قضية من القضايا شيء، وكونها حقاً أو باطلاً شيء آخر.
فرق بين ما هو ممتنع الوقوع في نفسه، بحيث لا يمكن أن يقع بحال، حتى على أيدي الأنبياء والأولياء، كاجتماع النَّقيضين، وجعل الواحد أكثر من اثنين، وبين ما هو ممكن الوقوع في نفسه، ولكن العادة لم تجر بوقوعه، كالأمثلة الآتية، وما كان من النّوع الأوّل يسمَّى بالمحال العقلي، وما كان من النّوع الثّاني يسمَّى بالمحال العادي، وكثير من النّاس يخلطون بين النوعين، ويتعذّر عليهم التّمييز بينهما، فيظنّون أنّ كلّ ما هو محال عادة هو محال عقلاً.
وإليك الأمثلة: لقد اعتدنا أن لا نرى عودة الأموات إلى هذه الدّنيا، وأن يولد الصّبي، ولا يكلّم الناس ساعة ولادته، وإذا جاع أحدنا، لا تنزل عليه مائدة من السّماء، وإذا أصابه العمى والبرص، لا يشفى بدون علاج، وإذا سبّح الله وحمده، لا تردّد الجبال والطير معه التسبيح والتحميد، وإذا أخذ الحديد بيده، لا يلين له كالشمع، وإذا سمع منطق الطّير، لا يفهم منه شيئاً، كما يخفى عليه حديث النّمل، ويعجز عن تسخير الجنّ في عمل المحاريب والتّماثيل. ولم يشاهد إنساناً حيّاً منذ قرون، ولا انقلاب العصا إلى ثعبان، ولا وقوف مياه البحر كالجبال، ولا جلوس الإنسان في النّار دون أن يناله أيّ أذى. فكلّ هذه، وما إليها، لم تجر العادة بوقوعها، ولم يألف الناس مشاهدتها، لذا ظنّ من ظنّ أنها مستحيلة في حكم العقل، مع أنها ممكنة عقلاً، بعيدة عادةً، بل وقعت بالفعل.
فلقد أخبر القرآن الكريم بصراحة لا تقبل التأويل، أن السيد المسيح كلَّم الناس وهو في المهد، وأحيا الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص، وأنزل مائدةً من السّماء، وأنه مازال حياً، وسيبقى حياً إلى يوم يبعثون، وأنّ النار كانت برداً وسلاماً على إبراهيم، وأنّ عصا موسى صارت ثعباناً، وأنّ الحديد لانَ لداود، وسبّح معه الطير والجبال، وأنّ سليمان استخدم الجان، وعرف لغة الطّيور والنّمل. إنّ هذه الخوارق محال بحسب العادة، جائزة في نظر العقل، ولو كانت محالاً في نفسها، لامتنع وقوعها للأنبياء وغير الأنبياء.
فكذلك بقاء المهدي حياً ألف سنة أو ألوف السّنين، واختفاؤه عن الأنظار - كما يقول الإماميّة - بعيد عادةً، جائز عقلاً، واقع ديناً بشهادة الأحاديث الثّابتة عن رسول الله (ص)، فمن أنكر إمكان وجود المهديّ، محتجاً بأنه محال في نظر العقل، يلزمه أن ينكر هذه الخوارق التي ذكرها القرآن، وآمن بها كلّ مسلم، ومن اعترف بها، يلزمه الاعتراف بإمكان وجود المهدي، والتفكيكُ تحكُّم وعناد، إذ لا فرق في نظر العقل بين بقاء المهدي حياً ألوف السنين، وهذه الخوارق من حيث الإمكان وجواز الوقوع، مادام الجميع من سنخ واحد.
أحاديث المهدي:
ألّف علماء الإمامية كتباً خاصة في المهدي، منهم محمد بن إبراهيم النعماني، والصدوق، والشيخ الطوسي، والمجلسي الّذي خصّص له المجلد الثالث عشر من بحاره، وذكر هؤلاء العلماء وغيرهم كلّ ما يتصل بالمهدي من الأحاديث النبويّة، بخاصّة ما جاء في كتب السنّة، وبصورة أخصّ الصّحاح الستّة، وقد استقصاها السيد محسن الأمين في القسم الثالث من الجزء الرابع من "أعيان الشيعة" طبعة سنة 1954. ورغم ثقتي بهؤلاء الأعلام، ويقيني بصدقهم عما ينقلونه عن غيرهم، فإني تتبّعت بنفسي ما تيسّر لي مراجعته من كتب السنّة، خشية الاشتباه بالنقل، أو في فهم الحديث وقبوله للتأويل، ولأنّ القدامى وأكثر الجدد من علمائنا ينقلون عن الكتاب الذي يبلغ المجلّدات دون أن يشيروا إلى رقم الصّفحة، ولا تاريخ الطّبع، حتى ولا اسم المجلَّد، وربما اكتفوا بالقول: "جاء في كتب السنّة أو قال السنّة ".
وأكتفي هنا بنقل ما جاء في ثلاثة كتب من الصّحاح الستّة؛ لأنّ لفظ أحاديثها هو بالذات لفظ الأحاديث المرويّة في كتب الإمامية. قال ابن ماجه1 :قال رسول الله: "إنّا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدّنيا، وإنّ أهل بيتي سيلقون بعدي بلاءً شديداً، وتطريداً، حتى يأتي قوم من قبل المشرق، معهم رايات سود، فيسألون الخير فلا يعطونه، فيقاتلون فينتصرون، فيعطون ما سألوا، فلا يقبلونه، حتى يدفعونها إلى رجل من أهل بيتي، فيملأها قسطاً، كما ملئت جوراً ".
قال رسول الله: "يكون في أمّتي المهدي، إن قصَّر فسبع، وإلا فتسع، تنعم فيه أمّتي نعمة لم تنعم مثلها قطّ، تأتي أكلها، ولا تدّخر منه شيئاً، والمال يومئذٍ كدوس، فيقوم الرّجل يقول: يا مهدي أعطني. فيقول: خذ"2، "المهدي منّا أهل البيت3"، "المهدي من ولد فاطمة"4، "نحن بني عبد المطّلب سادة أهل الجنّة: أنا وحمزة وعليّ وجعفر والحسن والحسين والمهدي"5 .
وقال أبو داود السجستاني: قال رسول الله: "لو لم يبق من الدّنيا إلا يوم، لطوّل الله ذلك اليوم، حتى يبعث رجلاً من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً"6 .
وفي حديث آخر: "المهدي مني، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً، ويملك سبع سنين".
وجاء في قول رسول الله: "لا تذهب الدنيا، حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي 7".
قال رسول الله: "يلي رجل من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي، ولو لم يبق من الدّنيا إلا يوم واحد، لطوّل الله ذلك اليوم، حتّى يلي"8، "أبشري يا فاطمة، المهديّ منك"9.
هذا المهديّ الذي أثبته الإمام المناوي وصحاح السنّة، وكثير من مؤلفاتهم، هو بالذات المهدي المنتظر الّذي قالت به الإمامية، فإذا كان المهدي خرافة وأسطورة، فالسبب الأول والأخير لهذه الأسطورة هو رسول الله، تعالى الله ورسوله علوّاً كبيراً، حتى لفظ "يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً"، حتى هذه الجملة الّتي عابوها على الإمامية، وسخروا منها ومنهم، هي بحروفها للرّسول الأعظم، لا للإمامية، فإن يك من ذنب، فالنبي هو المسؤول، حاشا الله والرّسول.
إنّ الذين يسخرون من فكرة المهدي، إنما يسخرون من الإسلام، ونبيّ الإسلام، من حيث يشعرون أو لا يشعرون، وينطبق عليهم الحديث الذي نقله "صاحب الأعيان" في الجزء الرّابع عن "فوائد السّمطين" لمحمد بن إبراهيم الحموني الشّافعي عن النبيّ: "من أنكر خروج المهدي، فقد كفر بما أنزل على محمّد".
قال بعض المؤلّفين: "اخترع الشّيعة فكرة المهدي، لكثرة ما لاقوه وعانوه من العسف والجور، فسلوا أنفسهم، ومنوّهاً بالمهدي الذي يملأ الأرض عدلاً، وينصفهم من الظالمين والمجرمين".
ولو كان هذا القائل على شيء من العلم بسنّة الرّسول، لما قال هذا، لقد تخيّل أشياء لا أصل لها ولا أساس، ثم أعلنها على أنها عين الحقّ والواقع، ولست أعرف أحداً أجهل وأجرأ على الباطل ممن يكتب في موضوع ديني، ويعطي أحكاماً قاطعة، قبل أن يرجع إلى كتاب الله وسنّة الرسول، وقبل أن يبحث وينقّب عن أقوال العلماء وآرائهم. إنّ العلم هو معرفة الشّيء عن دليله، أمّا القول بالظنّ والتخرّص، كما فعل الذين أنكروا وجود المهدي، فجهالة وضلالة.
وبالتالي، فإنّ الإماميّة لولا هذه الأحاديث الّتي أوردها أصحاب الصّحاح، لكانوا في غنى عن القول بالمهدي، وبكلّ ما يتصل به من قريب أو بعيد، ولكن ما العمل، وهم يتلون قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}.
وبكلمة، لقد أخبر النبيّ بالمهدي، فوجب التّصديق به، تماماً كما وجب التّصديق بمن سبق من الأنبياء، لأنّ القرآن الكريم أخبر عنهم.
ولادته:
وربّ قائل: إن الأحاديث النبوية التي نقلتها عن صحاح السنّة، إنما دلت على خروج المهدي في آخر الزّمان، دون أن تتعرّض من قريب أو بعيد إلى وقت ولادته، إذاً، فمن الجائز أنّه يولد في القرن الّذي يخرج فيه، لا أنّه قد ولد بالفعل وقبل خروجه بقرون، كما قال الإماميّة.
الجواب: إنّ القول بخروج المهدي وولادته، وكلّ ما يتّصل به، لا مستند له إلا الأحاديث النبويّة. غاية الأمر، أن خروجه في آخر الزمان ثبت بطريق السنّة والإمامية، أما ولادته، فقد ثبتت بطريق الإماميّة فقط، وليس من الضّروريّ لأن يؤمن المسلم بشيء أن يثبت بطريق الفريقين، وإنما الواجب أن يؤمن بما يثبت عنده، على شريطة أن لا يناهض إيمانه حكم العقل ويصادمه، وقد بينَّا أن بقاء المهدي حياً، تماماً كالخوارق التي حدثت لإبراهيم وداود وسليمان وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء، لا تتنافى وشيئاً مع حكم العقل بالإمكان، لأنها قد حدثت بالفعل، والدالّ على الوقوع دالّ على الإمكان بالضّرورة.
هذا، وإنّ جماعة من كبار علماء السنّة قالوا بمقالة الإماميّة، وآمنوا بأنّ المهدي قد ولد، وأنّه مازال حياً، وقد ذكر السيّد الأمين أسماءهم في الجزء الرّابع من الأعيان، ونقل الثّناء على علمهم والثّقة بدينهم عن كثير من المصادر المعتبرة عند أهل السنّة10.
هذي هي مسألة المهدي المنتظر، عرضناها على العقل فلم ينكرها، وعلى القرآن الكريم، فوجدنا لها أشباهاً ونظائر، وعلى سنّة الرّسول (ص)، فكانت هي المصدر الأوّل، وعلى علماء السنّة، فألفيناهم مجمعين عليها، ومنهم هؤلاء الّذين قالوا: إنّه ولد، وإنّه حيّ إلى أن يأذن الله، فأين مكان الغرابة والخرافة في قول الإماميّة؟!...
الهامش:
*من كتاب "الشّيعة في الميزان".
1 سنن ابن ماجه ،ج 2 ، طبعة سنة 1953، الحديث رقم 4082.
2 م.س ، حديث رقم 4083.
3 م.س ، حديث رقم 4085.
4 م.س. حديث رقم 4086.
5 م.س، الحديث رقم 4087.
6 سنن السجستاني، ج 2، طبعة سنة 1952، ص 422.
7 صحيح الترمذي، ج 9، طبعة سنة 1934، ص 74.
8 م.س. ص 75.
9 كتاب "كنوز الحقائق" للإمام المناوي، المطبوع مع كتاب "الفتح المبين" سنة 1317 هـ، ص 3.
10 وهم: 1 - كمال الدين محمد بن طلحة الشافعي في كتابه "مطالب السؤول في مناقب آل الرسول" .2 - محمد بن يوسف الكنجي الشافعي، في كتابيه "البيان في أخبار صاحب الزمان"، و"كفاية الطالب في مناقب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب" .3- عليّ بن محمد الصباغ المالكي في كتابه "الفصول المهمّة" .4 – أبو المظفّر يوسف البغدادي الحنفي المعروف بسبط ابن الجوزي في كتابه "تذكرة الخواصّ" .5 - محيي الدين بن العربي الشهير في كتابه "الفتوحات المكيّة" .6 - عبد الرحمن بن أحمد الدشني الحنفي .7 - عبد الوهاب الشعراني في كتابه "عقائد الأكابر" .8 - عطاء الله بن غياث الدين في كتابه "روضة الأحباب في سيرة النبي والآل والأصحاب" .9 - محمد بن محمد البخاري المعروف بخواجة بارسا الحنفي في كتابه "فصل الخطاب" .10 - العارف عبد الرحمن في كتابه "مرآة الأسرار" .11 - الشيخ حسن العراقي .12 - أحمد بن إبراهيم البلاذري في "الحديث المتسلسل". 13 - عبد الله بن أحمد المعروف بابن الخشاب في كتابه "تواريخ مواليد الأئمة ووفياتهم".