عيدُ الفطرِ: الفرحُ الرّوحيُّ في طاعةِ اللهِ ومرضاته

عيدُ الفطرِ: الفرحُ الرّوحيُّ في طاعةِ اللهِ ومرضاته

هذا اليوم هو عيد الفطر الّذي جعله الله للمسلمين عيداً، ليعيشوا في أجوائه كلَّ معاني الروحانيَّة الّتي ترتفع بهم إلى الله سبحانه وتعالى، وليعيشوا الفرح الرّوحيّ، لأنَّهم قاموا بمسؤوليَّاتهم أمام الله سبحانه وتعالى في إطاعة أوامره واجتناب نواهيه، لأنَّ قصَّة العيد في الإسلام إنّما تنطلق من خلال المعاني الَّتي ترتفع بروح الإنسان، ولا تعيش في أجواء اللَّهو واللَّعب، ولا تعيش في أجواء العبث، لأنَّ الله سبحانه وتعالى أراد للنَّاس أن يشعروا في هذه الدّنيا بالفرح، انطلاقاً من الانفتاح عليه والإخلاص له، وأن يتطلَّبوا رحمته.
عيدُ القيامِ بالمسؤوليَّة
وقد ورد أنَّ هذا العيد هو عيد القيام بالمسؤوليَّة، وقد أكَّد الإمام أمير المؤمنين (ع) هذا المعنى بكلمته الخالدة الّتي قال فيها: "إِنَّمَا هُوَ عِيدٌ لِمَنْ قَبِلَ اللَّهُ صِيَامَهُ وَقِيَامَهُ"، لأنَّ قبول الله لصيامنا وقيامنا يعني رضاه عنَّا، وحبّه لنا، ورحمته بنا، ولطفه علينا. ولذلك، فإنَّ الإنسان يشعر بأنَّ عقله وقلبه وحياته كلّها تنفتح لربّه.
ثمَّ عقَّب الإمام عليّ (ع) بقوله: "وكلُّ يومٍ لا يُعصى الله فيه فهو عيد". فإذا كان عيد الفطر هو عيدُ القيام بالمسؤوليَّة، فيمكن للإنسان أن يجعل كلَّ أيَّامه أعياداً، عندما يطيع الله سبحانه وتعالى فيما أمره ونهاه، وعندما يتحرَّك في الحياة على أساس أن يكون عبد الله الَّذي أخلص له في توحيده في العقيدة، وفي العبادة والطَّاعة.
وعلى هذا الأساس، فإنَّ علينا في هذا العيد أن نعمل على أن نستفيد من كلّ ما استطعنا أن نحصل عليه في شهر رمضان، من عتق الله لنا من النَّار، ومن رضا الله علينا، أن لا نضيّع ما حصلنا عليه في هذا الشَّهر بالعمل الَّذي لا يرضي الله سبحانه وتعالى، على طريقة ذلك الإنسان الَّذي امتنع عن شرب الخمر في شهر رمضان، وعندما جاء يوم العيد، قال لنفسه:
رمضانُ ولَّى هاتِها يا ساقي            مشتاقةً تسعى إلى مشتاقِ
وقد ورد عن الإمام الصَّادق (ص): "خَطَبَ أميرُ المُؤمِنينَ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ (ع) يَومَ الفِطرِ فقالَ: أيُّها النّاسُ، إنَّ يَومَكُم هذا يَومٌ يُثابُ فيهِ المُحسِنونَ - على ما أحسنوا من طاعة الله سبحانه وتعالى في شهر رمضان - وَيَخْسَرُ فِيهِ المُبْطِلُونَ - الَّذين لم يقوموا بمسؤوليَّاتهم في هذا الشَّهر المبارك - وهُوَ أشبَهُ بِيَومِ قِيامِكُم – أي أنَّكم عندما تنطلقون إلى المساجد لتقفوا بين يدي الله سبحانه وتعالى، لتطلبوا رضاه، ولتستنزلوا رحمته، فإنَّ ذلك تماماً كوقوفكم بين يديه يوم القيامة - فَاذكُروا بِخُروجِكُم مِن مَنازِلِكُم إلى مُصَلَّاكُم، خُروجَكُم مِنَ الأجداثِ إلى رَبِّكُم - يوم يبعث الله النَّاس من الأجداث، لينطلقوا إلى موقف يوم القيامة - وَاذكُروا بِوُقوفِكُم في مُصَلَّاكُم وُقوفَكُم بَينَ يَدَي رَبِّكُم، وَاذكُروا بِرُجوعِكُم إلى مَنازِلِكُم، رجوعَكُم إلى منازلِكِم في الجنَّةِ. عِبادَ اللّهِ، إنَّ أدنى ما لِلصَّائمينَ والصَّائماتِ، أن يُنادِيَهُم مَلَكٌ في آخِرِ يَومٍ مِن شَهرِ رَمَضانَ: أبشِروا عِبادَ اللّه، فقَد غُفِرَ لَكُم ما سَلَفَ مِن ذُنوبِكُم، فَانظُروا كَيفَ تَكونونَ فيما تَستَأنِفونَ".
وهكذا نلاحظ أنَّ الإمام الحسن (ع) مرَّ في يوم فطر بقوم يلعبون ويضحكون، فوقف على رؤوسهم، فقال: "إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ شَهْرَ رَمَضَانَ مِضْمَارًا لِخَلْقِهِ، يَسْتَبِقُونَ فِيهِ لِطَاعَتِهِ، فَسَبَقَ قَوْمٌ فَفَازُوا، وَقَصَّرَ آخَرُونَ فَخَابُوا. فَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ، مِنْ ضَاحِكٍ لَاعِبٍ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يُثَابُ فِيهِ الْمُحْسِنُونَ، وَيَخْسَرُ فِيهِ الْمُبْطِلُونَ - هذا اليوم هو يوم الجوائز الَّتي يثيب الله فيها عباده على ما قاموا فيه من طاعته - وَأَيْمُ اللَّهِ، لَوْ كُشِفَ الْغِطَاءُ، لَعَلِمُوا أَنَّ الْمُحْسِنَ مَشْغُولٌ بِإِحْسَانِهِ، وَالْمُسِيءُ مَشْغُولٌ بِإِسَاءَتِهِ"، ثمَّ مضى.
الفرحُ الرّوحيّ
أيُّها الأحبَّة، إنَّ علينا في هذا الشَّهر أن نعيش الفرح الرّوحيّ، وأن نذكر أنَّ هناك الكثيرين من أمَّتنا ممن لا يجدون العيش الكريم، أو ممن يعانون المرض والبلاء والسّجن والتَّشريد والمواجهة للمستكبرين، فعلينا أن نعمل على أن ندعو الله لهم بأن يفرّج عنهم، وأن ننطلق من خلال وصيَّة الإمام عليّ (ع): "اللهَ اللهَ فِي الأَيْتَامِ، فَلَا تُغِبُّوا أَفْوَاهَهُمْ، وَلا يَضِيعُوا بِحَضْرَتِكُمْ"، لأنَّ الأيتام في المجتمع هم أمانة الله عندَ كلّ فردٍ من أفراده، فعلينا أن نحفظهم، وأن نعمل على أن يكونوا صالحين فيما يستقبلون من أمورهم.
وهكذا، لا بدَّ لنا أن نعمل على أن ننفتح على كلّ النَّاس المحرومين الَّذين يعيشون الحرمان أو البلاء في الحياة.
إنَّ علينا أن نصنع الفرح الرّوحيَّ والفرح الإنسانيَّ في هذا العيد السَّعيد، ليفرح المسلمون جميعاً بالحريَّة الَّتي يصنعونها، وبالعزَّة الَّتي ينطلقون فيها، وبكلّ ما يسقط المستكبرين ويرفع المستضعفين. إنَّ هذا عيدٌ للمسؤوليَّة، وعلينا أن نتحمَّل مسؤوليَّتنا عند المثولِ أمام الله، حتَّى نستطيعَ أن نقفَ بينَ يديه غداً {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[الشّعراء: 88 - 89].
                                                      بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
                                                          الخطبة الثَّانية
أيُّها المؤمنون، إنَّ معنى العيد أن نحتفل بالالتزام بما أدَّيناه من فروض الطَّاعة، ومن عبادات تتَّصل بالصَّوم عن كلّ المحرَّمات، وبتلاوة القرآن حقَّ تلاوته، وبأداء الصَّلاة بأكمل وجوهها، وبتحسّس آلام الفقراء والمقهورين، وبالتَّفاعل مع المحرومين والمستضعفين المضطهدين في كلّ مكان.
المسؤوليَّةُ تجاهَ الأمَّة
وبذلك يتحرَّك العيد ليكون انطلاقةً كبيرةً في خطّ المسؤوليَّة عن كلّ قضايا الأمَّة والإنسان، ولا سيَّما في مرحلتنا هذه الَّتي نرى فيها الاحتلال، وقد أطبق على أكثر من موقعٍ من مواقعِ الأمَّة؛ من فلسطين المحتلَّة أمّ القضايا الإسلاميَّة، إلى أفغانستان، إلى العراق، إلى أكثر من بلد يعاني احتلالاً مقنّعاً يرهن كلَّ سياساته وأوضاعه، ويحوّله إلى سجن كبير لشعبه، أو موقعٍ للفتن الدّاخليّة الّتي تمزّق حاضره ومستقبله، فضلاً عن الشَّلل الّذي أصاب الأنظمة السياسيَّة العربيَّة والإسلاميَّة في كثير من مواقعها، حتَّى أصبحت الوراثة العائليَّة عند المسؤولين سمة واقع الحكم السياسي، إلى المستوى الّذي بات بالإمكان رهن مستقبل الأمَّة للمصالح الشَّخصيَّة أو التطلّعات العائليَّة.
خطَّةٌ لتسليمِ فلسطين
وفي هذا الواقع، يتحضَّر المحور الأمريكيّ والإسرائيليّ لخلق بيئة سياسيَّة استسلاميَّة خالصة، يصار فيها إلى التَّوقيع على صكّ تسليم فلسطين كلّها إلى اليهود المحتلّين، وفي ظلّ الخطَّة الجديدة الَّتي توسَّلت لنفسها أساليبَ جديدةً، من خلال خطاب أوباما في إسطنبول ثمَّ في القاهرة، حيث جرى العمل على تجميد الملفَّات الهامشيَّة لحساب التفرغ للملفّ الكبير الّذي عنوانه فلسطين، والّذي يراد طيّ صفحاته بالكامل.
وهكذا، فقد تبيَّن للكثيرين ممن كانوا يصرّون على ضرورة إعطاء الرَّئيس الأمريكيّ الجديد، وإدارته الجديدة، فرصةً من الزَّمن، ليستجمع قواه المحليَّة، وليعيد توازنه، ويرسم سياسته الخاصَّة في ثنايا المؤسَّسة السياسيَّة والأمنيَّة الأمريكيَّة، تبيّن أنَّ أوباما بات الأكثر انسجاماً مع السياسة الإسرائيليَّة، والأكثر خضوعاً لشروط العدوّ، وأنَّ الّذي وعد به من التَّغيير ظهر في شخصيَّته الّتي برزت فيها ملامح الانسحاق أمام مطالب المؤسَّسة الأمريكيَّة الخاضعة تماما ًلشروط اللّوبي اليهودي، إلى المستوى الَّذي لاحظنا أنَّ الإدارة الجديدة لا تتمالك نفسها، حتَّى عندما يحوّل رئيس وزراء العدوّ تجميد الاستيطان إلى تخليص الاستيطان.
محاولاتٌ لزرعِ الفتنة
إنَّنا نخشى أن تكون الخطَّة الّتي انخرطت فيها أجهزة إعلاميَّة، وأخرى أمنيَّة، ومؤسَّسات سياسيَّة، لتحريكها في المنطقة العربيَّة والإسلاميَّة، تقوم على إحداث فتنة كبرى، وإنتاج المزيد من الصّراعات المذهبيَّة، ليسهّل ذلك السَّبيل أمام حركة التسوية، وليفسح المجال أمام العدوّ الإسرائيليّ، ليستعيدَ بناء قوَّته للسَّيطرة على واقع المنطقة، بعدما فقد الكثيرَ من قوَّته وهيبته في السَّنوات الأخيرة على أيدي المقاومة.
وإنَّنا في هذا السّياق، نلمح هجمةً شرسةً على مفاصل القوَّة في الأمَّة، حيث تُرمَى طلائعها المجاهدة والمقاوِمة بتهمة المذهبيَّة المغلقة، وبالسَّعي لتغليب هذا المذهب على ذاك، في هذا الموقع أو ذاك، ليدور الحديث في العالم الإسلاميّ عن نهوضٍ شيعيّ يواجه الواقع السنّيّ، أو نهوضٍ سنّيّ يواجه الواقع الشّيعيّ، ليؤسِّس ذلك لفتنةٍ تمهّد السَّبيل لعودة المشروع الاستكباريّ الصّهيوني لاندفاعته السَّابقة، بعدما استطاعت الأمَّة أن ترفع كاهله عنها، وأن تسدّد في وجهه ضربات قويَّة وثابتة.
إنَّنا نؤكّد أن ليس هناك نهوض شيعيّ يواجه السنَّة في الأمَّة، ولن نقبل بأيّ حركة إسلاميَّة شيعيَّة تستهدف السنَّة في أيّ موقعٍ من المواقع، وليس هناك نهوضٌ سنّيّ يواجه الشّيعة، لأنَّ أيَّ نهوض وأيَّة صحوة ينبغي أن تكون موجَّهة ضدّ المحتلّ وضدّ أعداء الأمَّة.
ولذلك، فعلى الّذين يلعبون هذه اللّعبة، من محاور معادية، أو من موظَّفين لديها، أن يعلموا أنَّ لعبتهم هذه أصبحت مكشوفة أمام الأمَّة، ولن يطول الزَّمان، حتَّى ينقلب السّحر على السَّاحر في نهاية المطاف.
لبنان: في محطّة الانتظار
أمَّا لبنان، فقد وضع مجدَّداً في محطَّة الانتظار، حيث أريد له أن يتجمَّد على مستوى الحركة السياسيَّة الفاعلة، وأن تحاصره الأزمات الاقتصاديَّة، وأن تضغط الضَّائقة المعيشيَّة على شعبه الّذي تزداد أرقام الفقر فيه تصاعداً، ويبدو أنَّ المحاور الدَّوليَّة الّتي سبق وأعلنت عن ارتياحها لوصول الأزمة الحكوميّة إلى محطَّة التَّعقيد، لا مانع عندها من أن تنطلق بعض الاهتزازات الأمنيَّة، لتمنع نموّاً ذاتيّاً يتطلَّع إليه النَّاس، في مواجهة مشاريع التَّجويع والتّفتيت العابرة إلى البلد الصَّغير من متاهات المنطقة الواسعة. ويبدو أنَّ هناك أخطبوطاً دوليّاً بات يعمل لقطع الطَّريق على المحاولات الجادَّة لتصحيح المسار في العلاقات العربيَّة – العربيَّة، وقد بدأ بتحضيرات جديدة، لممارسة ضغوط جديدة على بعض المواقع العربيَّة الممانعة، وعاد إلى دوره السَّابق في تحريك خيوط اللّعبة المزدوجة، ويريد للبنان أن يكون مجرَّد ورقة في المساومة حول بعض الملفَّات الإقليميَّة.
وفي هذ الأجواء، تتسلَّح إسرائيل، وترسَلُ إليها من أمريكا كلّ ترسانات الأسلحة والقنابل الذكيَّة، وتتعهَّدها الولايات المتحدة لتجعلها في منأى عن أيَّة هجمات صاروخيَّة مفترضة، ولتنطلق فيها المناورات بين وقت وآخر، لتحاكي أهدافاً لبنانيَّة يراد لها أن تظلَّ أسيرةً للمشاكل الدَّاخليَّة، حتَّى تأتيها الهجمة الصهيونيَّة وهي مشغولة بالهوامش والتفاصيل.
إنَّنا، وأمام هذا الجوّ العاصف، والغيوم السَّوداء المقبلة على لبنان، على أبواب الخريف، ندعو الجميع للانتصار للبنان ولمصالحه، قبل الاستغراق فيما يطلبه الخارج، والخروج من دائرة المساجلة السياسيَّة الَّتي يراد لها إغراق البلد في أتون السّجالات الانفعاليَّة، لتتحرَّك الحساسيَّات المذهبيَّة مجدَّداً، لتحاول النَّيل من الوحدة الإسلاميَّة، تمهيداً لتدمير البنيان الوطني على رؤوس الجميع.
لقد دخل البلد في مرحلة تصريف الأعمال الَّتي يعمل فيها هذا المسؤول أو ذاك لحساب من يدير اللّعبة في المنطقة، وحتَّى من خلف البحار، ولكن بعناوين محليَّة. ولعلَّ الطامَّة الكبرى تكمن في أنَّ الجميع جرَّبوا كلَّ هذه الأوضاع، واستخدموا كلَّ أساليب الانفعال وسياسة الارتجال، ولم يحصلوا على شيء، ولكن في لبنان الّذي يلدغ فيه النَّادي السياسيّ من الجحر الإقليمي والدّولي ألف مرَّة، تستمرّ فيه تجربة مدّ الأصابع، ثمَّ يحدّثونك بأنَّها نوع من الإبداع اللّبناني الّذي لا يصنع إلَّا القلق، ولا يقود إلَّا إلى الاهتزاز والخراب.

*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 20/09/ 2009م.
 
هذا اليوم هو عيد الفطر الّذي جعله الله للمسلمين عيداً، ليعيشوا في أجوائه كلَّ معاني الروحانيَّة الّتي ترتفع بهم إلى الله سبحانه وتعالى، وليعيشوا الفرح الرّوحيّ، لأنَّهم قاموا بمسؤوليَّاتهم أمام الله سبحانه وتعالى في إطاعة أوامره واجتناب نواهيه، لأنَّ قصَّة العيد في الإسلام إنّما تنطلق من خلال المعاني الَّتي ترتفع بروح الإنسان، ولا تعيش في أجواء اللَّهو واللَّعب، ولا تعيش في أجواء العبث، لأنَّ الله سبحانه وتعالى أراد للنَّاس أن يشعروا في هذه الدّنيا بالفرح، انطلاقاً من الانفتاح عليه والإخلاص له، وأن يتطلَّبوا رحمته.
عيدُ القيامِ بالمسؤوليَّة
وقد ورد أنَّ هذا العيد هو عيد القيام بالمسؤوليَّة، وقد أكَّد الإمام أمير المؤمنين (ع) هذا المعنى بكلمته الخالدة الّتي قال فيها: "إِنَّمَا هُوَ عِيدٌ لِمَنْ قَبِلَ اللَّهُ صِيَامَهُ وَقِيَامَهُ"، لأنَّ قبول الله لصيامنا وقيامنا يعني رضاه عنَّا، وحبّه لنا، ورحمته بنا، ولطفه علينا. ولذلك، فإنَّ الإنسان يشعر بأنَّ عقله وقلبه وحياته كلّها تنفتح لربّه.
ثمَّ عقَّب الإمام عليّ (ع) بقوله: "وكلُّ يومٍ لا يُعصى الله فيه فهو عيد". فإذا كان عيد الفطر هو عيدُ القيام بالمسؤوليَّة، فيمكن للإنسان أن يجعل كلَّ أيَّامه أعياداً، عندما يطيع الله سبحانه وتعالى فيما أمره ونهاه، وعندما يتحرَّك في الحياة على أساس أن يكون عبد الله الَّذي أخلص له في توحيده في العقيدة، وفي العبادة والطَّاعة.
وعلى هذا الأساس، فإنَّ علينا في هذا العيد أن نعمل على أن نستفيد من كلّ ما استطعنا أن نحصل عليه في شهر رمضان، من عتق الله لنا من النَّار، ومن رضا الله علينا، أن لا نضيّع ما حصلنا عليه في هذا الشَّهر بالعمل الَّذي لا يرضي الله سبحانه وتعالى، على طريقة ذلك الإنسان الَّذي امتنع عن شرب الخمر في شهر رمضان، وعندما جاء يوم العيد، قال لنفسه:
رمضانُ ولَّى هاتِها يا ساقي            مشتاقةً تسعى إلى مشتاقِ
وقد ورد عن الإمام الصَّادق (ص): "خَطَبَ أميرُ المُؤمِنينَ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ (ع) يَومَ الفِطرِ فقالَ: أيُّها النّاسُ، إنَّ يَومَكُم هذا يَومٌ يُثابُ فيهِ المُحسِنونَ - على ما أحسنوا من طاعة الله سبحانه وتعالى في شهر رمضان - وَيَخْسَرُ فِيهِ المُبْطِلُونَ - الَّذين لم يقوموا بمسؤوليَّاتهم في هذا الشَّهر المبارك - وهُوَ أشبَهُ بِيَومِ قِيامِكُم – أي أنَّكم عندما تنطلقون إلى المساجد لتقفوا بين يدي الله سبحانه وتعالى، لتطلبوا رضاه، ولتستنزلوا رحمته، فإنَّ ذلك تماماً كوقوفكم بين يديه يوم القيامة - فَاذكُروا بِخُروجِكُم مِن مَنازِلِكُم إلى مُصَلَّاكُم، خُروجَكُم مِنَ الأجداثِ إلى رَبِّكُم - يوم يبعث الله النَّاس من الأجداث، لينطلقوا إلى موقف يوم القيامة - وَاذكُروا بِوُقوفِكُم في مُصَلَّاكُم وُقوفَكُم بَينَ يَدَي رَبِّكُم، وَاذكُروا بِرُجوعِكُم إلى مَنازِلِكُم، رجوعَكُم إلى منازلِكِم في الجنَّةِ. عِبادَ اللّهِ، إنَّ أدنى ما لِلصَّائمينَ والصَّائماتِ، أن يُنادِيَهُم مَلَكٌ في آخِرِ يَومٍ مِن شَهرِ رَمَضانَ: أبشِروا عِبادَ اللّه، فقَد غُفِرَ لَكُم ما سَلَفَ مِن ذُنوبِكُم، فَانظُروا كَيفَ تَكونونَ فيما تَستَأنِفونَ".
وهكذا نلاحظ أنَّ الإمام الحسن (ع) مرَّ في يوم فطر بقوم يلعبون ويضحكون، فوقف على رؤوسهم، فقال: "إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ شَهْرَ رَمَضَانَ مِضْمَارًا لِخَلْقِهِ، يَسْتَبِقُونَ فِيهِ لِطَاعَتِهِ، فَسَبَقَ قَوْمٌ فَفَازُوا، وَقَصَّرَ آخَرُونَ فَخَابُوا. فَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ، مِنْ ضَاحِكٍ لَاعِبٍ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يُثَابُ فِيهِ الْمُحْسِنُونَ، وَيَخْسَرُ فِيهِ الْمُبْطِلُونَ - هذا اليوم هو يوم الجوائز الَّتي يثيب الله فيها عباده على ما قاموا فيه من طاعته - وَأَيْمُ اللَّهِ، لَوْ كُشِفَ الْغِطَاءُ، لَعَلِمُوا أَنَّ الْمُحْسِنَ مَشْغُولٌ بِإِحْسَانِهِ، وَالْمُسِيءُ مَشْغُولٌ بِإِسَاءَتِهِ"، ثمَّ مضى.
الفرحُ الرّوحيّ
أيُّها الأحبَّة، إنَّ علينا في هذا الشَّهر أن نعيش الفرح الرّوحيّ، وأن نذكر أنَّ هناك الكثيرين من أمَّتنا ممن لا يجدون العيش الكريم، أو ممن يعانون المرض والبلاء والسّجن والتَّشريد والمواجهة للمستكبرين، فعلينا أن نعمل على أن ندعو الله لهم بأن يفرّج عنهم، وأن ننطلق من خلال وصيَّة الإمام عليّ (ع): "اللهَ اللهَ فِي الأَيْتَامِ، فَلَا تُغِبُّوا أَفْوَاهَهُمْ، وَلا يَضِيعُوا بِحَضْرَتِكُمْ"، لأنَّ الأيتام في المجتمع هم أمانة الله عندَ كلّ فردٍ من أفراده، فعلينا أن نحفظهم، وأن نعمل على أن يكونوا صالحين فيما يستقبلون من أمورهم.
وهكذا، لا بدَّ لنا أن نعمل على أن ننفتح على كلّ النَّاس المحرومين الَّذين يعيشون الحرمان أو البلاء في الحياة.
إنَّ علينا أن نصنع الفرح الرّوحيَّ والفرح الإنسانيَّ في هذا العيد السَّعيد، ليفرح المسلمون جميعاً بالحريَّة الَّتي يصنعونها، وبالعزَّة الَّتي ينطلقون فيها، وبكلّ ما يسقط المستكبرين ويرفع المستضعفين. إنَّ هذا عيدٌ للمسؤوليَّة، وعلينا أن نتحمَّل مسؤوليَّتنا عند المثولِ أمام الله، حتَّى نستطيعَ أن نقفَ بينَ يديه غداً {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[الشّعراء: 88 - 89].
                                                      بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
                                                          الخطبة الثَّانية
أيُّها المؤمنون، إنَّ معنى العيد أن نحتفل بالالتزام بما أدَّيناه من فروض الطَّاعة، ومن عبادات تتَّصل بالصَّوم عن كلّ المحرَّمات، وبتلاوة القرآن حقَّ تلاوته، وبأداء الصَّلاة بأكمل وجوهها، وبتحسّس آلام الفقراء والمقهورين، وبالتَّفاعل مع المحرومين والمستضعفين المضطهدين في كلّ مكان.
المسؤوليَّةُ تجاهَ الأمَّة
وبذلك يتحرَّك العيد ليكون انطلاقةً كبيرةً في خطّ المسؤوليَّة عن كلّ قضايا الأمَّة والإنسان، ولا سيَّما في مرحلتنا هذه الَّتي نرى فيها الاحتلال، وقد أطبق على أكثر من موقعٍ من مواقعِ الأمَّة؛ من فلسطين المحتلَّة أمّ القضايا الإسلاميَّة، إلى أفغانستان، إلى العراق، إلى أكثر من بلد يعاني احتلالاً مقنّعاً يرهن كلَّ سياساته وأوضاعه، ويحوّله إلى سجن كبير لشعبه، أو موقعٍ للفتن الدّاخليّة الّتي تمزّق حاضره ومستقبله، فضلاً عن الشَّلل الّذي أصاب الأنظمة السياسيَّة العربيَّة والإسلاميَّة في كثير من مواقعها، حتَّى أصبحت الوراثة العائليَّة عند المسؤولين سمة واقع الحكم السياسي، إلى المستوى الّذي بات بالإمكان رهن مستقبل الأمَّة للمصالح الشَّخصيَّة أو التطلّعات العائليَّة.
خطَّةٌ لتسليمِ فلسطين
وفي هذا الواقع، يتحضَّر المحور الأمريكيّ والإسرائيليّ لخلق بيئة سياسيَّة استسلاميَّة خالصة، يصار فيها إلى التَّوقيع على صكّ تسليم فلسطين كلّها إلى اليهود المحتلّين، وفي ظلّ الخطَّة الجديدة الَّتي توسَّلت لنفسها أساليبَ جديدةً، من خلال خطاب أوباما في إسطنبول ثمَّ في القاهرة، حيث جرى العمل على تجميد الملفَّات الهامشيَّة لحساب التفرغ للملفّ الكبير الّذي عنوانه فلسطين، والّذي يراد طيّ صفحاته بالكامل.
وهكذا، فقد تبيَّن للكثيرين ممن كانوا يصرّون على ضرورة إعطاء الرَّئيس الأمريكيّ الجديد، وإدارته الجديدة، فرصةً من الزَّمن، ليستجمع قواه المحليَّة، وليعيد توازنه، ويرسم سياسته الخاصَّة في ثنايا المؤسَّسة السياسيَّة والأمنيَّة الأمريكيَّة، تبيّن أنَّ أوباما بات الأكثر انسجاماً مع السياسة الإسرائيليَّة، والأكثر خضوعاً لشروط العدوّ، وأنَّ الّذي وعد به من التَّغيير ظهر في شخصيَّته الّتي برزت فيها ملامح الانسحاق أمام مطالب المؤسَّسة الأمريكيَّة الخاضعة تماما ًلشروط اللّوبي اليهودي، إلى المستوى الَّذي لاحظنا أنَّ الإدارة الجديدة لا تتمالك نفسها، حتَّى عندما يحوّل رئيس وزراء العدوّ تجميد الاستيطان إلى تخليص الاستيطان.
محاولاتٌ لزرعِ الفتنة
إنَّنا نخشى أن تكون الخطَّة الّتي انخرطت فيها أجهزة إعلاميَّة، وأخرى أمنيَّة، ومؤسَّسات سياسيَّة، لتحريكها في المنطقة العربيَّة والإسلاميَّة، تقوم على إحداث فتنة كبرى، وإنتاج المزيد من الصّراعات المذهبيَّة، ليسهّل ذلك السَّبيل أمام حركة التسوية، وليفسح المجال أمام العدوّ الإسرائيليّ، ليستعيدَ بناء قوَّته للسَّيطرة على واقع المنطقة، بعدما فقد الكثيرَ من قوَّته وهيبته في السَّنوات الأخيرة على أيدي المقاومة.
وإنَّنا في هذا السّياق، نلمح هجمةً شرسةً على مفاصل القوَّة في الأمَّة، حيث تُرمَى طلائعها المجاهدة والمقاوِمة بتهمة المذهبيَّة المغلقة، وبالسَّعي لتغليب هذا المذهب على ذاك، في هذا الموقع أو ذاك، ليدور الحديث في العالم الإسلاميّ عن نهوضٍ شيعيّ يواجه الواقع السنّيّ، أو نهوضٍ سنّيّ يواجه الواقع الشّيعيّ، ليؤسِّس ذلك لفتنةٍ تمهّد السَّبيل لعودة المشروع الاستكباريّ الصّهيوني لاندفاعته السَّابقة، بعدما استطاعت الأمَّة أن ترفع كاهله عنها، وأن تسدّد في وجهه ضربات قويَّة وثابتة.
إنَّنا نؤكّد أن ليس هناك نهوض شيعيّ يواجه السنَّة في الأمَّة، ولن نقبل بأيّ حركة إسلاميَّة شيعيَّة تستهدف السنَّة في أيّ موقعٍ من المواقع، وليس هناك نهوضٌ سنّيّ يواجه الشّيعة، لأنَّ أيَّ نهوض وأيَّة صحوة ينبغي أن تكون موجَّهة ضدّ المحتلّ وضدّ أعداء الأمَّة.
ولذلك، فعلى الّذين يلعبون هذه اللّعبة، من محاور معادية، أو من موظَّفين لديها، أن يعلموا أنَّ لعبتهم هذه أصبحت مكشوفة أمام الأمَّة، ولن يطول الزَّمان، حتَّى ينقلب السّحر على السَّاحر في نهاية المطاف.
لبنان: في محطّة الانتظار
أمَّا لبنان، فقد وضع مجدَّداً في محطَّة الانتظار، حيث أريد له أن يتجمَّد على مستوى الحركة السياسيَّة الفاعلة، وأن تحاصره الأزمات الاقتصاديَّة، وأن تضغط الضَّائقة المعيشيَّة على شعبه الّذي تزداد أرقام الفقر فيه تصاعداً، ويبدو أنَّ المحاور الدَّوليَّة الّتي سبق وأعلنت عن ارتياحها لوصول الأزمة الحكوميّة إلى محطَّة التَّعقيد، لا مانع عندها من أن تنطلق بعض الاهتزازات الأمنيَّة، لتمنع نموّاً ذاتيّاً يتطلَّع إليه النَّاس، في مواجهة مشاريع التَّجويع والتّفتيت العابرة إلى البلد الصَّغير من متاهات المنطقة الواسعة. ويبدو أنَّ هناك أخطبوطاً دوليّاً بات يعمل لقطع الطَّريق على المحاولات الجادَّة لتصحيح المسار في العلاقات العربيَّة – العربيَّة، وقد بدأ بتحضيرات جديدة، لممارسة ضغوط جديدة على بعض المواقع العربيَّة الممانعة، وعاد إلى دوره السَّابق في تحريك خيوط اللّعبة المزدوجة، ويريد للبنان أن يكون مجرَّد ورقة في المساومة حول بعض الملفَّات الإقليميَّة.
وفي هذ الأجواء، تتسلَّح إسرائيل، وترسَلُ إليها من أمريكا كلّ ترسانات الأسلحة والقنابل الذكيَّة، وتتعهَّدها الولايات المتحدة لتجعلها في منأى عن أيَّة هجمات صاروخيَّة مفترضة، ولتنطلق فيها المناورات بين وقت وآخر، لتحاكي أهدافاً لبنانيَّة يراد لها أن تظلَّ أسيرةً للمشاكل الدَّاخليَّة، حتَّى تأتيها الهجمة الصهيونيَّة وهي مشغولة بالهوامش والتفاصيل.
إنَّنا، وأمام هذا الجوّ العاصف، والغيوم السَّوداء المقبلة على لبنان، على أبواب الخريف، ندعو الجميع للانتصار للبنان ولمصالحه، قبل الاستغراق فيما يطلبه الخارج، والخروج من دائرة المساجلة السياسيَّة الَّتي يراد لها إغراق البلد في أتون السّجالات الانفعاليَّة، لتتحرَّك الحساسيَّات المذهبيَّة مجدَّداً، لتحاول النَّيل من الوحدة الإسلاميَّة، تمهيداً لتدمير البنيان الوطني على رؤوس الجميع.
لقد دخل البلد في مرحلة تصريف الأعمال الَّتي يعمل فيها هذا المسؤول أو ذاك لحساب من يدير اللّعبة في المنطقة، وحتَّى من خلف البحار، ولكن بعناوين محليَّة. ولعلَّ الطامَّة الكبرى تكمن في أنَّ الجميع جرَّبوا كلَّ هذه الأوضاع، واستخدموا كلَّ أساليب الانفعال وسياسة الارتجال، ولم يحصلوا على شيء، ولكن في لبنان الّذي يلدغ فيه النَّادي السياسيّ من الجحر الإقليمي والدّولي ألف مرَّة، تستمرّ فيه تجربة مدّ الأصابع، ثمَّ يحدّثونك بأنَّها نوع من الإبداع اللّبناني الّذي لا يصنع إلَّا القلق، ولا يقود إلَّا إلى الاهتزاز والخراب.

*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 20/09/ 2009م.
 
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية