في رحاب ولادة الإمام الرضا(ع) القرآن كلام الله: حجّة على الخلق وهدى من الضلال

في رحاب ولادة الإمام الرضا(ع) القرآن كلام الله: حجّة على الخلق وهدى من الضلال

بسم الله الرحمن الرحيم

خطبتا صلاة الجمعة لسماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله

ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء فيهما:

في رحاب ولادة الإمام الرضا(ع)

القرآن كلام الله: حجّة على الخلق وهدى من الضلال

إمامة الرضا(ع)

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}(الأحزاب:33).

في الحادي عشر من هذا الشهر، شهر ذي القعدة الحرام، كانت ولادة الإمام علي بن موسى الرضا(ع)، هذا الإمام الذي نصّ عليه أبوه الإمام موسى الكاظم(ع)، والّذي قال عنه إنّه الأفقه. وقد كان(ع) يجلس في المسجد وهو في ما يقارب العشرين عاماً من عمره، فكان العلماء يأتون إليه ليسألوه عن أحكام الإسلام ومفاهيمه وقواعده وأساليبه، لأنّهم كانوا يرون فيه المرجعية الإسلامية المعصومة التي تنفتح أخلاقها على أخلاق رسول الله(ص)، والّتي ينطلق علمها من علم رسول الله(ص).

وقد تحدّث المتحدِّثون عمّا أسموه السلسلة الذهبية، وذلك أنّه اجتمع يوماً إلى الإمام الرضا(ع)، العلماء والرواة الذين كانوا يروون الحديث عنه، فقالوا: حدّثنا يا بن رسول الله، فقال(ع): «حدَّثني أبي موسى بن جعفر، قال: حدثني أبي جعفر بن محمد، قال: حدثني أبي محمد بن علي بن الحسين، قال: حدثني أبي الحسين بن علي بن أبي طالب، قال: عن رسول الله عن جبرائيل عن الله أنه قال: كلمة لا إله إلا الله حصني، فمن دخل حصني أمِن من عذابي». فقد كان التوحيد الإلهي في العقيدة والعبادة والطّاعة والحبّ، هو ما يبلّغه الإمام الرّضا(ع) للناّس، وهو ما بلّغه لأبنائه، لأنّهم أئمة التوحيد الذين يريدون للعالم كله أن يوحّد الله تعالى. ويروى أنه بعد أن حدّثهم بهذا الحديث قال لهم: «بشرطها وشروطها».

أحاديثه في فضل القرآن

وكان الإمام الرضا(ع) يوجّه الناس إلى الالتزام بالقرآن، ليكون النور الذي يضيء عقولهم وقلوبهم وحياتهم، ويروى أنَّ بعض أصحابه سأله: ما تقول في القرآن؟ فقال(ع): «كلام الله، لا تتجاوزوه، ولا تطلبوا الهدى في غيره فتضلوا»، اطلبوا الهدى في القرآن وحده، لأنَّ القرآن هو الحق وما عداه هو الباطل.

 وسأله بعض أصحابه عن القرآن، فتحدّث عن أبيه موسى بن جعفر، أنَّ رجلاً سأل أبا عبد الله(ع): «ما بال القرآن لا يزداد عند النشر والدراسة إلا غضاضةً؟ ـ لماذا عندما نقرأه ونتدبّره نشعر بأنه نزل الآن، مع أنّه نزل قبل مئات السنين ـ فقال(ع):  ـ لأن الله لم ينـزله لزمان دون زمانـ فهو كتاب الحياة، وهو كالشمس التي تتجدّد في كل يوم كما لو كانت قد وُجدت في هذا اليوم ـ ولا لناسٍ دون ناسٍ، فهو في كل زمان جديد، وعند كل قوم غضّ إلى يوم القيامة».

وذكر الإمام الرضا(ع) يوماً القرآن، فعظّم الحجّة فيه والآية والمعجزة في نظمه، فقال: «هو حبل الله المتين، وعروته الوثقى، وطريقته المثلى، المؤدي إلى الجنة، والمنجي من النار. لا يخلق على الأزمنة ـ فلا يبلى ولا يتغيّر ـ ولا يغثّ على الألسنة، لأنه لم يجعل لزمانٍ دون زمان، بل جعل دليل البرهان والحجة على كل إنسان، {لَا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}(فصِّلت:42)»، فهو النّور الذي يهدي إلى الحقّ، والصّلاح الذي لا يفسد.

وهكذا نجد أن أئمَّة أهل البيت(ع) في إرشادهم للناس وهدايتهم، يدعونهم إلى الأخذ بالقرآن والعمل به وتدبّره والسير في خطِّ هدايته، ولذلك فإنّهم أرادوا من الناس كافةً إذا ورد لديهم أيّ حديث عن رسول الله(ص) أو عنهم(ع)، أن يعرضوه على القرآن، «فما وافق كتاب الله فاقبلوه، وما خالفه فاضربوا به عرض الحائط». وأمّا ما يحاول البعض ـ حتى في هذه الأيام ـ أن يصرّوا عليه، بأنّ أتباع أهل البيت يرون أن في القرآن زيادةً أو نقيصةً، فهو كلام باطل، لأنّ أتباع أهل البيت(ع) أجمعوا منذ القديم، أن القرآن معصوم من التحريف أو الزيادة أو النقصان.

وكان الإمام الرضا(ع) يوجّه الناس إلى تحكيم العقل بدل السقوط في نداء الغريزة، فكان(ع) يقول: «قال رسول الله(ص): صديق كل امرئ عقله، وعدوّه جهله»، لأنَّ العقل هو الذي يميّز الحقَّ من الباطل، والخير من الشر، والصواب من الخطأ، والطريق المستقيم من الطريق المنحرف، ولأن العقل هو الذي يهدي الإنسان إلى النتائج الكبرى، ولذلك جعله الله حجّةً على الإنسان يوم يقوم الناس لربّ العالمين. أمّا الجهل، فإنّه العدو الذي يضلّل الإنسان عن الطريق الصحيح وعن الصواب.

تواضعه الرسالي

وقد كان الإمام الرضا(ع) لا يفرّق في علاقاته بين إنسان وآخر، بل كان يتواضع لكلِّ الناس، ويذكر كتّاب سيرته، أن رجلاً من أهل بلخ قال: «كنت مع الرضا(ع) في سفره إلى خراسان، فدعا يوماً بمائدة له، فجمع عليها مواليه من السودان وغيرهم، فقلت : جعلت فداك، لو عزلت لهؤلاء مائدةً؟ فقال(ع):مه ـ اكفف عن ذلك ـإنَّ الربَّ تبارك وتعالى واحد، والأم واحدة، والأب واحد، والجزاء بالأعمال». وفي حديث: «سمعت علي بن موسى الرّضا(ع) يقول: حلفت بالعتق، ولا أحلف بالعتق إلا أعتقت رقبةً وأعتقت بعدها جميع ما أملك، إن كنت أرى أنّي خيرٌ من هذا (وأومأ إلى عبد أسود من غلمانه) بقرابتي من رسول الله(ص)، إلا أن يكون لي عملٌ صالحٌ فأكون أفضل به منه»، فالنسب وحده لا يجعل إنساناً أفضل من إنسان، فالذين ينتسبون إلى رسول الله ليسوا أفضل ممن لا ينتسبون إليه، إلاّ إذا كان لهم عمل يميّزهم ويرفعهم. وقد ورد عن عليّ(ع): «إن وليّ محمد من أطاع الله وإن بعدت لحمته، وإن عدوّ محمد من عصى الله وإن قربت قرابته»، {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ}(آل عمران:68)، فأولى الناس بالنبي(ص) الذين اتّبعوه، وعملوا بكتاب الله وسنّة نبيّه.

وعن الإمام الرضا(ع) قال: «إن الله عز وجلّ أمر بثلاثة مقرون بها ثلاثة أخرى: أمر بالصلاة والزكاة، فمن صلَّى ولم يزكِّ لم تقبل منه صلاته، وأمر بالشكر له وللوالدين، فمن لم يشكر والديه لم يشكر الله، وأمر باتقاء الله وصلة الرحم، فمن لم يصل رحمه لم يتق الله عز وجل». وورد عن عبد السلام بن صالح الهروي قال: "سمعت أبا الحسن علي بن موسى الرضا(ع) يقول: رحم الله عبداً أحيا أمرنا. فقلت له: وكيف يحيي أمركم؟ قال:يتعلم علومنا ويعلّمها الناس، فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتّبعونا». فالانفتاح على أهل البيت(ع) إنما ينطلق من الحديث عن تراثهم وأخلاقهم وسيرتهم وفضائلهم في حياتهم العامة مع الناس، وليس في ما استحدثه الناس من عادات وتقاليد، في إثارة المأساة، كضرب الرؤوس بالسيف، أو جلد الظهور بالسياط وما إلى ذلك، مما يؤدي إلى هتك المذهب وحرمة أهل البيت(ع).

الرضا(ع) وولاية العهد

وكان الإمام الرِّضا(ع) يملأ الدنيا علماً وأخلاقاً وتقوى واستقامةً، وقد طلب منه المأمون، بعد انتصاره على أخيه الأمين، أن يكون وليّاً للعهد، ولكن الإمام(ع) رفض ذلك، لأنّه عرف أن المأمون لم ينطلق في طلبه هذا من قناعة، بل من عقدة ضد أهل البيت، إلاّ أنّه قبل الولاية بعد ذلك ليستخدمها في نشر علوم الإسلام وأهل البيت(ع). وقد توفّي الإمام الرضا(ع) قبل وفاة المأمون الذي يُقال إنه دسّ له السم، ودفنه المأمون في طوس إلى جانب الرشيد. وقد علّق الشاعر الموالي دعبل الخزاعي على ذلك بقوله:

قبران في طوس خير النَّاس كلُّهموقبر شرّهم هذا من العبر

ما ينفع الرجس من قرب الزكي وماعلى الزكي بقرب الرجس من ضرر

هيهات كل امرئ رهنٌ بما كسبت له يداه فدع ما شئت أو فذرِ

إنّنا في ذكرى الإمام الرضا(ع)، نقف لنتأمّل عظمة هذا الإمام ووصاياه وسيرته ومواعظه ونصائحه، لأنَّ معنى ولايتنا لأهل البيت(ع)، هي أن نسير على خطاهم ونهتدي بهداهم، وننطلق في خطّ الاستقامة الذي أرادوا للناس أن يسلكوه، من خلال ما جاء في كتاب الله وسنّة رسوله.

والسلام على الإمام علي بن موسى الرضا يوم وُلد، ويوم انتقل إلى رحاب ربه، ويوم يُبعث حياً.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، فماذا هناك؟          

فتاوى عنصرية تستبيح قلب فلسطين:

في فلسطين المحتلَّة، نلتقي بمزيدٍ من الفتاوى العنصرية لمرجعيات الإفتاء اليهودي التي تجيز لليهود الاعتداء على منازل الفلسطينيين، والاستيلاء عليها، وسرقة محاصيلهم، وتسميم آبار المياه الفلسطينية، وقتل دوابّهم، إلى جانب فتاوى أخرى تبيح لجيش الاحتلال إطلاق النار في شكل مباشر على التجمّعات السكانية الفلسطينية.

وقد عمل المستوطنون الصهاينة بهذه الفتاوى، فقطعوا أشجار الزيتون، وجرفوا مزارع الفلسطينيين، واعتدوا على العمّال الفلسطينيين في بساتينهم وحقولهم، وخصوصاً في الخليل، وعاثوا فساداً وقتلاً وتدميراً في أماكن عديدة من الضفَّة الغربية ولا يزالون، مستفيدين من الفرصة التي يهيئها لهم جيش الاحتلال بمنع الفلسطينيين من الردِّ على العدوان بمثله، أو حتى الدفاع عن النفس، وتذرَّعِ المسؤولين الصهاينة بأنَّه ليس في مقدورهم حراسة بساتين الزيتون. وإلى جانب ذلك، ينطلق جيش الاحتلال بطائراته ودّباباته في عملية وحشية جديدة في قطاع غزة المحاصر، ليرتكب مجزرةً جديدةً على مرأى ومسمع من العالم الراضي أو الصامت.

ونحن، أمام هذا الواقع العدواني والوحشي، نسأل الأمم المتحدة وأمينها العام: ماذا صنعتم للشعب الفلسطيني؟ وهل إن واجباتكم ومسؤولياتكم تقتصر على إدانة أية عملية يقوم بها هذا الشاب الفلسطيني أو ذاك كرد فعل على جرائم الصهاينة؟ ونسأل دول الاتحاد الأوروبي خصوصاً، والدول الغربية عموماً، والتي تثير الحديث دائماً عن التطرف الإسلامي: لماذا لا تتحدثون عن التطرف اليهودي وعن هذه الفتاوى العنصرية التي لا نعرف مثيلاً لها في العالم كله؟

أما العالم العربي الذي لم يرفّ له جفن، ولم تنطلق منه مواقف ذات وزنٍ تدين الهجوم الأميركي على العمّال السوريين في الـ"بوكمال" السورية، فلن نطلب منه ولا من جامعته العربية شيئاً، لأنه عالمٌ خاضع على مستوى الأنظمة، ومقهورٌ على مستوى الشعوب. ولكننا نقول للفلسطينيين الذين ابتلوا بعدوّ غاشم، وبأنظمة عربية متخاذلة: إن عليكم أن تعدّوا العدّة لمواجهة حملات الإرهاب الإسرائيلية بأنفسكم، وأن تقلّعوا أشواك الاحتلال بأظافركم، لأنه لا جدوى من التعويل على عالمٍ عربيٍّ ماتت فيه النخوة، وعالم إسلامي تضاءلت فيه الهمم، وأعانكم الله على هذه الآلام في عالم لا ضمير له، ولا محرّك لوجدانه إلا مصالحه وأطماعه.

أمريكا: هل تتوازن الإدارة الجديدة في مواقفها؟

وفي المشهد الأمريكي، نلتقي بالانتخابات الرئاسية الأميركية، في صورة رئيس جديد يطل على العالم بعد ثماني سنوات من حكم إدارة دموية طاغية، أجازت لنفسها استباحة العالم العربي والإسلامي بحروبها الاستباقية، واستباحة العالم كله بقراراتها الفوقية، فدمّرت الاقتصاد الأميركي، وعبثت باقتصاد العالم.

إننا في الوقت الذي نعرف أنَّ الإدارات الأميركية لا يختلف كثيراً بعضها عن بعض، وخصوصاً في الذهنية الإمبراطورية التي تحاول التحكّم بالعالم أمنياً وسياسياً واقتصادياً، إلا أننا نعرف أنَّ الولايات المتحدة الأميركية اليوم تختلف كثيراً عنها بالأمس، وخصوصاً في بنيتها الاقتصادية والسياسية، وفي المآزق التي تعيشها، وخصوصاً في أفغانستان والعراق، ولذلك فنحن نوجِّه النصيحة للإدارة القادمة بأن تتوازن في مواقفها، لأنَّ أعباء الملفَّات التي تركها جورج بوش الابن ونائبه ديك تشيني، هي أعباء ثقيلة تنوء بها أكبر الإدارات، فليس من الحكمة بمكان أن تصنع الإدارة الجديدة عداواتٍ جديدةً لها في طول العالم العربي والإسلامي وعرضه، أو أن تجعل إسرائيل في قائمة أولوياتها، لأننا نعرف أن الهموم الأميركية باتت كبيرةً جداً، الأمر الذي يفرض على القادمين الجدد وحاملي لواء التغيير أن يتواضعوا قليلاً، لأن قواعد اللعبة تغيّرت عالمياً وفي المنطقة.

وفي هذه المناسبة، نتوجَّه إلى العراقيين الذين يتعرَّضون لسيلٍ من التهديدات الأميركية في هذه الأيام، لدفعهم إلى التوقيع على الاتفاقية الأمنية مع الاحتلال كيفما اتَّفق، لنقول لهم إنَّ عليهم أن يصرّوا على الموقف الحاسم الرافض لأيِّ انتقاص لسيادتهم، وعلى عدم الإفساح في المجال أمام إقامة أية قواعد عسكرية للاحتلال، بما فيها تلك التي وافقت عليها كردستان التي تتحرك كدولة كردية مستقلة بعيداً من الموقع الاتحادي للدولة العراقية.

كما نتوجه إلى العرب والمسلمين، لندعوهم إلى الخروج من دائرة الرهان على أية إدارة أميركية جديدة، لأنّ هذه الإدارات لا تتطلّع إلى المنطقة إلا من نافذتي النفط وإسرائيل، ولذلك فسيبقى العالم العربي والإسلامي بالنسبة إليهم البقرة الحلوب التي تدرُّ نفطها لحسابهم، وتخضع أوضاعها الحيوية لمتطلّبات اقتصادهم، وسيواصل هؤلاء الضغط على العالم العربي والإسلامي تحت عنوان الحرب على الإرهاب ما لم يهبَّ العرب والمسلمون هبَّة الرجل الواحد لانتزاع حقوقهم، وطرد المحتل الغاصب من أراضيهم.

لبنان: انتهاكات صهيونية متكرِّرة للأراضي والمياه

أمّا في لبنان، فنحن نلتقي بالطلعات العدوانية للطيران الحربي الصهيوني في كل يوم، وبالانتهاكات البريّة للعدو، من دون أن يُحرّك هذا العدوان ساكناً في الأمم المتحدة، ولا في تقارير أمينها العام ومندوبيه الذين لا يثيرون الحديث عن انتهاكات العدوّ المستمرة للقرار 1701، ولا شغل لهم إلاّ إثارة الحديث عن القرار 1559، في الوقت الذي تأخذ إسرائيل كل حريتها في الاعتداء على سوريا ولبنان، وتنتهك كل القرارات الدولية في جرائمها المتواصلة، من دون أن يحاسبها أحد.

ومن جهةٍ أخرى، فإنَّ الأطماع الإسرائيلية بالمياه اللّبنانية وسرقتها لبعض امتداداتها، لا تزال تمثل خطراً على مصادر المياه في لبنان. ولعلّ أخطر الأمور هو تعطيل مشروع الليطاني الذي جمّدته السياسات اللبنانية المعقّدة والخاضعة للخطط الدولية، ولا سيما الولايات المتحدة الأميركية، حتى تتمكّن إسرائيل من القول إنها في حاجة إلى مياهه التي تذهب هدراً إلى البحر، من دون أن ينتفع بها أحد.

إننا ندعو الحكومة اللبنانية إلى القيام بدراسةٍ واسعةٍ شاملةٍ من أجل القيام بتنفيذ هذا المشروع للشرب والريّ، وتطوير الزراعة للمناطق اللبنانية المحرومة الظامئة، ولا سيما منطقة الجنوب، لأنَّ مسؤوليَّتها أن تحافظ على الثّروة المائية والزراعية والنقدية والاقتصادية التي قد تؤدي إلى توفير ثروةٍ إنمائية في الجانب الاقتصادي، تكفل للوطن الوصول إلى بعض الموارد التي تساهم في التخلّص من المديونية التي كادت أن تدمِّر البلد، لأنّها تأكل الإنتاج الوطني بفوائدها الساحقة. إن الحكومة التي لا تقوم بالتخطيط لمشاريعها الإنتاجية، هي حكومة لا ترتفع إلى مستوى المسؤولية عن الدولة والشعب والوطن كله.  

وفي الشأن الداخلي اللبناني، يلتقي اللبنانيون، الخاضعون لأكثر من خلفية إقليمية أو دولية أو عقدة طائفية أو حزبية أو مذهبية أو شخصانية، يلتقون مجدداً على طاولة الحوار، بما يُنفِّس فيه الكثيرون عن تعقيداتهم الخاصة، وبما يطلّ على نتائج المعركة الانتخابية القادمة التي قد يسعى أكثر من محور دولي وإقليمي عبرها للتقليل من خسائره فيها، أو لاستدراك مفاعيل ما يحصل في المنطقة والعالم، فيما تسعى محاور أخرى لاستثمار ذلك في حركتها السياسية وغير السياسية تجاه لبنان، في ظل حديثٍ لا ينقطع عن المال السياسي الذي بدأ يزحف إلى الجيوب اللبنانية الخاوية أو غير الخاوية قبل أن يأتي ربيع الانتخابات.

إنّنا نحذّر من الآن من ذهاب الأصوات اللبنانية إلى صناديق الاقتراع الإقليمية أو الدولية، ونقول للبنانيين إن المرحلة التي تنتظرهم هي من أصعب المراحل وأعقدها، لأننا نعتقد أن الزلزال الاقتصادي والسياسي الذي يضرب العالم في هذه الأيام ستكون له تردّداته في المنطقة وفي لبنان، ولذلك فإنّ المسؤولية الكبرى تقع على عاتق من هم في موقع المسؤولية الرسمية قبل غيرهم، لكي يتحلّوا بالكثير من الحكمة والمرونة والإخلاص ـ الذي بات عملةً نادرةً عندنا ـ لاجتناب ما يزرعه الكثيرون من ألغام قاتلة، وللبدء بمسيرة البناء بعدما أكلت مسيرة الهدم الأخضر واليابس، فلم يبق إلاّ القليل.

بسم الله الرحمن الرحيم

خطبتا صلاة الجمعة لسماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله

ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء فيهما:

في رحاب ولادة الإمام الرضا(ع)

القرآن كلام الله: حجّة على الخلق وهدى من الضلال

إمامة الرضا(ع)

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}(الأحزاب:33).

في الحادي عشر من هذا الشهر، شهر ذي القعدة الحرام، كانت ولادة الإمام علي بن موسى الرضا(ع)، هذا الإمام الذي نصّ عليه أبوه الإمام موسى الكاظم(ع)، والّذي قال عنه إنّه الأفقه. وقد كان(ع) يجلس في المسجد وهو في ما يقارب العشرين عاماً من عمره، فكان العلماء يأتون إليه ليسألوه عن أحكام الإسلام ومفاهيمه وقواعده وأساليبه، لأنّهم كانوا يرون فيه المرجعية الإسلامية المعصومة التي تنفتح أخلاقها على أخلاق رسول الله(ص)، والّتي ينطلق علمها من علم رسول الله(ص).

وقد تحدّث المتحدِّثون عمّا أسموه السلسلة الذهبية، وذلك أنّه اجتمع يوماً إلى الإمام الرضا(ع)، العلماء والرواة الذين كانوا يروون الحديث عنه، فقالوا: حدّثنا يا بن رسول الله، فقال(ع): «حدَّثني أبي موسى بن جعفر، قال: حدثني أبي جعفر بن محمد، قال: حدثني أبي محمد بن علي بن الحسين، قال: حدثني أبي الحسين بن علي بن أبي طالب، قال: عن رسول الله عن جبرائيل عن الله أنه قال: كلمة لا إله إلا الله حصني، فمن دخل حصني أمِن من عذابي». فقد كان التوحيد الإلهي في العقيدة والعبادة والطّاعة والحبّ، هو ما يبلّغه الإمام الرّضا(ع) للناّس، وهو ما بلّغه لأبنائه، لأنّهم أئمة التوحيد الذين يريدون للعالم كله أن يوحّد الله تعالى. ويروى أنه بعد أن حدّثهم بهذا الحديث قال لهم: «بشرطها وشروطها».

أحاديثه في فضل القرآن

وكان الإمام الرضا(ع) يوجّه الناس إلى الالتزام بالقرآن، ليكون النور الذي يضيء عقولهم وقلوبهم وحياتهم، ويروى أنَّ بعض أصحابه سأله: ما تقول في القرآن؟ فقال(ع): «كلام الله، لا تتجاوزوه، ولا تطلبوا الهدى في غيره فتضلوا»، اطلبوا الهدى في القرآن وحده، لأنَّ القرآن هو الحق وما عداه هو الباطل.

 وسأله بعض أصحابه عن القرآن، فتحدّث عن أبيه موسى بن جعفر، أنَّ رجلاً سأل أبا عبد الله(ع): «ما بال القرآن لا يزداد عند النشر والدراسة إلا غضاضةً؟ ـ لماذا عندما نقرأه ونتدبّره نشعر بأنه نزل الآن، مع أنّه نزل قبل مئات السنين ـ فقال(ع):  ـ لأن الله لم ينـزله لزمان دون زمانـ فهو كتاب الحياة، وهو كالشمس التي تتجدّد في كل يوم كما لو كانت قد وُجدت في هذا اليوم ـ ولا لناسٍ دون ناسٍ، فهو في كل زمان جديد، وعند كل قوم غضّ إلى يوم القيامة».

وذكر الإمام الرضا(ع) يوماً القرآن، فعظّم الحجّة فيه والآية والمعجزة في نظمه، فقال: «هو حبل الله المتين، وعروته الوثقى، وطريقته المثلى، المؤدي إلى الجنة، والمنجي من النار. لا يخلق على الأزمنة ـ فلا يبلى ولا يتغيّر ـ ولا يغثّ على الألسنة، لأنه لم يجعل لزمانٍ دون زمان، بل جعل دليل البرهان والحجة على كل إنسان، {لَا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}(فصِّلت:42)»، فهو النّور الذي يهدي إلى الحقّ، والصّلاح الذي لا يفسد.

وهكذا نجد أن أئمَّة أهل البيت(ع) في إرشادهم للناس وهدايتهم، يدعونهم إلى الأخذ بالقرآن والعمل به وتدبّره والسير في خطِّ هدايته، ولذلك فإنّهم أرادوا من الناس كافةً إذا ورد لديهم أيّ حديث عن رسول الله(ص) أو عنهم(ع)، أن يعرضوه على القرآن، «فما وافق كتاب الله فاقبلوه، وما خالفه فاضربوا به عرض الحائط». وأمّا ما يحاول البعض ـ حتى في هذه الأيام ـ أن يصرّوا عليه، بأنّ أتباع أهل البيت يرون أن في القرآن زيادةً أو نقيصةً، فهو كلام باطل، لأنّ أتباع أهل البيت(ع) أجمعوا منذ القديم، أن القرآن معصوم من التحريف أو الزيادة أو النقصان.

وكان الإمام الرضا(ع) يوجّه الناس إلى تحكيم العقل بدل السقوط في نداء الغريزة، فكان(ع) يقول: «قال رسول الله(ص): صديق كل امرئ عقله، وعدوّه جهله»، لأنَّ العقل هو الذي يميّز الحقَّ من الباطل، والخير من الشر، والصواب من الخطأ، والطريق المستقيم من الطريق المنحرف، ولأن العقل هو الذي يهدي الإنسان إلى النتائج الكبرى، ولذلك جعله الله حجّةً على الإنسان يوم يقوم الناس لربّ العالمين. أمّا الجهل، فإنّه العدو الذي يضلّل الإنسان عن الطريق الصحيح وعن الصواب.

تواضعه الرسالي

وقد كان الإمام الرضا(ع) لا يفرّق في علاقاته بين إنسان وآخر، بل كان يتواضع لكلِّ الناس، ويذكر كتّاب سيرته، أن رجلاً من أهل بلخ قال: «كنت مع الرضا(ع) في سفره إلى خراسان، فدعا يوماً بمائدة له، فجمع عليها مواليه من السودان وغيرهم، فقلت : جعلت فداك، لو عزلت لهؤلاء مائدةً؟ فقال(ع):مه ـ اكفف عن ذلك ـإنَّ الربَّ تبارك وتعالى واحد، والأم واحدة، والأب واحد، والجزاء بالأعمال». وفي حديث: «سمعت علي بن موسى الرّضا(ع) يقول: حلفت بالعتق، ولا أحلف بالعتق إلا أعتقت رقبةً وأعتقت بعدها جميع ما أملك، إن كنت أرى أنّي خيرٌ من هذا (وأومأ إلى عبد أسود من غلمانه) بقرابتي من رسول الله(ص)، إلا أن يكون لي عملٌ صالحٌ فأكون أفضل به منه»، فالنسب وحده لا يجعل إنساناً أفضل من إنسان، فالذين ينتسبون إلى رسول الله ليسوا أفضل ممن لا ينتسبون إليه، إلاّ إذا كان لهم عمل يميّزهم ويرفعهم. وقد ورد عن عليّ(ع): «إن وليّ محمد من أطاع الله وإن بعدت لحمته، وإن عدوّ محمد من عصى الله وإن قربت قرابته»، {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ}(آل عمران:68)، فأولى الناس بالنبي(ص) الذين اتّبعوه، وعملوا بكتاب الله وسنّة نبيّه.

وعن الإمام الرضا(ع) قال: «إن الله عز وجلّ أمر بثلاثة مقرون بها ثلاثة أخرى: أمر بالصلاة والزكاة، فمن صلَّى ولم يزكِّ لم تقبل منه صلاته، وأمر بالشكر له وللوالدين، فمن لم يشكر والديه لم يشكر الله، وأمر باتقاء الله وصلة الرحم، فمن لم يصل رحمه لم يتق الله عز وجل». وورد عن عبد السلام بن صالح الهروي قال: "سمعت أبا الحسن علي بن موسى الرضا(ع) يقول: رحم الله عبداً أحيا أمرنا. فقلت له: وكيف يحيي أمركم؟ قال:يتعلم علومنا ويعلّمها الناس، فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتّبعونا». فالانفتاح على أهل البيت(ع) إنما ينطلق من الحديث عن تراثهم وأخلاقهم وسيرتهم وفضائلهم في حياتهم العامة مع الناس، وليس في ما استحدثه الناس من عادات وتقاليد، في إثارة المأساة، كضرب الرؤوس بالسيف، أو جلد الظهور بالسياط وما إلى ذلك، مما يؤدي إلى هتك المذهب وحرمة أهل البيت(ع).

الرضا(ع) وولاية العهد

وكان الإمام الرِّضا(ع) يملأ الدنيا علماً وأخلاقاً وتقوى واستقامةً، وقد طلب منه المأمون، بعد انتصاره على أخيه الأمين، أن يكون وليّاً للعهد، ولكن الإمام(ع) رفض ذلك، لأنّه عرف أن المأمون لم ينطلق في طلبه هذا من قناعة، بل من عقدة ضد أهل البيت، إلاّ أنّه قبل الولاية بعد ذلك ليستخدمها في نشر علوم الإسلام وأهل البيت(ع). وقد توفّي الإمام الرضا(ع) قبل وفاة المأمون الذي يُقال إنه دسّ له السم، ودفنه المأمون في طوس إلى جانب الرشيد. وقد علّق الشاعر الموالي دعبل الخزاعي على ذلك بقوله:

قبران في طوس خير النَّاس كلُّهموقبر شرّهم هذا من العبر

ما ينفع الرجس من قرب الزكي وماعلى الزكي بقرب الرجس من ضرر

هيهات كل امرئ رهنٌ بما كسبت له يداه فدع ما شئت أو فذرِ

إنّنا في ذكرى الإمام الرضا(ع)، نقف لنتأمّل عظمة هذا الإمام ووصاياه وسيرته ومواعظه ونصائحه، لأنَّ معنى ولايتنا لأهل البيت(ع)، هي أن نسير على خطاهم ونهتدي بهداهم، وننطلق في خطّ الاستقامة الذي أرادوا للناس أن يسلكوه، من خلال ما جاء في كتاب الله وسنّة رسوله.

والسلام على الإمام علي بن موسى الرضا يوم وُلد، ويوم انتقل إلى رحاب ربه، ويوم يُبعث حياً.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، فماذا هناك؟          

فتاوى عنصرية تستبيح قلب فلسطين:

في فلسطين المحتلَّة، نلتقي بمزيدٍ من الفتاوى العنصرية لمرجعيات الإفتاء اليهودي التي تجيز لليهود الاعتداء على منازل الفلسطينيين، والاستيلاء عليها، وسرقة محاصيلهم، وتسميم آبار المياه الفلسطينية، وقتل دوابّهم، إلى جانب فتاوى أخرى تبيح لجيش الاحتلال إطلاق النار في شكل مباشر على التجمّعات السكانية الفلسطينية.

وقد عمل المستوطنون الصهاينة بهذه الفتاوى، فقطعوا أشجار الزيتون، وجرفوا مزارع الفلسطينيين، واعتدوا على العمّال الفلسطينيين في بساتينهم وحقولهم، وخصوصاً في الخليل، وعاثوا فساداً وقتلاً وتدميراً في أماكن عديدة من الضفَّة الغربية ولا يزالون، مستفيدين من الفرصة التي يهيئها لهم جيش الاحتلال بمنع الفلسطينيين من الردِّ على العدوان بمثله، أو حتى الدفاع عن النفس، وتذرَّعِ المسؤولين الصهاينة بأنَّه ليس في مقدورهم حراسة بساتين الزيتون. وإلى جانب ذلك، ينطلق جيش الاحتلال بطائراته ودّباباته في عملية وحشية جديدة في قطاع غزة المحاصر، ليرتكب مجزرةً جديدةً على مرأى ومسمع من العالم الراضي أو الصامت.

ونحن، أمام هذا الواقع العدواني والوحشي، نسأل الأمم المتحدة وأمينها العام: ماذا صنعتم للشعب الفلسطيني؟ وهل إن واجباتكم ومسؤولياتكم تقتصر على إدانة أية عملية يقوم بها هذا الشاب الفلسطيني أو ذاك كرد فعل على جرائم الصهاينة؟ ونسأل دول الاتحاد الأوروبي خصوصاً، والدول الغربية عموماً، والتي تثير الحديث دائماً عن التطرف الإسلامي: لماذا لا تتحدثون عن التطرف اليهودي وعن هذه الفتاوى العنصرية التي لا نعرف مثيلاً لها في العالم كله؟

أما العالم العربي الذي لم يرفّ له جفن، ولم تنطلق منه مواقف ذات وزنٍ تدين الهجوم الأميركي على العمّال السوريين في الـ"بوكمال" السورية، فلن نطلب منه ولا من جامعته العربية شيئاً، لأنه عالمٌ خاضع على مستوى الأنظمة، ومقهورٌ على مستوى الشعوب. ولكننا نقول للفلسطينيين الذين ابتلوا بعدوّ غاشم، وبأنظمة عربية متخاذلة: إن عليكم أن تعدّوا العدّة لمواجهة حملات الإرهاب الإسرائيلية بأنفسكم، وأن تقلّعوا أشواك الاحتلال بأظافركم، لأنه لا جدوى من التعويل على عالمٍ عربيٍّ ماتت فيه النخوة، وعالم إسلامي تضاءلت فيه الهمم، وأعانكم الله على هذه الآلام في عالم لا ضمير له، ولا محرّك لوجدانه إلا مصالحه وأطماعه.

أمريكا: هل تتوازن الإدارة الجديدة في مواقفها؟

وفي المشهد الأمريكي، نلتقي بالانتخابات الرئاسية الأميركية، في صورة رئيس جديد يطل على العالم بعد ثماني سنوات من حكم إدارة دموية طاغية، أجازت لنفسها استباحة العالم العربي والإسلامي بحروبها الاستباقية، واستباحة العالم كله بقراراتها الفوقية، فدمّرت الاقتصاد الأميركي، وعبثت باقتصاد العالم.

إننا في الوقت الذي نعرف أنَّ الإدارات الأميركية لا يختلف كثيراً بعضها عن بعض، وخصوصاً في الذهنية الإمبراطورية التي تحاول التحكّم بالعالم أمنياً وسياسياً واقتصادياً، إلا أننا نعرف أنَّ الولايات المتحدة الأميركية اليوم تختلف كثيراً عنها بالأمس، وخصوصاً في بنيتها الاقتصادية والسياسية، وفي المآزق التي تعيشها، وخصوصاً في أفغانستان والعراق، ولذلك فنحن نوجِّه النصيحة للإدارة القادمة بأن تتوازن في مواقفها، لأنَّ أعباء الملفَّات التي تركها جورج بوش الابن ونائبه ديك تشيني، هي أعباء ثقيلة تنوء بها أكبر الإدارات، فليس من الحكمة بمكان أن تصنع الإدارة الجديدة عداواتٍ جديدةً لها في طول العالم العربي والإسلامي وعرضه، أو أن تجعل إسرائيل في قائمة أولوياتها، لأننا نعرف أن الهموم الأميركية باتت كبيرةً جداً، الأمر الذي يفرض على القادمين الجدد وحاملي لواء التغيير أن يتواضعوا قليلاً، لأن قواعد اللعبة تغيّرت عالمياً وفي المنطقة.

وفي هذه المناسبة، نتوجَّه إلى العراقيين الذين يتعرَّضون لسيلٍ من التهديدات الأميركية في هذه الأيام، لدفعهم إلى التوقيع على الاتفاقية الأمنية مع الاحتلال كيفما اتَّفق، لنقول لهم إنَّ عليهم أن يصرّوا على الموقف الحاسم الرافض لأيِّ انتقاص لسيادتهم، وعلى عدم الإفساح في المجال أمام إقامة أية قواعد عسكرية للاحتلال، بما فيها تلك التي وافقت عليها كردستان التي تتحرك كدولة كردية مستقلة بعيداً من الموقع الاتحادي للدولة العراقية.

كما نتوجه إلى العرب والمسلمين، لندعوهم إلى الخروج من دائرة الرهان على أية إدارة أميركية جديدة، لأنّ هذه الإدارات لا تتطلّع إلى المنطقة إلا من نافذتي النفط وإسرائيل، ولذلك فسيبقى العالم العربي والإسلامي بالنسبة إليهم البقرة الحلوب التي تدرُّ نفطها لحسابهم، وتخضع أوضاعها الحيوية لمتطلّبات اقتصادهم، وسيواصل هؤلاء الضغط على العالم العربي والإسلامي تحت عنوان الحرب على الإرهاب ما لم يهبَّ العرب والمسلمون هبَّة الرجل الواحد لانتزاع حقوقهم، وطرد المحتل الغاصب من أراضيهم.

لبنان: انتهاكات صهيونية متكرِّرة للأراضي والمياه

أمّا في لبنان، فنحن نلتقي بالطلعات العدوانية للطيران الحربي الصهيوني في كل يوم، وبالانتهاكات البريّة للعدو، من دون أن يُحرّك هذا العدوان ساكناً في الأمم المتحدة، ولا في تقارير أمينها العام ومندوبيه الذين لا يثيرون الحديث عن انتهاكات العدوّ المستمرة للقرار 1701، ولا شغل لهم إلاّ إثارة الحديث عن القرار 1559، في الوقت الذي تأخذ إسرائيل كل حريتها في الاعتداء على سوريا ولبنان، وتنتهك كل القرارات الدولية في جرائمها المتواصلة، من دون أن يحاسبها أحد.

ومن جهةٍ أخرى، فإنَّ الأطماع الإسرائيلية بالمياه اللّبنانية وسرقتها لبعض امتداداتها، لا تزال تمثل خطراً على مصادر المياه في لبنان. ولعلّ أخطر الأمور هو تعطيل مشروع الليطاني الذي جمّدته السياسات اللبنانية المعقّدة والخاضعة للخطط الدولية، ولا سيما الولايات المتحدة الأميركية، حتى تتمكّن إسرائيل من القول إنها في حاجة إلى مياهه التي تذهب هدراً إلى البحر، من دون أن ينتفع بها أحد.

إننا ندعو الحكومة اللبنانية إلى القيام بدراسةٍ واسعةٍ شاملةٍ من أجل القيام بتنفيذ هذا المشروع للشرب والريّ، وتطوير الزراعة للمناطق اللبنانية المحرومة الظامئة، ولا سيما منطقة الجنوب، لأنَّ مسؤوليَّتها أن تحافظ على الثّروة المائية والزراعية والنقدية والاقتصادية التي قد تؤدي إلى توفير ثروةٍ إنمائية في الجانب الاقتصادي، تكفل للوطن الوصول إلى بعض الموارد التي تساهم في التخلّص من المديونية التي كادت أن تدمِّر البلد، لأنّها تأكل الإنتاج الوطني بفوائدها الساحقة. إن الحكومة التي لا تقوم بالتخطيط لمشاريعها الإنتاجية، هي حكومة لا ترتفع إلى مستوى المسؤولية عن الدولة والشعب والوطن كله.  

وفي الشأن الداخلي اللبناني، يلتقي اللبنانيون، الخاضعون لأكثر من خلفية إقليمية أو دولية أو عقدة طائفية أو حزبية أو مذهبية أو شخصانية، يلتقون مجدداً على طاولة الحوار، بما يُنفِّس فيه الكثيرون عن تعقيداتهم الخاصة، وبما يطلّ على نتائج المعركة الانتخابية القادمة التي قد يسعى أكثر من محور دولي وإقليمي عبرها للتقليل من خسائره فيها، أو لاستدراك مفاعيل ما يحصل في المنطقة والعالم، فيما تسعى محاور أخرى لاستثمار ذلك في حركتها السياسية وغير السياسية تجاه لبنان، في ظل حديثٍ لا ينقطع عن المال السياسي الذي بدأ يزحف إلى الجيوب اللبنانية الخاوية أو غير الخاوية قبل أن يأتي ربيع الانتخابات.

إنّنا نحذّر من الآن من ذهاب الأصوات اللبنانية إلى صناديق الاقتراع الإقليمية أو الدولية، ونقول للبنانيين إن المرحلة التي تنتظرهم هي من أصعب المراحل وأعقدها، لأننا نعتقد أن الزلزال الاقتصادي والسياسي الذي يضرب العالم في هذه الأيام ستكون له تردّداته في المنطقة وفي لبنان، ولذلك فإنّ المسؤولية الكبرى تقع على عاتق من هم في موقع المسؤولية الرسمية قبل غيرهم، لكي يتحلّوا بالكثير من الحكمة والمرونة والإخلاص ـ الذي بات عملةً نادرةً عندنا ـ لاجتناب ما يزرعه الكثيرون من ألغام قاتلة، وللبدء بمسيرة البناء بعدما أكلت مسيرة الهدم الأخضر واليابس، فلم يبق إلاّ القليل.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية