مسؤوليَّة الإصلاح بين النّاس:
جاء في وصية أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(ع)، لولده الحسن والحسين (ع) يقول: "أُوصِيكُمَا، وَجَمِيعَ وَلَدِي وَأَهْلِي وَمَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي، بِتَقْوَى اللهِ، وَنَظْمِ أَمْرِكُمْ، وَصَلاَحِ ذَاتِ بَيْنِكُمْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ جَدَّكُمَا (ص) يَقُولُ: `صَلاَحُ ذَاتِ الْبَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الصَّلاَةِ الصِّيَامِ`"، "وان البغضة حالقة الدين وفساد ذات البين ولا قوة الا بالله".
في هذه الوصيّة، يؤكِّد الإمام(ع) مسألة حيوية، وربما مصيرية في المجتمع الإسلامي والأمّة الإسلامية، فمن الطبيعي أن يختلف الناس فيما بينهم، إمّا من خلال اختلاف وجهات النظر في الاجتهادات الفقهية، أو من خلال العلاقات الاجتماعية، سواء كانت علاقات تتصل بالتعقيدات التي قد تحصل في داخل العائلة الواحدة أو العشيرة الواحدة أو الحزب الواحد أو الطائفة الواحدة، أو تحصل بين شخصين، بين زوج وزوجته أو بين أخ وأخيه في بعض القضايا النفسية أو المالية أو الاقتصادية والإرثية.
والإمام(ع) في وصيَّته، يؤكّد على ضرورة أن يتحمَّل المجتمع كلُّه مسؤوليَّة القيام بمهمَّة الإصلاح بين المختلفين بكلِّ الوسائل الإنسانية الممكنة، لأن الخلافات بين الناس قد تقود إلى نتائج سلبية مدمِّرة للمجتمع، فالخلافات بين الزوجين قد تؤدِّي إلى الطلاق، أو إلى سقوط الأسرة وضياع الأولاد، إضافةً إلى الانعكاسات السلبية على كلٍّ من الزوج والزوجة معاً، والاختلافات داخل الأسرة الواحدة بين الأب وأولاده، أو بين الأم وأولادها، ربما تؤدي إلى أن يهجر الأب أولاده، أو يهجر الأبناء آباءهم، أو يتعاطوا مع أهلهم بالقسوة، وهذا ما حرَّمه الله في العلاقة مع الأهل. وقد رأينا الكثير من الآباء يهجرون أسرهم، ولا يتحمَّلون مسؤوليتهم.
وهكذا عندما تحصل خلافات في المسألة الاقتصادية بين الناس الذين يشرفون على القضايا الاقتصادية في المجتمع، سواء كانت قضايا شخصيةً أو قضايا تتصل باقتصاد البلد كلّه. وأيضاً عندما تمتدٌّ القضية إلى الواقع السياسي، فإنّ الاختلافات بين حزب وحزب، أو بين طائفة وطائفة، قد تؤدِّي إلى التنازع والتحاقد، وقد تنتهي إلى الحرب، كما لاحظنا ذلك، فيما واجهناه من حرب داخلية بين أبناء الطائفة الواحدة أو بين الطوائف المتعددة في البلد. وهذا ما نواجهه الآن في العراق بين السنَّة والشيعة وما إلى ذلك، مما يراد من إثارة الفتن بين المسلمين، من خلال بعض الزعامات الطائفية التي تريد أن تؤكِّد زعامتها والتفاف الناس من طائفتها عليها، فتعمل على خلق خلافات مذهبية بين المسلمين، لإيجاد فتنة سنية ـ شيعية، أو فتنة سنية ـ سنية، أو شيعية ـ شيعية، ما قد يؤدِّي إلى بعض النتائج التي يستغلُّها غير المسلمين ممن يحاولون أن يحرّكوا سياستهم في الفتنة بين المسلمين، ليعملوا على أساس أن يحاربوا حتى آخر مسلم، لتبقى لهم زعامتهم...
وهكذا قد تصل القضية في الواقع الإسلامي إلى مستوى الخلافات بين دولة إسلامية ودولة إسلامية أخرى، وذلك عندما تحدث مشاكل بين القائمين على هذه الدولة وتلك الدولة، وتتعقّد الأمور إلى أن تصل إلى حدّ المقاطعة بينهما، وبذلك تسقط مصالح المواطنين جميعاً ـ من المسلمين ومن غير المسلمين ـ في هذه الدولة أو تلك الدولة.
الخلاف يحلق الدين:
وهكذا نفهم ما نقله أمير المؤمنين(ع) عن رسول الله(ص) أنّ، «صلاح ذات البين أفضل من عامَّة الصلاة والصيام»، باعتبار أنّ قضيَّة الصلاة هي مسألة تتَّصل بالشخص المكلَّف بالصلاة، وكذلك قضية الصوم، ولكن الفتنة التي تحصل بين المسلمين، قد تؤدِّي إلى نتائج سلبية على المجتمع كلّه وعلى الأمَّة كلّها. ومن هنا، فإنّ المفسدة التي تترتَّب على الاختلافات الحادَّة بين المسلمين، أكثر من المفسدة التي تحدث نتيجة عدم التزام بعض المسلمين بالصَّلاة والصيام.
ونحن نعرف أنّ الخلافات الموجودة الآن بين المسلمين، سواء على المستوى المذهبي بين السنة والشيعة، أو على المستوى العرقي بين العرب والفرس وبين الأكراد والعرب، مكَّنت الدول الاستكبارية ـ وفي مقدِّمتها أمريكا ـ من السيطرة على الواقع الإسلامي كلّه، فعندما نقارن بين عدد الأمريكيين وعدد المسلمين، نجد أن عدد الأمريكيّين لا يزيد عن مائتي مليون شخص، بينما عدد المسلمين يصل إلى المليار ونصف المليار من الناس، ومع ذلك نجد أن الأمريكيين يسيطرون على كلِّ مقدّرات العالم الإسلامي؛ فهم يسيطرون على المواقع الاستراتيجية، والثروات الاقتصادية، والالتزامات السياسية، لأنّهم ينطلقون من موقف موحَّد في مواقعهم السياسية ومصالحهم الاقتصادية، بينما يعيش المسلمون في ظلِّ الخلافات الطائفية والمذهبية والعرقية...
وقد عبّر النبيُّ(ص)، فيما رواه الإمام(ع)، عن البغضة التي تنشأ نتيجة الخلافات بين الذين يختلفون فيما بينهم من المسلمين، على مستوى المجتمعات الخاصة أو العامة، عبَّر عنها بأنها "حالقة الدين"، لأنّها تحلق دين الإنسان كما يحلق الموسى شعر الإنسان، لأنَّ الإنسان عندما يدخل في خلاف مع الآخر، فإنه يستحلُّ منه كلّ محرَّم، فيسبُّه ويشتمه، ويعطّل عليه مصالحه، ويوقعه في الضرر، ونحن نسمع بعض النَّاس عندما كانوا يختلفون مع بعضهم البعض يقولون: سقطت كلُّ المحرَّمات، أي أنَّ المحرَّمات تصبح جائزةً ما دام أنّ الخلاف استحكم بيننا وبين الفريق الآخر، فنقتل ونجرح وندمِّر... كلُّ هذه الأمور تؤدي إلى نتائج سلبية، وأوّلها أنّها تحلق للإنسان دينه، فبعض الناس ممّن يصلّون ويصومون ويحجّون، نراهم يستحلّون دم الآخر عندما يختلفون معه، فيقتل المسلم المسلم، ويقتل الشيعي الشيعي، ويستحلّون أن يدمّروا بيوت الناس، وأن يقفوا ضد مصالحهم، سواء على مستوى الواقع الاجتماعي أو على مستوى الواقع الدولي.
إصلاح ذات البين صدقة:
ولأنّ إصلاح ذات البين يمثّل أمراً حيوياً ضرورياً، فقد أكّده الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم بقوله: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً ـ الذي يصلح ذات البين، ويقوم بالشفاعة في محاولة تقريب وجهات النظر بين المختلفين ـ يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً ـ من يثيره الخلافات والفتن بين الناس ـ يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا}(النساء/85). وفي آية أخرى يقول تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ـ أي تحمَّلوا مسؤولية إصلاح ذات البين ـ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}(الأنفال/1) ـ فإن إصلاح ذات البين يمثّل طاعةً لله ولرسوله. وفي آية أخرى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(الحجرات/10)، فإذا كانت العلاقة بين المؤمنين قائمةً على أساس الأخوّة الإيمانية التي ربطها الله برباط وثيق، وهو رباط الإيمان، فإنّ مسؤولية هذه الأخوَّة الإيمانية، تقتضي أنّه إذا اختلف المؤمن مع أخيه المؤمن، أو اختلف المؤمنون فيما بينهم، فإنّ على المسلمين أن يستنفروا كلَّ جهودهم في سبيل إصلاح ذات البين، فإنّ ذلك يمثّل خطَّ التقوى، والوسيلة التي يحصلون من خلالها على رحمة الله سبحانه.
وقد ورد في آية أخرى، في بيان الكلام الأفضل الذي يمكن للمؤمن أن يتكلم به: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ ـ لا خير في كثير من أحاديثهم، سواء كانت في السرّ أو في العلن ـ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ ـ من أجل إعانة الفقراء والمساكين ـ أَوْ مَعْرُوفٍ ـ أو دعا إلى طاعة الله ـ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ـ فهذا يمثِّل الخير كلّه. ثم يبين الله الجائزة على ذلك: فإذا كنت تأمر بصدقة، أي تثير الناس ليتصدَّقوا على الأيتام والفقراء والمساكين، أو تأمر بالمعروف، أو تصلح بين الناس ـ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ ـ لا لغاية شخصية ـ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}(النساء/114)، وعندما يعد الله سبحانه الإنسان المؤمن على عمله بالأجر العظيم، فإنّ معنى ذلك أنَّ الأجر سيكون مضاعفاً، وسيرفع درجة الإنسان عنده سبحانه وتعالى.
وقد ورد في الحديث أيضاً، عن رسول الله(ص): «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ إصلاح ذات البين، فإنَّ فساد ذات البين هي الحالقة»، فبقاء الخلافات تحلق للإنسان دينه، وتبعده عنه وقد تخرجه منه. وورد في حديث رسول الله(ص) لبعض أصحابه: «يا أبا أيوب، ألا أُخبرك وأدلّك على صدقة يحبُّها الله ورسوله؟ تصلح بين النَّاس؟ ـ فعبَّر عن الإصلاح بالصدقة؛ صدقة اقتصادية واجتماعية وسياسية ـ إذا تفاسدوا ـ إذا فسدت العلاقات بينهم ـ وتباعدوا».
وفي المجال نفسه، يقول الإمام الصَّادق(ع): «صدقة يحبّها الله: إصلاحٌ بين النَّاس إذا تفاسدوا، وتقاربٌ بينهم إذا تباعدوا»، ومن المعروف في سيرة الإمام الصادق(ع)، أنّه كان يضع مالاً عند بعض أصحابه، وهو المفضل، ويقول له: «إذا رأيت بين اثنين من شيعتنا منازعة ـ إذا حدث هناك أي خلاف بين شخصين من أتباع مدرسة أهل البيت، وتوقَّف الإصلاح على بذل المال ـ فافتدها من مالي». ويقول الإمام عليّ(ع): «ثابروا على صلاح المؤمنين والمتقين»، ويقول أيضاً: «من كمال السعادة، السَّعي في صلاح الجمهور».
ويقول الله تعالى في كتابه العزيز: {وَلَا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ}(البقرة/224)، وقد ورد أيضاً عن الصادق(ع) في معرض تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً...} قوله: «إذا دعيت لصلح بين اثنين، فلا تقل: عليَّ يمين ألاّ أفعل».
وهنا لا بدّ من الإشارة إلى نقطةٍ مهمةٍ في مورد بيان أهميَّة الصلح بين الناس، وهي أنّ الله أحلَّ الكذب من مقام الصلح. وقد ورد عن الإمام الصّادق(ع): «إنّ المصلح ليس بكذَّاب»، وأيضاً عنه: «الكلام ثلاثة: صدق، وكذب، وإصلاح بين الناس... تسمع من الرجل كلاماً يبلغه فتخبث نفسه، فتلقاه فتقول: سمعت من فلان قال فيك من الخير كذا وكذا، خلاف ما سمعت منه»، فأنت في هذا الموقف تؤجر على كذبتك هذه، فالكذب قد يكون في بعض المواقف واجباً وليس حلالاً فقط.
أيُّها الأحبة، إنَّ الخلافات في مجتمعاتنا الإسلامية، سواء على مستوى الأمة أو على مستوى البلد أو الأوضاع الشخصية، تنخر في جسم الأمَّة، وتؤدي إلى كثير من النتائج السيئة التي تضعف قوّتها. لذلك، فإنَّ علينا أن ننطلق من وصية الله ورسوله، ومن وصيَّة أمير المؤمنين علي(ع) وهو في طريقه إلى لقاء ربِّه، بأن نعمل ـ كلٌّ بحسب قدرته وبحسب طاقته ـ لإصلاح ذات البين.
الخطبة الثانية
بسم الله الرَّحمن الرحيم
عباد الله... اتقوا الله، وأصلحوا ذات بينكم، وواجهوا كل الذين يريدون إفساد العلاقات الإسلامية ـ الإسلامية، والعلاقات الشيعية ـ الشيعية، والعلاقات الاجتماعية والإنسانية والعائلية ـ العائلية، بموقف الإصلاح والوحدة والتقوى التي أمرنا الله بها، بأن نصلح ذات بيننا، وأن نوحِّد كلمتنا، لنواجه المستكبرين والكافرين بموقفٍ واحدٍ، حفاظاً على مصلحة الإسلام والمسلمين، من أجل صنع القوَّة في الواقع الإسلامي. فماذا هناك؟
التحالف العربي الأمريكي ضدّ إيران:
طالعتنا صحيفة بريطانية بخبر عن تدريبات تقوم بها الولايات المتّحدة الأمريكية للقوَّات الجوّية لبعض الدول العربيّة الحليفة لها، استعداداً لحرب محتملة ضدّ إيران، كما نسبت هذه الصحيفة إلى بعض المسؤولين العرب تبريره لهذه الخطوة، بالقول: إنّ إيران تسعى لترسيخ نفسها كقوّة إقليمية عظمى، ما يفرض التعاون مع الولايات المتّحدة الأمريكية على المستوى السياسي، وتبادل المعلومات، والقيام بالتدريبات المشتركة.
إنّنا، أمام ذلك، نتساءل:
ما هي مصلحة هذه الدول العربية في الانخراط في الحرب الأمريكية المعلنة ضدّ إيران، في الوقت الذي يعرف الجميع، أنّ استقرار المنطقة العربيّة وأمنها، لا يُمكن أن يُبنيا على أساس المشاريع الخارجيّة التي لن تصبّ إلاّ في خدمة الاستراتيجية الأمريكية للسيطرة على المنطقة الإسلامية، ومنعها من الأخذ بأسباب القوّة، فضلاً عن أنّ هذه الحرب لو اندلعت، سوف تدمّر المنطقة وتحرق كلّ أوضاعها الأمنيّة والاقتصادية، ما يجعل التحالف مع الخارج، ولاسيّما الأمريكي، منطلقاً لتخريب علاقات الدول بعضها ببعض، ومدخلاً إلى تأكيد المشروع الأمريكي في المنطقة كلّها؟!
إنّنا نأمل أن تتحرّك هذه الدول من خلال منطق التعقّل في عدم الاستجابة للخطّة الأمريكية في هذا المجال، وفي البحث عن عناصر الثقة العربيّة ـ الإيرانيّة، ولاسيّما في ظلّ تأكيد إيران المستمر أنّها تعمل لعلاقات صداقة وحسن جوار مع الدول العربيّة، ولتركيز المصالح الاقتصادية معها، وأنّ قوّة إيران لن تكون ضدّ محيطها، بل هي قوّة دفاعيّة ضدّ أيّ عدوان للولايات المتّحدة الأمريكية.
الإرهاب صفة السياسية الأمريكية:
ومن جهة أخرى، نجد أنّ الإدارة الأمريكية بدأت التركيز على ضرورة مهاجمة مواقع الحرس الثوري الإيراني، بدلاً من المواقع النووية؛ لأنّ هذه الإدارة لم تستطع إقناع الرأي العام الأمريكي بأنّ إيران تشكّل تهديداً نووياً وشيكاً، وترافق ذلك مع تهديد بوش لإيران بأنّها ستواجه العقاب الأمريكي إذا لم توقف تدخّلها في العراق، علماً أنّ الحرس الثوري الإيراني يشكّل رديفاً للجيش في إيران، ما يجعل منه قوّةً عسكريّةً دفاعيّةً رسميّةً.
والسؤال: لماذا يقتصر الحديث الأمريكي والأوروبي ولدى بعض العرب على التدخّل الإيراني في العراق، ولا تُثار مسألة الاحتلال الذي حوّل العراق إلى حالة من الفوضى الأمنيّة والإرهابيّة، والسقوط الاقتصادي، والهجرة الكبرى للعراقيّين من بلدهم، ما يُمكن أن يمتدّ خطره إلى المنطقة كلّها، ولاسيّما في ظل قرار الكونغرس الأمريكي تقسيم العراق الذي قد يتطوّر إلى مشروع تقسيم لأكثر من بلدٍ عربيّ وإسلاميّ، وذلك تنفيذاً للمشروع الإسرائيلي والاستكباري في تمزيق المنطقة كلّها؟
إنّ فشل أمريكا في العراق، وسوء إدارتها لاحتلالها، ورفض الشعب العراقي لقوّاتها، ومقاومته لها، يجعلها توزّع اتّهاماتها بالإرهاب على أكثر من صعيد، في الوقت الذي تمثّل صفة الإرهاب عنواناً للجيش الأمريكي وللسياسة الأمريكيّة.
إنّنا نعتقد أنّ أمريكا لن تحصل على أيّ نتائج كبيرة في قصفها لإيران، بل قد يرتدّ الأمر عليها بطريقة عكسيّة؛ لأنّ العنف منها يجتذب العنف من الآخرين ضدّها، وإذا كانت تريد حلاًّ لمأزقها في المنطقة، فإنّ إيران أعلنت أنّها سوف تساعدها بطريقة واحدة، وهي مساعدتها في الانسحاب من العراق.
وفي مشهدٍ آخر، طالبت وزيرة خارجيّة العدوّ العالمين العربي والإسلامي بعدم فرض الشروط عليها، وعلى المؤتمر الدولي الذي دعا إليه الرئيس الأمريكي، في المطالبة بالسلام، وبالدولة الفلسطينية القابلة للحياة، وفي القضايا المرتبطة بإزالة المستوطنات، وبحقّ العودة، وبقضيّة القدس، والجدار العنصري، بحيث إنّها تطلب من العرب والمسلمين دعم ما يسمّى عمليّة السلام بين الفلسطينيين والكيان الغاصب، من دون أن يقدّموا تصوّرهم الاستراتيجي للحلّ الذي يمنع العدوّ من أن يتحوّل إلى قوّة مهيمنة على الشعب الفلسطيني، حتّى بعد قيام الدولة التي لن تكون إلاّ دولة عرجاء لا جيش لها، ولا استقلال في خدماتها الحيويّة وعلاقاتها الدوليّة.
وهذا ما ينبغي للعرب اللاهثين وراء السلام الإسرائيلي أن يعوه؛ لأنّ ذلك اللهاث لن يمنحهم إلا مزيداً من التعب، والسقوط السياسي والاقتصادي والحضاري.
يوم القدس العالمي: خطوة نحو تحرير القدس:
وفي هذه المناسبة، فإنّ على العرب والمسلمين ـ في يوم القدس العالمي ـ أن يرسموا الخطّة التحريرية للقدس، سواء على مستوى المسجد الأقصى الذي يحاول اليهود أن يجعلوه مكاناً لعبادتهم، أو التَّخطيط لتدميره لإقامة هيكلهم المزعوم، وعلى مستوى مدينة القدس التي يخطّط اليهود لطرد أهلها وتهويدها، لتكون عاصمة أبديةً للدولة العبريّة، أو على مستوى قضيّة التحرير الكُبرى التي تشكّل القدس رمزاً لها، وعلى الشعوب الإسلامية أن تبقى في حالة استنفار دائم للدفاع عن القدس وفلسطين، في شعبها ومقدّساتها، ما يجعل يوم القدس يوماً للحركة وللخطّة التحريريّة التي تتلاقى عليها الشعوب العربيّة والإسلامية، لتصنع قوّتها وتؤكّد عزّتها، بما يحقّق لها مستقبلها الحضاريّ بين الأمم.
ماذا يُعَدُّ في المحافل الدولية للبنان؟
أمّا لبنان، فإنّه يواجه تحدّيات وجوديّة، تتّصل بمصيره كدولةٍ منفتحة على التنوّع الإنساني، لإثبات عدم نجاح صيغته في العيش المشترك، أو لوضعه على المشرحة الأمريكية نفسها التي أدخلت العراق في لائحة التقسيم العرقي والطائفي والمذهبي والفتنة المتحرّكة في أكثر من موقع، ولاسيّما أنّ هناك أكثر من إشاعة تتحدّث عن التسلّح الحزبي، كما أنّ التعبئة الطائفيّة والمذهبيّة لحساب صعود زعامة هنا وزعامة هناك، تستغلّ الناس الطيّبين في مشاعرهم، لتطعمهم حقداً وعداوةً وانغلاقاً، لا يبقى معه اللبنانيّ لبنانيّاً في انتمائه، بل يعيش عبداً لهذا السيّد الطائفي المذهبيّ الّذي يفرض عليه تعليماته التي تتلخّص في كيف يحارب، وكيف يثير الفتنة، وكيف ينفصل عن مواطنيه، وكيف ينحني للخطوط الخارجيّة التي خطّطت ليبقى لبنان ساحةً مفتوحة لمشاريعها الاستراتيجية، وكيف ينتقل من وصاية إقليمية إلى وصاية دوليّة تفرض عليه قراراتها؛ الأمر الذي تعود فيه عناوين الحرّية والاستقلال مجرّد لافتات إعلانيّة، من أجل استخدامها ضدّ هذا الفريق أو ذاك.
إنّ المشكلة في لبنان، هي أنّ الواقع السياسي، في زعاماته وأحزابه، لا يلتفت إلى أنّ هناك شعباً جائعاً محروماً مدمَّراً في مشاعره وهواجسه ومخاوفه، ولاسيّما أنّ الناس أدمنوا هذه الأصنام البشريّة التي يسجدون لها في طاعتهم العمياء، ويهتفون لها ويصفّقون في مهرجاناتهم الانفعاليّة التي يغيب فيها العقل وتتحرّك فيها الغريزة.