ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :
في مواجهة المعاصي والانحرافات:
في مواجهة قضايا المعاصي والانحرافات التي يقوم بها النّاس، ومنها ما تقوم به الفئات المسؤولة في المجتمع، والجهات التي تملك مستوى اجتماعياً أو سياسياً أو دينياً، هذه الجهات إذا انحرفت وأخذت بغير رضى الله تعالى، وظلمت النَّاس الضعفاء، وسرقت أموال الأمَّة، وأفسدت المجتمع من النواحي الأخلاقية أو الاجتماعية والسياسية، فهل تتحمّل العامَّة من الناس مسؤولية ما يقومون به، في ما يمارسونه من ظلم، وفي ما يصنعونه من فساد، أو ما إلى ذلك مما يتصل بالواقع العام للناس؟
في حديث رسول الله(ص)، فيما رواه الإمام الصادق(ع) عن أبيه(ع): «إن المعصية إذا عمل بها العبد سراً، لم تضرّ إلا عاملها ـ الشخص الذي يرتكب بعض المعاصي، كأن يشرب الخمر مثلاً، أو يزني، أو يسرق، فلا يضرّ إلاّ نفسه ـ وإذا عمل بها علانيةً ولم يُغيَّر عليه، أضرّت العامة»، عندما يجاهر هذا الشخص أو ذاك بالمعصية، كأن يظلم، أو يسرق، أو يعصي علانية، هنا يجب على الناس أن يواجهوه بالإنكار والرفض، حتى يمنعوه من ذلك، ليحاصروه في معاصيه، أما إذا لم يغيّروا عليه، ووقف كل واحد موقف اللامبالاة، فإن ذلك يضر بالعامة، لأنه يكون تماماً كما هو المرض المعدي الذي ينتشر بين الناس.
وعلى ضوء هذا، لا بدَّ للنَّاس من أن يغيّروا على الشخص الذي يرتكب المعاصي جهاراً، حتى لا يتأثر الناس بها نفسياً أو عملياً. وفي حديث الإمام عليّ(ع): «أيُّها الناس، إنَّ الله عزّ وجلّ لا يعذّب العامة بذنب الخاصة إذا عملت الخاصة بالمنكر سراً من غير أن تعلم العامّة ـ بحيث لم يطّلع عليها أحد، فالله لا يؤاخذ الشعب بما فعله هؤلاء ـ فإذا عملت الخاصة بالمنكر جهاراً ـ بحيث إنها مارست الانحراف عن مواقع رضى الله تعالى، وأخذت بما يغضبه ويسخطه سبحانه في أمورها وأمور الناس ـ فلم يغيّر ذلك العامة، استوجب الفريقان العقوبة من الله عزّ وجلّ»، فالله يعاقب الخاصة لأنهم عملوا بالمنكر، ويعاقب العامة لأنهم لم ينكروا المنكر، ولم يقوموا بتغيير هذا الواقع بما يملكون من وسائل ضغط يمكن لها أن تحاصر هؤلاء الخاصة.
مسؤوليَّة الأمَّة مواجهة المفسدين:
وخلاصة الفكرة في هذه الأحاديث، أنَّه عندما تنطلق الخاصة، على أساس الظلم والفساد وأكل أموال الناس بالباطل والخيانة، لا يجوز لأحد أن يقف على الحياد أو موقف اللامبالاة، بل لا بدَّ للأمة من أن تعمل على أن تنظّم نفسها في القضايا الاجتماعية، وفي القضايا السياسية، وفي غيرها من القضايا، حتى تمنع هؤلاء من القيام بمظالمهم ومفاسدهم وانحرافاتهم، ليسلم المجتمع من ذلك كلّه، فإذا امتنع الناس عن الإنكار على هؤلاء، وعن تغيير أوضاعهم السلبية، فإن الله سوف يؤاخذ الأمّة كما يؤاخذ هؤلاء، فيعاقب الخاصة على ما أسلفوا من المفاسد والمظالم، ويعاقب الأمّة لأنها لم تنكر عليهم ما فعلوه.
ولذلك، فإن وقوف الأمة والشّعب ضد الظالمين والخائنين والمستكبرين، هو مسؤولية يتحمّلها الناس في كلِّ أمورهم التي يملكون فيها أن يواجهوا الواقع بالطريقة التي يمنعون فيها فساد الواقع، ويعملون من خلالها على إصلاحه.
وهناك جانب آخر، وهو جانب كيف يواجه الناس المعاصي التي يقوم بها أناس آخرون، من النَّاحيتين الفكرية والنفسية؟ قد يواجه الناس ظالماً يظلم الضّعفاء، أو فاسداً يفسد الواقع، أو فاسقاً يتجاهر بالفسق بينهم، هنا الناس على قسمين: قسم يستطيعون أن يقاوموا هؤلاء الأشخاص، بمعنى أن يمنعوهم بالقوة، بالوسائل التي تحاصرهم، فيجب عليهم ذلك، وإذا لم ينكروا عليهم، فإن الله يعاقبهم على عدم الإنكار، وهناك قسم من الناس غير قادرين على الإنكار عليهم، لأنهم أصحاب قوة قاهرة لا يستطيعون مقاومتها، فالتكليف الشرعي للإنسان في مثل هذه الحالة، أن يعقد قلبه على رفض هذه الأعمال، فإذا كنت لا تستطيع رفضها بيدك أو بلسانك، فيجب عليك أن ترفضها بقلبك، حتى يبقى إنكار المنكر والظلم والفساد فكرة تعيش في نفسك، لتعمل في المستقبل على تحصيل القوة لتسقطها من الواقع بعد ذلك، فالمهم أن لا تتعاطف مع فاعل المنكر أو الظالم، وقد ورد: «من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان».
شراكة بين الرّاضي وفاعل المعصية:
وقد ورد عن عليٍّ(ع) أنه قال: «الرَّاضي بفعل قومٍ كالداخل فيه معهم ـ كمن ينتمي إلى حزب أو يوالي زعيماً أو صاحب سلطة، ويرى هذه الجهة تقوم باعتقال أو قتل من لا يستحقُّ الاعتقال أو القتل، فيوافق قلبياً على ما فعلته هذه الجهة، عند ذلك هو شريك معهم في الإثم والعقاب ـ وعلى الداخل في باطل إثمان: إثم العمل، وإثم الرضى به». وفي حديث عليٍّ(ع): «أيُّها النَّاس، إنَّما يجمع الناس الرِّضى والسّخط ـ الذي يجعل النَّاس مجتمعاً واحداً، بحيث إنهم يرتكزون على قاعدة واحدة، هي مسألة ما يرضون به وما يسخطون عليه، فإذا كان بعض المجتمع يفعل المنكر، والبعض الآخر يرضى به، فإن المجتمع بكلّه يتحمّل المسؤولية ـ وإنما عقر ناقة ثمود رجل واحد، فعمّهم الله بالعذاب لما عمّوه بالرضى»، فالله تعالى نسب الفعل إلى الكل، لأن الآخرين رضوا بالفعل. وهو ما يصيبنا في بعض الأوضاع العشائرية، في قتل المرأة التي قد تُتَّهم بسوء ولو من خلال إشاعة، فتجتمع العشيرة، وتطلب من أحد شبابها أن يقتل الفتاة، فهنا، وإن كان منفذ القتل واحداً، إلا أن العشيرة كلّها تعتبر مشاركة، لأنّهم كانوا راضين بالقتل.
وعن الإمام الصادق(ع) في قولـه تعالى في خطاب الأنبياء عن اليهود: {قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}(آل عمران/183)، فالله حمّل اليهود مسؤولية قتل كل هؤلاء الرسل، يقول(ع): «وقد علم أن هؤلاء لم يقتلوا، ولكن فقد كان هواهم مع الذين قتلوا، فسمّاهم الله قاتلين، لمتابعة هواهم ورضاهم لذلك الفعل، وكان بين الذين خوطبوا بهذا القول وبين القاتلين خمسمائة عام، فسمَّاهم الله قاتلين، برضاهم بما صنع أولئك». ونحن إنَّما نريدُ أن نكرِّر هذه الأحاديث عن رسول الله(ص)، وعن الأئمّة(ع)، لتعرفوا كيف تكون الولاية للأئمَّة(ع)، وكيف يمكن لنا أن نأخذ بتعاليمهم في حياتنا العامَّة والخاصة، من خلال التراث الذي تركوه لنا، لأنهم(ع) عندما يتحدّثون مع الناس في زمانهم، فإنهم يتحدّثون مع الإنسان كله، ومع الزمن كله، لأنهم أئمة الحق في مدى الزمن كلِّه.
وعن الإمام عليّ(ع) لبعض أصحابه وهو يود حضور أخيه ليرى نصر الله على الأعداء يوم "الجمل"، يقول(ع): «أهوى أخيك معنا؟»، قال: نعم، فقال(ع): «فقد شهدنا، ولقد شهدنا في عسكرنا أقوام في أصلاب الرجال وأرحام النساء، سيرعف بهم الزمان، ويقوى بهم الإيمان».
فعلى الإنسان عندما يواجه قضايا الحق والباطل، أن يعقد قلبه على الرضى بالحق، ليكون من أهل الحق ومن شهد الحق، وأن يعقد قلبه على رفض الظلم ومواجهة الباطل وإنكاره، ليكون ضد الباطل، وإن كان غائباً عنهم.
إن الله تعالى يريد للإنسان أن يطيعه في جسده كما يطيعه في عقله وقلبه، وعلى الإنسان أن يكون مؤمناً تقياً مطيعاً لله في ما يفكر فيه، تماماً كما يكون مطيعاً لله في ما يعمل به أو يعمل له.
الخطبة الثَّانية
بسم الله الرَّحمن الرحيم
عباد الله... اتّقوا الله وواجهوا المنكر، سواء كان على المستوى الفردي أو على المستوى الجماعي، بكلِّ مواقف القوّة والرفض والإنكار، حتى تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الشيطان هي السّفلى، وإنَّ علينا أن نواجه الواقع كلّه لنتّخذ الموقف الذي يريد الله تعالى لنا أن نتّخذه في كل القضايا التي تنال المستضعفين، على أساس الكلمة التي أطلقها الإمام عليّ(ع) في وصيته: «كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً». وعلى هذا الأساس، لا بدَّ من أن نواجه الواقع كله، لنكتشف من هو الظالم ومن هو المظلوم، على مستوى الأفراد والمجتمعات والدول، فماذا هناك؟
مجلس الأمن: تمييع القضيَّة الفلسطينية:
في المشهد الفلسطيني، إسرائيل تصرِّح أمام العالم بأنها ستواصل حرب الاغتيالات والاعتقالات والاجتياحات بحجَّة الدِّفاع عن النفس، ولكنها تمتنع عن الانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلَّة، وتصرّ على متابعة سياسة الاستيطان وإقامة الجدار العنصري الفاصل، تصادر الأراضي الفلسطينية، لتخنق الشعب كله بما يشبه السجون المتحركة في القرى والمدن.
والسؤال الذي نوجّهه إلى القائمين على مجلس الأمن الذي تقوده أمريكا وحلفاؤها: لماذا بادروا إلى إصدار ثلاثة قرارات حول لبنان بما يتَّصل بالأمور الداخلية، وعملوا على تشديد الضغوط عليه وعلى سوريا بالمستوى الذي وصل فيه إلى التهديد بالعقوبات أو بالقوة، ولكن هؤلاء لم يصدروا قراراً يطالب إسرائيل بالامتناع عن عملية الإبادة التدريجية بشكل يومي للشعب الفلسطيني بأطفاله ونسائه وشيوخه وشبابه، في الوقت الذي لا يطلب هذا الشعب إلا تحرير أرضه من الاحتلال، وتأسيس دولته والعيش بسلام، والدخول مع إسرائيل في مفاوضات سياسية، وتطبيق قرارات الأمم المتحدة عليها، ولا سيما القرارات 194 و242 و 338؟
إنَّ أمريكا وحلفاءها لا يحرّكون ساكناً في هذا الاتجاه، بل يحاولون تمييع القضية الفلسطينية وتحريكها في متاهات الزَّمن من مرحلة إلى مرحلة، من أجل إيقاع الفلسطينيين في اليأس من الحصول على حقوقهم السياسية والإنسانية في التحرير والاستقلال، لأن إسرائيل عندهم فوق القانون الدولي، ولأن الإدارة الأمريكية تمنع كلَّ الدول ـ بما فيها الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن ـ من المساس بإسرائيل، حتى إذا بدأ المجاهدون الفلسطينيون في الدفاع عن أنفسهم بوسائلهم الاستشهادية الدفاعية، ثارت ثائرة المجتمع الدولي بالإثارة الأمريكية للاحتجاج والاتهام بالإرهاب، وما إلى ذلك من الكلمات السلبية.
أمريكا تحرك المجلس لخدمة سياساتها:
لقد عاش العرب والمسلمون العقدة من الشرعية الدولية التي لا تتحرك بالضغط إلا في القضايا الحيوية في الواقع العربي والإسلامي، كما لو كان ذلك يمثل الخطر على العالم، ولكنَّها لا تقترب بضغوطها من إسرائيل التي كانت ولا تزال تمثل الخطر على المنطقة والعالم كلِّه. ولذلك، فإنَّ الدراسة للقرارات الدولية، توحي بأن القيادة الأمريكية للمجلس تحرِّكها كورقة لخدمة سياستها في المنطقة في ضغطها على سوريا، ولحساب احتلالها للعراق ودعمها المطلق للأمن الإسرائيلي، وهذا ما يجعلنا نتساءل: أية شرعية دولية في ميزان العدالة السياسية للشعوب المستضعفة هي هذه الشرعية؟!
أما المسؤولون العرب، فقد حسموا خياراتهم على أساس أن التطبيع مع العدو هو السياسة الأفضل التي تجعلهم يحصلون على جوائز المديح من أمريكا، تحت عنوان أنهم متعاونون ضد الإرهاب، وأنهم يعملون من أجل السلام في علاقاتهم المعلنة والخفية مع العدو الإسرائيلي، ما يمنح هذه الأنظمة المزيد من الاستمرارية بحماية أمريكية وإسرائيلية. وهذا ما ينبغي للشعب الفلسطيني المجاهد والشعوب العربية والإسلامية أن تفهمه جيداً في تعاملها مع الواقع.
أمريكا: لغةٌ عدوانيّةُ تجاه قضايا المنطقة:
ومن جانب آخر، فإنَّ اللّغة العدوانية التي تستعملها أمريكا ـ ومعها بريطانيا وفرنسا ـ في القضايا العربية والإسلامية، هي لغة الفرض الضاغطة التي تهدِّد وتتوعَّد بالعقوبات واستعمال القوة، ولغة الاتهامات الكاذبة بدعم الإرهاب وصنع أسلحة الدمار الشامل، من دون الدخول في حوار موضوعي سياسي واقتصادي بالطريقة التي يشعر فيها العرب والمسلمون بالاحترام، لأن المسألة لدى هؤلاء هي مسألة حرب سياسية اقتصادية قد تتحوّل إلى حرب أمنية عسكرية، فإما أن ترضخوا لما نريده منكم، وإلا فالحرب أمامكم، ولا خيار لكم في الموقف كله.
تأكيد مواقف الرفض والمواجهة:
إننا نعرف أن العلاقات بين الدول لا بد من أن تقوم على الاحترام المتبادل والمصلحة المشتركة، ولكن المستكبرين يتحركون على قاعدة أنهم ـ بما يملكون من القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية ـ هم الذين يملكون إخضاع الدول المستضعفة لسيطرتهم في جميع المجالات. ولهذا، فإننا نريد لشعوبنا العربية والإسلامية وشعوب العالم الثالث، أن تؤكد مواقفها الرافضة، وتخطِّط لمواجهة هذا الواقع الاستكباري الذي يعمل لتدمير الشعوب لتبقى العولمة القاهرة هي التي تقود الواقع الإنساني كله لمصالحها الاحتكارية، وعلى الشعوب أن لا تصدِّق أكاذيبهم في الحديث عن الإصلاح والديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات السياسية، لأنهم يحركون هذه العناوين في اتجاه أوضاعهم الاستكبارية، كما رأيناه في الكذبة الكبرى التي حركتها أمريكا وبريطانيا في تبرير احتلال العراق، وهكذا في استغلال بعض القضايا القلقة للاستفادة منها في مواجهة بعض المواقع لخدمة علاقاتها بالوسائل السلبية هنا وهناك.
نشجب الأعمال الإرهابية:
ومن جانب آخر، فإننا في الوقت الذي نشجب الأعمال السلبيّة التخريبيّة في بعض ضواحي باريس، نسجّل على الحكومة الفرنسية إهمالها للفئات الفقيرة التي تعيش في ساحاتها، الأمر الذي يؤدي إلى ثورة شعبية قد تتحوَّل إلى فوضى عامّة التي لا مصلحة لأحد فيها.
كما أننا في الوقت نفسه، نشجب الأعمال الإرهابية في الأردن، التي حصدت العشرات من الضحايا والمئات من الجرحى من المدنيين الذين لا علاقة لهم بالسياسة في هذا البلد، إذا كان القائمون بهذه الأعمال يعترضون على سياسة هذا البلد. وإننا نتصوّر أنَّ مثل هذه الأساليب التي قد تمارس بعناوين إسلامية بما يشوّه صورة الإسلام والمسلمين، تمنح أعداء الأمة الفرصة لإثارة الحرب ضدّها، لأنَّ الإسلام لا يجيز هذه الأعمال جملةً وتفصيلاً، سواء كانت ضد المسلمين الذين قد يخالفونهم في المذهب أو في الموقف السياسي، أو ضدّ غير المسلمين من المسالمين.
العراق: إصرار الاحتلال على إبقاء قواته:
ومن ناحية أخرى، فإننا نتابع الموقف في العراق، في إصرار الاحتلال على إبقاء قواته في ساحاته، متذرعاً بالطلب الرسمي الحكومي لذلك، الأمر الذي قد يمتد إلى المدى الذي تراه أمريكا ضرورة استراتيجية لخدمة مصالحها في العراق وفي المنطقة، في الوقت الذي نعرف أنهم لا يمنحون الشعب العراقي ـ بقواه الأمنية والحكومية ـ أية ظروف للحصول على القوة التي يتجاوز فيها العراقيون أزماتهم الأمنية والمعيشية، ولا ندري كيف يمكن الخروج من هذا المأزق في المؤتمر العربي القادم، وفي التعقيدات السياسية التي تلبس لبوساً طائفياً، ولا سيما أمام الموسم الانتخابي الموعود.
أيَّ لبنان تريدون!!
أمَّا في لبنان، فإنَّ الجميع مشغولون بكلِّ شيء إلا بحلِّ الأزمة الاقتصادية، كما أنهم يتجادلون في مسألة الشرعيَّة الدولية التي تحوّلت لدى الكثيرين إلى إنجيل أو قرآن، من دون دراسة للسلبيات الكامنة في داخلها، والالتفات إلى أن الآخرين الذين يخطّطون للسيطرة على المنطقة كلّها، يلعبون بلبنان كورقة لأكثر من موقع للضغط لحساب سياساتهم ومصالحهم، من دون أن تكون الخصوصيات اللبنانية التي يثور الجدل حولها موضع اهتمام حقيقي.
إننا نقول للّبنانيين، على الرغم من كلِّ المشاكل التي أصابت علاقاتهم بسوريا: إن وحدة المسارين هي حقيقة واقعية على مستوى الأمن والاقتصاد والسياسة، ولا بدَّ من التخطيط الدقيق المبني على المصالح المشتركة، والعلاقات التاريخية، والاحترام المتبادل، على أساس الاستقلال لكل منهما في قضايا الحرية والسيادة، فلا يلعب بنا الآخرون لحساب أوضاعهم الدولية.
وفي نهاية المطاف، نتساءل مع كل أهلنا في الوطن كله: ما هي تصوراتكم للبنان الغد، قبل أن يأتي المزيد من المبعوثين الدوليين ـ ولا سيما الأمريكيين ـ ليقدّموا تصوراتهم؟ فأي لبنان تريدون، وبأية حرية تحلمون، وماذا أعددنا لأجيالنا القادمة من خطة سياسية واقتصادية وأمنية، لتعيد الجميع إلى لبنان الوطن، وتجمعهم على أساس الوحدة الوطنية من خلال المواطنة الشاملة، والوحدة الوطنية الراسخة؟! |