التَّكبُّرُ سلوكٌ استعلائيٌّ يشجِّعُ على الطُّغيانِ والظُّلم

التَّكبُّرُ سلوكٌ استعلائيٌّ يشجِّعُ على الطُّغيانِ والظُّلم

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ}[النَّحل: 23].
{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}[الأعراف: 146].
{فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}[النَّحل: 29]. {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا * كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِندَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا}[الإسراء: 37 – 38].
فئةُ المتكبِّرين
يحدِّثنا الله سبحانه وتعالى عن المستكبرين كفئة بعيدة عن الله، لأنَّ الله سبحانه وتعالى يريد للإنسان أن يعيش واقعيَّة إنسانيَّته، بحيث يحاول كلّ واحد من النَّاس أن يفهم نقاط ضعفه ونقاط قوَّته، وأن يفهم نقاط قوَّة الآخرين ونقاط ضعفهم، بحيث يدخل دائما ًفي مقارنة بين الصِّفات الطيِّبة في شخصيَّته والصِّفات غير الطيِّبة، ليتوازن في نظرته إلى نفسه، وأن يدخل في مقارنة بينه وبين النَّاس الآخرين، فإذا كان دقيقاً في هذه المقارنة، فإنَّه سوف يتوازن عند نفسه، لأنَّه إذا رأى بعض نقاط القوَّة في شخصه، فإنَّ اكتشافه لنقاط الضّعف، يجعله يتواضع ويشعر بأنَّ عليه أن يتوازن ولا يطغى في نفسه.
وهذا ما عبَّر عنه الإمام زين العابدين (ع) في دعاء مكارم الأخلاق: "وَلَا تَرْفَعْنِي في النَّاسِ دَرَجَةً، إِلَّا حَطَطْتَنِي عِنْدَ نَفْسِي مِثْلَها"، بحيث إذا فرضنا أنَّ الإنسان شعر بأنَّه يملك علماً كبيراً أو قوَّة كبيرة، أو يملك مالاً واسعاً، نظر في الجانب الآخر من شخصيَّته إلى أنَّه يملك علماً في جانب وجهلاً في جانب آخر، فلا أحد يعرف كلَّ العلم، ويملك قوَّة في جانب وضعفاً في جانب آخر، لأن ليس أحد يملك كلَّ القوَّة، ويملك مالاً في جانب ولكنَّه أيضاً يملك فقراً في جانب آخر... لهذا، إذا نظر الإنسان إلى نقاط الضّعف في نفسه ونقاط القوَّة فيها، توازنت نفسه عنده، فلا يمكن أن يطغى ليشعر بأنَّه الشَّخص الوحيد الَّذي ليس هناك أحدٌ يماثله.
ونحن نقرأ في حديث عليّ (ع)، وهو الَّذي يمثِّل الكمال الإنسانيَّ في أعلى درجاته، والعصمة الإنسانيَّة في أعلى درجاتها، أنَّه كان إذا مدحه شخص، خشع لله وقال: "اللَّهمَّ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ، واجْعَلْنِي خَيْراً ممَّا يَظُنُّونَ، واغْفِرْ لِيْ مَاْ لَا يَعْلَمُونَ"، كأنَّه يريد أن يوحي إلى مَنْ حوله، أنَّ النَّاس إذا عرفوا منك شيئاً طيِّباً، فإنَّهم لا يعرفون منك الأشياء الخبيثة.
وعندما يعيش الإنسان مع النَّاس، فإنَّ عليه أن يحترمهم، لأنَّه سيجد عندهم شيئاً ليس عندَه، وهذا الشَّيء يمكننا أن نفهمه بالتَّجربة، فكلُّ واحدٍ منكم عندَهُ رفاق وأصدقاء، وحتَّى قد يكون عنده موظَّفون، فهذا الموظَّف الَّذي يحتاج إلى مالِكَ، تحتاج أنت إلى خبرته الّتي لا تملكها. وحتّى الإنسان الَّذي تطلب منه أن يكون حارساً لك، صحيح أنَّك في الوسط الاجتماعي تملك ما لا يملكه، ولكنَّه يملك القوَّة الّتي لا تملكها أنت. وقد نجد أنَّ الرَّجل، مثلاً، أمام المرأة، يشعر بأنَّ عقله أكبر، وقوَّته أكثر، ولكن عندما يدرس زوجته أو ابنته أو اخته، يجد أنَّها تملك كثيراً من الصِّفات الإنسانيَّة مما لا يملكه هو...
هذا المعنى يمنع الإنسان من التكبّر، لأنَّ الإنسان المتكبِّر هو الَّذي يعيش في داخل ذاته دون أن يبصر النَّاس من حوله، أو يعيش في داخل ذاته في الجانب الإيجابي من ذاته، ولا يبصر الجانب السَّلبي من جانب ذاته.
ولذلك، مشكلة المتكبِّرين أنَّهم يجهلون أنفسهم ويجهلون النَّاس من حولهم، فيخيَّل إليهم في أنفسهم أنَّهم كلُّ الخير وكلُّ القوَّة وكلُّ العلم، ويخيَّل إليهم أنَّ النَّاس غيرهم هم كلّ الضّعف وكلّ الجهل، وما إلى ذلك.
مصيرُ المتكبِّر
وهذه المسألة من المسائل الأساسيَّة في مصير الإنسان عند الله، ومن المسائل الأساسيَّة في حركة الإنسان في الواقع الاجتماعي، وفي حركة المجتمع في داخل أفرادها.
أمَّا عند الله، فقد سمعتم الآيات الَّتي تقول: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ}[النّحل: 23].
{فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}[النّحل: 29].
{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ ولا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً إنَّ اللهَ لا يُحبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ}[لقمان: 18].
{أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ}[الزّمر: 60].
{قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}[غافر: 76].
إذاً، {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ}[القصص: 83]، الّذين لا يشعرون بأنَّهم أعلى من النَّاس، وأنَّهم في الأرض هم العالون وأنَّ الآخرين هم الأسفلون. فالله عندما تحدَّث عن فرعون قال: {إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِّنَ الْمُسْرِفِينَ}[الدّخان: 31]، أي أنَّه كان يشعر بالعلوّ وبالكبرياء الَّتي تضخَّمت في شخصيَّته، فأصبح يشعر بالرّبوبيَّة.
أمَّا بالنِّسبة إلى المصير في الآخرة، فسوف يواجه الإنسان المتكبِّر المصير الأسود. ونحن نقرأ أنَّ الله سبحانه وتعالى أخرج إبليس من الجنَّة، وقد كان يعيش مع الملائكة، من أجل لحظة كبر، فالله سبحانه وتعالى عندما أمر الملائكة وإبليس بالسّجود لآدم: {قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}[الأعراف: 12]، والنَّار أعظم من الطِّين، لأنَّها تحرق الطِّين وتفنيه وما إلى ذلك! فهو التفت إلى هذا الجانب، ولم يلتفت إلى الجانب الموجود عند آدم (ع)، مما حدَّث الله به الملائكة، ومما طلَبَ من آدم أن يعرِّفهم ما علَّمه سبحانه من ذلك، لأنَّ إبليس استغرق في جانبٍ واحد، وهو الجانب العنصري، وكذلك قارن بين النَّار والطّين من جانب القوَّة، ولكن لم يقارن بينهما من باب أنَّ قيمة الطّين هو أنَّه يحمل الخصب والرِّخاء، ويحمل خصائص التّراب وخصائص الأرض، وما إلى ذلك من النَّتائج الكبرى الَّتي تحصل في خلق هذا العنصر من الطّين، فالأرض تمثِّل النّموّ، والطِّين يمثِّل النّموّ، بينما تمثِّل النَّار الإحراق في كثير من الحالات، فهذا فيه جانب إيجابيّ، إلا أنَّه استغرق في جانب آخر ونسي بقيَّة الجوانب، ولذلك تكبَّر على آدم، فقال له الله سبحانه وتعالى: {اخْرُجْ مِنْهَا}[الأعراف: 18].
الجنَّةُ للمتواضعين
إنّ الجنَّة هي ساحة المتواضعين، فالَّذي يريد الجنَّة، لا بدَّ أن يكون متواضعاً، وأن لا يكون متكبّراً. فإبليس الَّذي عبد الله ما شاء من السّنين، أخرجه الله من الجنَّة بلحظة كبر، فماذا سيكون وضعنا، ونحن بالكاد نصلِّي صلواتنا؛ هل سيعطينا الله مفتاح الجنَّة هكذا ونحن نتكبَّر؟ قد يتكبَّر واحدنا على زوجته، على جاره، يتكبّر لأنَّه أغنى من هذا، أو أقوى من ذاك، أو أعلى من هذا، وما إلى ذلك، يشعر في نفسه بأنَّه فوق وأنَّ الآخرين تحت: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَرًا}[الكهف: 34]، أو أنا أكثر قوَّة، أنا مسلَّح، مثلاً، وذاك لا يملك سلاحاً، عشيرتي أكبر من عشيرتك... أن تشعر بالفوقيَّة على من هو دونك.
في الإسلام، عليك أن تستشعر أنَّ الناس إخوتك، وعليك أن تحاسب نفسك لتتعرَّف نقاط الضّعف ونقاط القوَّة فيها، لتتوازن عند نفسك وفي المجتمع.
ولعلَّ مشكلة المجتمع، أيُّها الأحبَّة، ومشكلة أمَّتنا، هي مشكلة هؤلاء المتكبّرين الَّذين يملكون بعض الفرص السياسيَّة، أو بعض الفرص الاجتماعيَّة، أو بعض الفرص الاقتصاديَّة، فيحاولون الاستعلاء على النَّاس والتكبّر والتجبّر عليهم، فيغمطونهم حقوقهم، ويستكبرون في الأرض بغير الحقّ.
أهميّةُ تواضعِ القيادة
وأيضاً، كما أنَّ المتكبّر يتحمَّل المسؤوليَّة، كذلك النَّاس الَّذين يمدحون المتكبِّر، ويضخِّمون شخصيَّته بالثَّناء عليه بما لا يستحقّ، أو الَّذين يمهِّدون له مواقع القوَّة، ويحوِّلون الواقع الاجتماعيَّ إلى عبادة الشّخصيَّة... ممَّ تنشأ عبادة الشَّخصيَّة؟ تنشأ من خلال أنَّ بعض النَّاس يرى نفسه في القمَّة، ويوحي إلى النَّاس بأنَّهم في الأسفل، فيحاول النَّاس أن يعيشوا مع ما يثار من ضخامة شخصيَّته، فيسقطون أمامه ويشعرون بالانسحاق.
الإنسان الَّذي يكون في موقع القيادة، عليه أن يحترم النَّاس من حوله، أن يعيش معهم أنّهم معه لا أنَّهم وراءه. وأعظم توثيق قرآنيّ في هذا المجال، هو حديثُ الله عن رسوله (ص) عندما يقول: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ...}[الفتح: 29]. إنَّ الله يتحدَّث عن المسلمين الَّذين كانوا مع الرَّسول (ص) أنَّهم معه، ونحن نعرف أنَّ رسول الله هو سيِّد ولد آدم، ومع ذلك، كان يعيشُ على أساس أنَّهم معه، والله أكَّد هذا الموضوع، وكان يقال في سيرة النَّبيّ (ص): "كَانَ وَاللَّهِ فِينَا كَأَحَدِنَا"، فلم يكن يميِّز نفسه عن أيِّ مسلم آخر، لا في الجلوس، ولا في أيّ شيء، حتَّى إنَّ شخصاً جاء والنَّبيّ جالس في حلقة مع المسلمين، والتفتَ إليهم وقالَ: أيُّكم محمَّد؟ حتّى اتَّفق المسلمون مع النّبيّ (ص) أن يضعوا له حجراً ليجلس عليه، حتّى لا يتحيَّر القادم من هو النّبيّ.
ويقال في سيرته (ص) أنَّه مرَّت به امرأة فارتعدت من هيبته، فقال لها النَّبيّ (ص): "هوِّني عليْكِ، فإنَّما أنا ابنُ امرأةٍ منْ قريش كانَتْ تَأْكُلُ القَدِيْدَ"، فأنا إنسان عاديّ مثل بقيَّة النَّاس، وهو الإنسان المميَّز عند الله سبحانه وتعالى وعند النَّاس.
مشكلةُ تقديسِ الشَّخصيَّات
لهذا، المتكبّرون في مجتمعاتنا هم الَّذين يلغون شخصيَّة الآخرين، وهذا ما نعيشه في الواقع السياسي في أكثر دول العالم الثَّالث، أنَّ الشَّخص الحاكم يختصر الأمَّة كلَّها، حتّى إنَّنا قد نسمِّي الدَّولة باسم الشَّخص أو باسم العائلة، وتبقى المدائح تهال على الحاكم، فلا نسمع مجتمعاً من هذه المجتمعات ينقد حاكماً، أو رئيس حزب، أو إنساناً له مسؤوليَّات كبيرة، نحن نعيش عبادة الشَّخصيَّة بأفظع ما يكون!
إذا كنت تقدِّس شخصاً وتحترمه لإخلاصه السياسيّ، لجهاده، لعلمه، لقوَّته... فلا بأس، ولكن لا تجعله فوق النَّقد، فيمكنك أن تستمع إلى النَّقد عنه، وإذا كان عندك جواب، فليكن بشكل هادئ ودون تعصّب.
نقلت لكم ذات مرّة قضيَّة أمير المؤمنين (ع)، عندما كان جالساً مع أصحابه، وكان الخوارج قد كفَّروه في قصَّة التَّحكيم. تقول القصَّة: "إذ مرَّت بهم امرأة جميلة، فرمقها القوم بأبصارهم، فقال (ع): إنَّ أبْصَارَ هذهِ الفحولِ طوامحُ، وإنَّ ذلك سببُ هبابِها، فإذا نظرَ أحدُكُم إلى امرأةٍ تعجبُهُ، فليلامس أهله، فإنَّما هي امرأة كامرأتِهِ. فقال رجل من الخوارج: قاتله الله كافراً ما أفقهه! فوثب القوم ليقتلوه، فقال (ع): رويداً، فإنَّما هوَ سبٌّ بسبٍّ، أو عفوٌ عن ذنبٍ". {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}[البقرة: 194]، {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}[البقرة: 237].
وهذه عظمة الشَّخص، أنَّه كلَّما كبر في نفسه، تواضع للنَّاس، ولذلك، فإنَّ الشَّخص المتكبِّر ينطلق دائماً من عقدة نقص.
لذلك، علينا أن نركِّز على هذه النّقطة، فإذا كان الله لا يحبّ المتكبّرين، فعلينا أن لا نحبّهم، ولا نشجِّعهم، ولا نمدحهم، ولا نعبدهم، حتَّى يشعروا بوزنهم، فيرجعوا إلى إنسانيَّتهم، لأنَّه ما من أحدٍ يشجِّع القيادات على الطّغيان وعلى الاستكبار، إلَّا النَّاس الَّذين تتحرَّك مصالحهم عند أولئك، أو الَّذين يخافون منهم أو يرهبونهم، وقد سقط الكثيرون منَّا في هذا المجال.
وأيضاً، كما هناك شخص متكبّر، هناك منظَّمات متكبِّرة ترى نفسها فوق الجميع، هناك أحزاب متكبّرة ترى نفسها هي الَّتي تملك الحقيقة ولا يملكها أحد غيرها، هناك دول متكبّرة، وعشائر متكبّرة، لأنَّ التكبّر، هو أن يشعر الإنسان بنفسه من خلال ما يملكه من طاقات بأنّه فوق الجميع.
وهناك قوميَّات مستكبرة، فهتلر كان يرى أنَّ العنصر الآري فوق الجميع، وكان يقسِّم النَّاس إلى عناصر معيَّنة، ويعتبر أنَّ العنصر الآري أعلى من كلِّ العناصر. وفي أربعينات القرن الماضي، في بداية انطلاق القوميّات العربيّة، كان هناك من النّاس السذّج مَنْ يقول إنَّ العرب فوق الجميع.
لذلك، هذه المسألة تتَّصل بأكثر من واقع اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي، ولعلَّها سرّ طغيان الطّغاة علينا، لأنَّنا نشجِّع المستكبرين وننحني أمامهم.
الكبرُ في أحاديثِ الأئمَّة (ع)
فلنقرأ بعض كلمات أهل البيت (ع).
في الحديث عن الإمام الصَّادق (ع) يقول: "الكبْرُ قد يكون في شرارِ النَّاسِ من كلِّ جنسٍ، والكبْرُ رداءُ اللّهِ، فمَنْ نازعَ اللَّهَ عزَّ وجلَّ رداءَهُ، لم يزدْهُ اللّه إلَّا سفالاً"، يعني انحطاطاً وضعةً وذلّةً في عيون النَّاس.
وورد في حديثٍ آخر عن الإمام الباقر (ع): "العزُّ رداءُ الله، والكبْرُ إزارُهُ، فمَنْ تناولَ شيئاً منه، أكبَّه اللهُ في جهنَّم".
وهكذا يقول الإمام الباقر (ع): "الكبْرُ رداءُ الله، والمتكبِّر ينازعُ اللهَ رداءَهُ".
ويقول الإمام الصَّادق (ع): "الكبْرُ رداءُ الله، فمَنْ نازعَ اللهَ شيئاً منْ ذلك، أكبَّهُ اللهُ في النَّار".
وقد ورد أيضاً عن الإمام الصَّادق (ع) وهو يفسِّر الكبر، قال: "الكبْرُ أن تغمصَ النَّاسَ وتسفهَ الحقّ"، أي أنَّ مظهر الكبر أن تحتقر النَّاس، فتقول: من هو فلان؟ ومن فلان؟ ومن تلك العشيرة أو أولئك القوم، وهكذا، أن تستخفَّ بالحقِّ ولا تعبأ به.
وقال أبو عبد الله الصَّادق (ع): "إنَّ أعظمَ الكبْرِ غمصُ الخلقِ وسفهُ الحقّ. قلْتُ: وما غمصُ الخلقِ وسفهُ الحقّ؟ قالَ: يجهل الحقَّ ويطعنُ على أهلِهِ، فمَنْ فعلَ ذلك، فقدْ نازعَ اللهَ عزَّ وجلَّ رداءَهُ".
"إنَّ في جهنَّمَ لوادياً للمتكبِّرين يقالُ له سقر، شكا إلى اللهِ شدَّة حرِّهِ، وسألَهُ أنْ يأذنَ له أن يتنفَّسَ، فأحرقَ جهنَّم"، من خلال طبيعة النَّار الَّتي تصيب المتكبّرين.
وجاء: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: "إنَّ المتكبِّرين يُجعلَون في صورة الذّرّ، يتوطَّؤهم النَّاس، حتَّى يفرغ الله من الحسابِ يومَ القيامة".
وفي الحديث أيضاً: "ثلاثةٌ لا يكلِّمهم اللهُ ولا ينظرُ إليْهم يومَ القيامةِ ولا يزكِّيهم ولهم عذابٌ أليمٌ: شيخٌ زانٍ، وملكٌ جبَّارٌ، ومقلٌّ مختال"، أي يختال على النَّاس في كلِّ مواقعهم.
وعن الإمام الصَّادق (ع): "ما من عبدٍ إلَّا وفي رأسِهِ حكمةٌ وملكٌ يمسكُها، فإذا تكبَّر قالَ له: اتَّضعْ وضعَكَ الله، فلا يزالُ أعظمَ النَّاسِ في نفسِهِ، وأصغرَ النَّاسِ في أعينِ النَّاسِ، وإذا تواضعَ، رفعَهُ اللهُ عزَّ وجلَّ، ثمَّ قالَ له: انتعشْ نعشَكَ الله، فلا يزالُ أصغرَ النَّاسِ في نفسِهِ، وأرفعَ النَّاسِ في أعينِ النَّاس".
وفي الحديثِ عن الإمام الصَّادق (ع): "ما مِنْ أحدٍ يتيهُ إلَّا مِنْ ذلَّةٍ يجدُها في نفسِهِ"، أي أنَّ التَّكبّر ليس مظهر الإحساس بالقوَّة، بل هو إحساس بالضّعف. "ما من رجلٍ تكبَّرَ أو تجبَّرَ إلَّا لذلَّةٍ وجدَها في نفسِهِ".
معالجةُ مرضِ التَّكبّر
أيُّها الأحبَّة، إذا عرفنا أنَّ التكبّر هو رداء الله، وأنَّ الله لا يحبُّ المستكبرين، وأنَّه يدخل المتكبّرين نار جهنَّم، فعلينا أن نعالج هذا المرض في أنفسنا، فنحترم كلَّ النَّاس من حولنا، وذلك بأن ندرس لدى النَّاس ما ليس عندنا، إذا رأينا أنَّ عندنا ما ليس عند النَّاس، وأنَّ علينا أن نتواضع لله، وأن نعيش إنسانيَّتنا، لنشعر بأنَّ المؤمنين إخوة، وأنَّ لكلِّ مؤمن الحقّ في أن نحترمه، كما لنا الحقّ أن يحترمنا الآخرون.
أيُّها الأحبَّة، إنَّ أخلاقنا هي الَّتي نحشر عليها يوم القيامة، فمن كانت أخلاقه أخلاق الله وأخلاق الإسلام، دخل الجنَّة، ومن كانت أخلاقه أخلاق إبليس وأخلاق الكفر، دخل النَّار "حاسِبوا أنْفُسَكُم قَبلَ أنْ تُحاسَبوا، وزِنوها قَبلَ أنْ تُوزَنوا ".
                                                         بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
                                                              الخطبة الثَّانية
 
 
عباد الله، اتَّقوا الله في كلِّ أموركم، وفي كلِّ علاقاتكم، وفي كلِّ مواقفكم ومواقعكم، لأنَّ الله يريد للإنسان المؤمن أن يتَّقيه، وأن يخافه، وأن يحسب حسابه في كلِّ ما يتحرَّك به، من كلِّ أمور الواقع الفرديّ والواقع الاجتماعيّ.
وعلينا، أيُّها الأحبَّة، أن نتحرَّك في حياتنا الاجتماعيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة، على أساس أن لا نكون مع المستكبرين ضدَّ المستضعفين، وأن لا نكون المستكبرين إذا حدثت لأحدنا قوَّة في مال، أو في علم، أو في سياسة، أو في غير ذلك، لأنَّ الله يريد للنَّاس أن يعيشوا إنسانيَّتهم في كلِّ قضاياهم، وأن يتكاملوا في طاقاتهم، فيعطي كلّ واحد للآخر ما يحتاجه من طاقته، لأنَّ ذلك هو ما يريده الله للتنوّع الإنساني {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}[الحجرات: 13]، حتَّى ينطلق التَّعارف من خلال الحاجات المتبادلة عند النّاس، ومن خلال الخصوصيَّات عندهم.
ضغطُ المستكبرين على الأمَّة
ونحن نعيش، أيُّها الأحبَّة، في كلّ واقعنا الإسلاميّ، ضغط المستكبرين من كلِّ الذين يملكون القوَّة السياسيَّة والقوَّة الاقتصاديَّة وقوّة السِّلاح، حيث يعملون على مصادرة كلِّ مصالحنا وكلِّ قضايانا، وعلى الإطباق على كلِّ إنسانيَّتنا، وهذا ما نواجهه في كلِّ مرحلة من مراحل الواقع السياسيّ في العالم، حيث نجد أنَّ العالم المستكبر الَّذي تقوده أمريكا في هذه المرحلة، يتحرَّك بين وقتٍ وآخر من أجل أن يضعفَ المسلمين في بلدانهم، أو يهجِّرهم من بلدانهم، وهذا ما عشناه في فلسطين، وما عشناه في البوسنة والهرسك، وما عشناه في أكثر من بلدٍ إسلاميٍّ يحكمه المستكبرون أو أعوانهم، كما نلاحظه في العراق الَّذي يعيش تحت ضغط الاستكبار العالميّ، ولا سيَّما الأمريكي والبريطاني، الَّذي يحاصر الشَّعب ويجيعه، كما يعيش مشكلة حاكمه الَّذي يصادر حريَّاته ويضغط عليه.
وهذا أيضاً ما نلاحظه في موقف الاستكبار العالميّ في حصاره لإيران الإسلام، في كلِّ أوضاعها الاقتصاديَّة والسياسيَّة والأمنيَّة، وهذا ما نلاحظه في هذه الأيَّام، من خلال المأساة المتجدِّدة في كوسوفو، الَّتي انطلق فيها الحلف الأطلسي بقيادة أمريكا، من أجل لعبة سياسيَّة متحركة في أكثر من جانب من مصالح أمريكا في تلك المنطقة، أو في مصالح أمريكا في اللَّعب في بعض القضايا الأوروبيَّة وما إلى ذلك.
إنَّ المسألة، حسب متابعتنا للأوضاع، ليست مسألة أنَّ الأمريكيّين، أو أنَّ الحلف الأطلسي، يعمل على أساس حماية المسلمين من طغيان الصّرب، ولكنَّ المسألة هي مسألة حماية المصالح الاقتصاديَّة والسياسيَّة الأمريكيَّة في تلك المنطقة في دائرة الصِّراع بين الدّول الكبرى.
لهذا، نلاحظ، مثلاً، أنَّه باسم حماية ألبان كوسوفو، هُجِّر أكثر هؤلاء المسلمين من بلادهم، لقد كان المسلمون هناك يواجهون بعض المشاكل من الصّرب، في مجزرة هنا وهناك وما إلى ذلك، ولكن عندما انطلقت الحرب من خلال الحلف الأطلسي، رأينا أنَّ هناك عمليَّة تهجير واسعة ضدَّهم، بحيث لم يبق في منطقة كوسوفو إلَّا القليل القليل، وحتّى إنَّنا سمعنا من الأخبار أنَّ الحلف الأطلسي قصف بعض قوافل المهجّرين منهم، الَّذين كانوا يفرّون بأنفسهم من الحرب، وقتل ما يقارب الثَّمانين بين امرأة وطفل وشيخ، وكان الاعتذار أنَّ الحروب لا بدَّ أن تشتمل على خطأ، ونأسف لهذا الخطأ.
هكذا كانوا يتحدَّثون، ولا تزال المأساة متحركة في أكثر من جانب، وحتى إنَّنا نلاحظ أنَّ مشكلة كوسوفو الَّتي بدأت بمطالبة هؤلاء المسلمين بالاستقلال عن يوغوسلافيا، صرَّح الرئيس الأمريكي بالأمس بأنَّه ليس من مصلحتهم أن يستقلّوا، ولكن لا بدَّ من ترتيب أمورهم بعيداً من الاستقلال السياسي في هذا المجال، لأنَّ أمريكا لا تريد أن تكون هناك دولة إسلاميَّة أكثريَّةُ أهلها من المسلمين في أوروبَّا.
لهذا، بدأت اللّعبة السياسيَّة في طرح مشروع ألمانيّ هنا، أو ربّما مشروع آخر من الأمم المتَّحدة هناك، ولا تزال المسألة تعيش في غموضٍ وضبابٍ سياسيّ، ليست فيه أيّ مصلحة للمسلمين هناك من قريب أو بعيد. وإنَّنا نستذكر في ذلك تهجير الفلسطينيّين، وقد كانوا يأملون العودة في الأربعينات وفي أوائل الخمسينات إلى بلدهم، ولكنَّهم لا يزالون يعيشون في متاهات اللّجوء هنا وهناك.
تقاعسٌ إسلاميّ!
ونحن نؤكِّد من جديد، أنَّ منظَّمة المؤتمر الإسلامي الَّتي تضمّ كلَّ الدول الإسلاميَّة، لم تقم بأيِّ عمل سياسيّ في أكثر من قضيَّة إسلاميَّة. ونحن نسأل هذه المنظَّمة: ما دورها بصفتها الإسلاميَّة؟ إنَّ دور أيّ منظَّمة إسلاميَّة، كأيّ منظَّمة إقليميّة أخرى، كما في منظَّمة الاتحاد الأوروبي، أو في منظَّمة الدول الأمريكيَّة، إنَّ دورها أن تواجه القضايا الإسلاميّة الَّتي تعيش مشاكل اقتصاديَّة أو سياسيَّة أو أمنيَّة، بدراسة أسس هذه المشاكل والظّروف المحيطة بها، وبدارسة الآفاق الَّتي يمكن أن يجدوا فيها الحلّ.
إنَّ منظَّمةَ المؤتمرِ الإسلاميّ تضمُّ أكثر الدّول الَّتي يعيش فيها مسلمون. ولهذا، فقد كان من المفروض، منذ أن بدأت قضيَّة كوسوفو، أن يجتمعوا ويخطِّطوا ويفكّروا، وأن يستخدموا علاقاتهم الدّوليَّة ليضغطوا على هذا المحور الدّوليّ وعلى ذلك المحور الدّوليّ، في سبيل أن لا تصل المسألة إلى هذا المستوى من الخطر، لتكون الكارثة، ولتكون المأساة. ولكنَّنا لاحظنا غياباً مطبقاً في حركة منظَّمة المؤتمر الإسلامي، ما يجعلنا نتساءل: ما فائدتها؟ ما هي مصلحة الإٍسلام والمسلمين؟ إنَّها كبقيَّة المنظَّمات الإقليميَّة الَّتي ساعد الاستكبار العالميّ على إنشائها من أجل مصالحه، لا من أجل مصالح الشّعوب هنا وهناك.
إنَّ الدول الإسلاميَّة بدأت تتحدَّث عن الجانب الإنساني، إنَّهم ينتظرون أيّ شعب مسلم يشرَّد ويهجَّر، لينطلق النَّاس ليجمعوا لهم المساعدات والأغذية وما إلى ذلك، فهل دور الدّول هو المساعدات الإنسانيَّة، أو أنَّ دور الدّول هو التخطيط السياسي؟!
إنَّ على المسلمين أن يقفوا وقفة واحدة في مواجهة كلِّ الاستكبار العالميّ، بكلِّ ما يملكون، وعلينا أن نعرف أنَّ هذا الاستكبار لن يكون مع المسلمين من قريب أو بعيد، وهذا ما يجب أن تختزنه الشّعوب الإسلاميَّة في تعاملها مع كلِّ هذه الدولة المستكبرة.
استهدافُ الأمنِ في إيران
من جهة أخرى، علينا أن نراقب ما يجري في إيران من محاولات لزعزعة الاستقرار السياسي والأمني الدَّاخلي في الجمهوريَّة الإسلاميَّة من زاوية المصالح الدَّوليَّة، وعلى الأخصّ الأمريكيَّة والإسرائيليَّة، في أيّ هزّة أمنيَّة تحدث، كتلك الّتي استهدفت اللّواء شيرازي، إذ إنَّ المنافقين ليسوا إلَّا مجرَّد أدوات صغيرة تحركها أكثر من مخابرات إقليميَّة أو دوليَّة. وإذا كانت أمريكا تحدَّثت عن هذه المنظَّمة بأنَّها إرهابيَّة، واستنكرت عمليَّة الاغتيال، فإنَّنا نراها لا تحرِّك ساكناً ضدَّ هذه المنظَّمة، بل تسمح بنشاطها في أمريكا في أكثر من موقع، مع أنَّها تمنع نشاط حركة حماس، وتمنع نشاط حركة المقاومة الإسلاميَّة، وتمنع كلَّ النَّشاطات للَّذين يعملون على تحرير بلادهم.
إنَّنا ندعو الشَّعب الإيرانيَّ المسلم أن يعيش الوحدة والالتفاف حول قيادته في مواجهة المخطَّطات الدَّوليَّة الَّتي تعمل لإسقاط واقعه السياسيّ والأمنيّ والاقتصاديّ، فإنَّ الوحدة الوطنيَّة لهذا الشَّعب، كفيلة بفشل كلّ المؤامرات.
ذكرى عناقيدِ الغضب
ونصل بعد ذلك إلى لبنان، لنستذكر قضيَّة جريمة عناقيد الغضب الَّتي تمثَّلت في العدوان الإسرائيلي على لبنان، عندما اجتاح الجنوب كلَّه، وتحرَّك في أكثر من مجزرة إنسانيَّة حصدت مئات الأطفال والنِّساء والشّيوخ والشَّباب، وفي مقدَّمها مجزرة قانا، ومجزرة المنصوري، ومجزرة النَّبطيَّة الفوقا، والكثير من المجازر الَّتي تحرَّك بها الإسرائيليّون من أجل إسقاط المقاومة، كما كانوا يتحدَّثون، ومن خلال إسقاط الواقع السياسيّ في لبنان وفي سوريا. ولكنَّ الإسرائليين سقطوا في مخطَّطاتهم تحت تأثير ضربات المقاومة، ولا سيَّما المقاومة الإسلاميَّة، وتحت تأثير وحدة الشَّعب اللّبناني والحكومة اللّبنانيَّة، والشّعوب العربيَّة والإسلاميَّة الّتي تمرَّدت على أنظمتها وعلى حكَّامها، ووقفت مع الشَّعب اللّبناني في مواجهة إسرائيل، حتَّى استطاعت "عناقيد الغضب" في أجوائها السياسيَّة في العالم كلِّه، أن تجعل هناك صحوة عربيَّة إسلاميَّة في مواجهة إسرائيل، بحيث خاف الاستكبار العالميّ من هذه الصَّحوة أن تسقط رموزه الَّذين وظَّفهم ليكونوا ملوكاً أو رؤساء أو ما إلى ذلك، ليعملوا على أساس تدجين الواقع العربي لمصلحة الواقع الإسرائيلي.
إنَّ علينا، أيُّها الأحبَّة، أن نستذكرَ هذه الحرب، لنتعرَّف ما معنى إسرائيل، وأنَّها الخطر الأكبر على المنطقة الكبرى، ولنتعرَّف ما معنى أمريكا الَّتي وقفت مع إسرائيل، وحاولت أن تدافع عن مجزرة قانا، لتعتبر أنَّها مسؤوليَّة المقاومة وليست مسؤوليَّة العدوِّ الإسرائيلي، وقد عملت بكلِّ قوَّة أن تمنع تقديم تقرير الأمم المتَّحدة إلى مجلس الأمن، وعندما أصرَّ الأمينُ العامّ للأمم المتَّحدة على قراءتِهِ، أبعدتْهُ عن موقعِ الأمانةِ بعد ذلك.
إنَّ علينا أن نتفهَّم جيِّداً كلَّ هذا الواقع، حتَّى نعرف كيف نواجه أعداءنا، وكيف نميِّز بين أعدائنا وأصدقائنا.
الاعتداءاتُ الصّهيونيّة
إنَّنا عندما نواجه الواقع بعد ذلك في هذا الإطار، نجد أنَّ إسرائيل دخلت في اللّيلة الماضية قرية أرنون من جديد، لأنَّها شعرت بضربات المقاومة، ولا سيَّما في العمليَّة الموفَّقة في طريق الشقيف، حيث قُتِلَ جنديّ إسرائيليّ، وجُرِحَ أكثر من جنديّ.
إنَّ إسرائيل تعمل بكلِّ ما عندها من قوَّة في سبيل اضطهاد النَّاس هنا وهناك، ولكنَّنا نقول لإسرائيل، لا بلغة عنتريَّة، ولكن بلغة واقعيَّة، إنَّ المقاومة سوف تتابع الضَّربات المؤلمة للعدوّ في داخل المنطقة المحتلَّة، وإنَّهم إذا دخلوا منطقة أرنون اليوم، فسوف يخرجون منها غداً بفضل وحدة الشَّعب والدَّولة وراء المقاومة.
ولكنَّنا نسأل أمريكا، ونسأل الحلف الأطلسي الَّذي يتحرَّك بعنوان الدّفاع عن ألبان كوسوفو: لماذا لم يتحرّك للدّفاع عن الفلسطينيّين في أرضهم، وعن اللّبنانيّين في أرضهم؟ لماذا لم يتحرَّك أمام التعسّف الإسرائيليّ ضدَّ الأطفال والنّساء والشّيوخ؟ لماذا يقف جامداً ساكناً كما لو لم تكن هناك مشكلة؟
إنَّنا نقول لأمريكا ولأوروبَّا، إذا كنتم صادقين في شعاراتكم، في حال الحرب ضدَّ صربيا، فإنَّ عليكم أن تحركوا هذه الشّعارات من أجل الدّفاع عن الفلسطينيّين وعن اللّبنانيّين، وعن كلِّ واقع الأبرياء الَّذين هجِّروا في أصقاع الأرض، والَّذين لا يزالون يهجَّرون بينَ وقتٍ وآخر.
عمليَّةُ الإصلاحِ والتَّخطيط
وأخيراً، إنَّنا نشجِّع هذا الهدوء السياسيّ الَّذي يبتعد فيه السياسيّون عن وضع العصيّ في الدَّواليب أمام عمليَّة الإصلاح والتَّخطيط ومعالجة المشاكل المزمنة في البلد، وإفساح المجال للتّوازن السياسي، ونريد للجميع أن يتعاونوا ويتكاملوا في تقديم المشاريع في ضوء التّجارب القديمة والجديدة الَّتي خاضها البلد، سواء من خلال الموالين أو المعارضين، ليقف الجميع مع المصلحة العليا للإنسان. وعلى الشَّعب أن يكون واعياً ورقيباً على حركة الدَّولة، لأنَّه هو صاحب القضيَّة والمصلحة في المشكلة والحلِّ، وأن يحافظ على وحدته، ولا يسمح بأيِّ خللٍ سياسيّ أو حزبيّ أو طائفيّ لإرباك الواقع في البلد، لأنَّ الهيكل في حركة اللّعبة اللامسؤولة سوف يسقط على رؤوس الجميع.
والحمد لله ربِّ العالمين.
*خطبة الجمعة لسماحته/ بتاريخ: 16/ 04/ 1999م.

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ}[النَّحل: 23].
{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}[الأعراف: 146].
{فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}[النَّحل: 29]. {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا * كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِندَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا}[الإسراء: 37 – 38].
فئةُ المتكبِّرين
يحدِّثنا الله سبحانه وتعالى عن المستكبرين كفئة بعيدة عن الله، لأنَّ الله سبحانه وتعالى يريد للإنسان أن يعيش واقعيَّة إنسانيَّته، بحيث يحاول كلّ واحد من النَّاس أن يفهم نقاط ضعفه ونقاط قوَّته، وأن يفهم نقاط قوَّة الآخرين ونقاط ضعفهم، بحيث يدخل دائما ًفي مقارنة بين الصِّفات الطيِّبة في شخصيَّته والصِّفات غير الطيِّبة، ليتوازن في نظرته إلى نفسه، وأن يدخل في مقارنة بينه وبين النَّاس الآخرين، فإذا كان دقيقاً في هذه المقارنة، فإنَّه سوف يتوازن عند نفسه، لأنَّه إذا رأى بعض نقاط القوَّة في شخصه، فإنَّ اكتشافه لنقاط الضّعف، يجعله يتواضع ويشعر بأنَّ عليه أن يتوازن ولا يطغى في نفسه.
وهذا ما عبَّر عنه الإمام زين العابدين (ع) في دعاء مكارم الأخلاق: "وَلَا تَرْفَعْنِي في النَّاسِ دَرَجَةً، إِلَّا حَطَطْتَنِي عِنْدَ نَفْسِي مِثْلَها"، بحيث إذا فرضنا أنَّ الإنسان شعر بأنَّه يملك علماً كبيراً أو قوَّة كبيرة، أو يملك مالاً واسعاً، نظر في الجانب الآخر من شخصيَّته إلى أنَّه يملك علماً في جانب وجهلاً في جانب آخر، فلا أحد يعرف كلَّ العلم، ويملك قوَّة في جانب وضعفاً في جانب آخر، لأن ليس أحد يملك كلَّ القوَّة، ويملك مالاً في جانب ولكنَّه أيضاً يملك فقراً في جانب آخر... لهذا، إذا نظر الإنسان إلى نقاط الضّعف في نفسه ونقاط القوَّة فيها، توازنت نفسه عنده، فلا يمكن أن يطغى ليشعر بأنَّه الشَّخص الوحيد الَّذي ليس هناك أحدٌ يماثله.
ونحن نقرأ في حديث عليّ (ع)، وهو الَّذي يمثِّل الكمال الإنسانيَّ في أعلى درجاته، والعصمة الإنسانيَّة في أعلى درجاتها، أنَّه كان إذا مدحه شخص، خشع لله وقال: "اللَّهمَّ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ، واجْعَلْنِي خَيْراً ممَّا يَظُنُّونَ، واغْفِرْ لِيْ مَاْ لَا يَعْلَمُونَ"، كأنَّه يريد أن يوحي إلى مَنْ حوله، أنَّ النَّاس إذا عرفوا منك شيئاً طيِّباً، فإنَّهم لا يعرفون منك الأشياء الخبيثة.
وعندما يعيش الإنسان مع النَّاس، فإنَّ عليه أن يحترمهم، لأنَّه سيجد عندهم شيئاً ليس عندَه، وهذا الشَّيء يمكننا أن نفهمه بالتَّجربة، فكلُّ واحدٍ منكم عندَهُ رفاق وأصدقاء، وحتَّى قد يكون عنده موظَّفون، فهذا الموظَّف الَّذي يحتاج إلى مالِكَ، تحتاج أنت إلى خبرته الّتي لا تملكها. وحتّى الإنسان الَّذي تطلب منه أن يكون حارساً لك، صحيح أنَّك في الوسط الاجتماعي تملك ما لا يملكه، ولكنَّه يملك القوَّة الّتي لا تملكها أنت. وقد نجد أنَّ الرَّجل، مثلاً، أمام المرأة، يشعر بأنَّ عقله أكبر، وقوَّته أكثر، ولكن عندما يدرس زوجته أو ابنته أو اخته، يجد أنَّها تملك كثيراً من الصِّفات الإنسانيَّة مما لا يملكه هو...
هذا المعنى يمنع الإنسان من التكبّر، لأنَّ الإنسان المتكبِّر هو الَّذي يعيش في داخل ذاته دون أن يبصر النَّاس من حوله، أو يعيش في داخل ذاته في الجانب الإيجابي من ذاته، ولا يبصر الجانب السَّلبي من جانب ذاته.
ولذلك، مشكلة المتكبِّرين أنَّهم يجهلون أنفسهم ويجهلون النَّاس من حولهم، فيخيَّل إليهم في أنفسهم أنَّهم كلُّ الخير وكلُّ القوَّة وكلُّ العلم، ويخيَّل إليهم أنَّ النَّاس غيرهم هم كلّ الضّعف وكلّ الجهل، وما إلى ذلك.
مصيرُ المتكبِّر
وهذه المسألة من المسائل الأساسيَّة في مصير الإنسان عند الله، ومن المسائل الأساسيَّة في حركة الإنسان في الواقع الاجتماعي، وفي حركة المجتمع في داخل أفرادها.
أمَّا عند الله، فقد سمعتم الآيات الَّتي تقول: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ}[النّحل: 23].
{فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}[النّحل: 29].
{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ ولا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً إنَّ اللهَ لا يُحبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ}[لقمان: 18].
{أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ}[الزّمر: 60].
{قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}[غافر: 76].
إذاً، {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ}[القصص: 83]، الّذين لا يشعرون بأنَّهم أعلى من النَّاس، وأنَّهم في الأرض هم العالون وأنَّ الآخرين هم الأسفلون. فالله عندما تحدَّث عن فرعون قال: {إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِّنَ الْمُسْرِفِينَ}[الدّخان: 31]، أي أنَّه كان يشعر بالعلوّ وبالكبرياء الَّتي تضخَّمت في شخصيَّته، فأصبح يشعر بالرّبوبيَّة.
أمَّا بالنِّسبة إلى المصير في الآخرة، فسوف يواجه الإنسان المتكبِّر المصير الأسود. ونحن نقرأ أنَّ الله سبحانه وتعالى أخرج إبليس من الجنَّة، وقد كان يعيش مع الملائكة، من أجل لحظة كبر، فالله سبحانه وتعالى عندما أمر الملائكة وإبليس بالسّجود لآدم: {قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}[الأعراف: 12]، والنَّار أعظم من الطِّين، لأنَّها تحرق الطِّين وتفنيه وما إلى ذلك! فهو التفت إلى هذا الجانب، ولم يلتفت إلى الجانب الموجود عند آدم (ع)، مما حدَّث الله به الملائكة، ومما طلَبَ من آدم أن يعرِّفهم ما علَّمه سبحانه من ذلك، لأنَّ إبليس استغرق في جانبٍ واحد، وهو الجانب العنصري، وكذلك قارن بين النَّار والطّين من جانب القوَّة، ولكن لم يقارن بينهما من باب أنَّ قيمة الطّين هو أنَّه يحمل الخصب والرِّخاء، ويحمل خصائص التّراب وخصائص الأرض، وما إلى ذلك من النَّتائج الكبرى الَّتي تحصل في خلق هذا العنصر من الطّين، فالأرض تمثِّل النّموّ، والطِّين يمثِّل النّموّ، بينما تمثِّل النَّار الإحراق في كثير من الحالات، فهذا فيه جانب إيجابيّ، إلا أنَّه استغرق في جانب آخر ونسي بقيَّة الجوانب، ولذلك تكبَّر على آدم، فقال له الله سبحانه وتعالى: {اخْرُجْ مِنْهَا}[الأعراف: 18].
الجنَّةُ للمتواضعين
إنّ الجنَّة هي ساحة المتواضعين، فالَّذي يريد الجنَّة، لا بدَّ أن يكون متواضعاً، وأن لا يكون متكبّراً. فإبليس الَّذي عبد الله ما شاء من السّنين، أخرجه الله من الجنَّة بلحظة كبر، فماذا سيكون وضعنا، ونحن بالكاد نصلِّي صلواتنا؛ هل سيعطينا الله مفتاح الجنَّة هكذا ونحن نتكبَّر؟ قد يتكبَّر واحدنا على زوجته، على جاره، يتكبّر لأنَّه أغنى من هذا، أو أقوى من ذاك، أو أعلى من هذا، وما إلى ذلك، يشعر في نفسه بأنَّه فوق وأنَّ الآخرين تحت: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَرًا}[الكهف: 34]، أو أنا أكثر قوَّة، أنا مسلَّح، مثلاً، وذاك لا يملك سلاحاً، عشيرتي أكبر من عشيرتك... أن تشعر بالفوقيَّة على من هو دونك.
في الإسلام، عليك أن تستشعر أنَّ الناس إخوتك، وعليك أن تحاسب نفسك لتتعرَّف نقاط الضّعف ونقاط القوَّة فيها، لتتوازن عند نفسك وفي المجتمع.
ولعلَّ مشكلة المجتمع، أيُّها الأحبَّة، ومشكلة أمَّتنا، هي مشكلة هؤلاء المتكبّرين الَّذين يملكون بعض الفرص السياسيَّة، أو بعض الفرص الاجتماعيَّة، أو بعض الفرص الاقتصاديَّة، فيحاولون الاستعلاء على النَّاس والتكبّر والتجبّر عليهم، فيغمطونهم حقوقهم، ويستكبرون في الأرض بغير الحقّ.
أهميّةُ تواضعِ القيادة
وأيضاً، كما أنَّ المتكبّر يتحمَّل المسؤوليَّة، كذلك النَّاس الَّذين يمدحون المتكبِّر، ويضخِّمون شخصيَّته بالثَّناء عليه بما لا يستحقّ، أو الَّذين يمهِّدون له مواقع القوَّة، ويحوِّلون الواقع الاجتماعيَّ إلى عبادة الشّخصيَّة... ممَّ تنشأ عبادة الشَّخصيَّة؟ تنشأ من خلال أنَّ بعض النَّاس يرى نفسه في القمَّة، ويوحي إلى النَّاس بأنَّهم في الأسفل، فيحاول النَّاس أن يعيشوا مع ما يثار من ضخامة شخصيَّته، فيسقطون أمامه ويشعرون بالانسحاق.
الإنسان الَّذي يكون في موقع القيادة، عليه أن يحترم النَّاس من حوله، أن يعيش معهم أنّهم معه لا أنَّهم وراءه. وأعظم توثيق قرآنيّ في هذا المجال، هو حديثُ الله عن رسوله (ص) عندما يقول: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ...}[الفتح: 29]. إنَّ الله يتحدَّث عن المسلمين الَّذين كانوا مع الرَّسول (ص) أنَّهم معه، ونحن نعرف أنَّ رسول الله هو سيِّد ولد آدم، ومع ذلك، كان يعيشُ على أساس أنَّهم معه، والله أكَّد هذا الموضوع، وكان يقال في سيرة النَّبيّ (ص): "كَانَ وَاللَّهِ فِينَا كَأَحَدِنَا"، فلم يكن يميِّز نفسه عن أيِّ مسلم آخر، لا في الجلوس، ولا في أيّ شيء، حتَّى إنَّ شخصاً جاء والنَّبيّ جالس في حلقة مع المسلمين، والتفتَ إليهم وقالَ: أيُّكم محمَّد؟ حتّى اتَّفق المسلمون مع النّبيّ (ص) أن يضعوا له حجراً ليجلس عليه، حتّى لا يتحيَّر القادم من هو النّبيّ.
ويقال في سيرته (ص) أنَّه مرَّت به امرأة فارتعدت من هيبته، فقال لها النَّبيّ (ص): "هوِّني عليْكِ، فإنَّما أنا ابنُ امرأةٍ منْ قريش كانَتْ تَأْكُلُ القَدِيْدَ"، فأنا إنسان عاديّ مثل بقيَّة النَّاس، وهو الإنسان المميَّز عند الله سبحانه وتعالى وعند النَّاس.
مشكلةُ تقديسِ الشَّخصيَّات
لهذا، المتكبّرون في مجتمعاتنا هم الَّذين يلغون شخصيَّة الآخرين، وهذا ما نعيشه في الواقع السياسي في أكثر دول العالم الثَّالث، أنَّ الشَّخص الحاكم يختصر الأمَّة كلَّها، حتّى إنَّنا قد نسمِّي الدَّولة باسم الشَّخص أو باسم العائلة، وتبقى المدائح تهال على الحاكم، فلا نسمع مجتمعاً من هذه المجتمعات ينقد حاكماً، أو رئيس حزب، أو إنساناً له مسؤوليَّات كبيرة، نحن نعيش عبادة الشَّخصيَّة بأفظع ما يكون!
إذا كنت تقدِّس شخصاً وتحترمه لإخلاصه السياسيّ، لجهاده، لعلمه، لقوَّته... فلا بأس، ولكن لا تجعله فوق النَّقد، فيمكنك أن تستمع إلى النَّقد عنه، وإذا كان عندك جواب، فليكن بشكل هادئ ودون تعصّب.
نقلت لكم ذات مرّة قضيَّة أمير المؤمنين (ع)، عندما كان جالساً مع أصحابه، وكان الخوارج قد كفَّروه في قصَّة التَّحكيم. تقول القصَّة: "إذ مرَّت بهم امرأة جميلة، فرمقها القوم بأبصارهم، فقال (ع): إنَّ أبْصَارَ هذهِ الفحولِ طوامحُ، وإنَّ ذلك سببُ هبابِها، فإذا نظرَ أحدُكُم إلى امرأةٍ تعجبُهُ، فليلامس أهله، فإنَّما هي امرأة كامرأتِهِ. فقال رجل من الخوارج: قاتله الله كافراً ما أفقهه! فوثب القوم ليقتلوه، فقال (ع): رويداً، فإنَّما هوَ سبٌّ بسبٍّ، أو عفوٌ عن ذنبٍ". {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}[البقرة: 194]، {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}[البقرة: 237].
وهذه عظمة الشَّخص، أنَّه كلَّما كبر في نفسه، تواضع للنَّاس، ولذلك، فإنَّ الشَّخص المتكبِّر ينطلق دائماً من عقدة نقص.
لذلك، علينا أن نركِّز على هذه النّقطة، فإذا كان الله لا يحبّ المتكبّرين، فعلينا أن لا نحبّهم، ولا نشجِّعهم، ولا نمدحهم، ولا نعبدهم، حتَّى يشعروا بوزنهم، فيرجعوا إلى إنسانيَّتهم، لأنَّه ما من أحدٍ يشجِّع القيادات على الطّغيان وعلى الاستكبار، إلَّا النَّاس الَّذين تتحرَّك مصالحهم عند أولئك، أو الَّذين يخافون منهم أو يرهبونهم، وقد سقط الكثيرون منَّا في هذا المجال.
وأيضاً، كما هناك شخص متكبّر، هناك منظَّمات متكبِّرة ترى نفسها فوق الجميع، هناك أحزاب متكبّرة ترى نفسها هي الَّتي تملك الحقيقة ولا يملكها أحد غيرها، هناك دول متكبّرة، وعشائر متكبّرة، لأنَّ التكبّر، هو أن يشعر الإنسان بنفسه من خلال ما يملكه من طاقات بأنّه فوق الجميع.
وهناك قوميَّات مستكبرة، فهتلر كان يرى أنَّ العنصر الآري فوق الجميع، وكان يقسِّم النَّاس إلى عناصر معيَّنة، ويعتبر أنَّ العنصر الآري أعلى من كلِّ العناصر. وفي أربعينات القرن الماضي، في بداية انطلاق القوميّات العربيّة، كان هناك من النّاس السذّج مَنْ يقول إنَّ العرب فوق الجميع.
لذلك، هذه المسألة تتَّصل بأكثر من واقع اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي، ولعلَّها سرّ طغيان الطّغاة علينا، لأنَّنا نشجِّع المستكبرين وننحني أمامهم.
الكبرُ في أحاديثِ الأئمَّة (ع)
فلنقرأ بعض كلمات أهل البيت (ع).
في الحديث عن الإمام الصَّادق (ع) يقول: "الكبْرُ قد يكون في شرارِ النَّاسِ من كلِّ جنسٍ، والكبْرُ رداءُ اللّهِ، فمَنْ نازعَ اللَّهَ عزَّ وجلَّ رداءَهُ، لم يزدْهُ اللّه إلَّا سفالاً"، يعني انحطاطاً وضعةً وذلّةً في عيون النَّاس.
وورد في حديثٍ آخر عن الإمام الباقر (ع): "العزُّ رداءُ الله، والكبْرُ إزارُهُ، فمَنْ تناولَ شيئاً منه، أكبَّه اللهُ في جهنَّم".
وهكذا يقول الإمام الباقر (ع): "الكبْرُ رداءُ الله، والمتكبِّر ينازعُ اللهَ رداءَهُ".
ويقول الإمام الصَّادق (ع): "الكبْرُ رداءُ الله، فمَنْ نازعَ اللهَ شيئاً منْ ذلك، أكبَّهُ اللهُ في النَّار".
وقد ورد أيضاً عن الإمام الصَّادق (ع) وهو يفسِّر الكبر، قال: "الكبْرُ أن تغمصَ النَّاسَ وتسفهَ الحقّ"، أي أنَّ مظهر الكبر أن تحتقر النَّاس، فتقول: من هو فلان؟ ومن فلان؟ ومن تلك العشيرة أو أولئك القوم، وهكذا، أن تستخفَّ بالحقِّ ولا تعبأ به.
وقال أبو عبد الله الصَّادق (ع): "إنَّ أعظمَ الكبْرِ غمصُ الخلقِ وسفهُ الحقّ. قلْتُ: وما غمصُ الخلقِ وسفهُ الحقّ؟ قالَ: يجهل الحقَّ ويطعنُ على أهلِهِ، فمَنْ فعلَ ذلك، فقدْ نازعَ اللهَ عزَّ وجلَّ رداءَهُ".
"إنَّ في جهنَّمَ لوادياً للمتكبِّرين يقالُ له سقر، شكا إلى اللهِ شدَّة حرِّهِ، وسألَهُ أنْ يأذنَ له أن يتنفَّسَ، فأحرقَ جهنَّم"، من خلال طبيعة النَّار الَّتي تصيب المتكبّرين.
وجاء: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: "إنَّ المتكبِّرين يُجعلَون في صورة الذّرّ، يتوطَّؤهم النَّاس، حتَّى يفرغ الله من الحسابِ يومَ القيامة".
وفي الحديث أيضاً: "ثلاثةٌ لا يكلِّمهم اللهُ ولا ينظرُ إليْهم يومَ القيامةِ ولا يزكِّيهم ولهم عذابٌ أليمٌ: شيخٌ زانٍ، وملكٌ جبَّارٌ، ومقلٌّ مختال"، أي يختال على النَّاس في كلِّ مواقعهم.
وعن الإمام الصَّادق (ع): "ما من عبدٍ إلَّا وفي رأسِهِ حكمةٌ وملكٌ يمسكُها، فإذا تكبَّر قالَ له: اتَّضعْ وضعَكَ الله، فلا يزالُ أعظمَ النَّاسِ في نفسِهِ، وأصغرَ النَّاسِ في أعينِ النَّاسِ، وإذا تواضعَ، رفعَهُ اللهُ عزَّ وجلَّ، ثمَّ قالَ له: انتعشْ نعشَكَ الله، فلا يزالُ أصغرَ النَّاسِ في نفسِهِ، وأرفعَ النَّاسِ في أعينِ النَّاس".
وفي الحديثِ عن الإمام الصَّادق (ع): "ما مِنْ أحدٍ يتيهُ إلَّا مِنْ ذلَّةٍ يجدُها في نفسِهِ"، أي أنَّ التَّكبّر ليس مظهر الإحساس بالقوَّة، بل هو إحساس بالضّعف. "ما من رجلٍ تكبَّرَ أو تجبَّرَ إلَّا لذلَّةٍ وجدَها في نفسِهِ".
معالجةُ مرضِ التَّكبّر
أيُّها الأحبَّة، إذا عرفنا أنَّ التكبّر هو رداء الله، وأنَّ الله لا يحبُّ المستكبرين، وأنَّه يدخل المتكبّرين نار جهنَّم، فعلينا أن نعالج هذا المرض في أنفسنا، فنحترم كلَّ النَّاس من حولنا، وذلك بأن ندرس لدى النَّاس ما ليس عندنا، إذا رأينا أنَّ عندنا ما ليس عند النَّاس، وأنَّ علينا أن نتواضع لله، وأن نعيش إنسانيَّتنا، لنشعر بأنَّ المؤمنين إخوة، وأنَّ لكلِّ مؤمن الحقّ في أن نحترمه، كما لنا الحقّ أن يحترمنا الآخرون.
أيُّها الأحبَّة، إنَّ أخلاقنا هي الَّتي نحشر عليها يوم القيامة، فمن كانت أخلاقه أخلاق الله وأخلاق الإسلام، دخل الجنَّة، ومن كانت أخلاقه أخلاق إبليس وأخلاق الكفر، دخل النَّار "حاسِبوا أنْفُسَكُم قَبلَ أنْ تُحاسَبوا، وزِنوها قَبلَ أنْ تُوزَنوا ".
                                                         بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
                                                              الخطبة الثَّانية
 
 
عباد الله، اتَّقوا الله في كلِّ أموركم، وفي كلِّ علاقاتكم، وفي كلِّ مواقفكم ومواقعكم، لأنَّ الله يريد للإنسان المؤمن أن يتَّقيه، وأن يخافه، وأن يحسب حسابه في كلِّ ما يتحرَّك به، من كلِّ أمور الواقع الفرديّ والواقع الاجتماعيّ.
وعلينا، أيُّها الأحبَّة، أن نتحرَّك في حياتنا الاجتماعيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة، على أساس أن لا نكون مع المستكبرين ضدَّ المستضعفين، وأن لا نكون المستكبرين إذا حدثت لأحدنا قوَّة في مال، أو في علم، أو في سياسة، أو في غير ذلك، لأنَّ الله يريد للنَّاس أن يعيشوا إنسانيَّتهم في كلِّ قضاياهم، وأن يتكاملوا في طاقاتهم، فيعطي كلّ واحد للآخر ما يحتاجه من طاقته، لأنَّ ذلك هو ما يريده الله للتنوّع الإنساني {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}[الحجرات: 13]، حتَّى ينطلق التَّعارف من خلال الحاجات المتبادلة عند النّاس، ومن خلال الخصوصيَّات عندهم.
ضغطُ المستكبرين على الأمَّة
ونحن نعيش، أيُّها الأحبَّة، في كلّ واقعنا الإسلاميّ، ضغط المستكبرين من كلِّ الذين يملكون القوَّة السياسيَّة والقوَّة الاقتصاديَّة وقوّة السِّلاح، حيث يعملون على مصادرة كلِّ مصالحنا وكلِّ قضايانا، وعلى الإطباق على كلِّ إنسانيَّتنا، وهذا ما نواجهه في كلِّ مرحلة من مراحل الواقع السياسيّ في العالم، حيث نجد أنَّ العالم المستكبر الَّذي تقوده أمريكا في هذه المرحلة، يتحرَّك بين وقتٍ وآخر من أجل أن يضعفَ المسلمين في بلدانهم، أو يهجِّرهم من بلدانهم، وهذا ما عشناه في فلسطين، وما عشناه في البوسنة والهرسك، وما عشناه في أكثر من بلدٍ إسلاميٍّ يحكمه المستكبرون أو أعوانهم، كما نلاحظه في العراق الَّذي يعيش تحت ضغط الاستكبار العالميّ، ولا سيَّما الأمريكي والبريطاني، الَّذي يحاصر الشَّعب ويجيعه، كما يعيش مشكلة حاكمه الَّذي يصادر حريَّاته ويضغط عليه.
وهذا أيضاً ما نلاحظه في موقف الاستكبار العالميّ في حصاره لإيران الإسلام، في كلِّ أوضاعها الاقتصاديَّة والسياسيَّة والأمنيَّة، وهذا ما نلاحظه في هذه الأيَّام، من خلال المأساة المتجدِّدة في كوسوفو، الَّتي انطلق فيها الحلف الأطلسي بقيادة أمريكا، من أجل لعبة سياسيَّة متحركة في أكثر من جانب من مصالح أمريكا في تلك المنطقة، أو في مصالح أمريكا في اللَّعب في بعض القضايا الأوروبيَّة وما إلى ذلك.
إنَّ المسألة، حسب متابعتنا للأوضاع، ليست مسألة أنَّ الأمريكيّين، أو أنَّ الحلف الأطلسي، يعمل على أساس حماية المسلمين من طغيان الصّرب، ولكنَّ المسألة هي مسألة حماية المصالح الاقتصاديَّة والسياسيَّة الأمريكيَّة في تلك المنطقة في دائرة الصِّراع بين الدّول الكبرى.
لهذا، نلاحظ، مثلاً، أنَّه باسم حماية ألبان كوسوفو، هُجِّر أكثر هؤلاء المسلمين من بلادهم، لقد كان المسلمون هناك يواجهون بعض المشاكل من الصّرب، في مجزرة هنا وهناك وما إلى ذلك، ولكن عندما انطلقت الحرب من خلال الحلف الأطلسي، رأينا أنَّ هناك عمليَّة تهجير واسعة ضدَّهم، بحيث لم يبق في منطقة كوسوفو إلَّا القليل القليل، وحتّى إنَّنا سمعنا من الأخبار أنَّ الحلف الأطلسي قصف بعض قوافل المهجّرين منهم، الَّذين كانوا يفرّون بأنفسهم من الحرب، وقتل ما يقارب الثَّمانين بين امرأة وطفل وشيخ، وكان الاعتذار أنَّ الحروب لا بدَّ أن تشتمل على خطأ، ونأسف لهذا الخطأ.
هكذا كانوا يتحدَّثون، ولا تزال المأساة متحركة في أكثر من جانب، وحتى إنَّنا نلاحظ أنَّ مشكلة كوسوفو الَّتي بدأت بمطالبة هؤلاء المسلمين بالاستقلال عن يوغوسلافيا، صرَّح الرئيس الأمريكي بالأمس بأنَّه ليس من مصلحتهم أن يستقلّوا، ولكن لا بدَّ من ترتيب أمورهم بعيداً من الاستقلال السياسي في هذا المجال، لأنَّ أمريكا لا تريد أن تكون هناك دولة إسلاميَّة أكثريَّةُ أهلها من المسلمين في أوروبَّا.
لهذا، بدأت اللّعبة السياسيَّة في طرح مشروع ألمانيّ هنا، أو ربّما مشروع آخر من الأمم المتَّحدة هناك، ولا تزال المسألة تعيش في غموضٍ وضبابٍ سياسيّ، ليست فيه أيّ مصلحة للمسلمين هناك من قريب أو بعيد. وإنَّنا نستذكر في ذلك تهجير الفلسطينيّين، وقد كانوا يأملون العودة في الأربعينات وفي أوائل الخمسينات إلى بلدهم، ولكنَّهم لا يزالون يعيشون في متاهات اللّجوء هنا وهناك.
تقاعسٌ إسلاميّ!
ونحن نؤكِّد من جديد، أنَّ منظَّمة المؤتمر الإسلامي الَّتي تضمّ كلَّ الدول الإسلاميَّة، لم تقم بأيِّ عمل سياسيّ في أكثر من قضيَّة إسلاميَّة. ونحن نسأل هذه المنظَّمة: ما دورها بصفتها الإسلاميَّة؟ إنَّ دور أيّ منظَّمة إسلاميَّة، كأيّ منظَّمة إقليميّة أخرى، كما في منظَّمة الاتحاد الأوروبي، أو في منظَّمة الدول الأمريكيَّة، إنَّ دورها أن تواجه القضايا الإسلاميّة الَّتي تعيش مشاكل اقتصاديَّة أو سياسيَّة أو أمنيَّة، بدراسة أسس هذه المشاكل والظّروف المحيطة بها، وبدارسة الآفاق الَّتي يمكن أن يجدوا فيها الحلّ.
إنَّ منظَّمةَ المؤتمرِ الإسلاميّ تضمُّ أكثر الدّول الَّتي يعيش فيها مسلمون. ولهذا، فقد كان من المفروض، منذ أن بدأت قضيَّة كوسوفو، أن يجتمعوا ويخطِّطوا ويفكّروا، وأن يستخدموا علاقاتهم الدّوليَّة ليضغطوا على هذا المحور الدّوليّ وعلى ذلك المحور الدّوليّ، في سبيل أن لا تصل المسألة إلى هذا المستوى من الخطر، لتكون الكارثة، ولتكون المأساة. ولكنَّنا لاحظنا غياباً مطبقاً في حركة منظَّمة المؤتمر الإسلامي، ما يجعلنا نتساءل: ما فائدتها؟ ما هي مصلحة الإٍسلام والمسلمين؟ إنَّها كبقيَّة المنظَّمات الإقليميَّة الَّتي ساعد الاستكبار العالميّ على إنشائها من أجل مصالحه، لا من أجل مصالح الشّعوب هنا وهناك.
إنَّ الدول الإسلاميَّة بدأت تتحدَّث عن الجانب الإنساني، إنَّهم ينتظرون أيّ شعب مسلم يشرَّد ويهجَّر، لينطلق النَّاس ليجمعوا لهم المساعدات والأغذية وما إلى ذلك، فهل دور الدّول هو المساعدات الإنسانيَّة، أو أنَّ دور الدّول هو التخطيط السياسي؟!
إنَّ على المسلمين أن يقفوا وقفة واحدة في مواجهة كلِّ الاستكبار العالميّ، بكلِّ ما يملكون، وعلينا أن نعرف أنَّ هذا الاستكبار لن يكون مع المسلمين من قريب أو بعيد، وهذا ما يجب أن تختزنه الشّعوب الإسلاميَّة في تعاملها مع كلِّ هذه الدولة المستكبرة.
استهدافُ الأمنِ في إيران
من جهة أخرى، علينا أن نراقب ما يجري في إيران من محاولات لزعزعة الاستقرار السياسي والأمني الدَّاخلي في الجمهوريَّة الإسلاميَّة من زاوية المصالح الدَّوليَّة، وعلى الأخصّ الأمريكيَّة والإسرائيليَّة، في أيّ هزّة أمنيَّة تحدث، كتلك الّتي استهدفت اللّواء شيرازي، إذ إنَّ المنافقين ليسوا إلَّا مجرَّد أدوات صغيرة تحركها أكثر من مخابرات إقليميَّة أو دوليَّة. وإذا كانت أمريكا تحدَّثت عن هذه المنظَّمة بأنَّها إرهابيَّة، واستنكرت عمليَّة الاغتيال، فإنَّنا نراها لا تحرِّك ساكناً ضدَّ هذه المنظَّمة، بل تسمح بنشاطها في أمريكا في أكثر من موقع، مع أنَّها تمنع نشاط حركة حماس، وتمنع نشاط حركة المقاومة الإسلاميَّة، وتمنع كلَّ النَّشاطات للَّذين يعملون على تحرير بلادهم.
إنَّنا ندعو الشَّعب الإيرانيَّ المسلم أن يعيش الوحدة والالتفاف حول قيادته في مواجهة المخطَّطات الدَّوليَّة الَّتي تعمل لإسقاط واقعه السياسيّ والأمنيّ والاقتصاديّ، فإنَّ الوحدة الوطنيَّة لهذا الشَّعب، كفيلة بفشل كلّ المؤامرات.
ذكرى عناقيدِ الغضب
ونصل بعد ذلك إلى لبنان، لنستذكر قضيَّة جريمة عناقيد الغضب الَّتي تمثَّلت في العدوان الإسرائيلي على لبنان، عندما اجتاح الجنوب كلَّه، وتحرَّك في أكثر من مجزرة إنسانيَّة حصدت مئات الأطفال والنِّساء والشّيوخ والشَّباب، وفي مقدَّمها مجزرة قانا، ومجزرة المنصوري، ومجزرة النَّبطيَّة الفوقا، والكثير من المجازر الَّتي تحرَّك بها الإسرائيليّون من أجل إسقاط المقاومة، كما كانوا يتحدَّثون، ومن خلال إسقاط الواقع السياسيّ في لبنان وفي سوريا. ولكنَّ الإسرائليين سقطوا في مخطَّطاتهم تحت تأثير ضربات المقاومة، ولا سيَّما المقاومة الإسلاميَّة، وتحت تأثير وحدة الشَّعب اللّبناني والحكومة اللّبنانيَّة، والشّعوب العربيَّة والإسلاميَّة الّتي تمرَّدت على أنظمتها وعلى حكَّامها، ووقفت مع الشَّعب اللّبناني في مواجهة إسرائيل، حتَّى استطاعت "عناقيد الغضب" في أجوائها السياسيَّة في العالم كلِّه، أن تجعل هناك صحوة عربيَّة إسلاميَّة في مواجهة إسرائيل، بحيث خاف الاستكبار العالميّ من هذه الصَّحوة أن تسقط رموزه الَّذين وظَّفهم ليكونوا ملوكاً أو رؤساء أو ما إلى ذلك، ليعملوا على أساس تدجين الواقع العربي لمصلحة الواقع الإسرائيلي.
إنَّ علينا، أيُّها الأحبَّة، أن نستذكرَ هذه الحرب، لنتعرَّف ما معنى إسرائيل، وأنَّها الخطر الأكبر على المنطقة الكبرى، ولنتعرَّف ما معنى أمريكا الَّتي وقفت مع إسرائيل، وحاولت أن تدافع عن مجزرة قانا، لتعتبر أنَّها مسؤوليَّة المقاومة وليست مسؤوليَّة العدوِّ الإسرائيلي، وقد عملت بكلِّ قوَّة أن تمنع تقديم تقرير الأمم المتَّحدة إلى مجلس الأمن، وعندما أصرَّ الأمينُ العامّ للأمم المتَّحدة على قراءتِهِ، أبعدتْهُ عن موقعِ الأمانةِ بعد ذلك.
إنَّ علينا أن نتفهَّم جيِّداً كلَّ هذا الواقع، حتَّى نعرف كيف نواجه أعداءنا، وكيف نميِّز بين أعدائنا وأصدقائنا.
الاعتداءاتُ الصّهيونيّة
إنَّنا عندما نواجه الواقع بعد ذلك في هذا الإطار، نجد أنَّ إسرائيل دخلت في اللّيلة الماضية قرية أرنون من جديد، لأنَّها شعرت بضربات المقاومة، ولا سيَّما في العمليَّة الموفَّقة في طريق الشقيف، حيث قُتِلَ جنديّ إسرائيليّ، وجُرِحَ أكثر من جنديّ.
إنَّ إسرائيل تعمل بكلِّ ما عندها من قوَّة في سبيل اضطهاد النَّاس هنا وهناك، ولكنَّنا نقول لإسرائيل، لا بلغة عنتريَّة، ولكن بلغة واقعيَّة، إنَّ المقاومة سوف تتابع الضَّربات المؤلمة للعدوّ في داخل المنطقة المحتلَّة، وإنَّهم إذا دخلوا منطقة أرنون اليوم، فسوف يخرجون منها غداً بفضل وحدة الشَّعب والدَّولة وراء المقاومة.
ولكنَّنا نسأل أمريكا، ونسأل الحلف الأطلسي الَّذي يتحرَّك بعنوان الدّفاع عن ألبان كوسوفو: لماذا لم يتحرّك للدّفاع عن الفلسطينيّين في أرضهم، وعن اللّبنانيّين في أرضهم؟ لماذا لم يتحرَّك أمام التعسّف الإسرائيليّ ضدَّ الأطفال والنّساء والشّيوخ؟ لماذا يقف جامداً ساكناً كما لو لم تكن هناك مشكلة؟
إنَّنا نقول لأمريكا ولأوروبَّا، إذا كنتم صادقين في شعاراتكم، في حال الحرب ضدَّ صربيا، فإنَّ عليكم أن تحركوا هذه الشّعارات من أجل الدّفاع عن الفلسطينيّين وعن اللّبنانيّين، وعن كلِّ واقع الأبرياء الَّذين هجِّروا في أصقاع الأرض، والَّذين لا يزالون يهجَّرون بينَ وقتٍ وآخر.
عمليَّةُ الإصلاحِ والتَّخطيط
وأخيراً، إنَّنا نشجِّع هذا الهدوء السياسيّ الَّذي يبتعد فيه السياسيّون عن وضع العصيّ في الدَّواليب أمام عمليَّة الإصلاح والتَّخطيط ومعالجة المشاكل المزمنة في البلد، وإفساح المجال للتّوازن السياسي، ونريد للجميع أن يتعاونوا ويتكاملوا في تقديم المشاريع في ضوء التّجارب القديمة والجديدة الَّتي خاضها البلد، سواء من خلال الموالين أو المعارضين، ليقف الجميع مع المصلحة العليا للإنسان. وعلى الشَّعب أن يكون واعياً ورقيباً على حركة الدَّولة، لأنَّه هو صاحب القضيَّة والمصلحة في المشكلة والحلِّ، وأن يحافظ على وحدته، ولا يسمح بأيِّ خللٍ سياسيّ أو حزبيّ أو طائفيّ لإرباك الواقع في البلد، لأنَّ الهيكل في حركة اللّعبة اللامسؤولة سوف يسقط على رؤوس الجميع.
والحمد لله ربِّ العالمين.
*خطبة الجمعة لسماحته/ بتاريخ: 16/ 04/ 1999م.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية