ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين
ومما جاء في خطبته الأولى:
بداية السّنة.. محطّة للتأمّل
تمرّ في هذه الأيام مناسبتان: المناسبة الأولى هي بداية السنة الميلادية ألفين وأربعة التي انطلقت من خلال ميلاد السيد المسيح (ع)، وعندما ننفتح على أية سنة جديدة، فإن علينا أن نعتبر أنها لحظة للتأمل وليست لحظة للعبث واللهو وإزعاج الناس بإطلاق الرصاص والمفرقعات أو القيام ببعض الألعاب البهلوانية أو بعض الحركات الصبيانية التي يقوم بها حتى الكبار من الناس، أو بإعطاء العقل إجازة بالسِّكر أو التخدير بالمخدرات، كما يفعل بعض الناس الذين يتلخّص كل نشاطهم أنهم في أول السنة يريدون أن يغيبوا عن العقل والتوازن والوعي، كأنهم يوحون إلى أنفسهم أنهم يريدون أن يبدأوا سنتهم باللاعقل، وإذا كان الناس يتحدثون بأن من حقنا أن نفرح، فإن علينا أن نعطي الفرح جرعةً من العقل والوعي، لأن إعطاءه جرعةً من الجنون يجعله مجرد تقلصات في المشاعر والأحاسيس.
إن معنى أن تمضي سنةٌ من عمرنا، هو أن جزءاً من هذا العمر عشنا مسؤوليته ونتحمّل مسؤوليته، لأن الله تعالى سوف يحاسبنا على كلِّ ما أسلفناه في هذه السنة، ولأنّ ما عملناه في تلك السنة سوف ينعكس سلباً أو إيجاباً على المستقبل الذي يُصنع في الماضي والحاضر، ولذلك لا بد لنا أن نجلس للتأمل بما سلف من أعمالنا، وهل نستطيع التخفّف من سلبياتها والتكثير من إيجابياتها؟ وعندما تبدأ سنة جديدة، ما هي مخططاتك لهذه السنة، ما هي مخططاتك بين يدي الله، ومخطّطاتك لرعاية عائلتك، وللانفتاح على حياتك الاقتصادية والثقافية والاجتماعية. إن مسألة ذهاب سنة ومجيء سنة يمثل قراراً من أخطر القرارات، لأنها جزء من عمرنا، ولذلك لا ينبغي لنا أن ندخل الزمن من دون وعي وتأمل وتفكير، وأن نخرج من الزمن من دون حساب.
إن كل المؤسسات المالية في العالم تعيش حالة طوارئ في نهاية السنة وبدايتها، لتحسب حساب الخسارة والربح، ولتخطط لموازنتها في العام القادم، والمال ليس كل شيء، لكن الأخطر أن تخسر مستقبلك ومسؤوليتك وعقلانيتك، والخسارة الكبرى هي أن تخسر علاقتك بربك، وأن تخسر مصيرك في الآخرة: {قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين}، {قل هل ننبّئكم بالأخسرين أعمالاً* الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً}.
لنحتفل بسنتنا الجديدة، ولا مشكلة عندنا في أن تكون السنة ميلادية أو هجرية، لأننا نؤمن بالسيد المسيح (ع): {لا نفرِّق بين أحد من رسله}، ولننطلق من أجل أن نتفكّر، لأن "تفكّر ساعة خير من عبادة سنة".
الرضا(ع): قمة في العلم والأدب
والمناسبة الثانية هي ولادة الإمام الثامن من أئمة أهل البيت(ع)، وهو الإمام علي بن موسى الرضا (ع)، هذا الإمام الذي كان عصره عصراً إسلامياً عاش فيه، وتحرَّك بانفتاح على مختلف العلوم والنشاطات، كما كان عصره عصراً عاشت فيه الدولة الإسلامية كثيراً من الاهتزازات، لا سيما في الصراع في داخل الخلافة العباسية بين الأخ وأخيه، وكان الإمام الرضا(ع) يعيش في الواقع الإسلامي ليغني هذا الواقع بكل الثقافة الإسلامية في كل تنوعاتها وفروعها، وقد خلف أباه الإمام موسى بن جعفر (ع) الذي نص عليه بالإمامة، وكان ـ كما تروي سيرته ـ قد جمع أبناءه وقال لهم: "هذا أخوكم علي بن موسى عالم آل محمد، سلوه عن أديانكم واحفظوا ما يقوله لكم"، لأنه كان يمثل القمة في علمه كما هو القمة في كل فضائله.
وقد نقل عنه الذين عاصروه من كبار المثقفين، سواء كانوا ممن يدينون بإمامته أو ممّن لا يدينون بها، فقد ورد عن عبد السلام الهروي "أبو السلط" قال: "ما رأيت أعلم من علي بن موسى الرضا، ولا رآه عالم إلا شهد له بمثل شهادتي، ولقد جمع المأمون ـ الخليفة العباسي الذي كان يهتم بالعلم والثقافة ـ في مجلس له علماء الأديان ـ المسيحية واليهودية والمجوسية وكل الأديان الموجودة له آنذاك ـ وفقهاء الشريعة والمتكلمين ـ وهم علماء الفلسفة الإسلامية ـ فغلبهم عن آخرهم، حتى ما بقي أحد منهم إلا أقرّ له بالفضل وأقرّ على نفسه بالقصور. ولقد سمعت علي بن موسى الرضا يقول: "كنت أجلس في الروضة ـ بجوار قبر النبي (ص) ـ والعلماء بالمدينة متوافرون، فإذا أعيا الواحد منهم عن مسألة، أشاروا إليّ بأجمعهم، وبعثوا إليّ بالمسألة فأجيب عنها". والمدينة كانت مركز علماء المسلمين، ونحن نعرف أن العلماء كانوا يختلفون في مذاهبهم وثقافتهم.
ويقول أحد معاصريه، وهو إبراهيم بن العباس: "ما سئل الرضا عن شيء إلا علمه، ولا رأيت أعلم منه بما كان في الزمان إلى وقت عصره ـ بحيث كان يحيط بكل الثقافات التي انطلقت في الواقع الإنساني ـ وكان المأمون يمتحنه بالسؤال عن كل شيء، فيجيب فيه، وكان كلامه كله وجوابه وتمثله انتزاعات من القرآن". هذه هي مكانته التي أقرّ له بها الذين عاشوا معه في عصره، ولذلك اختاره المأمون ليتنازل له عن الخلافة بعد أن انتصر على أخيه محمّد الأمين، وقد كانت للإمام الرضا (ع) ظروفه التي جعلته يمتنع في البداية، ولكن هناك أكثر من ضغط دفع الإمام الرضا(ع) لأن يجيب بطريقة وبأخرى، وقد قال المأمون لأقربائه الذين أنكروا عليه أن ينقل الخلافة من بني العباس إلى بني علي(ع): "إنّ الرضا يملك من العلم ما لا يملكه أحد في عصرنا هذا".
أما عن أخلاقه الاجتماعية، فيقول إبراهيم بن العباس: "ما رأيت أبا الحسن الرضا جفا أحداً بكلمة قطّ، ولا رأيته قطع على أحد كلامه حتى يفرغ منه، وما ردّ أحداً عن حاجة يقدر عليها، وما مدّ رجليه بين يدي جليس له قطّ، ولا اتكأ بين يدي جليس قطّ، ولا رأيته شتم أحداً من مواليه ومماليكه، ولا رأيته تفل، ولا رأيته يقهقه في ضحكه قط، بل كان ضحكه التبسّم". وكان يجمع في مائدته خدّامه ومماليكه، فيقول له البعض: يا مولاي، لو عزلت لهؤلاء مائدة؟ فكان(ع) يقول لهم: "الربّ واحد، والأب واحد، والأم واحدة، والجزاء بالأعمال"، وكان يقول (ع): "حلفت أني لا أرى لنفسي من خلال انتسابي إلى رسول الله فضلاً على هذا الخادم، إلا أن يكون عندي عمل أفضل منه"، لأنه كان يؤمن أنّ على الإنسان أن لا يشعر بالعلوّ على الآخر لمجرد علوّ مرتبته الاجتماعية، إلا أن يكون لديه عمل يرفعه.
وصيّة الإمام الرضا(ع)
وقد كان الإمام الرضا(ع) يتابع شيعته بالنصيحة، ونقرأ في ما أرسله إلى السيِّد عبد العظيم الحسني ـ من أولاد الإمام الحسن، وهو من العلماء الثقاة المعروفين، وقد دُفن في نواحي طهران ـ قال (ع): "يا عبد العظيم، أبلغ عني أوليائي السلام، وقل لهم أن لا يجعلوا للشيطان عليهم سبيلاً، ومرهم بالصدق في الحديث، وأداء الأمانة، ومرهم بالسكوت وترك الجدال في ما لا يعنيهم، وإقبال بعضهم على بعض، والمزاورة، فإن ذلك قربة إليّ، ولا يشغلوا أنفسهم ـ ونحن نحتاج إلى اتّباع هذه الوصية في عالمنا الإسلامي ـ بتمزيق بعضهم بعضاً، فإني آليت على نفسي أنه من فعل ذلك وأسخط وليّاً من أوليائي، دعوت الله ليعذبه في الدنيا أشدّ العذاب وكان في الآخرة من الخاسرين ـ فماذا نقول للإمام الرضا(ع)، وقد أوقدنا الفتنة هنا والفتنة هناك نتيجة حزبية وذاتية وعشائرية ـ وعرّفهم أن الله قد غفر لمحسنهم وتجاوز عن مسيئهم، إلا من أشرك به أو آذى ولياً من أوليائي أو أضمر له سوءاً، فإن الله لا يغفر له حتى يرجع عنه، فإن رجع عنه، وإلا نزع روح الإيمان عن قلبه، وخرج عن ولايتي ولم يكن له نصيب في ولايتنا، وأعوذ بالله من ذلك".
هذه هي وصية الإمام الرضا(ع) لشيعته، وقد عاش حياته وملأ الواقع الإسلامي علماً وحكمةً وحركةً من أجل الإسلام كله والعدل كله، وقد روى الرواة أنه استُشهد بالسم ودُفن غريباً في "طوس".
إننا نعيش مع الإمام الرضا (ع) من خلال هذه الوصايا والنصائح، وهذه الثروة العلمية والروحية والفكرية، وإننا ندعو المسلمين إلى قراءة الإمام الرضا(ع) قراءة وعي وعلم وتدبّر، لأن علاقتنا بالأئمة(ع) هي علاقتنا بالإسلام الأصيل الصافي، وبكل ما يرفع مستوى العقل والروح والحياة كلها، فسلام الله عليه يوم وُلد ويوم استُشهد ويوم يبعث حياً، والسلام عليه وعلى آبائه وأبنائه، ولا سيما حجة آل محمد(عج)، الذي ننتظره ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجورا.
الخطبة الثانية
عباد الله.. اتقوا الله، وخذوا هذا النهج القويم والصراط المستقيم الذي يمثِّل أئمة أهل البيت (ع) في الانفتاح على الإسلام والاهتمام بالمسلمين، ومواجهة التحديات الكبرى التي تتحدّى الإسلام في مناهجه وعقيدته وشريعته. انطلقوا في هذا الخط الذي يريد لكم أن تكونوا الأمّة الواحدة، لا سيما في هذه الظروف التي يضغط فيها المستكبرون على المستضعفين كلهم. فتعالوا لنرى ماذا في هذا العام الجديد، وماذا ينتظرنا في كل أيامه ومراحله؟
في العام الميلادي الجديد، نتطلّع إلى العالم العربي والإسلامي، فنلاحظ أن الاستكبار العالمي بمختلف تنوّعاته ـ ولا سيما الأمريكي ـ يفرض سيطرته على سياسته وأمنه واقتصاده، ويحاول أن يمد حركته إلى ثقافته ودينه الإسلامي، من دون توفر أية حركة قوية فاعلة تواجه هذا الواقع بالقوة أو الحذر أو الوعي والتخطيط..
وإذا تطلّعنا إلى العالم كله، فإننا نجد الإدارة الأمريكية المتصهينة، الخاضعة لأكثر من تيار وحشي يخطط لسيطرة هذه القوة الوحشية على مقدّرات الشعوب، والعمل على تغيير أوضاعها لمصلحة الولايات المتحدة الأمريكية، بما يربك حياة الناس الذين بدأوا يكرهون أمريكا من خلال سياسة هذه الإدارة، ولكن اختلال موازين القوى عندهم، توحي بأن مشكلة المستضعفين وغيرهم سوف تبقى في هذا العام، لأن الظروف الحركية لا تزال في حالة جمود.
احتلال العراق جسر عبور إلى المنطقة
وإذا أردنا أن نواجه التفاصيل، فإنّنا نجد الاحتلال الأمريكي للعراق يمثِّل حركةً استراتيجية نحو تغيير صورة الشرق الأوسط والعلاقات الدولية لسنوات طويلة.. أما الحديث عن استعادة العراق سيادته بموجب الجدول الزمني المقرَّر، فإنه لن يؤدي إلى خروج المنطقة من الهيمنة الإمبراطورية الأمريكية، التي لم تتخلَّ عن مشروعها لتغيير المنطقة على صورة المصالح الأمريكية التي تعمل على ضرب كل مصالح العالم، حتى الدول الكبرى، كالاتحادين الأوروبي والروسي، إلا إذا كانت هذه المصالح من خلالها..
وسوف يكون العراق الخاضع للقوة العسكرية في خلفياته، هو الجسر الذي يعبر عليه الأمريكيون للعبث بالمنطقة كلها، بما في ذلك المناطق الحليفة لهم، والتي بدأت تتخوّف من أن تكون الضحية الثانية.. وهذا ما نريد للعراقيين وللعرب والمسلمين أن ينتبهوا إليه، فلا يدفنوا رؤوسهم في الرمال، كما هو حال بعض الدول التي بدأت تقديم التنازلات باسم الواقعية التي تحفظ ماء الوجه أمام شعوبها، لأن المسألة هي مسألة استقلال القرار.. وإننا نؤكد أن أخطاء السياسة الأمريكية سوف تعزل إدارتها عن الشعوب نفسياً أو سياسياً في مواقف الرفض، مما قد يبدأ معه العد العكسي ولو بعد حين، وعلى الشعوب أن تستفيد من ذلك من أجل الحرية والاستقلال.
ويبقى العراق الجريح في تخبطه السياسي والأمني، وفي الأخطار التي قد تصيب وحدته الوطنية، وفي الضحايا من المدنيين الذين يسقطون في كل يوم، ولا ندري متى يملك هذا الشعب حالة الاستقرار والطمأنينة والحصول على حق تقرير المصير الذي لا يختفي وراءه المحتل.. ولا تزال ثقتنا كبيرة بالشعب العراقي في صناعة المستقبل بوحدته ووعيه وخبرته الحضارية.
فلسطين: استمراريّة الصراع
ونتطلع إلى فلسطين المحتلة، فنرى إسرائيل في صورة حكومتها النازية، التي تنأى المواقف الدولية عن تأييدها، وفي حال الإرباك الداخلي الذي يتحرك فيه الرفض للحرب اللاأخلاقية، في وحشية العنف المتنوّع ضد الفلسطينيين، وفي يأس الخروج من المأزق من خلال اعتبار القضية في الصراع أمنية لا سياسية، ما يجعل المسألة تمتد لتغطّي مساحة مهمة من هذا القرن، إذا لم تحصل هناك ظروف غير عادية للحل، لأن الفلسطينيين لن يتراجعوا عن حقوقهم الشرعية، والصهيونية لن تبتعد عن عقدتها ضد الإنسانية بفعل ما اختزنته من أفكار النازية..
وإننا نعتقد أن هذا الصراع سوف يكون الصراع المستمر تماماً كما هو الصراع بين العدل والظلم، والاحتلال والاستقلال، وثقتنا بالشعب الفلسطيني من خلال مجاهديه والشعوب العربية والإسلامية في مستوى الأجيال كبيرة جداً.
وفي هذا الإطار، فإننا نلاحظ أن الجزار "شارون" قد استفاد من الضوء الأخضر الأمريكي في إكمال الجدار العنصري، ومصادرة الكثير من أراضي الضفة وغزة، والتهديد بتوسيع المستوطنات في الجولان، لأنه يضغط على الرئيس "بوش" والإدارة كلها من خلال الانتخابات الرئاسية التي تملك إسرائيل النفوذ القوي فيها، من خلال اليهود والمحافظين الجدد المتعصّبين لليهود دينياً، مع التزامهم بالمسيحية على طريقتهم.. إننا نعتقد أن ذلك سوف يبقى مأزقاً لإسرائيل لا لسوريا الصامدة، ولا للفلسطينيين، لأن الزمن لا يعمل لصالحها ولا لصالح الإدارة الأمريكية.
رفض أمريكي لنزع سلاح إسرائيل النووي
ومن جانب آخر، فقد قدّمت سوريا إلى مجلس الأمن الدولي مشروعاً بإخلاء منطقة الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل، ولا سيما الكيان الصهيوني، الذي يملك ـ وحده ـ الترسانة النووية الكبرى، ولكن أمريكا ـ كعادتها ـ رفضت المشروع بحجة الخطأ في توقيته وجوهره، لأن السلاح النووي الإسرائيلي يمثل جزءاً من خطة التحالف الصهيوني ـ الأمريكي.. ولذلك، فإن أمريكا لا تسمح بأي قرار يفرض التخلي عن هذا السلاح، بالرغم من أنها تلاحق كل دول العالم بالضغط والتهديد بالعقوبات للتخلي عن مشاريع إنتاج هذه الأسلحة، لأن إسرائيل وأمريكا تعملان معاً، وتتحدثان بالسرّ بما قد تتحدثان بخلافه في العلانية.
إساءة شيخ الأزهر إلى الإسلام
وعلى صعيد آخر، فقد فوجئنا بحديث شيخ الأزهر الذي استقبل به وزير الداخلية الفرنسي، بإعطاء الحق الشرعي ـ من خلال صفته الشرعية الرسمية ـ لفرنسا في منع الفتيات المسلمات من ارتداء الحجاب، بالرغم من تصريحه بأن الحجاب فرض ديني، ودعاهن إلى الالتزام بهذا القرار ـ لو صدر ـ تحت عنوان الاضطرار..
وكأن شيخ الأزهر ـ من خلال هذا التصريح ـ يقول لكل الدول غير الإسلامية، بل حتى الدول الإسلامية غير الملتزمة بالإسلام: اصنعوا للمسلمين ظروف الاضطرار ليكون ذلك مبرراً لهم للخروج من التزاماتهم الشرعية.. وكأنه يقول للمسلمين في فرنسا وفي العالم: ليس من حقكم الاعتراض حتى على مستوى الحوار الموضوعي العقلاني مع الدولة الفرنسية وغيرها، أو التحدث عن الإسلام في التزاماته الدينية، بل عليكم الطاعة للحق القانوني حتى لو منعكم من الصلاة في المساجد، أو الصوم في شهر رمضان!!
إن فرنسا هي بلد الحريات في التاريخ، ومن حق المسلمين أن يمارسوا حريتهم في النقاش الموضوعي، وفي الاعتراض السلمي كمواطنين في فرنسا، أو كأصحاب فكر يثير الآخرون الجدل حوله.. ولا أدري لماذا لا يلتفت شيخ الأزهر إلى الكاثوليك واليهود الفرنسيين الذين قالوا للحكومة: "ليس ذلك من حقها"، أو أن يلتفت إلى أمريكا وبريطانيا وغيرها من الدول الغربية التي رفضت هذا القرار؟؟
لقد أساء شيخ الأزهر إلى الإسلام والمسلمين، عندما أعطى الدولة الفرنسية الحجّة الشرعية الإسلامية في إصدار القرار باعتبار مبدأ الحق، والمطلوب منه الاعتذار للمسلمين والوقوف إسلامياً من أجل حماية الإسلام من كل ضغط في الداخل والخارج.
لنتوحّد بالرسالات...
ويبقى للبنان الاستفادة من وحي السيد المسيح (عليه السلام) وأمه العذراء الطاهرة مريم، من خلال القيم الروحية والأخلاقية، ومن خلال الإخلاص للإنسان كله، والانفتاح على المحبة الشاملة والعدل الإنساني الذي يأخذ فيه كل إنسان حقه، وهذا هو ما يلتقي معه المسلمون جميعاً..
فلنتوحَّد بالرسالات، ولنطرد كل الذين يصلبون الوطن على خشبة أطماعهم، ويقتلون المواطن في مجازر الفساد والهدر، ويشوّهون هذا الجمال الطبيعي النادر للبنان بالقبح الأناني الموغل في بحيرات الوحول وعواصف الغبار، ويدفعون بالشعب إلى المتاهات السياسية والاقتصادية والتربوية، وإذا التقوا بالمأساة في ما قد يوحي بالوحدة، فإن المسألة هي أن الناس تتحدث عن سرّ المأساة ومَن صنعها، وكيف يمكن أن نتفاداها..
لقد عشنا في أجواء الدموع، ولكن السؤال: أيّ دموع هي دموع التماسيح في بعض الناس؟
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين
ومما جاء في خطبته الأولى:
بداية السّنة.. محطّة للتأمّل
تمرّ في هذه الأيام مناسبتان: المناسبة الأولى هي بداية السنة الميلادية ألفين وأربعة التي انطلقت من خلال ميلاد السيد المسيح (ع)، وعندما ننفتح على أية سنة جديدة، فإن علينا أن نعتبر أنها لحظة للتأمل وليست لحظة للعبث واللهو وإزعاج الناس بإطلاق الرصاص والمفرقعات أو القيام ببعض الألعاب البهلوانية أو بعض الحركات الصبيانية التي يقوم بها حتى الكبار من الناس، أو بإعطاء العقل إجازة بالسِّكر أو التخدير بالمخدرات، كما يفعل بعض الناس الذين يتلخّص كل نشاطهم أنهم في أول السنة يريدون أن يغيبوا عن العقل والتوازن والوعي، كأنهم يوحون إلى أنفسهم أنهم يريدون أن يبدأوا سنتهم باللاعقل، وإذا كان الناس يتحدثون بأن من حقنا أن نفرح، فإن علينا أن نعطي الفرح جرعةً من العقل والوعي، لأن إعطاءه جرعةً من الجنون يجعله مجرد تقلصات في المشاعر والأحاسيس.
إن معنى أن تمضي سنةٌ من عمرنا، هو أن جزءاً من هذا العمر عشنا مسؤوليته ونتحمّل مسؤوليته، لأن الله تعالى سوف يحاسبنا على كلِّ ما أسلفناه في هذه السنة، ولأنّ ما عملناه في تلك السنة سوف ينعكس سلباً أو إيجاباً على المستقبل الذي يُصنع في الماضي والحاضر، ولذلك لا بد لنا أن نجلس للتأمل بما سلف من أعمالنا، وهل نستطيع التخفّف من سلبياتها والتكثير من إيجابياتها؟ وعندما تبدأ سنة جديدة، ما هي مخططاتك لهذه السنة، ما هي مخططاتك بين يدي الله، ومخطّطاتك لرعاية عائلتك، وللانفتاح على حياتك الاقتصادية والثقافية والاجتماعية. إن مسألة ذهاب سنة ومجيء سنة يمثل قراراً من أخطر القرارات، لأنها جزء من عمرنا، ولذلك لا ينبغي لنا أن ندخل الزمن من دون وعي وتأمل وتفكير، وأن نخرج من الزمن من دون حساب.
إن كل المؤسسات المالية في العالم تعيش حالة طوارئ في نهاية السنة وبدايتها، لتحسب حساب الخسارة والربح، ولتخطط لموازنتها في العام القادم، والمال ليس كل شيء، لكن الأخطر أن تخسر مستقبلك ومسؤوليتك وعقلانيتك، والخسارة الكبرى هي أن تخسر علاقتك بربك، وأن تخسر مصيرك في الآخرة: {قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين}، {قل هل ننبّئكم بالأخسرين أعمالاً* الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً}.
لنحتفل بسنتنا الجديدة، ولا مشكلة عندنا في أن تكون السنة ميلادية أو هجرية، لأننا نؤمن بالسيد المسيح (ع): {لا نفرِّق بين أحد من رسله}، ولننطلق من أجل أن نتفكّر، لأن "تفكّر ساعة خير من عبادة سنة".
الرضا(ع): قمة في العلم والأدب
والمناسبة الثانية هي ولادة الإمام الثامن من أئمة أهل البيت(ع)، وهو الإمام علي بن موسى الرضا (ع)، هذا الإمام الذي كان عصره عصراً إسلامياً عاش فيه، وتحرَّك بانفتاح على مختلف العلوم والنشاطات، كما كان عصره عصراً عاشت فيه الدولة الإسلامية كثيراً من الاهتزازات، لا سيما في الصراع في داخل الخلافة العباسية بين الأخ وأخيه، وكان الإمام الرضا(ع) يعيش في الواقع الإسلامي ليغني هذا الواقع بكل الثقافة الإسلامية في كل تنوعاتها وفروعها، وقد خلف أباه الإمام موسى بن جعفر (ع) الذي نص عليه بالإمامة، وكان ـ كما تروي سيرته ـ قد جمع أبناءه وقال لهم: "هذا أخوكم علي بن موسى عالم آل محمد، سلوه عن أديانكم واحفظوا ما يقوله لكم"، لأنه كان يمثل القمة في علمه كما هو القمة في كل فضائله.
وقد نقل عنه الذين عاصروه من كبار المثقفين، سواء كانوا ممن يدينون بإمامته أو ممّن لا يدينون بها، فقد ورد عن عبد السلام الهروي "أبو السلط" قال: "ما رأيت أعلم من علي بن موسى الرضا، ولا رآه عالم إلا شهد له بمثل شهادتي، ولقد جمع المأمون ـ الخليفة العباسي الذي كان يهتم بالعلم والثقافة ـ في مجلس له علماء الأديان ـ المسيحية واليهودية والمجوسية وكل الأديان الموجودة له آنذاك ـ وفقهاء الشريعة والمتكلمين ـ وهم علماء الفلسفة الإسلامية ـ فغلبهم عن آخرهم، حتى ما بقي أحد منهم إلا أقرّ له بالفضل وأقرّ على نفسه بالقصور. ولقد سمعت علي بن موسى الرضا يقول: "كنت أجلس في الروضة ـ بجوار قبر النبي (ص) ـ والعلماء بالمدينة متوافرون، فإذا أعيا الواحد منهم عن مسألة، أشاروا إليّ بأجمعهم، وبعثوا إليّ بالمسألة فأجيب عنها". والمدينة كانت مركز علماء المسلمين، ونحن نعرف أن العلماء كانوا يختلفون في مذاهبهم وثقافتهم.
ويقول أحد معاصريه، وهو إبراهيم بن العباس: "ما سئل الرضا عن شيء إلا علمه، ولا رأيت أعلم منه بما كان في الزمان إلى وقت عصره ـ بحيث كان يحيط بكل الثقافات التي انطلقت في الواقع الإنساني ـ وكان المأمون يمتحنه بالسؤال عن كل شيء، فيجيب فيه، وكان كلامه كله وجوابه وتمثله انتزاعات من القرآن". هذه هي مكانته التي أقرّ له بها الذين عاشوا معه في عصره، ولذلك اختاره المأمون ليتنازل له عن الخلافة بعد أن انتصر على أخيه محمّد الأمين، وقد كانت للإمام الرضا (ع) ظروفه التي جعلته يمتنع في البداية، ولكن هناك أكثر من ضغط دفع الإمام الرضا(ع) لأن يجيب بطريقة وبأخرى، وقد قال المأمون لأقربائه الذين أنكروا عليه أن ينقل الخلافة من بني العباس إلى بني علي(ع): "إنّ الرضا يملك من العلم ما لا يملكه أحد في عصرنا هذا".
أما عن أخلاقه الاجتماعية، فيقول إبراهيم بن العباس: "ما رأيت أبا الحسن الرضا جفا أحداً بكلمة قطّ، ولا رأيته قطع على أحد كلامه حتى يفرغ منه، وما ردّ أحداً عن حاجة يقدر عليها، وما مدّ رجليه بين يدي جليس له قطّ، ولا اتكأ بين يدي جليس قطّ، ولا رأيته شتم أحداً من مواليه ومماليكه، ولا رأيته تفل، ولا رأيته يقهقه في ضحكه قط، بل كان ضحكه التبسّم". وكان يجمع في مائدته خدّامه ومماليكه، فيقول له البعض: يا مولاي، لو عزلت لهؤلاء مائدة؟ فكان(ع) يقول لهم: "الربّ واحد، والأب واحد، والأم واحدة، والجزاء بالأعمال"، وكان يقول (ع): "حلفت أني لا أرى لنفسي من خلال انتسابي إلى رسول الله فضلاً على هذا الخادم، إلا أن يكون عندي عمل أفضل منه"، لأنه كان يؤمن أنّ على الإنسان أن لا يشعر بالعلوّ على الآخر لمجرد علوّ مرتبته الاجتماعية، إلا أن يكون لديه عمل يرفعه.
وصيّة الإمام الرضا(ع)
وقد كان الإمام الرضا(ع) يتابع شيعته بالنصيحة، ونقرأ في ما أرسله إلى السيِّد عبد العظيم الحسني ـ من أولاد الإمام الحسن، وهو من العلماء الثقاة المعروفين، وقد دُفن في نواحي طهران ـ قال (ع): "يا عبد العظيم، أبلغ عني أوليائي السلام، وقل لهم أن لا يجعلوا للشيطان عليهم سبيلاً، ومرهم بالصدق في الحديث، وأداء الأمانة، ومرهم بالسكوت وترك الجدال في ما لا يعنيهم، وإقبال بعضهم على بعض، والمزاورة، فإن ذلك قربة إليّ، ولا يشغلوا أنفسهم ـ ونحن نحتاج إلى اتّباع هذه الوصية في عالمنا الإسلامي ـ بتمزيق بعضهم بعضاً، فإني آليت على نفسي أنه من فعل ذلك وأسخط وليّاً من أوليائي، دعوت الله ليعذبه في الدنيا أشدّ العذاب وكان في الآخرة من الخاسرين ـ فماذا نقول للإمام الرضا(ع)، وقد أوقدنا الفتنة هنا والفتنة هناك نتيجة حزبية وذاتية وعشائرية ـ وعرّفهم أن الله قد غفر لمحسنهم وتجاوز عن مسيئهم، إلا من أشرك به أو آذى ولياً من أوليائي أو أضمر له سوءاً، فإن الله لا يغفر له حتى يرجع عنه، فإن رجع عنه، وإلا نزع روح الإيمان عن قلبه، وخرج عن ولايتي ولم يكن له نصيب في ولايتنا، وأعوذ بالله من ذلك".
هذه هي وصية الإمام الرضا(ع) لشيعته، وقد عاش حياته وملأ الواقع الإسلامي علماً وحكمةً وحركةً من أجل الإسلام كله والعدل كله، وقد روى الرواة أنه استُشهد بالسم ودُفن غريباً في "طوس".
إننا نعيش مع الإمام الرضا (ع) من خلال هذه الوصايا والنصائح، وهذه الثروة العلمية والروحية والفكرية، وإننا ندعو المسلمين إلى قراءة الإمام الرضا(ع) قراءة وعي وعلم وتدبّر، لأن علاقتنا بالأئمة(ع) هي علاقتنا بالإسلام الأصيل الصافي، وبكل ما يرفع مستوى العقل والروح والحياة كلها، فسلام الله عليه يوم وُلد ويوم استُشهد ويوم يبعث حياً، والسلام عليه وعلى آبائه وأبنائه، ولا سيما حجة آل محمد(عج)، الذي ننتظره ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجورا.
الخطبة الثانية
عباد الله.. اتقوا الله، وخذوا هذا النهج القويم والصراط المستقيم الذي يمثِّل أئمة أهل البيت (ع) في الانفتاح على الإسلام والاهتمام بالمسلمين، ومواجهة التحديات الكبرى التي تتحدّى الإسلام في مناهجه وعقيدته وشريعته. انطلقوا في هذا الخط الذي يريد لكم أن تكونوا الأمّة الواحدة، لا سيما في هذه الظروف التي يضغط فيها المستكبرون على المستضعفين كلهم. فتعالوا لنرى ماذا في هذا العام الجديد، وماذا ينتظرنا في كل أيامه ومراحله؟
في العام الميلادي الجديد، نتطلّع إلى العالم العربي والإسلامي، فنلاحظ أن الاستكبار العالمي بمختلف تنوّعاته ـ ولا سيما الأمريكي ـ يفرض سيطرته على سياسته وأمنه واقتصاده، ويحاول أن يمد حركته إلى ثقافته ودينه الإسلامي، من دون توفر أية حركة قوية فاعلة تواجه هذا الواقع بالقوة أو الحذر أو الوعي والتخطيط..
وإذا تطلّعنا إلى العالم كله، فإننا نجد الإدارة الأمريكية المتصهينة، الخاضعة لأكثر من تيار وحشي يخطط لسيطرة هذه القوة الوحشية على مقدّرات الشعوب، والعمل على تغيير أوضاعها لمصلحة الولايات المتحدة الأمريكية، بما يربك حياة الناس الذين بدأوا يكرهون أمريكا من خلال سياسة هذه الإدارة، ولكن اختلال موازين القوى عندهم، توحي بأن مشكلة المستضعفين وغيرهم سوف تبقى في هذا العام، لأن الظروف الحركية لا تزال في حالة جمود.
احتلال العراق جسر عبور إلى المنطقة
وإذا أردنا أن نواجه التفاصيل، فإنّنا نجد الاحتلال الأمريكي للعراق يمثِّل حركةً استراتيجية نحو تغيير صورة الشرق الأوسط والعلاقات الدولية لسنوات طويلة.. أما الحديث عن استعادة العراق سيادته بموجب الجدول الزمني المقرَّر، فإنه لن يؤدي إلى خروج المنطقة من الهيمنة الإمبراطورية الأمريكية، التي لم تتخلَّ عن مشروعها لتغيير المنطقة على صورة المصالح الأمريكية التي تعمل على ضرب كل مصالح العالم، حتى الدول الكبرى، كالاتحادين الأوروبي والروسي، إلا إذا كانت هذه المصالح من خلالها..
وسوف يكون العراق الخاضع للقوة العسكرية في خلفياته، هو الجسر الذي يعبر عليه الأمريكيون للعبث بالمنطقة كلها، بما في ذلك المناطق الحليفة لهم، والتي بدأت تتخوّف من أن تكون الضحية الثانية.. وهذا ما نريد للعراقيين وللعرب والمسلمين أن ينتبهوا إليه، فلا يدفنوا رؤوسهم في الرمال، كما هو حال بعض الدول التي بدأت تقديم التنازلات باسم الواقعية التي تحفظ ماء الوجه أمام شعوبها، لأن المسألة هي مسألة استقلال القرار.. وإننا نؤكد أن أخطاء السياسة الأمريكية سوف تعزل إدارتها عن الشعوب نفسياً أو سياسياً في مواقف الرفض، مما قد يبدأ معه العد العكسي ولو بعد حين، وعلى الشعوب أن تستفيد من ذلك من أجل الحرية والاستقلال.
ويبقى العراق الجريح في تخبطه السياسي والأمني، وفي الأخطار التي قد تصيب وحدته الوطنية، وفي الضحايا من المدنيين الذين يسقطون في كل يوم، ولا ندري متى يملك هذا الشعب حالة الاستقرار والطمأنينة والحصول على حق تقرير المصير الذي لا يختفي وراءه المحتل.. ولا تزال ثقتنا كبيرة بالشعب العراقي في صناعة المستقبل بوحدته ووعيه وخبرته الحضارية.
فلسطين: استمراريّة الصراع
ونتطلع إلى فلسطين المحتلة، فنرى إسرائيل في صورة حكومتها النازية، التي تنأى المواقف الدولية عن تأييدها، وفي حال الإرباك الداخلي الذي يتحرك فيه الرفض للحرب اللاأخلاقية، في وحشية العنف المتنوّع ضد الفلسطينيين، وفي يأس الخروج من المأزق من خلال اعتبار القضية في الصراع أمنية لا سياسية، ما يجعل المسألة تمتد لتغطّي مساحة مهمة من هذا القرن، إذا لم تحصل هناك ظروف غير عادية للحل، لأن الفلسطينيين لن يتراجعوا عن حقوقهم الشرعية، والصهيونية لن تبتعد عن عقدتها ضد الإنسانية بفعل ما اختزنته من أفكار النازية..
وإننا نعتقد أن هذا الصراع سوف يكون الصراع المستمر تماماً كما هو الصراع بين العدل والظلم، والاحتلال والاستقلال، وثقتنا بالشعب الفلسطيني من خلال مجاهديه والشعوب العربية والإسلامية في مستوى الأجيال كبيرة جداً.
وفي هذا الإطار، فإننا نلاحظ أن الجزار "شارون" قد استفاد من الضوء الأخضر الأمريكي في إكمال الجدار العنصري، ومصادرة الكثير من أراضي الضفة وغزة، والتهديد بتوسيع المستوطنات في الجولان، لأنه يضغط على الرئيس "بوش" والإدارة كلها من خلال الانتخابات الرئاسية التي تملك إسرائيل النفوذ القوي فيها، من خلال اليهود والمحافظين الجدد المتعصّبين لليهود دينياً، مع التزامهم بالمسيحية على طريقتهم.. إننا نعتقد أن ذلك سوف يبقى مأزقاً لإسرائيل لا لسوريا الصامدة، ولا للفلسطينيين، لأن الزمن لا يعمل لصالحها ولا لصالح الإدارة الأمريكية.
رفض أمريكي لنزع سلاح إسرائيل النووي
ومن جانب آخر، فقد قدّمت سوريا إلى مجلس الأمن الدولي مشروعاً بإخلاء منطقة الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل، ولا سيما الكيان الصهيوني، الذي يملك ـ وحده ـ الترسانة النووية الكبرى، ولكن أمريكا ـ كعادتها ـ رفضت المشروع بحجة الخطأ في توقيته وجوهره، لأن السلاح النووي الإسرائيلي يمثل جزءاً من خطة التحالف الصهيوني ـ الأمريكي.. ولذلك، فإن أمريكا لا تسمح بأي قرار يفرض التخلي عن هذا السلاح، بالرغم من أنها تلاحق كل دول العالم بالضغط والتهديد بالعقوبات للتخلي عن مشاريع إنتاج هذه الأسلحة، لأن إسرائيل وأمريكا تعملان معاً، وتتحدثان بالسرّ بما قد تتحدثان بخلافه في العلانية.
إساءة شيخ الأزهر إلى الإسلام
وعلى صعيد آخر، فقد فوجئنا بحديث شيخ الأزهر الذي استقبل به وزير الداخلية الفرنسي، بإعطاء الحق الشرعي ـ من خلال صفته الشرعية الرسمية ـ لفرنسا في منع الفتيات المسلمات من ارتداء الحجاب، بالرغم من تصريحه بأن الحجاب فرض ديني، ودعاهن إلى الالتزام بهذا القرار ـ لو صدر ـ تحت عنوان الاضطرار..
وكأن شيخ الأزهر ـ من خلال هذا التصريح ـ يقول لكل الدول غير الإسلامية، بل حتى الدول الإسلامية غير الملتزمة بالإسلام: اصنعوا للمسلمين ظروف الاضطرار ليكون ذلك مبرراً لهم للخروج من التزاماتهم الشرعية.. وكأنه يقول للمسلمين في فرنسا وفي العالم: ليس من حقكم الاعتراض حتى على مستوى الحوار الموضوعي العقلاني مع الدولة الفرنسية وغيرها، أو التحدث عن الإسلام في التزاماته الدينية، بل عليكم الطاعة للحق القانوني حتى لو منعكم من الصلاة في المساجد، أو الصوم في شهر رمضان!!
إن فرنسا هي بلد الحريات في التاريخ، ومن حق المسلمين أن يمارسوا حريتهم في النقاش الموضوعي، وفي الاعتراض السلمي كمواطنين في فرنسا، أو كأصحاب فكر يثير الآخرون الجدل حوله.. ولا أدري لماذا لا يلتفت شيخ الأزهر إلى الكاثوليك واليهود الفرنسيين الذين قالوا للحكومة: "ليس ذلك من حقها"، أو أن يلتفت إلى أمريكا وبريطانيا وغيرها من الدول الغربية التي رفضت هذا القرار؟؟
لقد أساء شيخ الأزهر إلى الإسلام والمسلمين، عندما أعطى الدولة الفرنسية الحجّة الشرعية الإسلامية في إصدار القرار باعتبار مبدأ الحق، والمطلوب منه الاعتذار للمسلمين والوقوف إسلامياً من أجل حماية الإسلام من كل ضغط في الداخل والخارج.
لنتوحّد بالرسالات...
ويبقى للبنان الاستفادة من وحي السيد المسيح (عليه السلام) وأمه العذراء الطاهرة مريم، من خلال القيم الروحية والأخلاقية، ومن خلال الإخلاص للإنسان كله، والانفتاح على المحبة الشاملة والعدل الإنساني الذي يأخذ فيه كل إنسان حقه، وهذا هو ما يلتقي معه المسلمون جميعاً..
فلنتوحَّد بالرسالات، ولنطرد كل الذين يصلبون الوطن على خشبة أطماعهم، ويقتلون المواطن في مجازر الفساد والهدر، ويشوّهون هذا الجمال الطبيعي النادر للبنان بالقبح الأناني الموغل في بحيرات الوحول وعواصف الغبار، ويدفعون بالشعب إلى المتاهات السياسية والاقتصادية والتربوية، وإذا التقوا بالمأساة في ما قد يوحي بالوحدة، فإن المسألة هي أن الناس تتحدث عن سرّ المأساة ومَن صنعها، وكيف يمكن أن نتفاداها..
لقد عشنا في أجواء الدموع، ولكن السؤال: أيّ دموع هي دموع التماسيح في بعض الناس؟