ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :
هناك في المسألة الأخلاقية عنوانان يتحركان في حياة الإنسان الفردية والاجتماعية والعائلية والسياسية، وهما عنوان الرفق والعنف. والرفق هو أن تستعمل الأسلوب الذي يمكن أن يجذب عقل الإنسان وقلبه إليك وتستطيع إقناعه بما تريد أن تقنعه به من دون إثارة حساسية أو مشكلة، والعنف هو عبارة عن إطلاق الأسلوب في العلاقة مع الناس الآخرين بطريقة عنيفة وخشنة، بحيث تسيء إلى كرامتهم وحساسياتهم وإنسانيتهم.
الكلمة الأحسن:
وقد يتحرك الإنسان في ذلك بالكلمة، بكلمة رفق أو عنف، وقد أرادنا الله تعالى أن نختار الكلمة اللينة التي تعبّر عما نريد وتفتح قلب الإنسان وعقله على ما نحبّ أن نتحدث به، وهذا ما نقرأه في توجيهات الله تعالى لموسى وهارون(ع) عندما قال لهما: {اذهبا الى فرعون إنه طغى * فقولا له قولاً لينا لعله يتذكر أو يخشى}، قولا له قولاً يدخل إلى قلبه ومنه إلى عقله، فلعل هذه الكلمة الحلوة اللينة تجعله يتذكر ما يريدان أن يذكّراه به وتجعله يخشى الله. ونقرأ في صفة النبي(ص): {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك}، لقد كان يعيش رقة القلب فلا يحمل قلبه حقداً على أحد، ويملك لساناً رقيقاً فلا ينطلق لسانه بأية كلمة خشنة تعقّد الناس، والإنسان يحب أن يتحدث الناس معه بقلب مفتوح ولسان طيّب.
وهكذا تمتد المسألة بالعنوان الكبير، فالله تعالى يقول: {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينكم}، إن الله يريد لك أن تختار من كلماتك الكلمة التي لا يتمكن الشيطان من استغلالها، لأنه يستغل بعض الكلمات التي تثير عقدة أو حساسية ليخلق من خلالها مشكلة.
في الجوِّ الأبوي:
إنّ أول ما ينبغي الالتفات له في العلاقات العائلية، في البيت الأبوي مع الأولاد، هو أن يتحدث الأب والأم مع أولادهما بالرفق واللين، لا أن "نفش خلقنا" بأولادنا ونثبت هيبتنا وزعامتنا عليهم!! إن من يحترم نفسه لا يعرض عضلاته على أولاده، لأن ذلك ستكون له نتائج سلبية على الأولاد، فالولد في سن الطفولة بحاجة لأن تُدخل الفكرة إلى عقله لتصبح خلقاً من أخلاقه، وهذا يفرض علينا أن نفهم أولادنا، لأن الولد ليس صندوقاً مقفلاً، بل هو عقل وكرامة وإحساس ومشاعر، وعلينا الالتفات إلى هذه الجوانب لكي نجذبه إلينا ونحصل على محبته، لأن الولد عندما يتعقّد من والده فإنه يكرهه، وعندما يحبه فإنه يطيعه، لأنه يحب أن يُفرحه، ولذلك يجب علينا أن نستعمل معهم الرفق، وقد نحتاج في بعض الأوقات للعنف، كالدواء المرّ لشفائه من الحالات المرضية الصعبة، ولكن بمشورة أهل الخبرة.
في البيت الزوجي:
وفي البيت الزوجي، فمن المفروض أن يتخاطب الزوجان باللغة التي تُدخل الفكرة في قلب الإنسان الآخر، لأن الزوج عاش في بيئة لها تقاليدها وأوضاعها، والزوجة عاشت في بيئة أخرى، وفي العلاقات الإنسانية لا بد أن تلاحظ عقل الآخر وقلبه وكرامته وظروفه، فالمرأة إنسان والرجل إنسان، ولا بد أن يتعامل كل واحد منهما مع الآخر من موقع إنسانيته، فكل واحد منهما ليس كمية مهملة عند الآخر، لذلك لا بد أن يفهم الزوجان بعضهما البعض، وأن يعرف كل منهما نقاط ضعف الآخر ونقاط قوته، وليس هناك شيء يمكن أن يعمّر الحياة الزوجية إلاّ من خلال احترام إنسانية الآخر، والإنسانية مشاعر وأحاسيس وكرامة وظروف، لا أن نعيش مع بعضنا البعض في الخارج بل في الداخل.
وعندما تعيشون المعنى الإنساني في العلاقات الزوجية سوف تخف المشاكل ونسبة الطلاق، وغالباً ما يحصل الطلاق من خلال عدم احترام الإنسان للإنسان الآخر، بحيث لا يحسب أيُّ من الزوجين حساب كلمته التي قد تسفك دماً وتثير فتنة وتخلق مشكلة، والإنسان ليس حراً أن يفرض نفسه ومزاجه على الإنسان الآخر، وعقد الزواج لا يجعل الزوجة ملكاً للزوج، وكذلك الزوج بالنسبة إلى الزوجة، فعلينا أن نتعلم كيف نصوغ الكلمة اللينة، ويقال إن النبي(ص) كان جالساً وعنده زوجته عائشة وجاء يهودي وقال له: السام عليك ـ والسام يعني الموت ـ فقال له النبي(ص): "وعليك"، فثارت عائشة وبدأت تشتم اليهودي، فالتفت إليها النبي(ص) برفق وقال: "يا عائشة، إن الفحش لو كان ممثلاً لكان مثال سوء، إن الرفق ما وضع على شيء إلا زانه وما رفع عن شيء إلا شانه، وإن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف".
في الحياة الاجتماعية:
وفي الحياة الاجتماعية الأكثر تعقيداً من الحياة العائلية، لأن فيها عشائر وطوائف ومذاهب واتجاهات، ونحن نعرف أن المجتمع عندما يكون متنوعاً وخصوصاً إذا تحولت التنوعات إلى عصبيات، فالكلمات قد تترك تأثيرها السلبي إذا كانت تنطلق بشكل خشن، لذلك على الإنسان في المجتمع عندما يعظ أو يخطب وفي السهرات أو في حالات الشدة، أن يختار كلماته، لأن الكلمة في المجتمع المتوتر والمتعصب مثل عود الثقاب، عندما تلقيه في البيدر وقت الحصاد فإن البيدر يشتعل، وهكذا عندما تلقيها في مجتمع الحرائق والتعصّب فإنها تثير حريقاً سياسياً واجتماعياً ودينياً أو مذهبياً.
وعلى هذا الأساس، علينا أن لا نأخذ حريتنا عندما نتكلم، حتى لو كان ما نتكلم به هو مما نؤمن به ولكنه ضد الآخر، وهناك مجتمعات فيها سنّة وشيعة، وفيها أحزاب وفيها طوائف إسلامية ومسيحية، وللشيعة وجهة نظر في بعض من يقدّسهم السنّة، وهكذا بالنسبة للسنّة، وكذلك بين المسلمين والمسيحيين، فلا يجوز لأحد أن يتكلم كيفما يريد ويأخذ حريته في الكلام، لأننا عادة في الأسابيع وفي كثير من المناسبات، يتكلم بعض الخطباء كلاماً يحرق الأخضر واليابس، وكون الأسبوع أو الحفلة أو التلفزيون أو الإذاعة لك، لا يعني أنك حرّ في أن تخلق فتنة مذهبية أو طائفية، ولذلك لا بدّ أن نختار الأشخاص الذين يتكلمون، سواء كانوا مشايخ أو مثقفين، على أساس أن لا يثير مشكلة أو فتنة، لأن مجتمعنا يعيش على كفّ عفريت نتيجة فوضى الخطابات التي لا يملك أصحابها ثقافة الأمة والمجتمع، فلا تسمحوا أن يعتلي المنبر إلا من يملك مسؤولية المنبر، ومعنى ذلك مسؤولية الأمة، لأنه يكفينا ما عشناه من فتن بين السنّة والشيعة..
أيها الأخوة، نحن متعبون أمنياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً، فلماذا نحن مولعون أن نتعب أنفسنا أكثر، هذا على مستوى الدنيا، ونتيجتها في الآخرة أقسى، لأن كل كلمة قالها أحد فسفك من خلالها الدم أو أثيرت من خلالها مشكلة فإنه يتحمّل مسؤوليتها. لذلك علينا أن نعيش همّ المجتمع كما كان النبي(ص) يعيشه: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}.
فلنحرص على بعضنا البعض، ولنتألم لآلام بعضنا البعض، ونحن في شدّة على المستوى العالمي والإقليمي والمحلي، وعلينا أن لا نضيف شدّة إلى شدائدنا، فكّروا في الله قبل أن تفكروا في عصبياتكم وطائفياتكم وحزبياتكم وأنانياتكم، لأن الكل سوف يقف أمام الله ليجادل كل واحد عن نفسه، فلنستغل هذه الفرصة المتبقية في حياتنا.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتقوا الله في نظم أمركم وصلاح ذات بينكم، وتحملوا مسؤوليتكم في كل ما تقولون وتفعلون، وخططوا لما تقبلون عليه ولا ترتجلوا المواقف ولا تزرعوا الحقد في المجتمع، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، لأن الأمم الكافرة والمستكبرة قد تداعت عليكم من كل جانب، كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، وعلينا أن نقف في مواجهة ذلك كله كالبنيان المرصوص، ونحن نتلقى في كل يوم تهديداً من هنا وهناك، وتهويلاً في كل قضايانا من خلال الدول المستكبرة، ولذلك لا بدّ ان نكون واعين لما عندنا وحولنا ولما نواجهه من تحديات، فماذا هناك:
استجابة أمريكية للمنطق الصهيوني:
لا يزال الكيان الصهيوني يصنع المتاهات الأمنية والسياسية للقضية الفلسطينية، فقد شغل الوسط الدولي والإقليمي بقضية السفينة التي تعرّضت للقرصنة في المياه الدولية، وقد وزّع اتهاماته بين السلطة الفلسطينية وإيران والمقاومة الإسلامية في لبنان.. وبدأت أمريكا تستجيب للمنطق الصهيوني وتهدد في إصدار أحكامها على الجهات المتهمة بالموضوع، في الوقت الذي أصدرت كل تلك الجهات ـ ولا سيما إيران ـ نفياً حاسماً لعلاقتها بهذه المسألة.. والسؤال: هل هناك خطة أمريكية جديدة ضد إيران، ولا سيما مع تصريحات "بوش" في الأمس أن المسألة "بحاجة إلى المتابعة والملاحقة الجدّية؟!
إن هذه القضية لا تزال تتفاعل ضد الشعب الفلسطيني، لأن المطلوب ـ أمريكياً ـ هو التخلي عن الحق في المقاومة والتسلّح قبل الحديث عن استخدام السلاح في المقاومة، وبالتالي التسليم بأن المشكلة هي السلاح الفلسطيني لا آلة الحرب الإسرائيلية، وأن ما يهدد الاستقرار هو الإرهاب لا الاحتلال.. ومن المضحك أن إسرائيل تدّعي أن هذه الأسلحة تقلب التوازن الاستراتيجي!! والسؤال: أيّ توازن تتحدث عنه إسرائيل الدولة النووية الأقوى في سلاحها الأمريكي من كل دول المنطقة؟؟
إن المطلوب ـ أمريكياً وإسرائيلياً ـ أن لا يملك الفلسطينيون أية قوة وأيّ سلاح للدفاع عن أنفسهم، ليفرض الصهاينة الاستسلام عليهم في المفاوضات التي لا يملكون معها أية ورقة قوية رابحة، ولكن الشعب الفلسطيني سوف يتابع انتفاضته بكل الوسائل، حتى يحصل على أهدافه الكبرى في الحرية والاستقلال.
وفي هذا الجو، فقد استنكرت أمريكا العملية الجهادية التي نفذتها حركة "حماس" المجاهدة ضد جنود الاحتلال، لأن هذه العملية تمثّل ـ في المفهوم الأمريكي ـ خرقاً لإعلان وقف إطلاق النار، في الوقت الذي لا تستنكر فيه أمريكا خرق الجيش الصهيوني الوحشي المتكرر لذلك، ما يفرض على المجاهدين الدفاع عن أرضهم وأهلهم.. ولم تستنكر أمريكا تهديم الجيش الصهيوني 70بيتاً من بيوت الفلسطينيين الذين تشرّدوا في العراء مع أطفالهم في هذا الشتاء القارس!!
أية عدالة أمريكية...!!
إننا نتساءل: أية عدالة أمريكية هي هذه العدالة؟؟ إن أمريكا مع "شارون" مائة في المائة، الأمر الذي يجعل كل جرائمه داخلة في الحساب الأمريكي لمصلحة الإرهاب، لأن أمريكا تنظر بعينين مختلفتين إلى المنطقة، فهي مع إسرائيل بالمطلق وضد العرب والمسلمين والفلسطينيين في كل مقاومتهم للاحتلال.. إن المطلوب هو أن تختزن شعوبنا كل هذه الآلام التي يعانيها شعب فلسطين في وجدانهم الإنساني والسياسي، ليعرفوا كيف يتعاملون مع السياسة الأمريكية المتحالفة مع الكيان الصهيوني، حتى لا تخدعهم الشعارات الأمريكية البرّاقة في الحديث الاستهلاكي عن الحرب ضد ما تسميه الإرهاب..
وإذا كانت إسرائيل تحاول إدخال إيران في مسألة السفينة، فإنها تحاول من خلال زيارة وزير خارجية العدو للهند الدعوة إلى أنه "آن الأوان لكي تقلق إيران المتورطة في الإرهاب"، على حدّ زعمه.. ولكن الهند التي جرّبت التحالف السياسي مع إيران تعرف أنها الدولة التي تملك امتداداً سياسياً وأمنياً واقتصادياً في آسيا، وأنها تفي بعهودها مع كل تلك الدول، وتقف مع الشعوب المستضعفة ـ ومنها الشعب الفلسطيني ـ ضد المستكبرين.
انعدام الثقة بين الدولة والشعب:
أما لبنان، فإنه يعيش مشكلة الظلام الذي يلف أغلب مناطقه وبلداته في أغلب أوقاته، لا سيما في الأوقات الشتائية المثلجة التي يحتاج الناس فيها الى الكهرباء لأكثر من حاجة، ولا ندري أمام المتاهات السياسية الداخلية في لعبة تسجيل النقاط هل المشكلة سياسية أم اقتصادية أم إدارية أم ماذا؟؟
إن المشكلة هي أن الثقة بدأت تنعدم بين الدولة وبين الشعب، فإن الناس قد ملّوا وسئموا من الوعود المتلاحقة في حلّ المشكلة الاقتصادية، وتوفير الخدمات الحيوية للشعب، ومحاولة سدّ عجز الموازنة، في وقت لا يزال الفساد الإداري من جهة، والهدر المالي من جهة أخرى، يفترسان البلد كله.. والسؤال: إلى أين يسير البلد؟ هل إلى لعبة الأمواج المتلاطمة، أم الى شاطئ الأمان؟؟ |