يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}، ويقول في آيةٍ أخرى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}، ويقول مخاطباً المؤمنين: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}.
في هذه الآيات، حديث الله مع الإنسان ليفهم دوره في إنسانيّته، فالله أعطى الإنسان بصراً يرى من خلاله كلّ ما يمرّ به، وأعطاه سمعاً يسمع كلّ صوت، وأعطاه عقلاً يدرك به الأشياء، ليحلّلها، وليصنع منها فكراً لحياته، وليكتشف الحقيقة من خلاله، وليميز بين الحسن والقبيح، وخلق له الإرادة التي يستطيع العقل من خلالها أن يركّز الإنسان مواقفه في صلابة الأرض التي يقف عليها، وأعطاه أدوات العمل، فوهبه اليدين والرّجلين واللّسان والشفتين...
إنّ الله جعل الإنسان كاملاً في عناصر إنسانيّته، وجعل مسؤوليّته في حجم قدراتها، فالله لا يكلّف نفساً إلا وسعها، وهو لا يحمّلك مسؤوليّة أيّ شيء لا تملك القيام به، ولكنّه قال لك طوّر قدرتك، لتستزيد من حركتك بالاستزادة من قدرتك، وأراد الله لك أن تزيد معرفتك، حتى تزداد وعياً للحياة أكثر، وحتّى تتعرّف إلى الآخرين وإلى الأشياء أكثر. لذلك أراد الله للإنسان أن يأخذ بالعلم من خلال عقله وبصره وكلّ حواسّه، وأراد له أن يغني عقله بالعلم، وأن يغني جسده بأسباب القوّة.
الاستكبار يقلب المفاهيم
علينا أن لا ننهزم أمام الأمر الواقع؛ إسرائيل أصبح لها وجود قانونيّ دوليّ، وأصبح الردّ على احتلالها إرهاباً! وأصبح إرهابها دفاعاً عن النفس! ويريدون منّا كمسلمين أن نعترف بإسرائيل، وأن نقوم بإيجاد العلاقات الاقتصاديّة والسياسيّة معها!! فهل معنى ذلك أنَّ الباطل تبدّل إلى حقّ؟؟! هذا ما تحاول الدّول الاستكبارية أن تفعله، بأن تغيّر مفاهيم الأشياء، فتقلب الظّلم إلى عدل، وتعتبر المجاهدين الذين احتلّت أرضهم ويعملون للدّفاع عنها إرهابيّين. حتى إنّ الرئيس الأميركي يعتبرهم إرهابيّين، ويعتبر المجاهديْن الاستشهاديّيْن اللّذين سقطا في العملية الاستشهادية الأخيرة إرهابيّين، وكذلك يعتبرون الشّهيد الدكتور فتح الشّقاقي إرهابيّاً، بينما الّذين اغتالوه لا يقال بأنّهم إرهابيّون!! هذا المنطق الاستكباريّ الّذي يراد تركيزه في الواقع.
إننا نستمع لرئيس الولايات المتّحدة عندما قام المجاهدون بالعمليّتين اللّتين سقط فيهما عشرة جنود إسرائيليين في لبنان، يدعو العالم ليقف ضدّ الإرهاب، أما إسرائيل، فهو يقول إنها تدافع عن جنودها، ولكن لا يقول أين، لا يقول إنهم في جنوب لبنان.. إنّه المنطق الملتوي.. ما نحتاجه أمام كلّ هذا المنطق الاستكباريّ، هو أن نظلّ واعين لمنطق الحقّ، أن نظلّ نقول إن وجود إسرائيل في فلسطين هو غير شرعيّ، حتى لو قال العالم كلّه بأنّه وجود شرعي.
هرولة لإرضاء الأمريكيّ
إنّنا نجد في هذه المرحلة أنَّ أمريكا عملت بكلّ قوّة في سبيل حشد كل هؤلاء من المسؤولين ورجال الأعمال في القمّة الاقتصادية في عمان، من أجل أن تدخل إسرائيل كعضو مقبول في المنطقة، وقد صرَّح بعض مسؤولي العدوّ بالقول "إننا حقّقنا نجاحاً في قمة عمان، لأننا شعرنا بأننا مقبولون من العرب".
وهناك صفقة قامت بها إحدى دول الخليج بمبلغ ستّة مليارات دولار، وقال ذلك المسؤول: "إنها لازدهار الشّعب الأمريكي". هكذا لازدهار الشّعب الأمريكي، ولكن من منهم يسأل عن ازدهار الشّعب العربي.. إنّكم تقولون إنكم عرب، وقد قال الإمام الحسين(ع): "إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون يوم المعاد، فارجعوا إلى أحسابكم، إن كنتم عرباً كما تزعمون".
وهكذا نجد هؤلاء الذين يقولون إنهم عرب، كيف يتنكّرون للواقع العربيّ، سواء كان الواقع الفلسطيني الّذي لم يحصل على شيء ليقرّر مصيره، أو الواقع اللّبنانيّ والسوريّ، في ظلّ استمرار الاحتلال الإسرائيلي.. لماذا تستعجلون؟ لماذا تهرولون؟ أنتم لستم بحاجة للتجارة مع إسرائيل، ولكنّه المعلّم الأمريكي الّذي قال لكلّ واحد منهم، بمقدار ما ترتبط بإسرائيل، تأخذ علامة عند أمريكا!
وهكذا نجد أنّ رجال الأعمال العرب هؤلاء الّذين انتفخت ثرواتهم مقدار ما امتصّوا من العمال والكادحين، حملوا ثرواتهم إلى هناك، من أجل أن يدخلوا في صفقات مع إسرائيل، وليعطوها قوّة، وهي تتحدّث باحتقار عن العرب، كما في حديث وزير خارجيّة العدوّ الّذي يقول: "نحن الأقوى من العرب اقتصاديّاً"، كأنّه يتصدَّق عليهم وهم يصفِّقون له، والعرب يتناقشون في الهرولة، هذا ينتقد الهرولة، وذاك يقول له أنت هرولت قبلنا، كلّهم يهرولون.. في الوقت الّذي اغتيل الدكتور الشقاقي، كانوا يهرولون لعقد الصفقات مع العدوّ. هؤلاء ليسوا العرب وشعب العرب، وليسوا المسلمين، إنهم إفرازات النظام الرّأسمالي وإفرازات الظّلم الاقتصادي والحقارة الذاتيّة، عندما لا يتأثرون لآلام شعوبهم، إنهم اعتبروا أنّ السِّلم تحقّق، ويعرفون أنّ الشعب الفلسطيني لم يحصل على شيء يحقّق كرامته، والشعب اللّبناني أرضه محتلّة، والشعب السوري أرضه محتلّة، ولكنهم عملوا ما أرادته أمريكا.
أمريكا التي تقف لتحمّل سوريا مسؤوليّة بطء المفاوضات، لا تجرؤ على أن تطلب من اليهود أن يتنازلوا حتى على ما ليس حقّاً لهم.. إننا نسأل كلّ هؤلاء العربان: ماذا تحقق؟ لم يتحقّق شيء، والأراضي المحتلّة لاتزال محتلة..
من يدعم العدوّ؟!
علينا أن نعرف أنّ الاستكبار العالمي الذي تمثّله أمريكا، لايزال يعمل على إذلالنا وإضعافنا، ولايزال يعمل لتكون إسرائيل هي القوَّة الأمنيَّة والاقتصاديّة والسياسيّة في المنطقة، ولايزال يستغلّ إسرائيل لحصار كلِّ المنطقة باسم السَّلام.. وهكذا، لايزال العالم جارياً لمحاصرة إيران الإسلام وإضعافها، وهكذا يعملون لحصار السّودان، ليثير عليه كلّ الدّول، لأنه اختار الإسلام، ليخلق له مشكلة هنا تستنزف اقتصاده وأمنه.. ولاتزال بقايا الحرب اللّبنانية في كثير من أوضاعنا السلبيّة، تلك الحرب التي انطلقت من خطّة السيّئ الذكر هنري كيسنجر.
إعمار البشر قبل الحجر
إننا نريد أن نقول للّبنانيين الذين لايزالون يعيشون ملهاة الخلافات بين الرّؤساء تارةً، والمصالحات بين الرؤساء أخرى، إننا نريد أن نقول للشعب اللبناني: إذا كانت هناك حركة إعمار للحجر، فإننا بحاجة إلى حركة إعمار للبشر، لأن الكثير من قيمنا قد تهدّم في نفوسنا، ولأنّ الكثير من وحدتنا ومواطنيّتنا قد تهدم في نفوسنا، والكثير من تطلّعاتنا للمستقبل الكبير قد تهدَّم في نفوسنا، لقد رجع كلّ فريق إلى طائفته، وأصبح يتحرّك من خلال العقدة الطائفية، ورجع كلّ فريق إلى أصنامه وأوثانه الّتي يعبدها من دون الله، هؤلاء الّذين باعوا أنفسهم للشّيطان.. إنّنا نريد أن نقول للّبنانيّين الذين يعيشون الحريق في واقعهم الاقتصادي، كما عاشوا الحريق في كلّ مواقعهم، إنهم يعيشون حريقاً معنوياً واقتصادياً وروحياً يحرق كل أنفاسهم وأعصابهم وواقعهم.
إنّنا نريد للّبنانيّين أنّ يثبتوا كشعب أنّ الشّعب أكبر من الرّؤساء وأكبر من كلّ هذه القوّة التي تعبث بسياسته وأمنه واقتصاده، لا تشغلوا أنفسكم بكلِّ خلافاتهم ومصالحاتهم، اطلبوا منهم أن يخطِّطوا لأنّنا في دولة لا تخطّط، اطلبوا منهم أن يتحمّلوا مسؤوليّاتهم عن الأمّة، لا مسؤوليّاتهم عن الحصص التي يحاول كلّ واحد منهم أن يحتفظ بها لنفسه ولبنيه..
مرحلة اختلاط الأوراق
إن المرحلة التي نعيشها في هذه الفترة من الزّمن، هذه المرحلة التي تجمّدت فيها حركة المفاوضات بفعل الانتخابات اليهودية والأميركية، هذه المرحلة التي يراد من خلالها ممارسة الضغوط الهائلة على الأمّة كلّها وعلى الشّعب كلّه.. هذه المرحلة التي يراد فيها إشغال الناس بالمزيد من الخلافات وبالمزيد من المشاكل، هذه المرحلة التي يعطى فيها الضّوء الأخضر لإسرائيل من أجل أن تقصف الحجر والبشر في جبل عامل والبقاع الغربي، دون أن يرتفع أيّ صوت يحتجّ على ذلك، سواء كان الصّوت أميركياً أو أوروبياً أو عربياً.
إننا في هذه المرحلة الصّعبة التي يمكن فيها أن تختلط الأوراق، هذه المرحلة التي يتحوّل فيها الواقع السياسي في المنطقة بفعل سيطرة اليهود على الانتخابات في أمريكا، وسيطرتهم على رئيس أمريكا وعلى الكونغرس الأميركي، إنّ الواقع سوف يتحول في المنطقة إلى حالة انعدام الوزن، لأن أمريكا سوف تتحرّك إسرائيلياً بأكثر مما تريد إسرائيل، وإذا بقينا متفرقين وموزعين، وإذا بقينا نعيش في هذا الجدل الفارغ، فإنّ معنى ذلك أنّ هناك أكثر من خطّة للمشاكل التي يمكن أن نعيشها في داخل وطننا وأمّتنا.
المجاهدون أمل الأمّة
وحدهم الواعدون، وحدهم المسؤولون، وحدهم الّذي يفهمون ما معنى حريّة الأمَّة وكرامتها، هم المجاهدون في جبل عامل والبقاع الغربي، الّذين عملوا ولايزالون يعملون على إلحاق الضّربات القاسية بالعدوّ، والّتي تسقط عنفوانه، وتربك سياسته، وتحقّق للأمَّة شعوراً بالعزّة والكرامة، وتلقِّن العدوّ دروساً في الخيبة والمرارة.. إنّا نريد للمقاومة، ولا سيّما المقاومة الإسلاميّة، أن تكون في عقل الأمّة كلّها، وفي حياة الأمّة كلّها، لأنهم يمثّلون شرف الأمّة، ونريد للانتفاضة التي استطاعت دماء الشّهيد الدكتور فتحي الشقاقي أن تثيرها من جديد، نريدها أن تلتهب من جديد، وأن تحرق الأرض تحت أقدام اليهود، وأن تثبت للّذين باعوا أنفسهم لليهود، أنّ الأوطان لا يمكن أن تباع، وأنّ الأمّة لا يمكن أن تباع.
* خطبة الجمعة لسماحة العلّامة المرجع السيّد محمّد حسين فضل الله (رض)، ألقاها في مسجد الإمام الرِّضا(ع)، بتاريخ 10 جمادي الثّانية 1416 هـ/ 3 تشرين الثّاني / نوفمبر 1995م.