النّساء يخرجن في وداع مرجع لم يتردّد في الدّفاع عن حرياتهن |
في تحقيقٍ صحفيّ نشر اليوم في صحيفة السّفير، تناولت زينة برجاوي مناسبة تشييع السيّد محمد حسين فضل الله، حيث عرضت لتفاصيل الحدث الأليم، بعنوان: "النساء يخرجن في وداع مرجعٍ لم يتردّد في الدّفاع عن حرياتهنّ".. في ما يلي تفاصيل التّحقيق:
يكاد الطّفل زكريّا (5سنوات) يصاب بالإغماء، وهو يجهش بالبكاء في أثناء مشاركته والدته في مسيرة تشييع المرجع السيّد محمد حسين فضل الله.
يعتقد النّساء، اللّواتي كنَّ ينتظرن انتهاء موكب الرِّجال من المرور للانضمام الى المسيرة، أنّ بكاء الطّفل يعود إلى شعوره بحرِّ شمس تموز السّاطعة، أو تذمّره من الازدحام التي تسببَّت به كتل النّساء المشاركات. إلا أنّ الطّفل استقطب أنظار أولئك النّساء اللّواتي لم يتوقّفن عن طرح السّؤال نفسه على والدة زكريّا: «شو به، شو صاير له؟». يصعب على الجميع تصديق أنّ زكريا يبكي السيّد فصل الله، خصوصاً أنّ شدّة بكائه تبدو لافتةً. يصرّ على والدته أن تأخذه ليرى السيّد فضل الله. لا يتوقّف عن ترداد: «وينوّ السيّد، يقبرني وينو، بحبّو قدّ البحر». وكلّما سمعته سيّدة يردّد هذه الجملة، تسأل والدته عن سبب تعلّق زكريّا «المتيّم» بالسيّد. فتشرح الأمّ أنّ طفلها يعشق السيّد منذ اللّحظة التي حمله فيها وقبّله في أثناء عقده قران ابنها الكبير. وزكريّا لم يكن الطّفل «المفجوع» الوحيد، بل هناك علي (6 سنوات) وآية (عشر سنوات) أيضاً، يبكيان السيّد فضل الله. تقول والدة عليّ إنّ جدّه يشبه السيّد فضل الله، ما دفع بعلي إلى التعلّق بالمرجع بعد وفاة جدّه. كما تلفت الى أنّ طفلها كان يطلب منها دائماً مرافقتها إلى الأماكن التي يزورها السيّد فضل الله.
بكت النّساء أمس المرجع السيّد محمد حسين فضل الله. هنّ النّساء اللّواتي لطالما اعتدن على التّوافد إلى المكان نفسه لتلبية دعوته إليهنّ، إذ كان يؤمّ بهنّ الصّلاة كلّ نهار جمعة. هنّ النّساء اللّواتي كنّ يحيين ليالي القدر معه، خلال شهر رمضان المبارك، ويشاركنه مجالس العزاء خلال أيّام عاشوراء.
أمام مسجد الإمامين الحسنين، تتوافد النّساء متّشحات بالسّواد، ساعة قبل موعد انطلاقة المسيرة. منهنّ من فضّلن الانتظار أمام دارة السيّد فضل الله في حارة حريك، حيث انطلقت المسيرة. ومنهنّ من فضّلن البقاء أمام قاعة المسجد للاسـتماع الى مقتـطفاتٍ من خطـب يوم الجمعة التي كانت تذاع في كلّ مكان.
بقيت النساء تتشاركن أحاديث تتعلّق بتقليدهنّ للسيّد فضل الله ويسألن: «من سيصدر الفتاوى بعده؟». »تقول منى إنها تقلّده في الدّين منذ طفولتها، وتمشي على نهجه منذ البداية». تؤكّد في الوقت ذاته، أنّه من المستحيل أن يحلّ أحد مكانه بالنّسبة إليها، فـ«السيّد مرجع علميّ ودينيّ بامتياز». وتلفت منى إلى أنّ اقتناعها بتقليد السيّد يعود إلى إيجادها دائماً الجواب المنطقيّ والمقنع لديه على كلّ سؤال تطرحه عليه، عبر مكاتبه المنتشرة على الأراضي اللّبنانيّة كافّةً. أمّا بولا، فتعتبر أنّ رحيل السيّد هو «فقدان لأبينا الرّوحي، وسنظلّ نقلّده حتى الرّمق الأخير».
تستوقف سيّدة مسنّة الشابّات لتسألهنّ كيف يمكنها الحصول على صورةٍ كبيرةٍ للسيّد، وكان يتمّ توزيع الآلاف منها في التّشييع.
تردّد العجوز كلماتٍ غير مفهومة وهي تحاكي نفسها، لكنّها كانت واضحةً حين قالت: »حبيببي، سيّد الكلّ، سيّد الفقراء».
وتؤكّد مسنّة أخرى أنّها، رغم معاناتها مع المرض، قرّرت أن تمشي في المسيرة وتنتحب السيّد فضل الله. ومن المشاركات أيضاً، من تؤكّد تقليدها للسيّد علي الخامنئي، وتعزو سبب حضورها إلى تقديرها واحترامها للمرجع فضل الله.
لكن، لم يكن الدّين العنصر الجامع بينهنّ، ولن يقتصر الحضور على المتديّنات منهنّ فقط، فقد حضر التّشييع نساء من مختلف الأهواء الدّينية وغير الدينية. فتلفت رشا الوافدة من منطقة الحمراء، إلى أنّ السيّد لا يمثّل طائفةً معيّنةً في لبنان، بل «هو سيّد جميع اللّبنانيّين». ورغم أنها ليست متديّنةً، فضّلت رشا أن تضع منديلاً أسود على رأسها خلال المشاركة «احتراماً للسيّد». أمّا زينب فهي محاميّة، حضرت من خارج ضاحية بيروت الجنوبيّة، وقرّرت المشاركة مع ابنتيها في المسيرة. تقول زينب إنها تربّي طفلتيها على معرفة شخصيّة العلامة السيّد محمد حسين فصل الله، كذلك تؤكّد أنها كانت قد اتّصلت أمس بمكتب السيد فضل الله لمعرفة من سيصدر الفتاوى الجديدة.
وها هما، شابّتان، فنّانتان، ترسمان كتب أطفالٍ تصدرها «دار الحدائق». لا علاقة لهما بالدّين وبمرجعيّة السيّد الفقهيّة، لكنّهما هنا لأنهما اختبرتا العمل مع مؤسّسةٍ تابعةٍ له، وتقولان إنهما معجبتان بالنّهج المنفتح الذي تعتمده المؤسّسة في مقاربة كتب الأطفال، على عكس مؤسّسات أخرى أقلّ دينيّةً وأكثر تعصّباً، تفرض القيود على مستوى رسم لباس الفتيات في الكتب، مثلاً... حتى ولو كانت في الرّسم طفلة.
الساعة تشير إلى الواحدة والنّصف ظهراً. يصطفّ النّساء خلف الرّجال أمام دارة السيّد فضل الله. دقائق، ويخرج النّعش للمرّة الأخيرة من دار السيّد الّذي أُعيد إعماره بعدما دمّرته صواريخ العدوّ. تغيب نساء العائلة عن المشهد. وكان الزّملاء الصحافيّون قد منعوا من زيارة الدّارة. صور السيّد توزّع في كلّ حدبٍ وصوب. تراه يحدّق بك من كلّ زاوية في المكان.
يعلو النّحيب من قلوب النّساء، وبأعلى حسّ. تطلب سيّدة من الخلف أن يرفع جثمان السيّد فضل الله للتمكّن من رؤيته. ومن النّساء من تنسى نفسها وتقترب من الرّجال محاولةً رؤية نعش السيّد.
الجميع يبكونه. النّساء والأطفال. يرفعون أياديهم اليمنى، ويودعونه. يصرخون: «وداعاً يا أبا الأيتام، فقدناك أبًا رحيمًا، يا أبا المجاهدين والأحرار، وداعاً يا سيّدنا».
الحرارة ذاتها تستمرّ في مشهد الوداع منذ انطلاقة مراسم التّشييع بعد صلاة الظّهر، وصولاً إلى أداء السيّد محمّد علي فضل الله الصّلاة في مسجد الإمامين الحسنين على جثمان شقيقه المرجع.
وبسبب اكتظاظ المكان بالمشيّعين، شوهدت النّساء بين الرّجال في أثناء الصّلاة على الجثمان.
رحل المرجع التنويريّ ليبقى جثمانه في صحن المسجد. هناك حيث تتجسّد خطاباته لتكون مدرسةً لكلّ من يقلّده علميّاً ودينيّاً. رحل السيّد وهو يدافع عن القضيّة الفلسطينيّة، لتصدح عباراته عبر مكبّرات الصّوت في فضاء المكان، مبشّراً بنصر كلّ انتفاضةٍ جديدة.
|