فضل الله: خافوا من أن يُحدث السودان تحولاً فعلياً في الخريطة السياسية العربية فعملوا على تدميره من الداخل |
وجّه سماحة العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله، لمناسبة صدور قرار المحكمة الجنائية الدولية باعتقال الرئيس السوداني، نداءً إلى الشعب السوداني ومن خلاله إلى الشعوب العربية والإسلامية، جاء فيه:
لا يزال العالم المستكبر يبحث عن وسائل جديدة للدخول إلى عمق المنطقة العربية والإسلامية والعبث بها بشتى الأساليب والطرق، وإثارة القلاقل والفتن في داخلها، وتعريض الاستقرار الداخلي فيها للخطر، ولعل آخر هذه الوسائل والمحاولات، ما تعرض له السودان عبر المحكمة الجنائية الدولية من خلال أمر القبض على رئيسه بتهم تحمل عناوين جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وغيرها من التفاصيل التي أثارها القضاء الدولي الذي بات محل مساءلة منذ أن انخرط في السياسة والتسييس، ومنذ أن تقاعس عن ملاحقة أبرز مجرمي الحرب الصهاينة، ودخل في اللعبة السياسية من أبوبها الواسعة.
إننا أمام هذا الحدث الجديد الذي أريد له أن يُحدث ارتدادات داخليةً في السودان، وأخرى في قلب المنطقة العربية والإسلامية، نتوجه إلى الشعب السوداني، ومن خلاله إلى الشعوب العربية والإسلامية، وإلى كل الأحرار في العالم، لكي يتعمّقوا في قراءة هذا الحدث في انطلاقاته وحيثياته وخلفياته، ليلاحظوا جملةً من المسائل، أبرزها:
أولاً: لم يعد هناك من مجال للشك في أن المحكمة الجنائية الدولية، ومن خلال المدعي العام لهذه المحكمة، منخرطة في الحركة السياسية الدولية والإقليمية الرامية التي تهدف إلى اختراق بعض المواقع العربية والإسلامية لإثارة القلاقل فيها، وتهيئة أرضيتها السياسية والاجتماعية والأمنية لاجتياح استكباري جديد، يشبه الحرب التي شُنت على العراق وعلى أفغانستان، ولكن من خلال توفير مناخات جديدة للفتنة الداخلية، بما يمهّد السبيل لإحداث تغييرات في الخريطة السياسية العربية والإسلامية...
ولو كانت المسألة غير ذلك، لتحركت هذه المحكمة باستقلالية ونزاهة، فلاحقت مجرمي الحرب من اليهود والمحتلين في فلسطين المحتلة على المئات من المجازر التي ارتكبوها ضد المدنيين اللبنانيين والفلسطينيين، وآخرها تلك التي حصلت في العدوان على غزة، والتي تبرز أدلتها الدامغة عبر الصور وشاشات التلفزة، بما في ذلك استخدام الأسلحة المحرمة دولياً.
إضافةً إلى إعلان أكثر من مسؤول إسرائيلي رغبة كيان العدو بقصف المساجد والمواقع العبادية والمدارس، وحتى المراكز التابعة للأمم المتحدة والمستشفيات مجدداً إذا دعت الحاجة إلى ذلك...
فإذا كانت المسألة تتصل بجرائم ضد الإنسانية، فلا يوجد موقع في العالم ارتكبت فيه جرائم ضد الإنسانية مؤخراً كما حصل في غزة، وإذا كانت تتصل بجرائم الحرب، فليس هناك جرائم أدلُّ وأظهر من تلك التي ارتكبها اليهود المحتلون في غزة وقبلها في لبنان في تموز من العام2006، ومع ذلك، يريدون إيهام الناس بأن ثمة قانوناً دولياً ومحاكم دولية لا تزال تتحرك لإقامة العدالة في العالم.
ثانياً: إن الخطة الدولية في استهداف السودان ليست جديدة، وهي أميركية الأصل، ولكن لها أذرعتها الإقليمية، وأهدافها الإسرائيلية المعروفة، وقد برزت علائم هذه الخطة منذ سنوات، وخصوصاً عندما رفض السودان الرضوخ لعدد من الشروط الأميركية التي كانت تستهدف نقله إلى الموقع المعادي لقضايا الأمة، وخصوصاً قضية فلسطين، وجعله يتنكر لمسؤولياته السياسية وينقلب على نهج المقاومة والمواجهة الراسخ في نظامه الذي تحرك في إطار الطابع الإسلامي للدولة، وعمل على تبني قضايا قوى التحرر، وانخرط في مشروع توحيد الأمة في مواجهة المشروع الاستكباري والصهيوني... وعندما رفض السير في المساومات، وحتى في الإغراءات التي عرضت عليه من بعض المسؤولين الأميركيين... كانت الخطة أن ينطلق السعي لزعزعة النظام من خلال عنوان قضائي دولي، وخصوصاً بعدما فشلت الأساليب العسكرية والأمنية الأخرى التي انطلقت فيها حركات تمرد داخلية حصلت على دعم من دول مجاورة لها ارتباطاتها بالمحور الاستكباري العالمي المدعوم من الولايات المتحدة الأميركية.
ثالثاً: إن السودان يمثل الموقع الجديد الذي تتمحور حوله الحركة الأميركية والدولية في المرحلة الحالية والمراحل المقبلة، لأنه يُراد لهذا البلد أن ينتقل إلى الضفة السياسية الأخرى من جهة، وأن يكون رسالة تبعث بها الولايات المتحدة الأميركية والكيان الصهيوني إلى الدول الأخرى في المنطقة، وخصوصاً دول الممانعة، لا بل أن تصل هذه الرسالة حتى إلى الرؤساء العرب الآخرين الذين قد تسوّل لهم أنفسهم الخروج من الفلك الأميركي في المرحلة التي تتخبط فيها أمريكا اقتصادياً وسياسياً وحتى أمنياً، ليشعر هؤلاء بأن ثمة ملفات تنتظرهم يمكن أن تصبح بيد أية سلطة قضائية دولية عندما يحين الوقت، أو تنتهي المهمة، وليستشعرا الخطر على الطريقة العراقية أو السودانية...
إن على الشعب السوداني وعلى شعوبنا، أن يعرفوا أن الاستكبار العالمي كان يخشى فعلياً، ولا يزال، من أن يُحدث السودان تحولاً في الخريطة السياسية العربية، إذا ما استقرت أوضاعه السياسية، واستُثمرت إمكاناته الاقتصادية الهائلة ومساحته الجغرافية وثرواته الكبيرة استثماراً حقيقياً... ولذلك كانت الخطة أن يُصار إلى إحداث تحوّل عكسي وسلبي، من خلال السعي لتدمير الوضع السوداني من الداخل، بالاستعانة بالعنوان القضائي الدولي، لمنعه من التأثير في الوضع العربي والإسلامي في الخارج، وهو الوضع المهيأ لجملة من الإرهاصات على أكثر من صعيد...
إن على شعوبنا أن تعرف أن الغرب يأخذ من القوانين الوضعية والدولية ما يراه مناسباً لمصالحه، فيعمل على تطبيقه في واقعه السياسي والاجتماعي، ويدع ما هو استنسابي وسلبي ليفرضه علينا، وعلى الشعب السوداني بالذات أن يعرف أن المسألة لا تتصل بشخص رئيسه أو بالنظام السوداني فحسب، بقدر ما تتصل بمصير السودان ومستقبل الشعب السوداني بمختلف أطيافه وأعراقه وانتماءاته، كما تتصل بموقع السودان الاستراتيجي وتأثيره في محيطه العربي والإسلامي وصولاً إلى فلسطين المحتلة... ولذلك فإن المطلوب هو أن يتماسك هذا الشعب من الداخل، لأنّ من خطَّط لهذه اللعبة الجهنمية، يتطلع إلى انقلابات وفتن وحروب ومزيد من التمرد والاضطرابات لهزّ شجرة السودان من الداخل، فتتساقط أثمارها وخيراتها كما تساقطت الثمار العراقية والأفغانية من قبل.
إن القضية تحتاج إلى وحدة صلبة من داخل الشعب السوداني الذي عوّدنا على إخلاصه وتفانيه لما يخدم مصالح الأمة ومصلحته الوطنية، وإلى تماسك وتعاطف عربي وإسلامي مع السودان، لأننا دخلنا في مرحلة الخيارات الصعبة على مستوى الأمة والمنطقة، وعلينا أن نثبت للعالم أننا الأقوى بوحدتنا وتماسكنا وبالإصرار على احتضان قضايانا الكبرى، وأولوياتنا الاستراتيجية.
|