حوار مع قناة المصرية-الحلقة الثانية

حوار مع قناة المصرية-الحلقة الثانية

حوار مع قناة المصرية-الحلقة الثانية


برنامج "عيون عربيَّة" الذي بثته الفضائية المصرية، ينقل الحلقة الثّانية من الحوار الذي أجراه مراسلها في بيروت مع العلاّمة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله. وهذا نصّ الحوار:

* سماحة السّيِّد، هل يجوز الاستعانة بكافر على مسلم؟

- نحن نعتقد أنّه لا يجوز الاستعانة بالكافرين على المسلمين، إلاّ إذا وصلت الأمور إلى مستوى أصبحت تتهدد حياة المسلمين الأخطار الكبرى التي تسقط الواقع الإسلامي كله، فعند ذلك، تكون المسألة في حجم ما تقتضيه الضرورة، وإلاّ فالمبدأ: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}(النساء/141). فنحن نعتقد أنه لا يجوز، من حيث المبدأ، الاستعانة بالكافرين على المسلمين، ولذلك فإنّنا نرفض أيّ نوع من أنواع التحالف الذي قد يحدث بين بعض الجهات الإسلامية والاستكبار العالمي، سواء كان استكباراً أمريكياً أو أوروبياً.

* وهل يجوز الاستعانة بظالم على ظالم؟

- لا بدّ من أن ندرس المسألة من خلال المصلحة الإسلامية العليا، في ما هي الضرورات الإسلامية، وما هو دور هذا الظالم وذاك الظالم، لأنّ المسألة قد تصل إلى حدّ أن بعض الظالمين ربما يظلمون الناس بطريقة يسقطون فيها كلَّ الواقع الإسلامي في كل قضايا الناس الخاصة والعامة، بينما يكون هناك ظالم آخر قد لا يكون بهذه المثابة من الظلم. إنّ المبدأ هو أن نحارب الظالمين بقدراتنا الخاصة الإسلامية من موقع المجتمع العادل القوي، أما عندما يدور الأمر بين أن يسقط الواقع الإسلامي كلّه، أو يبقى مع ظلم محدّد، فعندها لا بدّ من دراسة الأمر من قبل أولي الأمر من الخبراء المسلمين لتحديد المصلحة الإسلامية العليا هنا وهناك.

* هل تطبَّق هذه المفاهيم على الحالة العراقية؟

- قبل أن تبدأ مسألة الاحتلال الأمريكي للعراق، كنّا نقف ضدّ نظام الطاغية صدام حسين، لأنّه الشخص الذي أربك العالم الإسلامي كلّه، وفرض الحرب على العراق وعلى إيران وعلى الكويت، وصادر شعبه بطريقة وبأخرى، وهيَّأ كلّ الظروف للاحتلال الأمريكي. وإنّني من خلال متابعتي لهذا الرجل، أعرفُ أنَّه كان صنيعةً أمريكيةً منذ البداية، وأنّه نفَّذ كلَّ خطوط السِّياسة الأمريكية التي أرادت تدمير الثورة الإسلامية في إيران، وأرادت إيجاد الظّروف الموضوعية للتحرّك بقواعدها في الخليج، ليشعر الخليجيون بأنها ضرورةٌ لأمنهم لحمايتهم من هذا الرّجل الّذي أساء إلى شعبه، ومارس بحقّه الكثير من الظّلم ممّا يعرفه الكثيرون من الناس. إنّي أعتقد أنّه كان صنيعةً أمريكيّة وقد انتهت وظيفته.

وقد قام الأمريكيون بخداع العراقيين عندما صوّروا لهم أنّ دخولهم إلى العراق هو لتحريرهم من حكم صدام، في الوقت الذي كان الأمريكيون يدعمون صدام حسين عندما كانت عمليات المعارضة تتحرّك ضدّه، وقد كان هناك حماية عالمية لهذا الرجل للقيام بما يريد أن يقوم به، وذلك من خلال المخابرات الأمريكيّة، وحتى من خلال المخابرات السوفياتية آنذاك. لذلك خُدِعَ العراقيون عندما اعتقدوا أنّ أمريكا جاءت لتحرّرهم، ولكن المسألة هي أنّها جاءت لتنفيذ مشاريعها وحماية مصالحها في المنطقة، كما صرّح المسؤولون الأمريكيون عند احتلالهم للعراق. وقد كنت أول شخصية إسلامية أصدرت فتوى قبل بداية الاحتلال، أنّه لا يجوز مساعدة السلطات الأمريكية للسيطرة على الشعب العراقي في ذلك الوقت. وكنت ولا أزال أتحدّث عن أن مشكلة العراق هي في الاحتلال الأمريكي وليست مشكلة مذهبيةً بين السنة والشيعة؛ هذا الاحتلال الذي تتحرك مخابراته بالتحالف مع الموساد الإسرائيلي في العراق، إضافةً إلى القوى التكفيرية التي أعلنت أنها تريد أن تقتل الشيعة في العراق منطلقةً من فهم متخلّف للواقع الإسلامي. لذلك أعتقد أنّ الاستعانة بأمريكا هي "كالمستجير من الرمضاء بالنار".

* سماحة السيد، من المعلوم أن والد السيد مقتدى الصدر والى نظام صدام حسين حتى قُبيل مقتله، باعتبار أن ذلك هو ما تقتضيه مصلحة الشيعة ولو وقتياً. فكيف ترون ذلك الأمر؟

- أنا لا أعتقد أنه والى بالمعنى الّذي توحي به كلمة الموالاة، ولكنّه هادن، ومعنى المهادنة أنه لم يجد هناك أيّة ظروف تمكِّنه من مواجهة النظام، حتى إذا تحرّك من خلال بعض مواقع القوة التي حصلت له من خلال التفاف الشعب العراقي حوله، قام صدَّام باغتياله.

* وهل ترى سماحتك، أن تلك السياسة لها انعكاسات على مواقف مقتدى الصدر المتذبذبة والمتأرجحة؟

- مقتدى الصدر شخصٌ يعيش مشكلة اغتيال أبيه ومشكلة الشعب العراقي كلّه، ولكنّنا نعتقد أنه انطلق الآن في معارضة الاحتلال الأمريكي بطريقة وبأخرى، ولعلّي لا أذيع سراً إذا قلت إنّ بعض الذين يؤيّدونه يقومون بالمقاومة ضدّ الاحتلال الأمريكي.

* لكن في المقابل، بعض من يؤيّدونه أيضاً هم من يقومون ببعض العمليات الدّاخليّة...؟

- المشكلة التي حدثت في العراق، هي أنّ العمليات التي كانت تُقام ضد المسلمين الشيعة، والتي كان آخرها تفجير مرقد الإمامين العسكريين، أوجدت ردّ فعلٍ عند بعض الناس. ونحن نعرف أنّ كلّ مراجع الشيعة أصدروا فتاوى واضحة وصريحة، بأنّه لا يجوز أن يقوم أيّ مسلم شيعي بردَّة فعل ضد أيّ مسلم سنّي، وأنّ قتل المسلم للمسلم حرام، سواء كان سنياً أو شيعياً، وهذه الفتاوى محفوظة ومنشورة في هذا المجال، ولكن ما حدث في قضية تهديم مرقد الإمامين العسكريين أوجد صدمةً، وحالةً تُشبه حالة الجنون العاطفي، ما أوجب ترك ردود الفعل بعيداً عن الفتاوى التي يصدرها المراجع، وبذلك اختلطت الأمور في هذا المجال.

وأحبُّ أن أؤكِّد، أنَّ هناك بعض الكلمات وبعض الإثارات التي تتحدث عن أن المسلمين الشيعة يقتلون المسلمين السنّة ويهجّرونهم، لكنَّ الواقع أن القتلى هم من المسلمين السنّة والمسلمين الشيعة، كما أن التهجير مشترك فيما بينهم. ولعل أبشع صورة من صور التفجيرات الوحشية، هي ما حدث بالأمس من تفجير سوقين شعبيين تتحرك فيهما كلَّ الأطياف في العراق، سواء من السنة أو من الشيعة أو من المسيحيين وما إلى ذلك. لذلك أدعو كلّ الإعلاميين، وكلَّ العلماء والمسلمين، أن لا ينظروا إلى الأمور بعين واحدة، بل أن يدرسوا الواقع العراقي باعتباره واقع الفتنة التي يديرها الاحتلال، لأن المسؤولين الأمريكيّين ومنهم نائب الرئيس الأمريكي ديك تيشني، صرّحوا بأنّهم سوف يبقون طويلاً في العراق وفي المنطقة، ولعل من شروط بقائهم هو بقاء الفوضى الأمنية في العراق.

* قلت سماحتك، والكثيرون أجمعوا، على أن تفجير مرقد الإمامين العسكريين هو الذي فجَّر حالة الصراع السني الشيعي في العراق. فلماذا لا تدعو سماحتك، إلى تشكيل لجنة إسلامية للتحقيق في مسألة من المسؤول عن التفجير؟

- إن الواقع في العراق لا يسمح بذلك، لأن الفوضى الموجودة فيه؛ الفوضى المذهبية والسياسية والذهنية، إذا صحَّ التعبير، لا تسمح بأيّ موقف عاقل حيادي وأيّ تحقيق قضائي محايد.

* لم أقصد تحقيقاً قضائياً، بل تحقيقاً مرجعيّاً دينيّاً؟

- أنا قصدْتُ بالتّحقيق القضائيّ، التّحقيق الذي يتحرّك على أساس دراسة الأدلة الواقعية هنا وهناك.

* سماحة المرجع، يرى البعضُ أنَّ لكم اتجاهاً خاصاً فيما عُرف بالاتجاه العروبي في المرجعيَّة، في مقابل ما يسمَّى في الكتابات النَّاقدة بالاتجاه الصفوي، فما هي حقيقة ذلك؟

- أنا أعتقدُ أنَّ العروبة لا تمثِّل انحرافاً عن الخط الإسلامي، فعندما نزل الإسلام في البيئة العربيّة، لم يشعر العرب بوجود أيّة مشكلة فيما يطرح عليهم منه، لذلك آمنوا به واحتضنوه وساعدوه وانفتحوا عليه وأعطوه وأخذوا منه، لأنّ العروبة هي حالة إنسانية. وكنت أقول إنّ العروبة هي عبارة عن الإطار الذي يبحث عن الصورة، وكان الإسلام هو الصورة لهذا الإطار.

وإنما انطلقت العقدة من العروبة عندما تحركت بطريقة غير إنسانية، وذلك على حساب الأقوام الأخرى، وهو ما ولّد ما سمي بحركة الشعوبية التي قامت كردِّ فعل على التعصب للعرب، وفي الأربعينات صرنا نسمع كمحاكاة للنازية، أنّ العرب فوق الجميع مثلاً. وانطلقت الدعوة القومية أيضاً في ذلك الوقت لتقول إنّ العرب فوق الجميع، كما كان الآريّون يقولون إنّهم فوق الجميع، ثم بعد ذلك تأدلجت العروبة، حيث دخلت فيها الاشتراكية والماركسية، ما جعل المعارضة للماركسية والاشتراكية وليس للعروبة.

وأحب أن أُثير نكتةً في هذا المجال، وهي أنّ شخصاً كان له جمل، فنذر إذا شافاه الله أن يبيع الجمل بعشرة دراهم، وهذا الثّمن لا يساوي جزءً بسيطاً من سعر الجمل الحقيقي، وعندما شُفي، تحيّر واستشار بعض أصحابه في هذا الموضوع، فقال له خذ سنوراً (قطة) وعلّقها في رقبة الجمل، وقل إنّي أبيع السنور بألف درهم والجمل بعشرة دراهم، ولكن لا أبيع الجمل إلاّ مع السنور، فقال له بعضهم: ما أرخص الجمل لولا القلادة.

نحن نقول إنّ العروبة بحسب بعدها الإنساني، لا مشكلة من النَّاحية الإسلامية معها، وإنّما المسألة هي في الأيديولوجية التي أُدخلت في قلب العروبة. أمَّا الصفوية، فلا واقع لها الآن، كما أنّ المسلمين الشّيعة العرب ليسوا تابعين لإيران بالمعنى السياسي أو بالمعنى الديني، بل هناك من يؤيِّد إيران وهناك من لا يؤيّدها، أمّا مسألة الصّفوية، فهي لا تثبت أمام الواقع، لأنّ المسلمين الشيعة العرب مخلصون لأوطانهم. ونحن قلنا ولا نزال نقول في لبنان وفي غيره، إنّه ليس للشيعة مشروع خاصٌّ بهم، والشّيعة في العراق لا يريدون أن تحكمهم إيران، نحن في لبنان، كذلك لنا صداقات مع إيران ومع دول أخرى، ولكننا نشعر بأنّ علينا أن نقرِّر مصيرنا في البلاد التي نعيشها بحسب مصالحنا الأساسية.

* ما حقيقة ما يتردَّد حول الدَّعوة لنقل المرجعية من العراق إلى بلد آخر، نظراً للظروف الحالية التي يعيشها؟

- لم تكن المرجعيَّةُ أساساً منطلقةً من موقع معيَّن، بل كانت في أكثر المراحل في النَّجف الأشرف، وربّما كان أكثر المراجع من غير العرب، لأنّ المرجعية تنطلق من خلال الكفاءة العلمية والثقة الدينية. لذلك ليس هناك صراع بين حوزة النجف وحوزة قمّ، وبين مرجعية النَّجف ومرجعية قمّ. ونحن نلاحظ أنّ مرجعية النجف يتقدّمها السيد علي السيستاني، وهو رجل إيراني وليس عراقياً بحسب طبيعة الانتماء القومي والانتماء الجغرافي. لذلك ليس هناك من يستطيع أن ينقل المرجعية من مكان إلى مكان، لأنّها تتبع التزامات الناس وثقتهم.

* تفضَّلت وقلت إنّه لا يوجد مرجع عربي سوى سماحتك؟

- لا، كان هناك أيضاً مرجع عربيّ انطلقت مرجعيته في العالم الإسلامي، وهو السيد محسن الحكيم، والد السيد محمد باقر الحكيم.

* سماحة السيّد، يُعرف عنكم أنّ لكم رأياً في مسألة الجهاد، وأنّكم لا تقرّون بتفجير الناس أنفسهم وسط الأعداء، وتعتبرون ذلك انتحاراً وليس استشهاداً. ما حقيقة ذلك؟

- هذا الكلام ليس دقيقاً، فنحن، كما هو رأي الإسلام، نرفض الانتحار، لأنّ الله يقول: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}، ولكن عندما تكون هناك حرب شرعية، كما هي الحال في حرب الفلسطينيين المسلمين ضد إسرائيل، فالمسألة في المبدأ هي أنه لا يجوز للإنسان أن يفجِّر نفسه، ولا سيما في مكان فيه أطفال ونساء وشيوخ ومدنيون أبرياء، ولكن ربما تفرض الضرورة العسكرية أو الضرورة الجهادية القيام بمثل هذا العمل التفجيري، كما هو الحال بالنسبة إلى الفلسطينيين، إذ نلاحظ أن إسرائيل تستخدم ضدّهم الطائرات الحربية التي لا تُستعمل إلاّ في الحروب الكبيرة، والصواريخ الّتي توجّهها ضد المدنيين، وما إلى ذلك من اغتيالات واعتقالات، بحيث يحاصرون الفلسطينيين في كلِّ مواقعهم، ويدمِّرون كل بنيتهم التحتية، ويستحلّون قتل أطفالهم ونسائهم وشيوخهم بصواريخهم. في هذا المجال، قد لا يملك الفلسطينيون، أمام ما يفعله الإسرائيليّون بحقّهم، إلاّ أن يفجِّروا أنفسهم بهم، من أجل أن يثبتوا لهم أنهم لن يدعوهم يحصلون على الأمن ما داموا هم لا يحصلون عليه. وفي هذه الحالة، تكون العمليات الاستشهادية عمليات جهادية، ويكون الحكم الشرعي هو شرعيّة هذه العمليّات من خلال أيّ وسيلة جهاديّة في هذا المجال

* في دستور حركة حماس أنّ أي أرض فلسطين وقف إسلامي؟

- ليس وقفاً إسلامياً بمعنى المصطلح، بمعنى أنّ هناك من أوقفها على المسلمين أو على الساكنين فيها، لكن هناك مسألة شرعية موجودة في الفقه الإسلامي، وهي أنّ الأراضي المفتوحة عنوةً، أي المفتوحة بالقوّة، لا تُملك، بل هي ملكٌ للمسلمين ينتفعون بها، ويدفعون خراجها أجرة انتفاعهم بها لوليّ الأمر، وهذا أمرٌ يراهُ فقهاء المسلمين من السنَّة والشيعة، فهي لا تُملك إلاّ تبعاً للآثار. وأمَّا نفس الأرض، فهي للمسلمين جميعاً، وعندما يقصدون بها هذا المعنى، فهو صحيح، أما إذا قصدوا الوقف بمعناه المصطلح، فهي ليست وقفاً اصطلاحياً كما هي الأوقاف المعروفة في البلاد الإسلامية.

* إذا كان قول الفقهاء بأنّه يحقُّ لوليّ الأمر أن يتصرف بالوقف، فهل ترى أنّ "أبو مازن" له الحق في أن يتصرف بفلسطين؟

- إنّنا عندما نتحدَّث عن وليّ الأمر، فإنّنا نقصد به وليّ الأمر الشرعيّ الذي يملك شرعيَّة الولاية، وحتى وليّ الأمر الشرعيّ ليس له الحق في التصرف إلاّ ضمن البرنامج الشرعي القانوني الإسلامي.

* سماحة السيد، هناك محطات لعلاقتكم بحزب الله، يرى البعض أنها تكشف عن تذبذب، فما هو تفسير ذلك؟

- إنّني منذ انطلقت في عملي الإسلامي، منذ الخمسينات، كنت أنفتح على كل الأجيال الإسلامية في العالم الإسلامي، ولا سيما المسلمين الشيعة، سواء في العراق أو في لبنان أو في الخليج في غيرها من الأماكن، وقد كان شباب حزب الله من الشباب الذين يستمعون إلى محاضراتي وأفكاري، ولكنّني لم ألتزم حزباً معيَّناً، ولم أعط أيّ حزب شرعيةً مطلقة، بل كنت أدرس خطواته وبرامجه ومناهجه، فأوافق على بعضها ولا أوافق على بعضها الآخر. كذلك الأمر بالنسبة على حزب الله، فهو حزبٌ له قيادته الخاصة ومرجعيته الخاصة، فربما يختلف معي في بعض الخطوط، كما بالنسبة إلى ولاية الفقيه، وقد أختلف معه في ذلك. فالمسألة ليست مسألة تذبذب، ولكنّها مسألة اختلاف في وجهات النظر وفي الموقف، وأنا لا أفرد نفسي لجهة معينة، بل أنفتح على العالم الإسلامي بكلّه. وأحب أن أذكر طرفة في هذا المجال، وهي ما قاله الشاعر الغزلي المعروف عمر بن أبي ربيعة، عندما رآه بعض الناس وهو يتطلّع إلى النساء الجميلات أثناء الطواف، فقيل له، أفي هذا الموقف يا أبا حفص، قال: "إني موكلٌ بالجمال أتبعه". وأنا قلت لهم، إنّي موكل بالإسلام أتبعه، فأنا أتابعُ كلَّ موقع إسلامي، وكلَّ قضية إسلامية في أيّ مكان في العالم الإسلامي، في كلّ التحديات التي يواجهها المسلمون، لأعالجها وأؤيدها، ولأتخذ الموقف الإسلامي المناسب تجاهها. هذه هي القضية، فأنا مع كل الحركات الإسلامية، ولكن هذا لا يعني إعطاءها الشرعية بالمطلق، بل ندرسها لنقبل ما نراه إيجابيّاً فيها ونترك السلبي.

* كيف تفسرون مشاركة أحزاب إسلامية في نظام حكم ليس إسلامياً؟

- ربما يعتقد بعض الإسلاميين أن بإمكانهم أن يحققوا بعض أهدافهم فيما يفكرون فيه من قضايا الناس مع هذا الحزب العلماني أو غير الإسلامي.

* ما معنى الوحدة الوطنية من منظور إسلامي؟

- نحن نقول بالوحدة الوطنيَّة عندما يعيش الوطن تنوّعاً في الأديان وتنوعاً في الاتجاهات، حيثُ لا يكونُ هناك إمكانية واقعية لحكم إسلامي يفرض الإسلام على المجتمع كلّه. عند ذلك نقول إنّه من الممكن قيام دولة ترتكز على حقوق المواطنة، حيث تأخذ بأسباب العدل بالقدر الممكن لتحقيق العدالة بين النَّاس في الحقوق والواجبات.

* سماحة المرجع، هل لنا بكلمة موجَّهة إلى الشعب المصري؟

- إنّنا نقول لكل إخواننا ولكلِّ أهلنا في مصر، إنَّ مصر تمثِّل قلب العالم الإسلامي وقلب العالم العربي، وإنّ مصر تنفتح في موقعها الجغرافي على الخطِّ الإسلامي والخطِّ العربي والخطِّ الأفريقي. ونعتقد أن لمصر دوراً كبيراً على مستوى الثقافة الإسلامية المنفتحة على كلِّ قضايا المسلمين، ولا يزال المسلمون في العالم يتذكرون الشيخ محمد عبده والسيد جمال الدين الأفغاني، ويتذكّرون أيضاً حركة التقريب التي كان يقودها الشيخ محمود شلتوت والشيخ عبد المجيد سليم وغيرهما من الكبار الذين آمنوا بالوحدة الإسلامية.

إنّنا ندعو المسلمين في مصر الذين عاشوا قوة الإسلام وعزّته، إلى الأخذ بأسباب الوحدة الإسلامية، وأن لا يتقبَّلوا أيّ شخص يريد إثارة الفتنة، وأن يدرسوا القضايا التي يختلف عليها المسلمون دراسةً موضوعيةً، وأن ينفتحوا على قضايا الحرية والعزّة والكرامة للمسلمين.

إنّنا نريد للمصريين أن يتكاملوا مع كلِّ العالم العربي في مواجهة الاستكبار العالمي، لأنّ الاستكبار العالمي لا يريد خيراً لمصر ولا للعرب وللمسلمين جميعاً، بل إنّه يحاول أن يجعل إسرائيل فوق الجميع في كلِّ ما يمنحها من قوَّةٍ في هذا المجال. إنّنا نقدِّر للشعب المصري أنه لم ينطلق في عملية التطبيع مع الإسرائيليين حتَّى عندما حدثت العلاقات الدبلوماسية بين مصر وإسرائيل. كما أنَّنا نلتقي معه في محبَّته لأهل البيت(ع)، وخصوصاً السيدة زينب (أم هاشم) والإمام الحسين، وفي انفتاح هذا الشعب على النبي(ص) وعلى أهل بيته وعلى كل صحابته الكرام.

لذلك نريد للأخوة في مصر أن ينفتحوا على قضايا العالم الإسلامي في كلِّ التحديات التي تواجهه، ونحن نقدِّر، بكلِّ قوة، موقف الشعب المصري تجاه الشعب اللبناني والمقاومة الإسلامية في مواجهتها للعدو الإسرائيلي وانتصارها على الجيش الذي قيل عنه إنّه لا يُقهر، في عدوان إسرائيل في تموز.

إنّنا نريد أن نتكامل معكم ونتواصل معكم، وأن نعيش الوحدة الإسلامية معكم، وأن نرفض كلَّ الذين يريدون إثارة الفتنة في داخل مصر بين الأقباط والمسلمين، لأنّ مصر لا تعرف في تاريخها مثل هذه الفتنة، فمصر كانت منفتحةً ومتسامحةً، ونحن مع الانفتاح ومع التسامح، نحن مع الحوار الإسلامي ـ المسيحي، ومع أيّ حوار، لأن الحوار هو وحده الذي يمكن أن يحل المشكلة. فلنتحرّك بالمحبة، بالرحمة، بالتّواصي بالحق ولتواصي بالصبر.

* أخيراً، أريد أن أسمع تعليق سماحتك على ما يردِّده البعض، أنّ هناك محاولة لنشر التشيّع في مصر؟

- كنت أقول إنّني أتحدَّى وبمحبّة من يتحدَّث عن هذه المسألة على مستوى الظاهرة، بمعنى أن هناك خطّة شيعية تنطلق من المرجعيات الشيعية في سبيل التحرّك من أجل تشييع السُّنة. إنّني أطلب من كلِّ هؤلاء، أن يقدِّموا لنا إحصائيات دقيقة تنطلق من البحث الدقيق العميق في هذا المجال. ربما تحدث بعض الحالات التي يُقنع فيها شيعي سنياً بالتشيّع، كما أنّنا نعرف في لبنان وفي العراق وفي غيرها من البلدان، أنّ هناك سنّة أقنعوا بعض الشيعة بالتسنّن، ولكن كلّ ذلك يبقى في إطارٍ فرديّ ومحدود. وأنا أرفض بكلّ محبة، اعتبار هذه المسألة ظاهرة في العالم الشيعي وفي العالم السني، وأعتبر أن الذين أطلقوها إنما أطلقوها من خلال الخطة الاستكبارية التي تقودها أمريكا من أجل تعقيد العلاقات بين السنَّة والشيعة.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى، مسألة الأفكار هي من الأمور الّتي لا يمكن أن يفرضها فريق على فريق، لأن الأفكار، سواء كانت في الدائرة الإسلامية أو في الدائرة غير الإسلامية، هي ملك الإنسان الذي يقتنع أو الذي يُقنع في هذا المقام. وأنا أتساءل: لماذا تُثار القضيَّة في الدائرة الإسلامية الشيعية، ولا تُثار بالنّسبة إلى الملحدين الذين يريدون أن يقنعوا المسلمين بالإلحاد، أو بالنّسبة إلى أتباع الديانات الأخرى الذين يبشِّرون المسلمين ويقنعونهم بالانتماء إلى دينهم وإلى أن يتركوا الإسلام؟ لماذا هذا التأكيد على إثارة الحساسيات في الدائرة الإسلاميّة وكأنّه لم يعد هناك في العالم كلّه من يقف ليواجه الإسلام، حتّى ننشغل بمثل هذه الأمور؟ نحن نعرف أن هناك حرباً عالمية تقودها أمريكا ضد الإسلام كلّه، وأنّ الحلف الأطلسي عندما انعقد بعد سقوط الاتحاد السوفياتي تساءل من هو العدوّ؟ وقيل إن العدو هو الإسلام، فلماذا لا يكون الحديث عمّا يصيب الإسلام كلّه والمسلمين كلهم لإخراجهم عن الإسلام، بينما يتمّ التّركيز على المسألة السنية الشيعية، فيما لا أساس له في الواقع؟!

الشكر كلّ الشكر لسماحة المرجع على ما قدّمه، وشكراً لكم.

مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 26 صفر 1428 هـ  الموافق: 15/03/2007 م

حوار مع قناة المصرية-الحلقة الثانية


برنامج "عيون عربيَّة" الذي بثته الفضائية المصرية، ينقل الحلقة الثّانية من الحوار الذي أجراه مراسلها في بيروت مع العلاّمة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله. وهذا نصّ الحوار:

* سماحة السّيِّد، هل يجوز الاستعانة بكافر على مسلم؟

- نحن نعتقد أنّه لا يجوز الاستعانة بالكافرين على المسلمين، إلاّ إذا وصلت الأمور إلى مستوى أصبحت تتهدد حياة المسلمين الأخطار الكبرى التي تسقط الواقع الإسلامي كله، فعند ذلك، تكون المسألة في حجم ما تقتضيه الضرورة، وإلاّ فالمبدأ: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}(النساء/141). فنحن نعتقد أنه لا يجوز، من حيث المبدأ، الاستعانة بالكافرين على المسلمين، ولذلك فإنّنا نرفض أيّ نوع من أنواع التحالف الذي قد يحدث بين بعض الجهات الإسلامية والاستكبار العالمي، سواء كان استكباراً أمريكياً أو أوروبياً.

* وهل يجوز الاستعانة بظالم على ظالم؟

- لا بدّ من أن ندرس المسألة من خلال المصلحة الإسلامية العليا، في ما هي الضرورات الإسلامية، وما هو دور هذا الظالم وذاك الظالم، لأنّ المسألة قد تصل إلى حدّ أن بعض الظالمين ربما يظلمون الناس بطريقة يسقطون فيها كلَّ الواقع الإسلامي في كل قضايا الناس الخاصة والعامة، بينما يكون هناك ظالم آخر قد لا يكون بهذه المثابة من الظلم. إنّ المبدأ هو أن نحارب الظالمين بقدراتنا الخاصة الإسلامية من موقع المجتمع العادل القوي، أما عندما يدور الأمر بين أن يسقط الواقع الإسلامي كلّه، أو يبقى مع ظلم محدّد، فعندها لا بدّ من دراسة الأمر من قبل أولي الأمر من الخبراء المسلمين لتحديد المصلحة الإسلامية العليا هنا وهناك.

* هل تطبَّق هذه المفاهيم على الحالة العراقية؟

- قبل أن تبدأ مسألة الاحتلال الأمريكي للعراق، كنّا نقف ضدّ نظام الطاغية صدام حسين، لأنّه الشخص الذي أربك العالم الإسلامي كلّه، وفرض الحرب على العراق وعلى إيران وعلى الكويت، وصادر شعبه بطريقة وبأخرى، وهيَّأ كلّ الظروف للاحتلال الأمريكي. وإنّني من خلال متابعتي لهذا الرجل، أعرفُ أنَّه كان صنيعةً أمريكيةً منذ البداية، وأنّه نفَّذ كلَّ خطوط السِّياسة الأمريكية التي أرادت تدمير الثورة الإسلامية في إيران، وأرادت إيجاد الظّروف الموضوعية للتحرّك بقواعدها في الخليج، ليشعر الخليجيون بأنها ضرورةٌ لأمنهم لحمايتهم من هذا الرّجل الّذي أساء إلى شعبه، ومارس بحقّه الكثير من الظّلم ممّا يعرفه الكثيرون من الناس. إنّي أعتقد أنّه كان صنيعةً أمريكيّة وقد انتهت وظيفته.

وقد قام الأمريكيون بخداع العراقيين عندما صوّروا لهم أنّ دخولهم إلى العراق هو لتحريرهم من حكم صدام، في الوقت الذي كان الأمريكيون يدعمون صدام حسين عندما كانت عمليات المعارضة تتحرّك ضدّه، وقد كان هناك حماية عالمية لهذا الرجل للقيام بما يريد أن يقوم به، وذلك من خلال المخابرات الأمريكيّة، وحتى من خلال المخابرات السوفياتية آنذاك. لذلك خُدِعَ العراقيون عندما اعتقدوا أنّ أمريكا جاءت لتحرّرهم، ولكن المسألة هي أنّها جاءت لتنفيذ مشاريعها وحماية مصالحها في المنطقة، كما صرّح المسؤولون الأمريكيون عند احتلالهم للعراق. وقد كنت أول شخصية إسلامية أصدرت فتوى قبل بداية الاحتلال، أنّه لا يجوز مساعدة السلطات الأمريكية للسيطرة على الشعب العراقي في ذلك الوقت. وكنت ولا أزال أتحدّث عن أن مشكلة العراق هي في الاحتلال الأمريكي وليست مشكلة مذهبيةً بين السنة والشيعة؛ هذا الاحتلال الذي تتحرك مخابراته بالتحالف مع الموساد الإسرائيلي في العراق، إضافةً إلى القوى التكفيرية التي أعلنت أنها تريد أن تقتل الشيعة في العراق منطلقةً من فهم متخلّف للواقع الإسلامي. لذلك أعتقد أنّ الاستعانة بأمريكا هي "كالمستجير من الرمضاء بالنار".

* سماحة السيد، من المعلوم أن والد السيد مقتدى الصدر والى نظام صدام حسين حتى قُبيل مقتله، باعتبار أن ذلك هو ما تقتضيه مصلحة الشيعة ولو وقتياً. فكيف ترون ذلك الأمر؟

- أنا لا أعتقد أنه والى بالمعنى الّذي توحي به كلمة الموالاة، ولكنّه هادن، ومعنى المهادنة أنه لم يجد هناك أيّة ظروف تمكِّنه من مواجهة النظام، حتى إذا تحرّك من خلال بعض مواقع القوة التي حصلت له من خلال التفاف الشعب العراقي حوله، قام صدَّام باغتياله.

* وهل ترى سماحتك، أن تلك السياسة لها انعكاسات على مواقف مقتدى الصدر المتذبذبة والمتأرجحة؟

- مقتدى الصدر شخصٌ يعيش مشكلة اغتيال أبيه ومشكلة الشعب العراقي كلّه، ولكنّنا نعتقد أنه انطلق الآن في معارضة الاحتلال الأمريكي بطريقة وبأخرى، ولعلّي لا أذيع سراً إذا قلت إنّ بعض الذين يؤيّدونه يقومون بالمقاومة ضدّ الاحتلال الأمريكي.

* لكن في المقابل، بعض من يؤيّدونه أيضاً هم من يقومون ببعض العمليات الدّاخليّة...؟

- المشكلة التي حدثت في العراق، هي أنّ العمليات التي كانت تُقام ضد المسلمين الشيعة، والتي كان آخرها تفجير مرقد الإمامين العسكريين، أوجدت ردّ فعلٍ عند بعض الناس. ونحن نعرف أنّ كلّ مراجع الشيعة أصدروا فتاوى واضحة وصريحة، بأنّه لا يجوز أن يقوم أيّ مسلم شيعي بردَّة فعل ضد أيّ مسلم سنّي، وأنّ قتل المسلم للمسلم حرام، سواء كان سنياً أو شيعياً، وهذه الفتاوى محفوظة ومنشورة في هذا المجال، ولكن ما حدث في قضية تهديم مرقد الإمامين العسكريين أوجد صدمةً، وحالةً تُشبه حالة الجنون العاطفي، ما أوجب ترك ردود الفعل بعيداً عن الفتاوى التي يصدرها المراجع، وبذلك اختلطت الأمور في هذا المجال.

وأحبُّ أن أؤكِّد، أنَّ هناك بعض الكلمات وبعض الإثارات التي تتحدث عن أن المسلمين الشيعة يقتلون المسلمين السنّة ويهجّرونهم، لكنَّ الواقع أن القتلى هم من المسلمين السنّة والمسلمين الشيعة، كما أن التهجير مشترك فيما بينهم. ولعل أبشع صورة من صور التفجيرات الوحشية، هي ما حدث بالأمس من تفجير سوقين شعبيين تتحرك فيهما كلَّ الأطياف في العراق، سواء من السنة أو من الشيعة أو من المسيحيين وما إلى ذلك. لذلك أدعو كلّ الإعلاميين، وكلَّ العلماء والمسلمين، أن لا ينظروا إلى الأمور بعين واحدة، بل أن يدرسوا الواقع العراقي باعتباره واقع الفتنة التي يديرها الاحتلال، لأن المسؤولين الأمريكيّين ومنهم نائب الرئيس الأمريكي ديك تيشني، صرّحوا بأنّهم سوف يبقون طويلاً في العراق وفي المنطقة، ولعل من شروط بقائهم هو بقاء الفوضى الأمنية في العراق.

* قلت سماحتك، والكثيرون أجمعوا، على أن تفجير مرقد الإمامين العسكريين هو الذي فجَّر حالة الصراع السني الشيعي في العراق. فلماذا لا تدعو سماحتك، إلى تشكيل لجنة إسلامية للتحقيق في مسألة من المسؤول عن التفجير؟

- إن الواقع في العراق لا يسمح بذلك، لأن الفوضى الموجودة فيه؛ الفوضى المذهبية والسياسية والذهنية، إذا صحَّ التعبير، لا تسمح بأيّ موقف عاقل حيادي وأيّ تحقيق قضائي محايد.

* لم أقصد تحقيقاً قضائياً، بل تحقيقاً مرجعيّاً دينيّاً؟

- أنا قصدْتُ بالتّحقيق القضائيّ، التّحقيق الذي يتحرّك على أساس دراسة الأدلة الواقعية هنا وهناك.

* سماحة المرجع، يرى البعضُ أنَّ لكم اتجاهاً خاصاً فيما عُرف بالاتجاه العروبي في المرجعيَّة، في مقابل ما يسمَّى في الكتابات النَّاقدة بالاتجاه الصفوي، فما هي حقيقة ذلك؟

- أنا أعتقدُ أنَّ العروبة لا تمثِّل انحرافاً عن الخط الإسلامي، فعندما نزل الإسلام في البيئة العربيّة، لم يشعر العرب بوجود أيّة مشكلة فيما يطرح عليهم منه، لذلك آمنوا به واحتضنوه وساعدوه وانفتحوا عليه وأعطوه وأخذوا منه، لأنّ العروبة هي حالة إنسانية. وكنت أقول إنّ العروبة هي عبارة عن الإطار الذي يبحث عن الصورة، وكان الإسلام هو الصورة لهذا الإطار.

وإنما انطلقت العقدة من العروبة عندما تحركت بطريقة غير إنسانية، وذلك على حساب الأقوام الأخرى، وهو ما ولّد ما سمي بحركة الشعوبية التي قامت كردِّ فعل على التعصب للعرب، وفي الأربعينات صرنا نسمع كمحاكاة للنازية، أنّ العرب فوق الجميع مثلاً. وانطلقت الدعوة القومية أيضاً في ذلك الوقت لتقول إنّ العرب فوق الجميع، كما كان الآريّون يقولون إنّهم فوق الجميع، ثم بعد ذلك تأدلجت العروبة، حيث دخلت فيها الاشتراكية والماركسية، ما جعل المعارضة للماركسية والاشتراكية وليس للعروبة.

وأحب أن أُثير نكتةً في هذا المجال، وهي أنّ شخصاً كان له جمل، فنذر إذا شافاه الله أن يبيع الجمل بعشرة دراهم، وهذا الثّمن لا يساوي جزءً بسيطاً من سعر الجمل الحقيقي، وعندما شُفي، تحيّر واستشار بعض أصحابه في هذا الموضوع، فقال له خذ سنوراً (قطة) وعلّقها في رقبة الجمل، وقل إنّي أبيع السنور بألف درهم والجمل بعشرة دراهم، ولكن لا أبيع الجمل إلاّ مع السنور، فقال له بعضهم: ما أرخص الجمل لولا القلادة.

نحن نقول إنّ العروبة بحسب بعدها الإنساني، لا مشكلة من النَّاحية الإسلامية معها، وإنّما المسألة هي في الأيديولوجية التي أُدخلت في قلب العروبة. أمَّا الصفوية، فلا واقع لها الآن، كما أنّ المسلمين الشّيعة العرب ليسوا تابعين لإيران بالمعنى السياسي أو بالمعنى الديني، بل هناك من يؤيِّد إيران وهناك من لا يؤيّدها، أمّا مسألة الصّفوية، فهي لا تثبت أمام الواقع، لأنّ المسلمين الشيعة العرب مخلصون لأوطانهم. ونحن قلنا ولا نزال نقول في لبنان وفي غيره، إنّه ليس للشيعة مشروع خاصٌّ بهم، والشّيعة في العراق لا يريدون أن تحكمهم إيران، نحن في لبنان، كذلك لنا صداقات مع إيران ومع دول أخرى، ولكننا نشعر بأنّ علينا أن نقرِّر مصيرنا في البلاد التي نعيشها بحسب مصالحنا الأساسية.

* ما حقيقة ما يتردَّد حول الدَّعوة لنقل المرجعية من العراق إلى بلد آخر، نظراً للظروف الحالية التي يعيشها؟

- لم تكن المرجعيَّةُ أساساً منطلقةً من موقع معيَّن، بل كانت في أكثر المراحل في النَّجف الأشرف، وربّما كان أكثر المراجع من غير العرب، لأنّ المرجعية تنطلق من خلال الكفاءة العلمية والثقة الدينية. لذلك ليس هناك صراع بين حوزة النجف وحوزة قمّ، وبين مرجعية النَّجف ومرجعية قمّ. ونحن نلاحظ أنّ مرجعية النجف يتقدّمها السيد علي السيستاني، وهو رجل إيراني وليس عراقياً بحسب طبيعة الانتماء القومي والانتماء الجغرافي. لذلك ليس هناك من يستطيع أن ينقل المرجعية من مكان إلى مكان، لأنّها تتبع التزامات الناس وثقتهم.

* تفضَّلت وقلت إنّه لا يوجد مرجع عربي سوى سماحتك؟

- لا، كان هناك أيضاً مرجع عربيّ انطلقت مرجعيته في العالم الإسلامي، وهو السيد محسن الحكيم، والد السيد محمد باقر الحكيم.

* سماحة السيّد، يُعرف عنكم أنّ لكم رأياً في مسألة الجهاد، وأنّكم لا تقرّون بتفجير الناس أنفسهم وسط الأعداء، وتعتبرون ذلك انتحاراً وليس استشهاداً. ما حقيقة ذلك؟

- هذا الكلام ليس دقيقاً، فنحن، كما هو رأي الإسلام، نرفض الانتحار، لأنّ الله يقول: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}، ولكن عندما تكون هناك حرب شرعية، كما هي الحال في حرب الفلسطينيين المسلمين ضد إسرائيل، فالمسألة في المبدأ هي أنه لا يجوز للإنسان أن يفجِّر نفسه، ولا سيما في مكان فيه أطفال ونساء وشيوخ ومدنيون أبرياء، ولكن ربما تفرض الضرورة العسكرية أو الضرورة الجهادية القيام بمثل هذا العمل التفجيري، كما هو الحال بالنسبة إلى الفلسطينيين، إذ نلاحظ أن إسرائيل تستخدم ضدّهم الطائرات الحربية التي لا تُستعمل إلاّ في الحروب الكبيرة، والصواريخ الّتي توجّهها ضد المدنيين، وما إلى ذلك من اغتيالات واعتقالات، بحيث يحاصرون الفلسطينيين في كلِّ مواقعهم، ويدمِّرون كل بنيتهم التحتية، ويستحلّون قتل أطفالهم ونسائهم وشيوخهم بصواريخهم. في هذا المجال، قد لا يملك الفلسطينيون، أمام ما يفعله الإسرائيليّون بحقّهم، إلاّ أن يفجِّروا أنفسهم بهم، من أجل أن يثبتوا لهم أنهم لن يدعوهم يحصلون على الأمن ما داموا هم لا يحصلون عليه. وفي هذه الحالة، تكون العمليات الاستشهادية عمليات جهادية، ويكون الحكم الشرعي هو شرعيّة هذه العمليّات من خلال أيّ وسيلة جهاديّة في هذا المجال

* في دستور حركة حماس أنّ أي أرض فلسطين وقف إسلامي؟

- ليس وقفاً إسلامياً بمعنى المصطلح، بمعنى أنّ هناك من أوقفها على المسلمين أو على الساكنين فيها، لكن هناك مسألة شرعية موجودة في الفقه الإسلامي، وهي أنّ الأراضي المفتوحة عنوةً، أي المفتوحة بالقوّة، لا تُملك، بل هي ملكٌ للمسلمين ينتفعون بها، ويدفعون خراجها أجرة انتفاعهم بها لوليّ الأمر، وهذا أمرٌ يراهُ فقهاء المسلمين من السنَّة والشيعة، فهي لا تُملك إلاّ تبعاً للآثار. وأمَّا نفس الأرض، فهي للمسلمين جميعاً، وعندما يقصدون بها هذا المعنى، فهو صحيح، أما إذا قصدوا الوقف بمعناه المصطلح، فهي ليست وقفاً اصطلاحياً كما هي الأوقاف المعروفة في البلاد الإسلامية.

* إذا كان قول الفقهاء بأنّه يحقُّ لوليّ الأمر أن يتصرف بالوقف، فهل ترى أنّ "أبو مازن" له الحق في أن يتصرف بفلسطين؟

- إنّنا عندما نتحدَّث عن وليّ الأمر، فإنّنا نقصد به وليّ الأمر الشرعيّ الذي يملك شرعيَّة الولاية، وحتى وليّ الأمر الشرعيّ ليس له الحق في التصرف إلاّ ضمن البرنامج الشرعي القانوني الإسلامي.

* سماحة السيد، هناك محطات لعلاقتكم بحزب الله، يرى البعض أنها تكشف عن تذبذب، فما هو تفسير ذلك؟

- إنّني منذ انطلقت في عملي الإسلامي، منذ الخمسينات، كنت أنفتح على كل الأجيال الإسلامية في العالم الإسلامي، ولا سيما المسلمين الشيعة، سواء في العراق أو في لبنان أو في الخليج في غيرها من الأماكن، وقد كان شباب حزب الله من الشباب الذين يستمعون إلى محاضراتي وأفكاري، ولكنّني لم ألتزم حزباً معيَّناً، ولم أعط أيّ حزب شرعيةً مطلقة، بل كنت أدرس خطواته وبرامجه ومناهجه، فأوافق على بعضها ولا أوافق على بعضها الآخر. كذلك الأمر بالنسبة على حزب الله، فهو حزبٌ له قيادته الخاصة ومرجعيته الخاصة، فربما يختلف معي في بعض الخطوط، كما بالنسبة إلى ولاية الفقيه، وقد أختلف معه في ذلك. فالمسألة ليست مسألة تذبذب، ولكنّها مسألة اختلاف في وجهات النظر وفي الموقف، وأنا لا أفرد نفسي لجهة معينة، بل أنفتح على العالم الإسلامي بكلّه. وأحب أن أذكر طرفة في هذا المجال، وهي ما قاله الشاعر الغزلي المعروف عمر بن أبي ربيعة، عندما رآه بعض الناس وهو يتطلّع إلى النساء الجميلات أثناء الطواف، فقيل له، أفي هذا الموقف يا أبا حفص، قال: "إني موكلٌ بالجمال أتبعه". وأنا قلت لهم، إنّي موكل بالإسلام أتبعه، فأنا أتابعُ كلَّ موقع إسلامي، وكلَّ قضية إسلامية في أيّ مكان في العالم الإسلامي، في كلّ التحديات التي يواجهها المسلمون، لأعالجها وأؤيدها، ولأتخذ الموقف الإسلامي المناسب تجاهها. هذه هي القضية، فأنا مع كل الحركات الإسلامية، ولكن هذا لا يعني إعطاءها الشرعية بالمطلق، بل ندرسها لنقبل ما نراه إيجابيّاً فيها ونترك السلبي.

* كيف تفسرون مشاركة أحزاب إسلامية في نظام حكم ليس إسلامياً؟

- ربما يعتقد بعض الإسلاميين أن بإمكانهم أن يحققوا بعض أهدافهم فيما يفكرون فيه من قضايا الناس مع هذا الحزب العلماني أو غير الإسلامي.

* ما معنى الوحدة الوطنية من منظور إسلامي؟

- نحن نقول بالوحدة الوطنيَّة عندما يعيش الوطن تنوّعاً في الأديان وتنوعاً في الاتجاهات، حيثُ لا يكونُ هناك إمكانية واقعية لحكم إسلامي يفرض الإسلام على المجتمع كلّه. عند ذلك نقول إنّه من الممكن قيام دولة ترتكز على حقوق المواطنة، حيث تأخذ بأسباب العدل بالقدر الممكن لتحقيق العدالة بين النَّاس في الحقوق والواجبات.

* سماحة المرجع، هل لنا بكلمة موجَّهة إلى الشعب المصري؟

- إنّنا نقول لكل إخواننا ولكلِّ أهلنا في مصر، إنَّ مصر تمثِّل قلب العالم الإسلامي وقلب العالم العربي، وإنّ مصر تنفتح في موقعها الجغرافي على الخطِّ الإسلامي والخطِّ العربي والخطِّ الأفريقي. ونعتقد أن لمصر دوراً كبيراً على مستوى الثقافة الإسلامية المنفتحة على كلِّ قضايا المسلمين، ولا يزال المسلمون في العالم يتذكرون الشيخ محمد عبده والسيد جمال الدين الأفغاني، ويتذكّرون أيضاً حركة التقريب التي كان يقودها الشيخ محمود شلتوت والشيخ عبد المجيد سليم وغيرهما من الكبار الذين آمنوا بالوحدة الإسلامية.

إنّنا ندعو المسلمين في مصر الذين عاشوا قوة الإسلام وعزّته، إلى الأخذ بأسباب الوحدة الإسلامية، وأن لا يتقبَّلوا أيّ شخص يريد إثارة الفتنة، وأن يدرسوا القضايا التي يختلف عليها المسلمون دراسةً موضوعيةً، وأن ينفتحوا على قضايا الحرية والعزّة والكرامة للمسلمين.

إنّنا نريد للمصريين أن يتكاملوا مع كلِّ العالم العربي في مواجهة الاستكبار العالمي، لأنّ الاستكبار العالمي لا يريد خيراً لمصر ولا للعرب وللمسلمين جميعاً، بل إنّه يحاول أن يجعل إسرائيل فوق الجميع في كلِّ ما يمنحها من قوَّةٍ في هذا المجال. إنّنا نقدِّر للشعب المصري أنه لم ينطلق في عملية التطبيع مع الإسرائيليين حتَّى عندما حدثت العلاقات الدبلوماسية بين مصر وإسرائيل. كما أنَّنا نلتقي معه في محبَّته لأهل البيت(ع)، وخصوصاً السيدة زينب (أم هاشم) والإمام الحسين، وفي انفتاح هذا الشعب على النبي(ص) وعلى أهل بيته وعلى كل صحابته الكرام.

لذلك نريد للأخوة في مصر أن ينفتحوا على قضايا العالم الإسلامي في كلِّ التحديات التي تواجهه، ونحن نقدِّر، بكلِّ قوة، موقف الشعب المصري تجاه الشعب اللبناني والمقاومة الإسلامية في مواجهتها للعدو الإسرائيلي وانتصارها على الجيش الذي قيل عنه إنّه لا يُقهر، في عدوان إسرائيل في تموز.

إنّنا نريد أن نتكامل معكم ونتواصل معكم، وأن نعيش الوحدة الإسلامية معكم، وأن نرفض كلَّ الذين يريدون إثارة الفتنة في داخل مصر بين الأقباط والمسلمين، لأنّ مصر لا تعرف في تاريخها مثل هذه الفتنة، فمصر كانت منفتحةً ومتسامحةً، ونحن مع الانفتاح ومع التسامح، نحن مع الحوار الإسلامي ـ المسيحي، ومع أيّ حوار، لأن الحوار هو وحده الذي يمكن أن يحل المشكلة. فلنتحرّك بالمحبة، بالرحمة، بالتّواصي بالحق ولتواصي بالصبر.

* أخيراً، أريد أن أسمع تعليق سماحتك على ما يردِّده البعض، أنّ هناك محاولة لنشر التشيّع في مصر؟

- كنت أقول إنّني أتحدَّى وبمحبّة من يتحدَّث عن هذه المسألة على مستوى الظاهرة، بمعنى أن هناك خطّة شيعية تنطلق من المرجعيات الشيعية في سبيل التحرّك من أجل تشييع السُّنة. إنّني أطلب من كلِّ هؤلاء، أن يقدِّموا لنا إحصائيات دقيقة تنطلق من البحث الدقيق العميق في هذا المجال. ربما تحدث بعض الحالات التي يُقنع فيها شيعي سنياً بالتشيّع، كما أنّنا نعرف في لبنان وفي العراق وفي غيرها من البلدان، أنّ هناك سنّة أقنعوا بعض الشيعة بالتسنّن، ولكن كلّ ذلك يبقى في إطارٍ فرديّ ومحدود. وأنا أرفض بكلّ محبة، اعتبار هذه المسألة ظاهرة في العالم الشيعي وفي العالم السني، وأعتبر أن الذين أطلقوها إنما أطلقوها من خلال الخطة الاستكبارية التي تقودها أمريكا من أجل تعقيد العلاقات بين السنَّة والشيعة.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى، مسألة الأفكار هي من الأمور الّتي لا يمكن أن يفرضها فريق على فريق، لأن الأفكار، سواء كانت في الدائرة الإسلامية أو في الدائرة غير الإسلامية، هي ملك الإنسان الذي يقتنع أو الذي يُقنع في هذا المقام. وأنا أتساءل: لماذا تُثار القضيَّة في الدائرة الإسلامية الشيعية، ولا تُثار بالنّسبة إلى الملحدين الذين يريدون أن يقنعوا المسلمين بالإلحاد، أو بالنّسبة إلى أتباع الديانات الأخرى الذين يبشِّرون المسلمين ويقنعونهم بالانتماء إلى دينهم وإلى أن يتركوا الإسلام؟ لماذا هذا التأكيد على إثارة الحساسيات في الدائرة الإسلاميّة وكأنّه لم يعد هناك في العالم كلّه من يقف ليواجه الإسلام، حتّى ننشغل بمثل هذه الأمور؟ نحن نعرف أن هناك حرباً عالمية تقودها أمريكا ضد الإسلام كلّه، وأنّ الحلف الأطلسي عندما انعقد بعد سقوط الاتحاد السوفياتي تساءل من هو العدوّ؟ وقيل إن العدو هو الإسلام، فلماذا لا يكون الحديث عمّا يصيب الإسلام كلّه والمسلمين كلهم لإخراجهم عن الإسلام، بينما يتمّ التّركيز على المسألة السنية الشيعية، فيما لا أساس له في الواقع؟!

الشكر كلّ الشكر لسماحة المرجع على ما قدّمه، وشكراً لكم.

مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 26 صفر 1428 هـ  الموافق: 15/03/2007 م
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية