حوار مع العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله
* ما هي تصوّراتكم لدراسة فكر الثورة الحسينية في إطار معالجة قضايا الأمة؟
- عندما ندرس قضية الإمام الحسين(ع)، فإنّنا لا بد من أن نبدأ بدراسة شخصيته في كل منطلقاته الروحية والإسلامية بشكل عام، بحيث نتابع الإمام الحسين(ع) في حياته مع أبيه الإمام علي(ع)، ومع أخيه الإمام الحسن(ع)، وكيف واجه الأحداث التي أحاطت بتلك المرحلة، وكيف تأثَّر إيجاباً بأسلوب أبيه وبالقضايا التي واجهته، وبالتحديات التي تعرَّض لها. وهكذا في إدارة الإمام علي(ع) لمسألة الخلافة في إبعاده عنها، وعلاقته بالخلفاء الذين سبقوه، وكيف عبّر عن الموقف في كل ما يتصل بالواقع الإسلامي آنذاك امتداداً إلى الحروب التي فرضت عليه في الجمل، وصفين، والنهروان. وهكذا بالنسبة إلى حركة الإمام الحسين مع أخيه الإمام الحسن(ع)، وكيف واجه الأوضاع القاسية الصعبة التي انتهت بالهدنة التي عُقدت مع معاوية بن أبي سفيان، وكيف عاش التجربة الإسلامية بعد وفاة أخيه الإمام الحسن(ع)؛ لماذا لم يعارض معاوية؟ لماذا كان يطلب من أصحابه أن يهدأوا حتى يموت معاوية؟ هل هو التزام بما اتفق عليه الإمام الحسن مع معاوية وتوقيعه على وثيقة الهدنة أو وثيقة الصلح وما إلى ذلك؟ ثم نحاول دراسة أسلوب الإمام الحسين لندقّق في كلِّ النصوص التي رويت عنه أو نسبت إليه، فقد نلاحظ أن هناك بعض النصوص التي لا تنسجم مع حركة الإمام الحسين(ع)، كما هو في النص الذي نسب إليه: «وخيرٌ لي مصرعٌ أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي تُقطِّعُها عُسلان الفَلَوات بين النواويس وكربلا».
* هل تشكّون في هذا النص؟
- أنا أرفضه، لأنه ليس من الطبيعي أن يكون الإمام الحسين(ع) قد خرج لطلب الإصلاح في أمة جده رسول الله(ص) يريد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويريد تغيير الواقع الإسلامي، ثم يتحدث بهذه اللغة المأساوية عن مصرعه من دون أن يتحدث في هذه الخطبة عن خطته وعما يفكر فيه وعن الواقع الإسلامي آنذاك. لا بد من أن ندرس، إذا وجدت هناك نصوص موثوقة، كيف مارس الإمام الحسين(ع) عملية الدعوة في مكة، وكيف تحرك في طريقه إلى العراق حتى وصل كربلاء، وأن ندقق في كل كلماته التي توحي بأن الحسين لم يخرج مقاتلاً، وإنّما خرج إماماً مُصلحاً مغيّراً للواقع منفتحاً على وعي الناس، من أجل أن يصل بالناس إلى حقائق الإسلام على مستوى النظرية وعلى مستوى الواقع. ثم يختم كلامه بالقول: «إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مُفسِداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمةِ جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي عليّ بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحق، فالله أولى بالحق، ومن ردَّ عليَّ هذا أصبرُ حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين». فالظاهر أنَّ هذه الخطبة هي التي تمثِّل الإمام الحسين(ع) في خطِّ الفكر والتطبيق للعملية الإصلاحية التي انطلق بها لتغيير الواقع الفاسد.
وعندما نقرأ كلمته(ع): «فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ومن رد عليَّ أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحقِّ وهو خير الحاكمين»، فلا بد من أن ندرس هذا النص لنعرف أن الإمام الحسين(ع) خرج كجدِّه رسول الله(ص)، إماماً مصلحاً متحركاً في رسالته من أجل تغيير الواقع بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن. على هذا الأساس، كان حوارهُ مع الحرّ بن يزيد الرياحي، وهكذا كان حواره مع جيش عبيد الله بن زياد في كربلاء. إلاّ أن الإمام الحسين(ع) وقف وقفة الاستشهاد عندما طلب إليه أن يعطي الشرعية ليزيد بن معاوية، إضافةً إلى الانصياع لأمر ابن زياد والي بني أمية على الكوفة، وأن يُعطي الشرعية للحكم بالمطلق، لكل ما يقوم به يزيد، ولكل ما يقوم به ابن زياد، عند ذلك قال لهم كلمتهُ المعروفة: «لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرّ لكم إقرار العبيد». «ألا وإنّ الدعيَّ ابن الدعيِّ قد ركز بين اثنتين، بين السِلَّة والذلة، وهيهات منّا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحُجُورٌ طابت وطَهُرتْ، وأنوف حميّة، ونفوس أبيّة، من أن نُؤثرَ طاعةَ اللِئام على مصارعِ الكرام».
إذاً، لا بد من أن ندرس ذلك كلّه، وندرس الأسلوب الحسيني في حركتهِ القتالية من النصوص الموثوقة، لأنّ العاطفة أدخلت في المأساة أشياء كثيرة. لذلك، علينا أن نعرف كيف كان الإمام الحسين(ع) يفكر في حركة الدعوة، وفي أسلوب الدعوة، وفي حركة القتال، وفي العناوين التي فرضت القتال.
* لماذا آل الأمر إلى أن يدفع الإمام الحسين(ع) حياته ثمناً بتلك الطريقة المروعة في عاشوراء؟
- قلنا إن الإمام الحسين(ع) انطلق من أجل تغيير الواقع، وتغيير ذهنية الناس، لكي ينسجم ما يفكرون به مع ما يتحركّون به، لا أن يبقوا كما وصفهم الشاعر الفرزدق: «قُلوبُهم معك وسُيوفُهم عليك»، وأراد تغيير واقع الحكم وواقع السلوك. لذلك فإنّ الحسين(ع) خرج ثائراً، لكنّه في خروجه كان مسالماً، بمعنى أنه لم يضع في حساباته أنه يريد أن يقاتل من دون أن تكون هناك أيّة ظروف واقعية للقتال بالمعنى الذاتي أو بمعنى الخطة التي يبادر فيها إلى القتال، بقطع النظر عن التحديات التي يواجهها من الآخرين. ولكن عندما بادر القوم بحشد الجيوش ليفرضوا عليه النـزول على حكم يزيد بن معاوية وعبيد الله ابن زياد، لكي يعطي الشرعية التي رفض إعطاءها سابقاً عندما التقى مع والي المدينة بعد الإعلان عن وفاة معاوية واستخلاف يزيد، وقف الإمام الحسين(ع) الموقف الذي لا يملك فيه أن يتفق معهم. وعندما واجه(ع) الموقف، رأى أن القوم لن يتركوه، لهذا بادر إلى تهيئة الظروف الصعبة جداً، ليدخل في مواجهته لهم بهذه الطريقة التي لا تزال تهزُّ الضمير الإنساني.
* ما هو السّـرّ الإلهي في أن لا تأخذ الأمور مجرياتها الطبيعية، ابتداءً من خروج أبينا آدم(ع) من الجنة، وصولاً إلى المجزرة التي طاولت حفيد خاتم الأنبياء الإمام الحسين(ع) ومن معه في كربلاء؟
- هناك نقطة يجب أن نفهمها من خلال القرآن، وهي أنَّ الله سبحانه وتعالى لم يُجرِ الأمور على أساس الغيب والمعجزة، بل أجرى الأمور منذ أن جعل في الأرض خليفة، على حسب القوانين التي وضعها في طبيعة الإنسان، وفي طبيعة الظروف المحيطة به في كل نقاط الضعف ونقاط القوة. فالله سبحانه وتعالى عندما أدخل آدمٍ في التجربة الصعبة، فإنّما كان ذلك من أجل تدريبه على مواجهة الموقف في الجنة قبل أن يواجهه عندما ينـزل إلى الأرض، لأن آدم خلق للأرض ولم يخلق للجنة {
إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}(البقرة/30). لذلك، فإنَّ الله سبحانه وتعالى أراد لآدم أن ينطلق بكلِّ نقاط ضعفه وبكل بساطته {
وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}(طه/115) ليعيش هذه التجربة ليعرِّفه من خلال ما أحاط به، ومن خلال ما وقع فيه، أنَّ هناك مخلوقاً يَغشُّ ويقسم بالله كذباً ويخدع وهو ليس إلاّ إبليس. ولذلك أنزله الله معه إلى الأرض، ليعيش التجربة الواقعية. أما ما حدث للأنبياء الذين قتلوا من قبل بني إسرائيل ومن قبل غيرهم، أو ما حدث للرسول(ص) في المشاكل التي واجهها في الدعوة وفي الضغوط والحروب التي خاضها، مما فرضهُ عليه القرشيون المشركون، وهكذا الحال بالنسبة إلى الإمام علي(ع)، فإنّ الله سبحانه أجرى الأمور بحسب طبيعتها، وهكذا بالنسبة إلى قضية الإمام الحسين(ع)، فإن الله أجرى الأمور على حسب طبيعة الظروف الموضوعية التي أحاطت بعلي والحسن كما أحاطت بالحسين(ع)، ولو كان الله يريد أن يربط المسألة بالغيب أو بالقضاء والقدر في هذا المجال، لكان قادراً على أن ينجي الحسين وينقذه، وأن لا يجعله يخوض هذه المسألة المفجعة القاسية في كل ما واجه سبط رسول الله في كربلاء.
* ما هي أهميَّة النَّهضة الحسينية على مرِّ التَّاريخ؟
- نحن نرى أنَّ النَّهضة الحسينية هي من المسائل التي يمكن أن نستوحي منها التجربة الإنسانية الرائعة التي تمثَّلت في موقف الإمام الحسين(ع) في كلِّ خطوط التجربة، ثم في روح الإمام الحسين(ع) التي تقدِّم كلَّ شيء؛ تقدِّم أطفالها وشبابها وأصحابها، ثم تقدِّم حياتها من أجل قضية عادلة، هي قضية الإسلام؛ القضية التي يؤمن بها الإمام الحسين(ع). ويمكن أن نستفيد من كلِّ ذلك الخطّ العام، وهو أننا نستطيع أن نقدِّم قضية الإمام الحسين(ع) إلى العالم كلّه باعتبارها قضية الإنسان العظيم الذي أعطى كلَّ شيء لله. إننا نلاحظ مثلاً أنّ المسيحيين الذين يعتقدون بأنّ السيد المسيح(ع) قُتل وصُلب وضحَّى بنفسه في سبيل الناس، وأنّه جاء ليكفّر عن هذه الخطيئة الإنسانية التي بدأها آدم، نلاحظ أنّهم يحتفلون بالمأساة التي يفترضونها في السيد المسيح، وفي تضحيته، وفي كونه الفادي، مما يخضع للمناقشة بيننا وبينهم، ولكننا عندما ندرس الإمام الحسين(ع)، في كل المأساة الواقعية والحقيقية الّتي حدثت معه، نجد أن العناصر الموجودة في موقف الحسين، تتميَّز بشكل فوق العادة عن العناصر التي يُتحدَّث بها عن المسيح، كما إننا عندما نريد أن نقارن بين العناصر النفسية المأساوية التي عاشتها السيدة مريم(ع)، والحالة النفسية المأساوية التي تتميّز بالصلابة والشجاعة والتحدي ورد التحدي التي عاشتها السيدة زينب(ع)، نجد بوناً كبيراً. لكنَّ المشكلة أنَّ أتباع أهل البيت(ع) أدمنوا مسألة المأساة في قضية الإمام الحسين(ع)، وابتعدوا كثيراً عن مسألة الرسالية الإنسانية المنفتحة على الواقع الإسلامي كلّه، وعلى خطِّ الإسلام كلّه، وهذا ما جعلهم يسجنون قضية الحسين في سجن المأساة بعيداً عن كل الإيحاءات الرسالية والإنسانية التي يمكن أن تجعل هذه القضية قضية تتسع لكلِّ ما عاشه الإنسان.
* لكنّنا لا نستطيع إغفال الدور التغييري والتعبوي لاستذكار المأساة الحسينية؟
- إنّنا لا ننكر قيمة المأساة وقيمة العاطفة في القضية الحسينية، لأنّه لولا الجانب المأساوي والأسلوب العاطفي لماتت القضية. إنَّ كثيراً من قضايا ثورات الحق على الباطل ـ وقد كتبتُ ذلك في أكثر من كتاب من كتبي ـ ذات صلة بالعاطفة وبالقضية الحسينية، لكنَّ هناك فرقاً بين أن تُحرِّك العاطفة كقضية شخصية، وبين أن تحرك العاطفة كحركة في خط الرسالة، فالأسلوب الذي يُطرح ويحرّك في القضية الحسينية هو أسلوب المأساة في علاقتنا بالإمام بصفة شخصية، لا علاقتنا بالحسين الإمام والحسين الرسالة والحسين التغييري. لذلك أصبح القارئ والخطيب الناجح عندنا هو الذي يملك صوتاً شجيّاً يستدرُّ به الدموع، وهو الذي يمكن أن يأتي بكثير من القضايا الخرافية غير الواقعية التي يحشدها في المأساة من أجل أن يثير المشاعر في هذه المسألة.
* ألا ترى معي أنَّ المسلمين في إيران، وأبناء المقاومة الإسلامية في لبنان، قد استطاعوا تطوير استذكار المأساة باتجاه النهضة؟
- أنا لا أتكلَّم بالمطلق، ولكني أتكلم عن الظاهرة. ونحن نعرف أن الإمام الخميني(قدس) استطاع أن يحرِّك عاشوراء في اتجاه عملية التغيير ضد المستكبرين، ونعرف كلمته: (كُلّ ما عندنا من عاشُوراء). وهكذا امتدت إيحاءات هذا الثائر الكبير إلى المقاومة الإسلامية في لبنان، والتي استطاعت أن تقدِّم التضحيات الهائلة لتهزم إسرائيل في نهاية المطاف. ولذلك نحن ندعو إلى تحريك عاشوراء الرسالة والقضية والحرية والعزّة والكرامة، وأن نحرّك المأساة في هذا المضمون، لا أن نحركها كمسألة ترتبط بالحسين شخصياً ولا ترتبط به رسالياً.
* ماذا وراء اتهام الشيعة العرب بأنهم فرس، وتعجيم عاشوراء إذا عاشها الإيرانيون أيام شهري محرّم وصفر؟
- أنا أعتقد بأنها تهمة باطلة، لأنّ مسألة التشيُّع ممتدَّة عبر التاريخ، ونحن نعرف أن أكثر الشيعة هم عرب وليسوا فُرساً، وإذا كانت أغلبية الفرس قد دخلت في التشيُّع، وركَّزت كل أحداث التشيُّع في خطابها وفي عاداتها وتقاليدها ومقدَّساتها، فليس معنى ذلك أن التشيّع العربي لم يكن هو الأصل.
نحن نعرف أن التشيّع عاش في العراق، ولم يكن العراق فارسياً، وعاش في لبنان وعاش في كثير من المواقع العربية. إذاً فهذه التهمة انطلقت من خلال القلق في الأوضاع السياسية التي تحاول أن تحرك الجانب المذهبي، والجانب القومي، من دون الالتفات إلى أن التشيُّع انطلق من حالة ثقافية فكرية تستند إلى الكتاب والسنّة، بل الادعاء بأنه انطلق من حالة قومية فارسية تتحرك من أجل إسقاط الإسلام أو من أجل إسقاط العالم العربي في مسألة الشعوبية وما إلى ذلك. إن هذه المسألة انطلقت من خلال الإرباك السياسي الذي يعيشه هؤلاء الذين يتهمون التشيع بالفارسية لعقدة مذهبية معينة.
* هل ثمة حقيقة بين ما يُقال عن حال تخاصم بين هاشم وبني أمية ساهم في أن تصل الأمور إلى ما وصلت إليه في عاشوراء؟
- تاريخياً، نحن نعتقد أن الحسين(ع) لم يطرح القضية الهاشمية والأموية في كلماته. ولو أردنا أن ندرس عناوين الخطاب الحسيني في عاشوراء، لرأيناها عناوين الإسلام، أما الحكم الأموي، فلم يكن مُستَغرباً عليه أن يعتمد أشخاصه الخطابَ القبليَّ والعشائريّ في التعامل مع كلِّ ما كان يعتبر تهديداً لسيطرتهم، وذلك لأنهم كانوا يعيشون المسألة العائلية في فهمهم للواقع، وهذا ما قاله أبو علاء المعري:
عبد شمس قد أضرمت لبني ها شم حرباً يشيب منها الوليدُ
فابن حرب للمصطفى وابن هند لعلـيّ وللحســين يزيـدُ
إنّنا نقول إنّ القضية ليست قضية بني هاشم وبني أمية. فمن الممكن جداً أن يكون بنو أمية والذين وقفوا معهم ضد الإسلام، ثم معاوية بن أبي سفيان، ثم يزيد بن معاوية، ربما كانوا يفكرون من خلال العقدة الأموية ضد الهاشمية، لأنّهم لم ينفتحوا على المسألة الإيجابية في هذا المجال. وقد انطلق كثير من المحلِّلين في تحليلهم لمسألة الصراع الأموي الهاشمي الذي تتمثّل رموزه في النبي محمد(ص) وفي علي والحسن والحسين(ع)، فحاولوا أن يفسروا ذلك تفسيراً عائلياً، إلاّ أنّ هذا التفسير لا واقعية له، حتى إن الشيعة ـ كُلَّيَةً ـ لم يرتبطوا بالنبي(ص) كونه هاشمياً. ولذلك نلاحظ أن الله سبحانه وتعالى قد أنزل سورة في ذمِّ أبي لهب، ولم يُنـزِّل في ذمِّ أبي جهل أية سورة قرآنية، رغم أنه كان أعتى أعداء النبي من مشركي قريش.
* لماذا يوم عاشوراء؟ وبِمَ تفسرون اختلاف الروايات حول استذكاره إلى حدِّ التناقض؟
- إنَّ عاشوراء هو يومٌ للإسلام، والحسين(ع) قال: «إنما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمة جدي». وعندما يصرِّح حفيدُ رسول الله(ص) بهكذا خطاب، فإنه يمثِّلُ تجسيداً حيّاً للقيم الإسلامية والإنسانية في العزَّة والكرامة والمحافظة على استقامة المسيرة التي جعلها الله أمانةً في أعناقنا جميعاً، وفي محاربة الظلم والفساد في كلِّ عصر. وهو يؤكد أن الإصلاح في أمة جدّه المصطفى(ص)، هو مسؤولية كل فرد من أفراد هذه الأمة، كلٌّ بحسب دوره وإمكاناته في كل المجالات. ولكن هناك روايات تقول إنّ النبيَّ موسى(ع) كأنه انتصر في عاشوراء، وعلى ضوء هذا اعتبر يوم عاشوراء يوماً مباركاً، من جهة ارتباطه بالنبيِّ موسى. وبهذا تفسّر الروايات التي تُروى عن الرسول(ص) بخصوص هذا اليوم. لكنَّ الذكرى تطوَّرت عندما احتفل بها بنو أمية على أساس انتصارهم في يوم عاشوراء على الإمام الحسين(ع).
إذاً، في رأيي ليس ليوم عاشوراء كموقع في الزمن، قداسة ذاتية، وإنّما المسألة هي أن ثورة الإمام الحسين وتضحياته ومأساته، هي التي جعلت من عاشوراء شيئاً يوحي بالقداسة.
* من وراء صُنع الفرح والتبرك والصيام في يوم عاشوراء؟
- نحن نرى أن عاشوراء فيها خطَّان: الخط الأول، وهو ما يرويه بعض الرواة عن النبي(ص) من استحباب الصيام فيه باعتبار ارتباط هذا اليوم بمسألة موسى(ع)، لكنّنا لم ندقِّق في صحة هذه الروايات أو عدم صحتها.
الخطِّ الثاني: وهو اعتبار يوم عاشوراء عيداً، فإنّ الأمر كان ينطلق من خلال بني أمية الذين ركّزوا ذلك في وجدان الناس من خلال الدعاية والإعلام الموجَّه ضدَّ هذه الروايات التي تقول بارتباط عاشوراء بالنبي موسى(ع). وإنني لم أدرسها دراسةً علمية، ولكن بالنسبة إلى بني أميَّة، أنا أقطع بأنّهم تعمَّدوا التمويه على واقعة عاشوراء الحسين(ع) المفجعة من خلال جعلها عيداً ويوماً للتبرك.
* لماذا يتحسَّس البعض من الاستذكار السنوي لعاشوراء، حتى وصل الأمر بهذا البعض إلى اعتبار خروج الإمام الحسين(ع) بأنّه تمزيق للأمة أصلاً؟
- أقول: لو ترك لهؤلاء الأمر، لقالوا ما قالته قريش عن النبي(ص) عندما انطلق بدعوته، بأنه سفَّه أحلامنا، وأثار المشاكل عندنا، وجعلنا ندخل في حروب... فالذين لا يملكون معنى الحق والباطل في المعركة، من الممكن جداً أن يقولوا بأنَّ أية ثورة ضد الباطل هي تمزيق للأمة الملتزمة. لكن القضيَّة أن هؤلاء لا يعيشون الحالة الرسالية التي تجعل القيادات تدخل في صراع لم تفرضه هي في الجانب العُنفي، بل فُرِضَ عليها، فكانت في موقع الدفاع عن نفسها، ولم تكن في موقع مواجهة الواقع.
* ما معنى شيوع ظاهرة التكفير في القرن الحادي والعشرين، ولا سيما ضد أتباع أهل البيت(ع)؟
- إننا نعتقد أن التكفير مسألة تاريخية، بل وتكفير الشيعة بالذّات هو مسألة تاريخية، وهناك الكثيرون ممن يحركون الثقافة الإسلامية في وجدان المسلمين، يتحدثون عن تكفير الشيعة، وفي مقدّمهم السلفيون الوهابيون، فهؤلاء يستحلّون دماء الشيعة، ويعتبرونهم كفاراً لا يجوز الزواج منهم، ولا تؤكل ذبائحهم وغير ذلك. وقد سمعنا الكثير من هذا في بعض المناطق والبلدان، لكن لم تكن هناك ظروف تقتضي الامتداد في مسألة القتل واستحلال دماء المسلمين الشيعة، إلى أن رأينا بعض الأحداث في العراق، حيث صرَّح زعماء التكفيريين باستحلال دماء الشيعة لأنهم كفَّار، ولأنهم مرتدُّون، إلى غير ذلك من الكلمات اللامسؤولة في هذا المجال. وهناك أيضاً في السلفية الوهابية من يكفِّر المسلمين الآخرين الذين يؤمنون بالشفاعة للأولياء ويزورون قبور الأولياء. إنّ هذه المسألة تمثّل انحرافاً في فهم الكتاب والسنة.
* لِمَنْ يجب توجيه الخطابات والنداءات لتقويم هذا الانحراف الفكري؟
- علينا أن نمارس الخطاب بطريقة ثقافية موضوعية عقلانية وإسلامية، لتوعية الناس في هذا المجال، كما إنّ علينا أن ننفذ حتّى إلى الجانب الشّيعيّ الّذي دخله بعض الغلوّ، لنحاول تطهير الذهنية الشيعية من حالات الغلو التي تجعل الآخرين يتجهون إلى رميهم بالكفر والضلال.
* ألا تستدعي خطورة الموقف محاورة علماء السلفية في السعودية بشكل خاص؟
- في تصوري أن هناك شيئاً ما في الحوار بدأ، ولكنّني أتصوّر أنه لا يزال في الجانب السياسي، ولم يمتد إلى الجانب الثقافي.
* كيف يمكن أن نطور الخطاب الحسيني لجميع أبناء الأمة بعيداً عن أية مذهبية؟
- عندما نطرح الإمام الحسين(ع) إماماً لم ينطلق في خطابه من حالة مذهبية، بل انطلق من خلال الإسلام، وبخطاب إسلامي، فعلينا أن نحرّك المفردات الإسلامية في الخطاب الحسيني، لنقدم الحسين(ع) إماماً مصلحاً محبوباً من كل المسلمين، وأن نقدم ثورته على أساس أنها ثورة إسلامية لتغيير الواقع الإسلامي الداخلي إلى الأفضل، فبذلك نستطيع أن نجمع كل المسلمين على القضية الحسينية.
* هل ينبغي، لتجسيد أهداف عاشوراء وثورة الإمام الحسين، الخروج على الحكام والأنظمة؟
- إن الإمام الحسين كان مُصلحاً يركّز مفاهيم القرآن ومفاهيم السنّة، ولكنّه حوَّل خروجه إلى حركة تنفتح على التضحية وعلى الثورة وتنفتح على الخط التغييري. في هذا المجال، يمكننا أن نقدم الإمام الحسين(ع) كإنسان يحرّك القرآن ويحرّك السنّة في اتجاه تغيير الواقع المنحرف والواقع الظالم الذي كان يضرب بظلاِلِه في حياة المسلمين.
* سماحة السيد، من الذي قتل الإمام الحسين، فعلاً؟
- الذي قتله هو الشعب الجاهل، الذي يُغلِّب مصالحه المادية على التزاماتهِ الإسلامية، الأمر الذي جعل هذا الشعب أو هذه الجماهير تخضعُ لحاكم مثل يزيد "الذي اتخذ مال الله دولاً، وعبادَهُ خولاً"، كما قال الإمام الحسين(ع). لذلك علينا أن نعمل على تثقيف الشعوب الإسلامية بحقائق الإسلام في قضايا الحكم وفي قضايا الواقع، حتى يعرف المسلمون أنَّ مسألة الخضوع للحاكم الظالم وتنفيذ إرادته، يُمثِّل خيانةً للإسلام والمسلمين، وهو مصداق لقولِه تعالى: {
وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}(هود/113).
إنَّ علينا أن نؤصِّلَ العقيدة الإسلامية في أذهان المسلمين، بحيث تتجسَّد فيهم فكراً وعاطفةً وحياةً، هذا يتوقّف على العلماء والمثّقفين المسلمين، أن لا يعيشوا لذواتهم، وأن لا يخافوا من الناس ولا يخضعوا لهم، كما يتحدث البعض من أنّ القيادات حتى الدينية تخضع للعامة، لأنها تخاف من العامة، وهذا ما يدعو إلى الأسف.
* ماذا وراء هذا التناغم الغربي في الإساءة إلى المقدَّسات الإسلامية؟ وما هي دعوتكم في هذا الاتجاه؟
- الغرب يختزن في داخله بشكل عام عقدةً ضد الإسلام، والثّقافة الغربية، حتى في المدارس، وحتى كتب الدراسة التي يدرسها الأطفال، تتحدث عن الإسلام بأنّه دين عنف ودين إرهاب ودين قتل للناس بطريقة وبأخرى، كما هو دين بداوةٍ. ومن هنا، فإنّ ما حدث من خلال الصور المسيئة للرسول الأعظم(ص)، وما حدث في أمريكا التي تقدم الأبحاث والدراسات التي تتحدث عن الإسلام بشكل مشوَّه، إنّما ينطلق من خلال الخلفيات التاريخية ضد الإسلام والمسلمين، ولا يبعد أن يكون للصهيونية العالمية دور في هذا المجال.
إننا نقول للمسلمين الذين يعيشون في الغرب، أو الذين ينفتحون على الغرب في مراكز الدراسات، إنّ عليهم أن يعملوا على تعريف غير المسلمين بحقيقة الإسلام، وأنه دين رحمةٍ ومحبةٍ وعدالةٍ وانفتاح على الإنسان وعلى الحوار والتسامح، وأن يقدموا صورة النبي(ص) بالطريقة التي يفهم منها الناس أنّ رسول الله(ص) يُمثِّل الإنسان الذي ارتفع في إنسانيته إلى أن يكون خيراً للبشرية كلّها. إنّ علينا أن نحتج ونستنكر ونخرج بالتظاهر ونمارس الأساليب السّلميَّة وفي مقدّمها المقاطعة الاقتصادية التي استطاعت أن تجعل البلدان التي نشرت صُحُفها الصور المشوِّهة للإسلام ومقدساته، تفكر في الطريقة التي تتفادى فيها النتائج السلبية على مستوى الاقتصاد وعلى مستوى التعقيدات بينها وبين شعوب العالم الإسلامي في هذا المجال. بيد أنني لا أجدُ مصلحةً في الأساليب السلبية العنيفة، لأنّها قد تعبر عن حالة انفعالية نفسية لدى المسلمين، لكنها قد لا تفيد شيئاً، بل قد يستفيد منها الغرب المعادي أكثر مما نستفيد منها نحن.
من كتاب "زمن الحسين(ع)" الصادر عن مؤسسة البلاغ للطباعة والنشر الطبعة الأولى: 1428هـ ـ 2007م.
مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 30ذو الحجة 1427 هـ الموافق: 20/01/2007 م