أصدر سماحة العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله بياناً استنكر فيه التفجيرات الانتحارية الأخيرة، متوقفاً عند الموقف الشرعي والسياسي منها.
جاء فيه:
«من اللافت في الآونة الأخيرة تصاعد العمليّات الانتحاريّة التفجيريّة، بحيث أصبحت الأسلوب العسكري الأبرز الذي يطبع حركة منظّماتٍ تحمل عنواناً إسلاميّاً، حيث بلغ مستوى المجازر الوحشيّة التي تقتحم المساجد والمزارات والأسواق، وتستهدف المدنيّين والمسلمين والمسالمين في شكلٍ مباشر؛ الأمر الذي أدّى إلى ما يُشبه الكارثة التي تصيب الواقع الإسلامي الذي بات ضحيّة احتلال الخارج وإجرام الداخل.
وقد تنوّعت هذه العمليّات لتشمل أكثر من بلدٍ في العالم العربي والإسلامي، من شرقه إلى غربه، ولا سيّما في الجزائر الذي عادت إليه هذه العمليّات بعد انقطاع لمدّة من الزمن، وفي العراق بعد الاحتلال الأمريكي والبريطاني الذي رعى الفوضى الأمنيّة فيه وعمل على تأجيج الحالة المذهبيّة التي سهّلت الحركة للمنظّمات التي تتحرّك بمنطق التكفير كمنهجٍ يحكم حركة الاختلاف مع الآخر، والذي أصبح العمل الانتحاري التفجيري بمستوى الظاهرة فيه. ثمّ عاد هذا الأسلوب الإجرامي إلى الجزائر من جديد، مروراً بالمغرب والسعوديّة، وبعض بلدان الغرب كأسبانيا وبريطانيا.
وإنّه لمن الغرائب «الشرعيّة» أنّ هذه الجرائم تنطلق من فتاوى، وتنسب الجريمة إلى الإسلام تحت عناوين مقاومة الاحتلال والاعتراض على الأنظمة وما إلى ذلك، في الوقت الذي نعرف فيه أنّ الإسلام لا يُمكن أن يبيح مثل هذه العمليّات الإجراميّة بأيّ شكلٍ من الأشكال.
إنّ شرعيّة العمليّات الاستشهاديّة تنطلق من شرعيّة الجهاد الذي يُوجّه ضدّ المحتلّ، ضمن شروطٍ دقيقةٍ تصل بالعمليّة الاستشهاديّة إلى أن تكون ضرورةً في حركة الحرب ضدّ المحتلّ، وجزءاً من حركة صناعة النصر، فلا تتحرّك بطريقة عشوائيّة أو مزاجيّة أو لإثارة الأجواء الإعلاميّة؛ ولذلك قُلنا بجواز القيام بمثل هذه العمليّات ضمن شروطها في لبنان ضدّ المحتلّ الإسرائيلي، وكذلك في فلسطين التي تعيش تحت ضغط مصادرة الاحتلال لكلّ الواقع الأمني والحياتي للفلسطينيّين، ما يجعل الموقف لديهم موقف الاضطرار الذي لا يستطيع أن يدافع عن نفسه وشعبه إلا من خلال هذه الأساليب.
أمّا التفجيرات الوحشيّة التي تستهدف المدنيّين والمسلمين والمسالمين، محرّمة تحريماً شديداً؛ وهي تمثّل جريمة على أكثر من مستوى:
فهي جريمة بحقّ النفس؛ لأنّ الله تعالى لم يسلّط الإنسان على إنهاء حياته إلا بمبرّر شرعيّ، وقد بيّنا أنّه إنّما يكون في حالة خاصّة وشروط دقيقة.
وهي جريمة بحقّ الآخر؛ لأنّ الله تعالى في كتابه المجيد قال: {ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق}، وإنّ رسول الله (ص) قال في خطبةٍ له: «إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرامٌ كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا»، وكذلك بالنسبة إلى غير المسلمين؛ لأنّ الكفر لا يبرّر القتل، وإنّما الحرابة التي تجعل المسألة مسألة ردّ عدوان، وقد قال تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم}.
وهي جريمة بحقّ الأمّة؛ لأنّها تسلبها طاقاتها التي قد تشكلّ خزّاناً علميّاً وثقافيّاً وإبداعيّاً، وعلى مستوى المقاومة وصناعة المستقبل ضدّ كلّ مشاريع الاحتلال والهيمنة، وما إلى ذلك ممّا يشكّل عنصر غنىً حضاريّ للأمّة كلّها.
وهي أوّلاً وأخيراً جريمة بحقّ الإسلام الذي تُشوّه صورته، ليصبح في نظر الآخرين دين القتل والوحشيّة والجريمة.
وأخيراً، إنّنا في الوقت الذي نؤكّد فيه تحريم مثل هذه العمليّات التفجيريّة الوحشيّة، نشعر أنّ كثيراً من هذه العمليّات قد تمّت من خلال ظروف وتعقيدات سياسيّة واجتماعيّة وغيرها ساهمت فيها قوّات الاحتلال أو سلطات رسميّة، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ما يُلقي بالمسؤولية على أطراف متعدّدة، بدءاً من الحركات التي تنسب نفسها إلى الإسلام، لتعيد النظر في أساليبها وقواعدها غير المنسجمة مع القرآن الكريم والسنّة الشريفة، إلى السلطات الرسميّة وغير الرسميّة في البلدان العربيّة والإسلاميّة لتأكيد خطّ العدالة والحرّية الاجتماعيّة والسياسية وما إلى ذلك، إلى الشعوب والمجتمعات أنفسها التي ينبغي أن لا تشكّل غطاءً لمثل هذه الأعمال تحت اعتبارات العصبيّات المذهبيّة والانفعالات الطارئة، وصولاً إلى الواقع الدولي الذي بات يشكّل غطاءً للاحتلال، ويستسهل خرق الدول المحتلّة للقانون الدولي، ما أفقد العالم كلّه موازين العدالة، وأفسح في المجال لردود فعل حادّة، تشكّل الفوضى المشاعة بيئة مثاليّة لها».