المرجع فضل الله في رسالة إلى الجامعة العربيّة:
أيّ حاجة إلى الجامعة العاجزة أمام القضايا المصيريّة؟!
هل بقيت هناك حاجة إلى الجامعة العربيَّة في قضايا العالم العربيّ الحيويّة أو المصيريّة؟
لقد وُلدت هذه الجامعة ـ كمنظّمة ـ من إرادة غير عربيّة، وذلك عندما كانت بريطانيا تسيطر على دول العرب من أجل السّيطرة على مقرّراتها مجتمعةً لحساب السياسة الغربيَّة آنذاك. وبدأت القضيّة الفلسطينيّة تتحرّك في الاهتمامات السياسيّة لهذه الجامعة، وسقطت فلسطين بيد اليهود في قرارات اللّعبة الدّوليّة التي تحركت في مفاصل القرار العربي في الحرب التمثيليّة، وبدأت التّنازلات من قمّة الى قمّة، حتى انتهت الى قمّة بيروت العربيّة التي قدّم فيها العرب لإسرائيل السّلام والاعتراف في مقابل الأرض، ورفضت إسرائيل ذلك بالتّنسيق مع أمريكا التي اعتبرت القرار صالحاً للتفاوض لا للتّنفيذ، ودخلت القضيّة الفلسطينيّة في المتاهات السياسيّة بضغطٍ من السياسة الأمريكيّة التي خطّطت للصّلح العربي ـ الإسرائيلي في مصر والأردن، وسقطت الحرب العربيّة لحساب تحرير فلسطين، وتحوّل النّصر في مصر إلى هزيمة، وبدأت بعض الدّول العربيّة بفتح ممثليّات اقتصاديّة وسياسيّة تحت الطاولة وفوقها، كوسيلة دبلوماسية تخطّط للصّلح الكامل في المستقبل، وسقطت ـ بفعل هذا التراجع العربي ـ معاهدة الدّفاع المشترك بين العرب والمقاطعة الاقتصاديّة لإسرائيل.
أما لقاءات الجامعة العربيّة، فقد تحوّلت إلى ما يشبه الإنشاء العربي في قراراتها على مستوى المندوبين ووزراء الخارجيّة والقمّة، لأنهم لم يستطيعوا الاتّفاق على القضايا الحيويّة، ما يجعل مسألة إصدار القرار لحفظ ماء الوجه، ولم يبقَ هناك عالم عربيّ بالمعنى السياسيّ منذ مؤتمر مدريد الّذي لم يسمح للجامعة حتى بدور المراقب، لأنّ إسرائيل ـ ومعها أمريكا ـ لا تقبل بالمفاوضات مع العرب مجتمعين، لأنها لا تعترف بعالم عربيّ، بل تتعامل مع كلّ قطر بمفرده.
وهكذا انطلقت التمزّقات العربيّة في دائرة الضّغط الأمريكي، لتصل إلى مستوى تحرّر العرب من فلسطين بدلاً من تحريرها.. ودخلت القضيّة من جديد في اللّعبة الدوليّة، ولا سيّما في الاستراتيجية الجديدة للإدارة الأمريكيّة في أكثر من حديث خادع عن الدّولتين: الفلسطينيّة والإسرائيلية، مما يُكثر الرئيس الأمريكي الحديث عنه بطريقة استهلاكيّة، وذلك في خطّة خارطة الطّريق التي قرّرتها اللّجنة الرباعيّة الدوليّة، من دون أن تملك هذه الخطّة أيّ فرصة للتنفيذ بعيداً من الإرادة الإسرائيلية ـ الأمريكية.. وتابعت إسرائيل خطّتها في اقتطاع الأراضي الفلسطينية لحساب المستوطنات في الضفّة والقدس، والجدار الفاصل، ورفضت ـ بموافقة الولايات المتحدة الأمريكية ـ عودة الفلسطينيّين إلى بلادهم، وأكّدت الصفة اليهودية للدولة، وأسقطت القيادة الفلسطينية، ورفضت المفاوضات تحت شعار عدم وجود شريك فلسطيني، وعملت مع الولايات المتحدة الأمريكية ـ بعد الانتفاضة ـ لتقديم الأمن على السياسة.
ولم تستطع الجامعة العربيّة أن تفعل شيئاً من خلال العجز المطلق. وبدأت بعض الدول العربية تتنكّر للانتفاضة وللفصائل المجاهدة، كما لو كانت هي المشكلة وليست إسرائيل، حتىإنّها تنكّرت للحكومة الفلسطينيّة المنتخبة بطريقة ديمقراطيّة؛ لأنّ أمريكا ـ ومعها أوروبا ـ لا توافق على التعاون معها إلا بشروط تعجيزيّة.
وما زالت المجازر اليهودية للفلسطينيّين لا تحرّك ساكناً في قرارات الجامعة العربيّة.. وكانت نهاية المطاف إعلان الأمين العام للجامعة، أنّ عملية السلام العربية ـ الإسرائيلية ماتت بعد أن سلّمتها أمريكا لإسرائيل.. ولم يستطع العرب الوصول إلى قرار عقد قمّة بعد العدوان الإسرائيلي على لبنان. وربّما كان بعضهم يجد العذر لإسرائيل في كلّ عدوانها، ليحمّل المقاومة المسؤوليّة في ذلك، بالرغم من أن شعوب العالم العربي وقفت ضدّ العدوان، ورفضت سياسة أنظمتها وأيّدت المقاومة.
إنّ السؤال الذي يفرض نفسه على الجامعة العربيّة هو: هل بقيت حاجة إلى الجامعة بعد سقوط القضايا المصيريّة بالضّربة القاضية من أمريكا وإسرائيل؟ ولماذا يقبل الحكّام العرب بالإذلال الأمريكي في كلّ القضايا العربيّة لحساب الدعم المطلق لإسرائيل، حتى على مستوى وقف إطلاق النار، لمنع المجازر الوحشيّة التي تقوم بها إسرائيل بالتّنسيق الشامل مع أمريكا؟
إنّ أمريكا لم تمنح أيّ دولة عربية، في المشكلة اللبنانية والفلسطينية، أيّ موقف إيجابيّ، في الوقت الذي نعرف أنّ العرب ليسوا بحاجة إلى أمريكا في الجانب الاقتصادي والسياسي والأمني، بل إنّ أمريكا هي التي تحتاج إلى العالم العربي.
إنّنا لا نطالب الأنظمة بأن تعلن الحرب على إسرائيل ـ كما يتحدَّث بعض الرؤساء بالرفض لذلك ـ بل أن تمارس الضغوط على أمريكا وإسرائيل بطريقة جدّية، ولو على مستوى سحب السفراء والممثّلين للعدوّ، أم أنهم لا يجرؤون حتى على هذه الخطوة التي يعتبرونها مخيفةً، لأنها قد تحمّلهم بعض التبعات من هنا وهناك؟!
إنّنا نلاحظ أنّ الجامعة لم تستطع أن تتدخّل تدخّلاً فاعلاً في العراق والسودان والصومال وفلسطين ولبنان، بل أصبحت أمريكا وحلفاؤها هي التي تفرض إرادتها على الشعوب العربية. إنّ الحرب على لبنان وفلسطين من قبل الإدارة الأمريكيّة ليست من أجل المصلحة اللبنانيّة والفلسطينيّة، ولكنّها من أجل المصلحة الإسرائيليّة.
ويبقى السؤال: ما الحاجة إلى بقاء الجامعة التي تحوّلت إلى شاهد زور، وإلى حائط مبكى، وإلى محورٍ لا يستطيع أن يمنع الفيتو الأمريكي على قرار لحماية أطفال غزّة ونسائها وشيوخها وكلّ المدنيين؟! ولماذا كلّ هذه الجيوش وكلّ الأسلحة؟! وهل بقي هناك عالم عربيّ يجمع العرب على قضايا المصير، أو أنّ القطرية والإقليمية هي ما يمثّل الطابع للعلاقات بين العرب بشكل سلبيّ؟!
وفي نهاية المطاف نقول:
لقد أثبتت الأحداث أنَّ المقاومة هي جامعة الشعوب العربيّة؛ لأنّها سرّ القوّة والعنفوان، وليست جامعة الأنظمة العربيّة، والتي نريد لها أن تنسجم مع شعوبها، لا مع السياسة الأمريكية التي أصبحت تتحرّك في خلفيّات أكثر القرارات العربيّة.
والسلام على من اتّبع الهدى.
*نصّ الرّسالة المفتوحة التي وجَّهها سماحة العلامة المرجعالسيّد محمد حسين فضل الله (رض)إلى الجامعة العربيّةفي 04/08/2006 م.