يُعتبر العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله، أحد المجددين الإسلاميين الكبار في العصر الحالي، ما فتح عليه الكثير من "الأبواب المغلقة"، وعرّضه لحملة عنيفة من قِبَل العديد من المراجع والفقهاء في لبنان وخارجه، شهدت المجالس والأحياء والدوائر المختلفة فصولاً منها، شأنه شأن المجددين الإسلاميين الكبار في عهود النهضة الماضية.
لكن "السيد" المؤمن بضرورة انفتاح الإسلام في إطار النص القرآني، لم تأخذه في مواقفه وفتاواه لومة لائم، فمضى ويمضي مقتنعاً بما يقوم به، ومن دون أن يفتح سجالاً أو باباً للدفاع عن النفس، حيث تغص مجالسه ومنابره بالمريدين والمقلدين المؤمنين بنهجه، ليس على المستوى الشرعي فقط، بل أيضاً على المستوى الفكري والثقافي والسياسي الذي يتكامل مع موقفه الشرعي. فالسيد مفكر سياسي، ومحلل في الشؤون الاستراتيجية الكبرى، ويحمل رؤية واضحة وصريحة في كل كبيرة وصغيرة.
في حواره مع "السفير"، كان السيد فضل الله كعادته ينظر إلى الأمور من فوق... "هناك مشروع أميركي في المنطقة، ولبنان جزء من هذا المشروع الشرق أوسطي الكبير. وما يجري عندنا، هو "الفوضى الخلاّقة" التي وعد بها الرئيس الأميركي جورج بوش".
أما في التفاصيل، فكلام السيد واضح أيضاً، "فلبنان ليس دولة، واتفاق الطائف كان لوقف الحرب ولم يبنِ دولة"، لذلك، "لم يتغير الكثير منذ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وبقي الصراع في عمقه الطائفي"...
نـصّ الحـوار:
س: بدايةً، لو أردنا أن نستشرف الوضع اللبناني انطلاقاً من المعطيات القائمة، فماذا يمكن أن نقول؟
ج: عندما ندرس الواقع اللبناني، قد نجد فيه العنوان الكبير الذي طرحه الرئيس بوش للمنطقة، وهو "الفوضى الخلاقة". فالمشروع الأميركي في كل حركة المنطقة، لا يقتصر على بلد دون بلد، بل هو مشروع تتكامل فيه كل المشاكل التي يريد أن يحركها في المنطقة، أملاً في أن تعطي بعض النتائج التي تصل به إلى مشروعه الكبير. ففي لبنان، نلاحظ أن الرئيس بوش يحاول أن يوحي بأن أمريكا هي التي أعطت لبنان ديمقراطيته، وهي التي استطاعت أن تحدث فيه هذا النوع من التغيير الذي أعطي عنوان الحرية والسيادة والاستقلال، في حين أن لبنان كان وما يزال البلد الديموقراطي الوحيد في المنطقة. فمنذ الأربعينيات، يتحرك المواطن في لبنان في الإطار الانتخابي، وإذا كان البعض يناقش في بعض مفردات الديموقراطية سلباً، فهذا لا يلغي ديموقراطية لبنان، لأن كل الديموقراطيات في العالم، بما فيها الديموقراطية في أميركا، تخضع للكثير من السلبيات. لذلك ليس هناك أي دور لأمريكا في إعطاء لبنان صفة الديموقراطية.
أمّا بشأن انسحاب الجيش السوري من لبنان، فإنه انطلق بهذه السرعة من خلال اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ولولا مسألة الاغتيال، لانتظر اللبنانيون كثيراً لتنسحب سوريا من لبنان. وقد حدَّثني بعض السوريين الذين يملكون مواقع متقدمة، أنه اقترح الانسحاب من لبنان عند التحرير والانسحاب الإسرائيلي. ولكنّ مسألة اغتيال الرئيس الحريري، أحدثت في الواقع اللبناني صدمةً لم يشهدها في تاريخه، خصوصاً أن المسألة العاطفية اختلطت بالمسألة السياسية، وتحركت المسألة الإعلامية في المواقع السياسية المؤثرة في المنطقة. ولا ننكر أنَّ الوضع الدولي ساهم في ذلك. لهذا نعتقد أن ما يحدث الآن في لبنان من جدل يدور بين اللبنانيين، يمثل امتداداً للجدل التاريخي الذي كانوا يعيشونه، لكنه أصبح يتحرك في الكواليس بعد أن كان يتحرّك في العلن. ولو أردنا أن ندرس خلفيات الكواليس اللبنانية في الشخصيات التي كانت تمثل آراء الحرب والسياسة والطائفية، لرأينا أن الواقع اللبناني الآن هو نفس الواقع اللبناني سابقاً، مع بعض الديكور الذي يتمثل في الحوار من جهة، أو في بعض المجاملات من جهة أخرى.
تغير السطح
س: سماحة السيد، تقول إنّه لم يتغيّر شيء، وذكرت أن اغتيال الرئيس الحريري هو الذي أخرج السوريين. ألا تعتقد أن مئات الآلاف من الناس الذين نزلوا إلى الشوارع كان لهم دور أيضاً؟
ج: نحن نقول إنَّ اغتيال الرئيس الحريري أسهم في ذلك، مع وجود بعض التراكمات عند فريق كان منذ البداية يعيش عقدةً ضد سوريا، وكان يتحرك بعيداً عن مسألة الوصاية، والدليل على ذلك، أنَّ الكثيرين من الذين يقفون الآن ضد الوصاية السورية، هم من الذين عاشوا مع حركة هذه الوصاية، واستطاعوا أن يحصلوا على الكثير من خيرات لبنان في ما يسمى الهدر والفساد، إضافةً إلى وجود خلفيات سياسية دولية تنطلق في المسألة العربية على أساس ارتباطها بالجانب الإسرائيلي. ولكن لو درسنا هذه الجماهير التي نحترم خلفياتها في الحرية والاستقلال، لرأينا أن انطلاقتها لم تكن واحدة، وإنما كانت انطلاقةً متنوّعة، من خلال بعض الجوانب العاطفية التي تتصل باغتيال الرئيس الحريري، أو بعض الخلفيات السياسية التي كانت تحكم الكثير من المواقع هنا وهناك.
لذلك، عندما ندرس الخطاب السياسي الطائفي في لبنان، والذي ينطلق من أعلى موقع ديني وسياسي، سواء كان في الدائرة الإسلامية أو في الدائرة المسيحية، نجد أن العمق الطائفي هو الذي يحكم لبنان، حتى في عناوين السيادة والاستقلال والحرية. ولو درسنا الجماهير التي تنطلق بشعارات معينة، لوجدنا أنّها لا تمثِّل عمقاً سياسياً بالمعنى الذي تملك فيه ثقافة القضايا الكبرى التي تحكم الواقع السياسي اللبناني. لا نقول إنه لم يتغير شيء، ولكننا نقول إنه تغير السطح ولم يتغير العمق، لأنّ الطائفية هي التي تحكم كل الأطراف.
الخلفيات الطائفية
س: ولكن لو رصدنا ما جرى خلال الخمسة عشر شهراً الماضية، لوجدنا تغييرات واصطفافات مختلطة في المعسكرين اللبنانيين، وهي ليست اصطفافات طائفية صرفة. ألا يشكل ذلك بداية تغيير، أم أنه ما يزال قاصراً عن تلبية متطلبات التغيير؟
ج: إنني أتحفظ على هذا العنوان الكبير الذي يطرحه السؤال. لنبدأ من قانون الانتخاب، ومن التحفّظات على هذا القانون. لماذا لا يزال هذا القانون جامداً على أساس حسابات الدوائر؟ الجواب هو لكي ينتخب المسيحيون النواب المسيحيين، وينتخب المسلمون النواب المسلمين! فإذا كان لبنان وطن الجميع، والمجلس النيابي يمثل الجميع، واللبنانيون ينتخبون ممثليهم الذين لا يختصون بطائفة دون أخرى، فلماذا يطرح أعلى منصب ديني في لبنان، مسألة أن يُنتخب النواب المسيحيون من قِبَل مسلمين، أو العكس، وكأنّ هناك مشكلة في ذلك؟
إننا عندما نتحرك في الخلفيات السياسية، نجد الموقع السياسي الإسلامي ينفتح على سوريا وضد إسرائيل، بينما الموقع السياسي الآخر، ينفتح على إسرائيل بطريقة خجولة تحاول أن تخبئ ما وراءها، بينما يتشدد في موقفه تجاه سوريا، ويعتبر كل سلبية في لبنان، تنطلق من خلال النظام الأمني اللبناني ـ السوري، وما إلى ذلك. إن هذه المسألة تخفي في داخلها خلفيات طائفية.
ثم عندما نلاحظ حركة السفير الأميركي في لبنان، حتى في المفردات والجزئيات، وإن شملت اتّصالاته فريقي 14 آذار و8 آذار، نجد أن لبنان بات موزّعاً بين القوى المتّهمة بالخضوع للوصاية السورية، والخاضعين للوصاية الأميركية الفرنسية.
إننا عندما ندرس المسألة الطائفية، نلاحظ أنه حتى في زيارة البطريرك صفير الآن إلى فرنسا، يجري الحديث عن المسيحيين وعن المسيحية وعن دور لبنان المسيحي في هذا المجال. ونحن وإن كنّا نحترم دور المسيحيين، ولكن لو حاكمنا أصحاب هذا الدّور وفق المعايير المسيحية نفسها التي تتطلّع إلى دولة علمانية، فإنّنا سنرى أننا ما نزال نعيش المسيحية الطائفية التي تحدد لنا علاقتنا بالآخرين، وبالواقع الدولي، وبالطائفية الإسلامية في هذا المجال.
س: ألا تعتقد أن هذا الأمر ناجم عن قصور لدى المسلمين في طمأنة المسيحيين في لبنان؟
ج: لا أعتقد أن المسلمين أساؤوا في طمأنة المسيحيين. ما الذي قام به المسلمون في لبنان؟ لقد انطلق المسلمون في لبنان، وحرروا أرضه من الاحتلال (الإسرائيلي)، بينما انطلق فريق من المسيحيين لينفتح على إسرائيل عندما احتلت لبنان، وربما تحدث بعضهم مع إسرائيل عن تحالف الأقليات. إن المسلمين لم يقوموا بدور مقلق للمسيحيين. ثم عندما نعود إلى مسألة الدخول السوري إلى لبنان، هل إن المسلمين هم الذين اجتذبوا هذا الدخول، أم أن أمريكا هي التي اجتذبته؟ إن الوجود السوري في لبنان، كان منطلقاً من سياسة أميركية أقرّته، إضافةً إلى بعض السياسات العربية التي انطلقت في هذا المجال. لقد دخلت سوريا لبنان ضد الحركة الوطنية، ولمصلحة المسيحيين، عندما كان هناك تهديد للمسيحيين، وعندما كان المسؤول الأميركي يتحرك لإرسال سفن إلى لبنان لتأخذ المسيحيين إلى بلدان العالم. ماذا يريد المسيحيون، مع كل احترامنا لدورهم السياسي والثقافي؟ هل يريدون من المسلمين معاداة المنطقة؟ هل يريدون معاداة سوريا؟
القرار 1559
س: ولكن بعض زعماء المسلمين اليوم، هم في الجانب المعادي لسوريا، هل يطالهم هذا الكلام أيضاً؟
ج: أنا أقول إن المسألة التي تعيش الآن في عمق طائفي، ارتبطت بمحور دولي. ونحن لا ننكر أن بعض المسلمين انطلقوا من خلال محاور دولية، خصوصاً إذا كنّا نعرف أنّ القرار 1559 صنع في إسرائيل باعتراف وزير الخارجية الإسرائيلي سيلفان شالوم، وطبيعته إخراج سلاح المقاومة من لبنان.
س: لو توقَّفنا أمام القرار 1559، لوجدنا فيه بنداً واحداً فقط يختلف عن اتفاق الطائف، وهو البند المتعلق بسلاح المقاومة. ألا تعتقد أنه بات علينا الخروج من توصيف "هذا إسرائيلي، وهذا أميركي"؟
ج: أو هذا سوري... هذا التوصيف يشمل الجميع.
س: أتفق معكم على العمق الطائفي. ولكن هناك مشكلة مزمنة اسمها الدولة. هناك فريق من اللبنانيين كان ضد الوجود السوري، لأنه يمنع وجود الدولة...؟!
ج: لنأتِ إلى مسألة الدولة. هل إن السياسيين اللبنانيين يريدون دولة من خلال تصرفاتهم الطائفية ومشاركتهم في الهدر والفساد؟ لقد طُرح قانون: "من أين لك هذا" منذ الخمسينيات، فلِمَ لم يطبَّق؟ الكل يقول إنَّ هناك هدراً وفساداً في لبنان. من هم الذين كانوا يحكمون لبنان عندما كان يعاني من الهدر والفساد؟ هل هم من المرِّيخ؟ إنّهم السياسيون اللبنانيون، أو أغلبهم، الذين كانوا داخل الحكم، والذين كانوا يتحركون على أساس محاسيبهم وأزلامهم. الحكومة الآن تتحدث بالإصلاح. أول عنوان للإصلاح يجب أن يكون محاسبة الذين كانوا يحكمون لبنان في زمن الوصاية السورية، وقبل زمن هذه الوصاية. لذلك لبنان حتى الآن ليس دولة.
أمّا طرح مسألة المقاومة باعتبار أنها تسيء إلى وجود الدولة، فإنّ هذا الأمر غير واقعي، فنحن لا نزال نعيش الخوف من العدوان الإسرائيلي، فهل هناك أساس للأمان من هذا العدوان، من خلال كل التاريخ الذي عشناه مع إسرائيل؟ وهل يستطيع الجيش اللبناني بما يملك من سلاح أن يقوم بهذا الدور؟ نحن نعرف من خلال كارثة المروحية التي سقطت أخيراً، أن ما يملكه الجيش اللبناني من سلاح، لا يمثل أي قوة في هذا المجال. لقد تطوّر العالم في تحديث السلاح عشرات المرات، ونحن ما نزال في مكاننا. لذلك لا يستطيع الجيش اللبناني أن يقاتل إسرائيل كجيش يقاتل جيشاً. فهو لا يملك السلاح اللازم لذلك، ولا أن يتحول إلى حرب عصابات.
لذلك، عندما تطرح مسألة المقاومة، فإنّ السؤال الذي يتوجّه إلى اللبنانيين جميعاً: ما هي الاستراتيجية الدفاعية للدولة للدفاع عن لبنان من العدوان الإسرائيلي؟ إنّ المقاومة لم تكن يوماً في مواجهة أيّ طائفة، بل كان سلاحها دائماً موجَّهاً إلى إسرائيل. وهذه هي تجربتها في كل تاريخها.
التحرير هو الاستقلال الحقيقي
س: ولكن، هل هناك من صيغة تحمي لبنان، وتطمئن الخائفين من سلاح المقاومة؟
ج: هذا السلاح عاش تجربة، ولم يدخل في حرب مع أي طائفة. بينما السلاح الذي كان لدى المسيحيين، دخل في حرب ضد المسيحيين، وفي حرب ضد المسلمين أيضاً. ونحن نسمع همسات هنا وهناك، أن ثمة فريقاً من اللبنانيين بدأ يتسلَّح ويتدرَّب.
سلاح المقاومة استطاع أن يحرر لبنان من إسرائيل ويقدم آلاف الشهداء. نحن نحتفل بعيد الاستقلال، عيد المقاومة، لأنّ الاستقلاليين الذين سجنوا لم يقاوموا. الاستقلال الحقيقي للبنان هو الذي حققته المقاومة، لأنه انطلق مغسولاً بدم الإنسان اللبناني.
س: ولكن هناك من يعتبر أنه حقّق استقلالاً آخر بخروج سوريا من لبنان؟
ج: نحن نرفض أي وصاية، سورية كانت أو إيرانية. إن سرّ لبنان هو الحرية. لبنان هو البلد الوحيد في المنطقة الذي يشعر فيه الإنسان بأنه قادر على أن يتنفس الحرية السياسية والثقافية والاجتماعية، بالرغم من بعض الخدوش التي تطال هذه الحرية. لذلك أقول إنني عندما كنت أعيش في العراق، كنت أشعر أنني أعيش في سجن. وعندما وصلت إلى لبنان، شعرت أنني أتنفس الحرية. ونحن نقاتل لكي يبقى لبنان حراً. لذلك، عندما نرفض الوصاية الأميركية أو الفرنسية، فليس معنى ذلك أنّنا نقبل الوصاية السورية أو الإيرانية. قد تكون نظرة الذين ينفتحون على سوريا، أنها البلد العربيّ الوحيد الذي ما زال يحمل عناوين كبرى على المستوى القومي والمستوى الإسلامي، وهي مواجهة الاحتلال الأميركي في العراق، ومواجهة الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين أو ما إلى ذلك. اللبنانيون لا يريدون أن تحكمهم سوريا في هذا الموضوع. ولو فرضنا أنه أطلقت
بعض الاستفتاءات لدى المسلمين في لبنان حول: "هل تقبلون أن يكون النظام اللبناني نفس النظام في سوريا؟"، لما وجدت أحداً يتكلم بإيجابية حول هذا الموضوع، لأننا نريد أن نبقى أحراراً في بلدنا، وعندما نريد أن ننفتح على الآخرين، ننفتح من خلال مصالحنا.
وقد سبق لي أن قلت إننا لا نرفض أن يساعدنا العالم اقتصادياً، سواء عبر باريس1، أو باريس2، أو مؤتمر بيروت واحد، لكننا لا نريد مساعدات محمَّلة بشروط تنال من حريتنا واستقلالنا وسيادتنا.
الاستراتيجية الدفاعية
س: هناك من يطرح في المقابل أن يتبنّى لبنان الاستراتيجية الدفاعية نفسها القائمة في سوريا في مواجهة إسرائيل؟
ج: نحن لا نبرر ذلك ولا ندافع عنه. لسوريا ظروفها، وهي دولة، ولا تستطيع كدولة مواجهة الجيش الإسرائيلي. لكن لبنان انطلق ليكون البلد الذي يفتح ساحته لكل العالم، ولذلك استطاع من خلال نظامه الطائفي، إفساح المجال لكثير من التجمعات والتكتلات أن تصل إلى مستوى المقاومة. أما في سوريا، فطبيعة الواقع فيها لا تسمح لأي مقاومة أن تتحرك بعيداً عن النظام، ولا يستطيع النظام أن يقاتل إسرائيل، لأنه ليس هناك توازن بينه وبين إسرائيل، بينما الواقع اللبناني يفسح في المجال لوجود مقاومة هنا وهناك.
س: ألا تعتقد أن ما هو قائم على الحدود عندنا منذ التحرير في عام 2000، يشبه إلى حد كبير الاستراتيجية الدفاعية السورية؟
ج: هذا ينطلق من خلال التفكير السياسي المتوازن لدى المقاومة، التي تحافظ على واقع لبنان كي لا يصل إلى المستوى الذي يمكن أن يخلق مناخاً سلبياً على المستوى الدولي أو على مستوى الاجتياح الإسرائيلي. ولكن هذا التوازن بين المقاومة وإسرائيل منع حصول عدوان على لبنان. وهذا يسمى "توازن الرعب"، وهو يمثل مكسباً للمقاومة وللبنان.
س: أمام هذه الصورة الإيجابية للمقاومة، ألم يكن من الحكمة أن يكون خطابها السياسي أكثر توازناً، ويتحاشى إعطاء "صك براءة" للحقبة السورية بشكل أثار حفيظة معظم اللبنانيين؟
ج: أنا لا أدافع عن منطق أي فريق، لقد قلت في معرض لقاءاتي مع بعض المسؤولين السوريين، إنكم أخطأتم لأنكم دخلتم من باب الأمن لا من باب السياسة، ولبنان لا يحكم من خلال الأمن. نحن لا نوافق على تبرير الأخطاء التي اعترف بها السوريون، وإن كانوا لم يتحدثوا بالتفصيل في هذا المجال. نحن كنا دائماً نتحدث عن نقد الخطاب الانفعالي، سواء في هذا الجانب أو ذاك. ولا نريد أن يكون حوارنا مع بعضنا البعض كلبنانيين على طريقة أن كل واحد يريد أن يسجِّل نقطة على الطرف الآخر، فتكون القضية عندنا هي تجميع النقاط وتسجيلها على بعضنا البعض. علينا أن نفهم حقيقة أن لبنان ليس بلداً يملك سقفاً أو جدراناً، لبنان بلد يعيش في داخل العواصف التي تحوط المنطقة.
من الخطأ اعتبار أن مشكلة لبنان هي سوريا. قد تكون سوريا بعض المشكلة، لكن لا بدّ من أن نعرف أنّ لبنان هو جزء من المشروع الأميركي للمنطقة. ولا نتحدّث من خلال عقدة ضدّ أمريكا، بل من خلال المنطق الأمريكي نفسه.
س: أي خيار للبنان إذاً بين العصر الأميركي والوصاية السورية؟
ج: علينا أن نرفض الوصايتين، فكما نرفض مجيء أيِّ موفد سوري ليتدخل في الواقع السياسي هنا وهناك، علينا أن نرفض أيضاً تدخّل السفير الأميركي والموفدين الأميركيين الذين يأتون بين وقت وآخر ليتدخّلوا في القضايا الداخلية. ونحن نسأل مثلاً: إذا كانوا يتحدثون عن ضرورة تقوية الجيش وقوى الأمن اللبنانية، فماذا قدموا له؟ خمسةً وثلاثين مليون دولار؟! إنّ هذا المبلغ لا يمكن أن يقدِّم شيئاً على هذا المستوى. فإذا كانوا جادّين في مسألة أن يكون لبنان قوياً في الساحة العربية، فإنّ عليهم أن يجهّزوه بالأسلحة المتطوّرة، وأن يقدّموا المليارات كما يفعلون مع إسرائيل. فهل يسمحون بأن يكون لبنان قوياً كي يتمكن من خوض معركة مع إسرائيل ويستخدم فيها هذه الأسلحة؟!
إن القرار 1559 لم يوضع للحفاظ على مسألة الدولة، وإلا لقالوا للبنانيين سوف نسلِّح الجيش ليحفظ الأمن في داخل لبنان وفي مواجهة أية دولة أخرى مجاورة للبنان. إن القرار 1559 وضع لحماية أمن إسرائيل، وليس لحماية الدولة في لبنان.
إلغاء النظام الطائفي
س: تبقى المسألة الأساسية: كيف ندخل إذاً إلى وطن بعيد عن الطوائف والطائفية؟
ج: أنا أدعو إلى المواطنة كبديل عن النظام الطائفي، أن أقول إنني لبناني، أشعر بانتمائي إلى هذا الوطن، وأنّ لي حقوقاً على هذا الوطن، وأقوم بواجباتي كمواطن...
س: كيف يكون المدخل إلى ذلك؟
ج: ذلك يكون بإلغاء النظام الطائفي، فقد كان على مؤتمر الحوار المنعقد أن يكون له عنوان واحد: كيف نُلغي النظام الطائفي ليصبح لبنان كبقية دول العالم وطناً لمواطنيه؟ النظام الطائفي يوحي لكل طائفة أن تأخذ بأسباب القوة في مواجهة الطائفة الأخرى، ليكون لكلِّ طائفة منطقها الذي تمنع من خلاله الطائفة الأخرى من التدخل، تماماً كما هي الدول مع بعضها البعض. لبنان لن يستريح إلاّ إذا كان نظام المواطنة هو الأساس. اللبناني العادي لا يعيش الطائفية إلا من خلال خلق بعض المشاكل التي تثير الحساسيات لتجعلها في الإطار الطائفي، كما حدث في مسألة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. فهل إنّ جريمة الاغتيال هذه تخصّ السنة فقط؟ ولماذا يتوجّه الكلام إلى الحديث عن فتنة سنيّة شيعيّة؟ وعندما تحدث خلافات بين سياسي سني وسياسي شيعي، لماذا يكون هناك كلام عن فتنة؟ ولماذا يجتمع هذا الرمز الديني أو السياسي الشيعي مع هذا الرمز الديني أو السياسي السني، ليقولوا إنهم منعوا حدوث توترات طائفية؟
ما هي علاقة الدين المسيحي والدين الإسلامي بمشاكل السياسة التي تحدث؟ هل إن خلافاتنا تتعلق بمسائل في اللاهوت؟ وهل مسألة أنّ المسيح تجسيد الله أو أنّه رسول الله، هو ما يشغل اللبنانيين؟ أنا أعرف أن هناك سياسيين من الطائفة الإسلامية وسياسيين من الطائفة المسيحية ملحدون لا يؤمنون لا بالله ولا بالمسيح ولا بالنبي، ولكنهم يدقون "طبل الإسلام" و"طبل المسيحية" حتى يجتمع الناس حولهم من خلال إثارة الحساسيّات...
لا خوف من فتنة
س: هل أنت خائف من فتنة سنية -شيعية، على ضوء ما هو قائم في الشارع؟
ج: لا أعتقد أن هناك فرصة لمثل هذه الفتنة. أولاً، لأن هناك حالة تزاوج كبيرة بين المسلمين السنّة والشيعة، كما أننا نعتقد أنه عندما ننفذ إلى الأرض، ونتحدث إلى المسلم الشيعي العادي، العامل، التاجر الفلاح والمثقف، وكذلك المسلم السنيّ، لا نلمس أية حساسيات توحي بوجود فتنة. ففي لبنان، من الصعب أن تحدث فتنة تقود إلى الحرب، حتى بين المسلمين والمسيحيين، لسبب استراتيجي، وهو أن الحروب اللبنانية كانت من خلال خطة دولية.
ونحن نعرف حقيقة أن الحرب التي سميت أهلية وطائفية، كانت من صنع وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر، الذي خطط لإسقاط القضية الفلسطينية في لبنان وإخراج البندقية الفلسطينية. وهذا كان يحتاج إلى صراع مسيحي إسلامي فلسطيني، وعندما خرجت البندقية، ولم تسقط القضية، لأن الانتفاضة أنتجتها من جديد، جاء "اتفاق الطائف"، الذي كنت أقول عنه متهكماً: إنه اتفاق أميركي بطربوش لبناني وعقال عربي. وإلا، كيف يمكن لهذه الحرب التي سقط فيها آلاف الضحايا في لبنان، والتي حشدت كماً من الحقد بين اللبنانيين، أن تنتهي باجتماع وكأن شيئاً لم يكن؟!
س: هل إن اتفاق "الطائف" ما زال صالحاً؟
ج: لقد قلت منذ البداية إن "الطائف" كان لإيقاف الحرب وليس لصنع دولة متوازنة، ولو كان خطط لإلغاء الطائفية، لأمكن له أن يشكل مدخلاً لدولة وطنية للّبنانيين كافة، لكنّه أكد الطائفية في المواقع بعد أن كانت عرفاً في ميثاق عام 1943.
س: ولكن، ألا يشكِّل خطوة أولية كما ورد في أكثر من بند من بنوده، بدءاً من التمثيل خارج القيد الطائفي في المجلس النيابي؟
ج: ولكن أين وضعوا هذا البند؟ لقد وضعوه في آخر الوثيقة. ولن يُبحث هذا الأمر، لأن الطائفيين لن يسمحوا بذلك، ولهذا نقول إن "الطائف" كان لمنع الحرب، وإيجاد هدنة لإشعار اللبنانيين بالراحة، ولكنه لن يصنع دولة في لبنان...
س: لماذا لن يصنع دولة؟
ج: أتصوّر أن لبنان بحسب الخطة الدولية التي تتقاطع مع خطة إقليمية، لن ينتهي إلى دولة. إن قضية الدولة تحتاج إلى رجال دولة، ولكن أين هم؟ وأنا أقول دائماً إني أحمل مصباح ديوجين في النهار لأرى لبنانياً فلا أرى إلا طائفياً.
العراق
س: لننتقل أخيراً إلى العراق. هل سقط المشروع الأميركي الذي وعدت به أمريكا للمنطقة؟
ج: في هذه المرحلة، لا تزال أمريكا تحاول أن تحقق بعض النجاح، فهي تعتبر أن الانتخابات تأخذ لوناً من ألوان النجاح كونها تمثل الديموقراطية. وهي الآن تحاول تأسيس حكومة وحدة وطنية. ولكنّنا نعتقد أنها فشلت في العراق، وأنّ الاحتلال الأمريكي حوّل العراق إلى ساحة عالمية للإرهاب. لا نريد أن نقول إن المقاومة تمثل الإرهاب، لكن من يقتل العراقيين تحت أي عنوان يمثّل الإرهاب، كما أن العراقيين لم يستطيعوا أن يجدوا الأمن، رغم وجود القوات الأميركية والمتعددة الجنسيات، ولم يستطيعوا القضاء على هؤلاء الذين يقتلون العراقيين، إضافةً إلى دفع أمريكا بشركاتها لمشاريع وهمية بمليارات الدولارات من الميزانية العراقية. ولم يحصل العراقيون لا على إعمار ولا على أمن ولا على خدمات، من كهرباء وماء.
إنّ أمريكا تتخبَّط الآن وتعيش في رمال متحركة، وخصوصاً أنها لم تخطط لحركة الاحتلال. فهي تنتقل من خطأ إلى خطأ باعتراف الأميركيين أنفسهم. كما أن العراق محاط بأكثر من دولة، كسوريا وتركيا ودول الخليج وإيران، ومن الطبيعي أن الدول المتحالفة مع أمريكا تخاف من هذا الوجود الضخم. فهم يريدون تنفيذ استراتيجيتهم في المنطقة، من إيران إلى سوريا والخليج. لذلك من الصعب أن يستقر العراق إذا بقي الأميركيون فيه، لأن كل من يحرك الجانب الأمني، سواء بعنوان مقاومة أو إرهاب، أو من خلال الدول المحيطة، لن يسمح لأمريكا أن تستقر.
س: وهل يستقر العراق إذا خرج الأمريكيون؟
ج: إذا خرج الأمريكيون، تنتفي فرصة الذين يتحركون تحت عنوان المقاومة، كما أن من مصلحة الدول المحيطة أن يكون العراق مستقرّاً...
س: وهل الأنظمة العربية المحيطة مستعدة لمواجهة أمريكا؟
ج: إذا درسنا سياسة أمريكا مع السعودية، الحليف التاريخي لها، من خلال المصالح والنفط و...، نجد أنّ أمريكا، ورغم كل هذه المصالح، تحاول إضعاف السعودية وكذلك مصر، لأن إسرائيل لا تريد دولة عربية قوية. لذلك، يعمل اللوبي الإسرائيلي والمحافظون الجدد على إضعاف الموقع السعودي والموقع المصري.