سماحة العلامة السيد محمد حسين فضل الله، مرجعية بارزة لحوار إنساني كوني شامل، أكثر منها مرجعية لطائفة أو لمذهب، رجل الاعتدال الموضوعي وترجيح سلطة العقل على سطوة جنوح الواقع. حين سألته عن عودة الجنرال ميشال عون، قال ضاحكاً: "هو ابن منطقتنا، ابن حارة حريك"، وحين طلبت إليه أن يوصّف رؤيته لمستقبل لبنان، أجاب دون تلكّؤ، لبنان في كل تاريخه لم يُحكم ولا يُحكم لبنانياً. هو الذي "يحمل مصباح ديوجين نهاراً باحثاً عن اللبناني ولا يراه"، والمعارضة اللبنانية في رأيه أمريكية فرنسية سعودية، وسلاح المقاومة والفلسطينيين لن ينـزع إلا عبر تسوية.
يختزل التاريخ والعصر في رؤيته لكل ما حوله: في السياسة وخارجها، وفي الدين كما في الحياة.
هالةٌ من النور تنبعث من محيّاه، ولحيةٌ بيضاء كثّة، وقداسة لا يمكن أن تكون إلا في موضعها.
نصّ الحـوار:
طبيعة الحكم في لبنان
س: سماحة السيد، هل أنت متفائل؟ وكيف تقرأ الواقع السياسي الذي نعيش؟
ج: لبنان في كل تاريخه لم يُحكم ولا يُحكم لبنانياً، وإنما يُحكم من الخارج، والخارج يحاول أن يحرك المسائل السياسية حسب المصالح الإقليمية المنفتحة على المصالح الدولية.
منذ كان الاستقلال، كنا نرى الصراع الفرنسي ـ البريطاني، الذي تحرك منذ البداية ليكون فرنسياً، من خلال الرؤساء رياض الصلح وبشارة الخوري وكميل شمعون، رجال الاستقلال الأُول، وانطلق بعد ذلك ليكون بريطانياً، ثم في عهد الرئيسين فؤاد شهاب وجمال عبد الناصر، صار أمريكياً، وهكذا دخلنا الحرب الباردة، ثم كانت المسألة الإسرائيلية. والحرب اللبنانية كانت حرب هنري كيسنجر، الذي أراد أن يسقط القضية الفلسطينية في لبنان، ويسقط البندقية الفلسطينية لصالح إسرائيل، ثم يخرج هذه البندقية، وهكذا كان. وحين انتهت المهمة الأمريكية بإبعاد البندقية الفلسطينية، وقِّع اتفاق الطائف الذي هو اتفاق أمريكي بعقال عربي وطربوش لبناني.
الوجود السوري والتوافق الأمريكي العربي
س: والنتيجة كانت الوجود السوري المشرعَن والمبرّر...؟
ج: الوجود السوري في لبنان كان نتيجة توافق أمريكي عربي، وهكذا مشت الأمور بشكل طبيعي!
س: ماذا حصل إذاً؟
ج: عندما تعقّدت العلاقات السورية الأمريكية، وتعقّدت العلاقات السورية الفرنسية، أُريد أن تُسلب الورقة اللبنانية من يد سوريا.
س: لصالح مَن؟
ج: المعارضة بشكل عام لا تزال تتحرك فرنسياً وأمريكياً، ودخلت السعودية على الخط كعنصر عربي يحاول أن يحتفظ بأوراقه مع سوريا، ليكون له دور عربي في المرحلة المقبلة، لأن السعودية بمنع أمريكي فقدت أي دور عربي، وكذلك مصر.
س: لكن المعارضة اللبنانية تحمل أهدافاً وطنية...؟
ج: خلفيات المعارضة بشكل عام أمريكية، وبالتالي فرنسية.
س: المسألة إذاً غير وطنية، وفي هذه الحالة هي ملتبسة عند المعارضة وعند الموالاة كذلك؟!
س: الموالاة علاقاتها مع سوريا، لذلك تحوّلت القضية إلى قضية ضغط على سوريا من خلال لبنان أمريكياً وفرنسياً، وحين اختلطت الأوراق، رأى الأمريكيون والفرنسيون والسعوديون، أن أي حكومة لبنانية، وأي انتخابات لا يكون لسوريا رأي فيها، فهذا معناه عدم استقرار لبنان.
س: كيف جاء نجيب ميقاتي؟ هل إن المفاتيح لا تزال في يد سوريا؟
ج: سوريا قد لا تستطيع احتواء لبنان، خصوصاً بعد التطورات الأخيرة، لكنها قادرة على أن "تخربط" الوضع اللبناني، وهذا ما يراه الأمريكيون والفرنسيون، ولذلك عندما جاء نجيب ميقاتي رئيساً للوزراء، جاء بإشراف سعودي فرنسي أمريكي مبطّن في الخلف، وبرضى سوريا.
س: هو أيضاً من حلفائها كما يؤكّدون؟
ج: تربطه صداقة بالدكتور بشّار الأسد. وهذا يدلُّ على أن لبنان لا يزال يحكم من الخارج، مرة قال لي سفير فرنسا الأسبق في لبنان: "مشكلتنا مع اللبنانيين أنهم يحدثوننا عما نريد، ولا يحدثوننا عما يريدون هم"!
س: أيعني هذا أنك غير مرتاح لما تراه اليوم في ساحة الوطن ومراياه؟
ج: اللبنانيون ليسوا وطنيين، ودائماً كنت أقول على سبيل النكتة: "أنا أحمل مصباح ديوجين نهاراً لأفتش عن لبناني فلا أجد لبنانياً".
س: المشكلة ليست إذاً في تشكيل الوزارة أو المجلس النيابي والانتخابات...؟
ج: ليست كذلك أبداً، مشكلة اللبنانيين أنهم ينقلون البندقية بسرعة من كتف إلى كتف.
شخصيات سياسية
س: ما رأيكم في العماد ميشال عون؟
ج: هو ابن منطقتنا، حارة حريك.
س: وأمين الجميل؟
ج: أنا شخصياً أدعو أن يتسلّم لبنان الشباب، لا الذين تلطّخت أيديهم بدم اللبنانيين.
س: الدكتور سمير جعجع؟
ج: لا أريد أن أدخل في الجزئيات، ومع ذلك أقول إن النظام الطائفي والذهنية الطائفية والرموز الطائفية، هي سبب سقوط لبنان.
س: الشيخ بطرس حرب؟
ج: فجعت بكثيرين في هذه اللعبة، الانفعال كان يميز خطابهم.
س: نسيب لحود؟
ج: أكثر تعقلاً.
س: كأن الحكومة الجديدة برئاسة نجيب ميقاتي، جاءت بعصا ساحر، أي حكومة تحقيق المعجزات، إقالة الأمنيين، وتحضير الانتخابات، هل كانت كل العرقلة السابقة تقع على عاتق شخص واحد، أم التركيبة كلها لم تكن مؤهّلة؟
ج: المشكلة أن لبنان يُحكم في مدى تاريخه القريب "بالسحرة" الدوليين الإقليميين، ومن الطبيعي أن ينطلق الساحر السياسي من خيوط اللعبة التي يريد أن يلعب بها على الواقع، تماماً كما يلعب الذين يمارسون حيل السحر على الناس الآخرين في عملية استغلال لسذاجتهم وبساطتهم.
وربما ينطلق السحر من خلال التخطيط لهدف مُعين، قد يكون هدفاً سياسياً أو اقتصادياً أو أمنياً، أو لمصالح إقليمية أو دولية، ولذلك فقد كانت المسألة ترتكز على لعبة دولية، فيها شيء من الإقليمية.
والقضية كما ذكرت سابقاً، أن لبنان بحسب تاريخه لا يُحكم من خلال أبنائه ومواطنيه، إنما يحكم من الخارج، وهكذا رأينا بعد كل الشعارات الفضفاضة: السيادة والاستقلال والحرية، رأينا كيف أن الحكومة لم تؤسّس إلا من خلال خلفية فرنسية تختفي وراءها الخلفية الأمريكية، لتنضم إليها الخلفية السعودية والسورية، وليس للّبنانيين إلا أن يتقبّلوا ما يُراد لهم أن يفعلوه. وهذا هو قضاء السياسة وقدرها في لبنان.
عندما ينقلب السحر على الساحر
س: تحدثت عن السحر، ألا تؤمن معي بأنه أحياناً قد ينقلب السحر على الساحر؟
ج: ربما ينقلب السحر على الساحر، لكن عندما تكون المسألة داخلية وخارجية، فإن قواعد السحر تكون مضبوطة بشكل دقيق جداً.
س: بما أن اللعبة واضحة بهذا الشكل الفاقع، لماذا وصلنا إلى هذه المرحلة في رأيك؟ فجأة حلت كل الأمور وأزيلت كل العوائق وأصبح البلد بألف خير!!
ج: ربما كانت العوائق السابقة مفتعلة، لتصل بنا إلى هذا الوضع.
س: ألم يكن في إمكانهم الطلب من السوريين الانسحاب بسرعة قبل أن يحدث ما حدث، وقبل أن يُساء إلى سمعتهم؟
ج: عندما ندرس تاريخ اللعبة السياسية للإدارة الأمريكية، نرى التدخل الأمريكي المباشر وغير المباشر في المسألة اللبنانية، والذي خضع له فريق كبير من اللبنانيين بحجة أن مصالحنا تلتقي مع مصالح أمريكا، وذلك لحفظ ماء الوجه. المسألة إذاً تتصل بالاستراتيجية الأمريكية للمنطقة، التي أعلنت منذ الولاية الثانية للرئيس بوش، أن رسالة الإدارة الأمريكية هي إثارة الفوضى البنّاءة، التي تفتح المجال لأكثر من محاولة لنشر الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، وما إلى ذلك، مع تخفيف أكثر من ضغط على دولة هنا وأخرى هناك، من خلال المصالح الأمريكية الاستراتيجية والتكتيكية.
فنحن نلاحظ أن العلاقات الأمريكية السورية قد تعقدت في المدة الأخيرة، ولا سيما بعد احتلال العراق، سواء من خلال اتهام أمريكا سوريا بأنها تتدخل أمنياً في العراق، من خلال إفساح المجال للمقاومة والإرهابيين للدخول إلى العراق عبر حدودها، أو من خلال المطالب التقليدية الأمريكية من سوريا، وهي إغلاق مكاتب القيادات الفلسطينية كحماس والجهاد، انتهاءً بإغلاق مكاتب حزب الله، والضغط على سوريا للامتناع عن تأييده، لأن أمريكا في الوقت الذي تفكر باستراتيجيتها في حماية وجودها في العراق، تفكر أيضاً في الاستراتيجية الإسرائيلية، وفي منع أية قوة عربية يمكن أن تشكل قوة ممانعة أو خطراً على إسرائيل.
تعقيدات العلاقة السورية ـ الأمريكية
لذلك، فإنّ التعقيد في العلاقات الأمريكية السورية، جعل أمريكا تضغط على سوريا من خلال الورقة اللبنانية، لأن سوريا لا تملك في التطورات السياسية الأخيرة، إلا الموقع اللبناني كامتداد لنفوذها السياسي والأمني وما إلى ذلك، كمصدر لقوتها السياسية في المنطقة العربية. لذلك فقد كانت المسألة اللبنانية السورية في الحسابات الأمريكية، ومن الطبيعي أن أمريكا حين تخطط للضغط على بلد، فإنها تحاول أن تجمع كل مفردات الضغط التي تضعف كل هذا البلد، ليقدم التنازلات للمطالب الأمريكية.
وكل ما حدث في لبنان، بقطع النظر عما إذا كان القائمون عليه أصحاب حق أم لا، يمثِّل المفردات التي أرادت أمريكا أن تضغط بها على سوريا، إضافةً إلى عناصر الضغط الأخرى، في الحديث عن النظام السوري والحريات ومسألة الديمقراطية وما إلى ذلك.
س: الذي أستغربه أن لا ردّة فعل معاكسة لسوريا تجاه ما حدث من ضغط، الـ1559 نفذ بسرعة، والانسحاب تم قبل الموعد، ماذا يحدث؟ هل هناك اتفاق أمريكي سوري على كل التفاصيل؟
ج: يبدو أنّ سوريا كانت تفكر من خلال ما سمعنا من بعض القيادات سابقاً، في الانسحاب من لبنان، لكنها كانت تنتظر الفرصة السانحة، وهذا ما لاحظناه عندما كانوا يتحدثون عن إعادة الانتشار بين حين وآخر، وعن انسحاب سوريا من بعض المواقع اللبنانية، ولذلك فإن الظروف التي أحاطت بالوجود السوري في لبنان من خلال الضغط الدولي على سوريا بعد مسألة التمديد لرئيس الجمهورية اللبنانية كان بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير.
لذلك فإن المسألة تحولت من ضغط أمريكي إلى ضغط دولي، لا تملك سوريا أن تتماسك أمامه في هذا المجال، وإنما عملت على أساس الاستجابة له، لتخفّف عنها مواد أخرى من القرار الدولي، وهي قضية نزع سلاح حزب الله، وسوريا بعد انسحابها لا تملك القوة المسلحة في لبنان لتستطيع نزع سلاح حزب الله والمنظمات الفلسطينية.
قوة لبنان في ضعفه!!
س: سعد الدين الحريري صرّح في الولايات المتحدة أن سلاح حزب الله هو سلاح مقاومة لبنانية، وهذا ما نراه أيضاً في تصريحات وليد جنبلاط، في حين يصرِّح فرقاء آخرون بطريقة معاكسة ومختلفة، هناك مواقف مختلطة!.
ج: مشكلتنا هي أن الكثير من اللبنانيين ـ ولا أتحدث عن فريق معين ـ لا يزالون يعتبرون أن قوة لبنان في ضعفه، ولا يزالون يعتبرون أن إسرائيل لا تمثل خطراً على لبنان، وأن اللبنانيين لا يجوز أن يكونوا أقوياء أمام أي عدوان خارجي، ولذلك فإن الكثيرين يتحدثون بطريقة نفاقية، عن مسألة رفض إسرائيل والمصالحة معها، أو أن لبنان سيكون آخر من يوقع معاهدة صلح. أنا أعتقد أن هذا نوع من النفاق السياسي. إنّ الكثيرين ممن يتحدثون بهذه الطريقة، لو أتيحت لهم الظروف العربية والدولية الملائمة، لبادروا إلى مصالحة إسرائيل قبل الغد، والدليل على ذلك، أن البعض من هؤلاء بادروا إلى اتفاق 17أيار، وأن الكثير منهم يوم كانوا في المجلس النيابي صوتوا لصالح 17أيار.
لذلك، أن يكون لبنان قوياً أمام إسرائيل، فهذه مسألة مرفوضة عند الكثيرين، إنهم يخافون من أن يكونوا أقوياء. ولعلّنا نعرف ذلك من خلال أن أغلب هؤلاء الفرقاء لم يتحركوا خطوة واحدة أثناء الاحتلال الإسرائيلي قياساً بما تحركوا به ضد الوجود السوري! مع أن إسرائيل دخلت محتلة، وسوريا دخلت بتوافق عربي ودولي، ولم تكن محتلة، وإذا كان هناك نوع من السلبيات في الوجود، فإنها من خلال طبيعة الممارسات التي تمثلها المخابرات السورية متفاوتةً مع الاستخبارات اللبنانية. الجيش السوري لم يمثل مشكلة بالنسبة إلى لبنان، ومع ذلك فأغلب هؤلاء لم يتحركوا عندما تحركت المقاومة لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وعندما حررت الأرض اللبنانية، لم يكن لهم أي دور في التحرير، إنهم يمننون على المقاومة بأنهم أيّدوها.
إن مسألة أن تكون لبنانياً في لبنان محتل، هي أن تشارك المقاومين في إنهاء الاحتلال، فرفع العلم اللبناني لا يمثِّل حريةً وسيادةً واستقلالاً، العلم اللبناني لا يمثل حرية لبنان من خلال تحرير لبنان، حين يكون محتلاً. والكثيرون اليوم يثيرون جدلاً حول لبنانية مزارع شبعا، مع أن الأهالي يؤكّدون من خلال وثائقهم أنها لبنانية...
قضية مزارع شبعا
س: لماذا لم تنهِ سوريا الالتباس وتعترف بلبنانية مزارع شبعا؟
ج: لست في مقام الدفاع عن سوريا، لأن هناك مشاكل خاصة بالنسبة إلى سوريا من جهة الاعتراف، تتصل بمسألة العودة إلى حدود العام 1948. وهناك أيضاً تعقيدات، في الجانب الرسمي، لأنّه ليس هناك تخطيط حدود، لكن المسؤولين السوريين أعلنوا أن مزارع شبعا لبنانية.
نحن نقول لماذا هذا الجدل، ولماذا القول إنّ علينا ألا نقاتل إسرائيل بسبب احتلالها مزارع شبعا، فمزارع شبعا لا علاقة لنا بها باعتبارها سورية؟ أنا أتصور أن الوجود السوري لم يكن احتلالاً، إنما دخل بإرادة لبنانية، ومسيحية تحديداً، وبإرادة عربية ودولية، لكن هذا الوجود أدّى إلى أخطاء وتعقيدات وبعض الآلام للّبنانيين، كما اعترف الرئيس بشار الأسد، لكنه ليس احتلالاً، والكثير من هؤلاء ثاروا على الوجود السوري، لكنهم لم يحاربوا الاحتلال.
لذلك من يتحدث عن حرية وسيادة واستقلال، عليه أن يشارك في المقاومة التي هدفها الأساسي تحقيق ذلك.
إنني ألاحظ في إدارة المسألة السياسية، وحتى في طريقة إدارة المواجهة لسوريا في هذا المقام، أن العنوان الكبير للحركة كان عنواناً أمريكياً، وإلا كيف نفسّر غياب سفيرها من السفارة، ليأتي مساعد وزيرة الخارجية، وليتحدث بأنه يجب على الذين تدعمهم دول خارجية، كحزب الله، ألا يكون لهم دور، لأن إيران وسوريا تدعمانه، مع أنه حزب لبناني!
إن السفارة الأمريكية حسب المعطيات الموجودة، والتدخل الأمريكي من خلال ممثليه في كل الخصوصيات، حتى في الجزئيات اللبنانية، يدل على أن هناك خطوطاً أمريكية تتحرك مع هذا الفريق أو مع ذاك، على أساس أن تورّط أمريكا، ثم فرنسا معها، اللبناني في عملية المواجهة لسوريا.
البعض يقول إن مصالحنا تلتقي مع أمريكا، ولكنّ المسألة لا ينبغي أن تكون هكذا، لأن إدارتك لأمورك لا بد وأن تنطلق من خلال الخطة التي تضعها أنت، لا من خلال الخطوط والخطط التي تضعها أمريكا، لتكون أمريكا هي التي تخطط وتدعم وتهدد وتنفذ، وليكون الآخرون صيداً لها!
لجنة التحقيق الدولية... إلى أين؟
س: اللجنة الدولية، ماذا ستفعل في رأيك، وهل ستكون محايدة؟
ج: نحن لا مشكلة عندنا في أن يكون هناك لجنة تحقيق دولية لكشف حقيقة اغتيال الرئيس الحريري، هذا أمر يطلبه كل اللبنانيين، لأنه يزيل كل التعقيدات الداخلية التي يتهم بها فريق هنا، وفريق هناك، لكننا نلاحظ أن المسألة هنا: هل إن لجنة التحقيق ستقتصر على التحقيق في هذه الجريمة النكراء، أم أنها ستدخلنا في متاهات سياسية، محاولةً أن تستغل هذه الجريمة، لتفرض الكثير من الخطوط التي ترتبط بهذه الدولة وتلك؟
هذه اللجنة جاءت من أجل دراسة خطوط الاغتيال وتقصّي حقيقته وتفاصيله، لكن أغلب ما جاء في تقريرها كان سياسياً، وهذا ما أبعد الكثير من عناصر التركيز عن الجريمة.
نحن نخشى أن تكون لجنة التّحقيق الدولية، تريد أن تكرّس خطوطاً دولية جديدة باسم التحقيق في الجريمة، لأننا لا نثق بأمريكا التي انطلقت في المسألة من خلال مصالحها، كما لا نثق بالسياسة الفرنسية أو الأوروبية، لأنها أيضاً تنطلق من مصالح معيّنة!
نحن لا نرفض لجنة التحقيق الدولية، لكننا نقول إنه لا بد من أن توضع لها بعض الضوابط التي تجعلها محصورة في هذه الدائرة.
س: ومن في رأيك سيضع هذه الضوابط؟
ج: لا أظن أنّه بمقدور أحد أن يملك ذلك، لذلك فإن هذه اللجنة، كما كل اللجان الدولية، هي التي تفرض نفسها على الواقع العربي كله.
الأمم المتحدة خاضعة لأمريكا
س: لكن الأمم المتحدة لها دور؟
ج: نلاحظ أنّ الأمم المتحدة أصبحت خاضعة لأميركا بشكل مباشر أو غير مباشر، لذلك رأينا أن أمريكا تحاول معاقبة الأمين العام للأمم المتحدة، عندما يبتعد عما تخطط له، كما نلاحظ اليوم أنها أعادت اتّهامه بقضية النفط مقابل الغذاء، لأنه أخّر تقريره في مسألة الانسحاب السوري، ولأنها ترغب في الحديث يومياً عن أنّ سوريا لم تنسحب، بينما هي تعرف أن الانسحاب يحتاج إلى كثير من المسائل، وهو لا يمكن أن يتمّ بين ليلة وأخرى.
حتى إن أمريكا اليوم، بعد إتمام الانسحاب السوري، تعلم بواسطة مخابراتها ومخبريها أن سوريا انسحبت، ومع ذلك لا تزال تشكّك!
سلاح المقاومة لا ينـزع إلا بتسوية
س: إذا نالت الحكومة الثقة، وجاءت الانتخابات بنواب صوّتوا كلّهم لصالح إلغاء سلاح المقاومة، ماذا ستفعل المقاومة حينها؟
ج: أتصور أن الوضع اللبناني لا يساعد على إيجاد موقف من موقع قوة لنـزع سلاح المقاومة، ولذلك فإن المسألة إذا لم تحل بالحوار، فليس هناك حل آخر.
وإنني أتصوّر أن مسألة سلاح المقاومة مرتبطة بأزمة الشرق الأوسط، ككل القضايا الأخرى التي هي مرتبطة بالصراع العربي الإسرائيلي. وحين تتحدّث الولايات المتحدة وإسرائيل ومجلس الأمن عن أنّ مزارع شبعا سورية، فهذا يعني أن هذه القضية لا تحل إلا عند حلّ النـزاع السوري ـ الإسرائيلي، وسلاح حزب الله هو جزء من هذا النـزاع.
ونحن نعرف أن المقاومة تملك عقلاً سياسياً راشداً في هذا المجال، وهي تسأل كل الذين يتحدثون عن نزع سلاحها واعتبارها ميليشيا: ما هي الضمانات لعدم اعتداء مستقبلي إسرائيلي نتيجة تبريرات إسرائيلية هي "ماهرة" دائماً في اختراعها؟ هل هناك ضمانات أن إسرائيل لن تخلق مبرراً للعدوان على لبنان؟
ليس هناك من يستطيع أن يقدم هذه الضمانات. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، هل يملك الجيش اللبناني بما يملك الآن من الأسلحة ومن القوة ومن الموقف السياسي، هل يملك أن يقاتل إسرائيل؟!
مَن ينـزع سلاح المتطرفين الإسرائيليين؟
س: يقولون نعم... كثيرون صرّحوا بذلك، واعتبروا الجيش كفوء لأية مواجهة محتملة؟
ج: المسألة ليست أن يقولوا نعم أو لا...
عندما نتحرك بلغة الأرقام، فعلينا أن تكون لنا الأرقام التي تسمح بجواب حاسم لهذه المسألة، كم لدينا استعداد؟ ليست هناك أجوبة، ثم إنّ إسرائيل دولة كبرى من الناحية العسكرية، هناك سلاح للمستوطنات يهدد الدولة الإسرائيلية، إذا كانت أمريكا تطالب بنـزع سلاح المقاومة في فلسطين، ونزع سلاح المقاومة في لبنان، فنحن نقول إن المتطرفين اليهود الذين يتحدث عنهم العالم بأنهم يشكّلون خطراً على الفلسطينيين وعلى الإسرائيليين، لماذا لا ينـزع سلاحهم، ولماذا لا تفكك منظماتهم، كما يطالب بتفكيك منظمة حماس وحزب الله والجهاد؟
نحن نقول ربما تكلِّف المسألة اللبنانيين بعض الجهد والتعب والمعاناة، ولكن لماذا نخاف من أن نكون أقوياء.
س:لكن البعض يظهر عناصر قوة؟
ج: هذا البعض مستعدٌ لأن يحشد القوّة ضد اللبناني، لكنه يرفض أن يحشدها ضد الإسرائيلي.
س: بعد كل ما عشناه ونعيشه، لبنان إلى أين، إلى أين نحن ذاهبون؟
ج: إنني أنتظر وأقول إن الكثير ممن يتحدثون عن الإصلاح وعن لبنان الجديد، قد سقطوا في التجربة التي مارسوها عندما حكموا لبنان القديم.
ونحن نقول إن الذين سقطوا أمام التجربة، لا يجوز أن نكرر التجربة معهم من جديد. إنني أدعو الجيل اللبناني الجديد الذي خرج ليتظاهر بفعل حماسه الوطني، إلى ضرورة إيجاد برنامج للبنان السياسي ولبنان الأمني والاقتصادي، والجميع لا يملكون برنامجاً. إنهم يثيرون غرائز الناس، ويستفيدون من بعض الفجوات الأمنية والسياسية والإقليمية، لكنهم لم يحركوا عقول الشباب. نحن بحاجة إلى معارضة وموالاة تنفتح على الجيل الجديد لتجعله يفكر.
الحركة الثالثة
س: ما قولك في الحركة الثالثة لفريق من الشيعة، في قراره أنّه لا ينتمي إلى حزب الله أو أمل، بل إلى المعارضة؟
ج: أنا لا أعلّق على بعض المفردات الشخصية والفئوية، لكنني أقول إن المرحلة التي نعيشها هي أكبر من كل ما يُثار حالياً.
مجلة "الصياد" العدد:3157، 27 ربيع الأول 1426هـ/ 6 أيار 2005م
حاورته ـ مريم شقير أبو جودة