الوحدة الإسلامية هي خيار الإسلام في مواجهة التحديات

الوحدة الإسلامية هي خيار الإسلام في مواجهة التحديات
 

حينما تكون مع المرجع الإسلامي السيد محمد حسين فضل الله، تحاوره ويسمع منك، ويرد عليك بحكمة واقعية، وبتحليل منطقي لما تستفسر عنه، تشعر عندها بشرف المسؤولية في نقل أفكاره للآخرين عبر الإعلام المكتوب - خصوصاً - كما تشعر في الوقت نفسه بكبر المسؤولية، لأنّك تدرك الثمن المعنوي القاسي الذي ستتحمله في حال لم يكن النقل بالروحية ذاتها التي أرادها أن تصل إلى القارئ، لأنه حينما يتكلم، يدفع بالقضية التي يعالجها إلى خطوات يريدها قوة في إنارة الطريق أمام القارئ، ليدفع بها القارئ إلى فهم أكثر تطوراً، بعد أن تكون أفكار "السيد" قد دلّته على هذا الطريق، فيعرف عندها أين يقف في قلب هذه المتغيرات والتحولات الكبرى، وكيف يتعامل معها، بعد أن يكون فكر "السيد" قد حاصرها وفكَّك رموزها المشفَّرة، وقدَّمها للقارئ (أو السامع حينما يطل عليه من وسائل الإعلام المرئية) بالتفسير الميسر، من خلال ما يملك من خلفية فكرية إسلامية وسياسية قلّ نظيرها في "سوق العولمة السلبية الاختزالية"، وفي جو الإرهاب الفكري الذي ُنحارب به في سبيل تشويه صورة رسالة إسلامنا في الوسطية والاعتدال والحضارة، وتصويرنا من خلال سياسة المكيالين، بأننا ما زلنا نعيش في القرون الوسطى، بهدف تبييض "الإرهاب اليهودي"، أو "إرهاب الأصولية الصهيونية" على حسابنا.

إنك وأنت تحاور "السيد"، تجد متعة الحوار الفكري الإستراتيجي المعمّق، الذي يمهد أمامك طريق إعادة الثقة بالعروبة والإسلام، بعد أن كادت هذه الثقة تضيع بين أحداث 11-9-2001م، وأحداث 7-7-2005م.

ولأن "السيد" كان وحدوياً بفكره الإسلامي منذ عام 1952م، وما زال كذلك "جامعاً وجامعةً" لثقافة وحدوية، تنير العقول والقلوب، وتُعد الأجيال،  وتمّهد لهم طريق الانفتاح والحوار "الإسلامي - الإسلامي" و"الإسلامي الهادف"، في "إطار الوحدة الوطنية" و"الرابطة القومية العربية"، وصل إلى المكانة التي استحقها بكل جدارة، والّتي أهَّلته لأن يكون مرجعاً إسلامياً يلجأ إليه وقت الأزمات والملمات علماء الدين الإسلامي، ورجال الدين المسيحي، ورجال الفكر وأهل السياسة، ليأخذوا عنه المشورة الصحيحة، والفتوى الجامعة، هذه هي قوة المرجع الإسلامي السيد محمد حسين فضل الله.

لانسحاب من غزة "ولاءات" شارون

* سماحة السيد، كيف تقرأون حدث خروج الاحتلال الإسرائيلي من غزة، الذي بدأ فجر الإثنين 15 الجاري، وأخذ صوراً عدة يوم الأربعاء 17 الجاري؟

- عندما ندرس مسألة الانسحاب من غزَّة، فإننا ندرس حدثاً يتصل بالمسألة الفلسطينية ككل، باعتباره الخطوة الأولى في مسافة العشرة آلاف ميل، فنحن نعرف أن غزة كانت المشكلة للحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، ولعل الجميع يذكرون حديث "إسحق رابين"، بأنه يتمنى أن يشرق الصباح عليه ويرى غزة في البحر. لذلك كانت غزة المأزق لإسرائيل، وهي في الوقت نفسه مسألة لا تمثل أي معنى ديني لإسرائيل التوراتية، كونها خارج الخريطة التي رسمها الإسرائيليون لدولتهم في معناها الديني.

ومن جهة أخرى، فإن إسرائيل المحاصرة دولياً، إضافةً إلى حصارها في حركة الانتفاضة، تحاول أن تقدم بالتحالف مع أميركا، مبادرة توحي للعالم بأنها دولة سلام، وأنها ليست في موقع الاحتلال للأرض الفلسطينية. كما أن اللقمة التي لا يزال "شارون" يتحضر لإلتهامها، وهي المستوطنات الست في الضفة الغربية والقدس، امتداداً لرفض عودة اللاجئين؛ إن هذه اللقمة تحتاج إلى ما يمكن أن ينـزلها إلى جوف إسرائيل من الناحية السياسية، حتى يقدَِّم إلى العالم صورة إيجابية عن إسرائيل، بأنه ينسحب من غزة ومن بعض المستوطنات في شمالي الضفة الغربية، مقابل إبقاء المستوطنات الست الكبرى كوضع واقعي لا إمكانية للانسحاب منها، لأنها تضم عشرات الألوف من المستوطنين، وهذا ما أكّده "شارون" في 17 الجاري بقوله: "إن الاستيطان بعد الانسحاب من غزَّة سيتواصل ويتوسَّع"، وهذا ما أكّده الرئيس الأميركي بوش في رسالته الشهيرة إلى "شارون".

إنّ كل هذه الأمور، بما فيها كلام "شارون" عن الإرهاب اليهودي الذي برر فيه قتل أحد المستوطنين اليهود لأربعة من الفلسطينيين في الضفة الغربية الأربعاء 17 الجاري، قُدِّمت بطريقة احتفالية، لتشغل الرأي العام العالمي بالانسحاب من غزَّة، وتُشغِل كذلك اللجنة الرباعية الدولية، كما لو كان هذا الانسحاب يمثل "صدمة الحرية" في القضية الفلسطينية، في حين أن الحقيقة التي أكَّدها "شارون" في لاءاته، دلّلت على أنه ليس في وارد إلحاق هذا الانسحاب بانسحاب من الضفّة الغربية والقدس، كما أكّد أنه لن يعطي الفلسطينيين في الضفة الغربية إلا ما مساحته 42% من الأرض، وبشكل مقطِّع الأوصال "كانتونات منعزل بعضها عن بعض" بحيث لا يسمح لأي دولة فلسطينية بأن تكون قابلة للحياة.

لذلك، عندما ندرس كلِّ هذا الوضع، في كل هذه الأجواء الاحتفالية التي يثيرها الإسرائيليون من جهة، والتي يستعدُّ لها الفلسطينيون من جهة أخرى، وتتحرك فيها التصريحات السياسية في أوروبا وأميركا والبلاد العربية احتفاءً بها، نُلاحظ أن هذا الانسحاب ليس تحريراً، بل هو في كلِّ خطوطه ومفرداته يمثل نوعاً من السجن المحتوي على بعض المساحات التي يتنفس فيها أهالي غزة، لأنّ هذا الانسحاب لا يسمح بحرية المرفأ أو المطار أو المعابر، وإسرائيل تريد أن تشارك المصريين والفلسطينيين في معبر رفح وغيره، بحيث لا يكون للفلسطينيين أية حرية مطلقة، إضافةً إلى التضييق على الصادرات والواردات، والحدّ من حرية الحركة بالنسبة للفلسطينيين. لذلك نقول إنَّ الفلسطينيين انتقلوا من سجن بمستوى معين، إلى سجن أوسع وأكبر مساحة، ولكن من دون أن يتنفسوا كما يتنفس الشعب الذي يملك استقلاله في قضاياه الحيوية والمصيرية.

لذلك، أتصوّر أنه من غير الصحيح اعتبار أنّ هذا الانسحاب يمثِّل خطوةً بشكل يسترجع فيه الفلسطينيون حقوقهم، حتى على مستوى الأرض المحتلَّة، بعد أن فقدوا أكثر فلسطين في اللّعبة الدولية، ذلك أنّني لا أجد أن الحكومة الإسرائيلية، وربما أكثر الإسرائيليين، يريدون أن تمثل هذه التحركات خطوةً في التحرير بشكل وبآخر، ولاسيما أنه ليست هناك أية دولة في العالم تملك الضغط على إسرائيل، فأميركا تلعب اللعبة الضاغطة التي تتيح لإسرائيل استمرار استراتيجيتها في قضم فلسطين لمصلحة خطة "شارون"، لا لمصلحة خطَّة الطريق التي حاول شارون أن يطوِّقها بأكثر من شرط قبله منه الرئيس بوش. أما أوروبا، فإنها ربما اقتربت الآن من الخط الأميركي في مسألة دعم إسرائيل في الكثير من خططها الفلسطينية، أما معظم البلاد العربية، فهي تعيش الضعف أمام أميركا وأمام إسرائيل، ولا تملك من أمرها شيئاً، سوى بعض الكلمات التي لا معنى لها، ولا تمثل شيئاً في اللعبة السياسية الإقليمية أو الدولية، والتي أدخلت القضية الفلسطينية في مغارة مظلمة، لا نعرف كيف يمكن أن نجد الضوء في نهايتها.

لا شريك فلسطيني!

* خروج سلطة الاحتلال الإسرائيلية من غزّة، هل سيكشف عن المشهد السياسي الفلسطيني فيها، بما يدعم مقولة "شارون" إن الشريك الفلسطيني في عملية السلام ما زال غير موجود؟

- حديث "شارون" حول فقدان الشريك الفلسطيني، محاولة لتركيز هذه المقولة في الرأي العام العالمي، على أساس الاستفادة من الشّرط الأميركي، والذي تحوّل إلى ما يشبه الشرط الأوروبي، وربّما الأمم المتحدة وروسيا، وهو إسقاط البنية التحتية لما يسمى الإرهاب، أي "الانتفاضة"، لأنّ المطلوب من السلطة الفلسطينية، إنهاء الانتفاضة بالكامل، ونزع أسلحتها. وهذا أمر لن يحدث في المستقبل القريب، من خلال رصدنا للإرادة الفلسطينية للمجاهدين في الانتفاضة، إضافةً إلى أن أميركا في تصريحات مسؤوليها، لا توافق "شارون" على فقدان الشريك الفلسطيني، لأنها تعتبر أن "محمود عباس" يمثل شريكاً صالحاً للدخول في المفاوضات، وهذا يضعف موقف "شارون" بطريقة وأخرى، إذا لم يسيطر من جديد على قرار الرئيس بوش.

أما مسألة نصب الشرك للفلسطينيين لإيجاد حالة من التقاتل فيما بينهم، فإنني أعتقد أن الجميع متّفقون على وحدة الموقف، حتى إذا حدثت بعض الأحداث، كما حصل قبل مدة، فإنّ الجميع يبادرون إلى تطويقها، لأنهم يعرفون أن نتيجة أي نزاع "فلسطيني - فلسطيني"، سوف يسقط الهيكل على رؤوس الجميع، إضافةً إلى أنّ الانتخابات التشريعية قادمة في كانون الأول، والتي ربما تخلط الكثير من الأوراق على الساحة السياسية الفلسطينية.

على ضوء هذا، فإنني أتصوّر أن القضية الفلسطينية لن تموت، وأنّ مسألة القدس والأقصى ليست بالبساطة التي يتحدث عنها رئيس إسرائيل كاتساف.

قضية القدس

* أين ترى قضية القدس قد أصبحت، بعد تغيير سلطة الاحتلال الإسرائيلية خلافاً لمقررات الشرعية الدولية، معالم القدس القانونية، كمـا أنّها أعلنت في 10-7-2005م الإسراع في بناء "غلاف القدس"، أو جدار التمييز العنصري، الذي سيفصلها عن الضفّة الغربية، وجعلها جزءاً لا يتجزّأ من القدس الكبرى، العاصمة الأبدية لإسرائيل التي أعلنت في 30-6-1980 ؟

- من الطبيعي أن الاستراتيجية الإسرائيلية تجعل القدس الواجهة للعقيدة الصهيونية اليهودية، باعتبار أنّ المسألة الدينية في إسرائيل التوراتية، تتركَّز على القدس خصوصاً وأسطورة الهيكل المزعوم، إضافةً إلى أنّّ القدس تمثل الموقع السياسي المقدَّس الذي يجتذب كلَّ يهود العالم، ويجعل إسرائيل قبلة العالم، ولا سيّما في الأمور السياحية الدينية، التي تأخذ معنى القداسة عند اليهود، والقضية، هي أنه لا بد أن نواجه المرحلة المقبلة فنسأل: هل إنّ الفلسطينيين سوف يستريحون للانسحاب الإسرائيليّ من غزَّة ومن بعض أراضي الضفة الغربية، أم أنهم سوف يتابعون مسيرة الانتفاضة بالرغم من كل التعقيدات الصعبة التي تحيط بها وسوف تواجهها؟!

برأيي، إنّ متابعة المسيرة ستجعل إسرائيل في مأزق متحرّك، وكذلك ستجعل أميركا والاتحاد الأوروبي في مأزق متحرك، باعتبار أنها ستخلق حالة من الإثارة التي يمكن أن تطرح فيها مسألة الإرهاب أو أي مسألة مشابهة.

إنني أتصوّر أن مستقبل القضية الفلسطينية ليس يائساً، بل إنه يختزن من خلال قرار الانتفاضة بالاستمرار، أكثر من نقطة في الأفق.

إحراق الأقصى والتداعيات المستجدّة

* على أي مفترق تقف قضية الأقصى الشريف بعد التطورات الأخيرة، ومنها تهويد معظم القدس، ودعوة الرئيس الإسرائيلي "كاتساف" إلى تقسيم الأقصى المبارك؟

- حينما حدثت جريمة إحراق الأقصى الشريف في عام 1969م، ولدت منظَّمة المؤتمر الإسلامي، حفظاً لماء الوجه الإسلامي الذي يريد أن يقول إنه وفّى قسطه للعلى، وأصبح للعالم الإسلامي منظمة تحافظ على القدس والمسجد الأقصى، إضافةً إلى ولادة لجنة القدس بعدها بقليل، التي وضع على رئاستها ملك المغرب. ولكننا عندما ندرس مسار منظمة المؤتمر الإسلامي، فإننا لن نجد هناك أية قرارات فاعلة ضاغطة في كلِّ ما تملكه من عناصر ضغط على إسرائيل أو على أميركا من خلال دول هذه المنظمة، وكذلك الأمر بالنسبة للجنة القدس التي تبدو كأنها غير موجودة في الواقع الذي نعيشه.

ربما استفادت قضية القدس والمسجد الأقصى من وجود المنظمة ولجنة القدس، أنهما أشاعا مناخاً معيناً، أوحى للأميركيين والإسرائيليين، بأنّ مسألة العلاقة بين إسرائيل والعالم الإسلامي لم تنضج حتى الآن، وأنّ هناك حالة وجدانية نفسية لدى العالم الإسلامي قد تعقِّد علاقة إسرائيل المستقبلية بالواقع الإسلامي كلّه، لأنّ الدول، بما فيها التي صالحت إسرائيل، هي عضو في المؤتمر الإسلامي، ولا تستطيع إلا أن تتماسك أمام شعوبها عندما يحدث أي أمر سلبي في مستوى السيطرة الإسرائيلية على المسجد الأقصى، أو تهويد القدس بالكامل.

إنّني أعتقد أنّ ما حدث يمثل مشكلة للقضية الفلسطينية، ما قد يوحي بأن الأرض بدأت تهتزُّ تحت أقدامها، ولكن علينا أن نرصد المستقبل؛ هل تعود الانتفاضة لتربك الأمن الإسرائيلي؟ لأنّ الصراع الآن هو بين الأمن الإسرائيلي والأمن الفلسطيني، وبين الاستراتيجية الإسرائيلية والاستراتيجية الفلسطينية، كما أنّ استمرار الانتفاضة، إذا ساعدتها الظروف، يعني أن الأمن الفلسطيني سيكون قادراً على أن يقتل الأمن الإسرائيلي، كما حدث في العمليات الاستشهادية.

القضية هي أنّ الشعب الفلسطيني قرّر الاستمرار في النضال لحماية القدس والأقصى، ولا تملك أية سلطة أن تسحب هذا القرار الاستراتيجي من وجدانه، والسؤال الكبير هو: ماذا عن المستقبل بعد الانسحاب من غزة؟ نحن نرى أن المسألة لا تحتمل المزيد من التحليل التجريدي، بل لا بد من مراقبة دقيقة للأمر، لأنّ قضية القدس والأقصى ليست بالأمر السهل الذي تتصوّره سلطة الاحتلال الإسرائيلية ما دامت الانتفاضة قائمة.

أسبوع المسجد العالمي

* في دورة وزراء خارجية مؤتمر "منظّمة المؤتمر الإسلامي" في الخرطوم، كان هناك توصية في أن يصار إلى إحياء أسبوع المسجد العالمي ما بين 21-8 و21-8، لتبقى قضية المسجد الأقصى حيةً في نفوس المسلمين، ولكن للأسف، لم نسمع بهذا الأسبوع إلاَّ في لبنان في عام 2003م، أما في عام 2004م، وفي هذا العام، فلا حديث أو تحرك في هذا المجال. كيف تحلل سماحتكم هذا الانحسار؟ وكيف تردّون على أن مساجدنا أصبحت تخرِّج إرهابيين؟

- أوَّلاًً، إنّ عدم وجود أية حركة في نطاق هذا الأسبوع، ينشأ من حقيقة واحدة، وهي أنّ المؤتمر الإسلامي ليس موجوداً في العالم الإسلامي أبداً، ولذلك فإنّ كل قراراته تبقى في الأدراج، ولن يصل صوته إلى أي عربي أو أيّ مسلم، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الجامعة العربية ولجنة القدس.

ثانياً: إنّ قوة الموقف في قضية القدس والأقصى، تتمثَّل في الشعب الفلسطيني، وهذا ما نلاحظه عندما تثار أيُّ مسألة في إمكانية اجتياح اليهود للمسجد الأقصى، فإننا نجد أن فلسطينيي 1948 وفلسطينيي الضفة وغزة، يبادرون بطريقة وأخرى للالتفاف معاً حول المسجد الأقصى.

أمَّا مسألة أن مساجدنا تخرّج "إرهابيين"، فإنني أعتقد أن الإدارات الأميركية، والأوروبية معها في بعض مواقعها، هي الّتي خرّجت "الإرهابيين"، لأنّ طبيعة السياسة التي تخطط لها هذه الإدارات وتتحرك بها، هي التي تهز وجدان العالم الإسلامي، الذي قد لا يجد لديه أيّة فرصة للمواجهة إن بفعل حجم القوة التي تفرضها أميركا أو يفرضها حلفاء أميركا في العالم، أو بسبب العجز السياسي والأمني. لهذا فإن الكثير من حالات العنف التي قام بها هؤلاء - أو يقومون بها في المستقبل - لم تنشأ من المساجد، وإنما من حركة الدعم الأميركي المطلق، ومعه بعض الدعم الأوروبي، لإسرائيل، وبمختلف الوسائل والإمكانيات الاقتصادية والسياسية والعسكرية، بحيث يشكّل ذلك تطويقاً لكل حركة عربية أو إسلامية احتجاجية أو في خط المواجهة. وهذا ما يساهم في خلق جوٍّ في الوجدان الداخلي لكلِّ مسلم، في التّعبير عن رفضه وعن مواجهته لما يجري بما يستطيع، ولو بأن يفجر نفسه ليربك الأمن الأميركي - ولسنا هنا في مقام التبرير، بل في مقام التحليل - ولتشعر أميركا أن كل قوتها الهائلة لا تستطيع أن تحميها من إنسان يريد أن يموت ليسقط سياستها، أو كما عبَّر الرئيس بلير بعد تفجيرات لندن، وإن تلك التفجيرات قد ترجع في بعض خلفياتها إلى بقاء أزمة الشرق الأوسط، وإن كان قد سحب تصريحه بعد ذلك، ولكن عمدة لندن، والكثير من السياسيين في بريطانيا، وأميركا أكَّدوا ذلك.

إنّ مساجدنا لا تتحدث إلا عن عرض مشكلات العالم الإسلامي الذي تُسلب ثرواته، وتصادر سياسته وما إلى ذلك، أما إذا أردت أن تسأل عن جذور الإرهاب، فابحث عن أميركا.

الفدرلة والعراق

* بدأنا نسمع دعواتٍ جديدةً لفدرلة العراق، فما هو رأي المرجعيات الإسلامية في لبنان حول هذه الطروحات التي انتقلت عدواها إلى لبنان والسودان؟

- الفيدرالية في العراق، هي نتيجة من نتائج المشكلة الكردية، لأنه لم يكن في العراق من يفكِّر في الفيدرالية، لا من السنَّة ولا من الشيعة، لكن المسألة الكردية فرضت ذاتها على المعارضة في كلِّ مؤتمراتها، في مؤتمر صلاح الدين وفي مؤتمر لندن، لذلك رأى السنة والشيعة معاً، أنهم لا يستطيعون اجتذاب الأكراد إلى خط المعارضة، إلا من خلال الاعتراف بالنظام الفيدرالي في العراق، ولكنَّهم أطلقوا الكلمة بشكل ضبابي دون التحدّث عن طبيعتها وخطوطها على الواقع السياسي للعراق في تلك المرحلة.

أما الآن، فإنّ السؤال: هل تقتصر الفيدرالية على الأكراد، أم أنها ستمتد إلى العراق كله، ليكون هناك مثلاً فيدرالية المحافظات أو أيِّ فيدرالية أخرى؟

لذلك نجد أنّ مسألة الفيدرالية قد دخلت في القاموس السياسي العراقي، وهذا ما نلاحظه في الجدل الذي يدور حول كتابة الدستور بهذا الشكل الذي أثير أخيراً، بأن تكون هناك فيدرالية تعطي نوعاً من الاستقلال الذاتي للأكراد، ومثلها لمحافظات الجنوب والوسط، وهكذا بالنسبة إلى مناطق السنة، والمسألة لا تزال مثار جدل، لأنه لا يمكن أن يكتب الدستور على أساس فيدرالية شاملة لا يوافق عليها العرب السنة، لذلك فالقضية ما تزال محل جدل.

أما في لبنان، فإنّ مسألة الفيدرالية لا تتعدى كونها نكتة سياسية، لأنّ لبنان لا يملك عناصر هذا الاستقلال الذاتي لهذه المنطقة أو تلك، لذلك عبر عنها بفيدرالية الطوائف، ولم يعبر عنها بفيدرالية المناطق، باعتبار أن كل طائفة تحاول أن تتحدث كما لو كان عندها استقلال ذاتي، وهذا ما بدأته إحدى الشخصيات الدينية عندما تحدثت عن أنّه لا بد من أن ينتخب المسيحيون نوَّابهم، والسنّة نوابهم، والشيعة نوابهم، إلى آخر القائمة في هذا المجال.

أما الشخصيات الدينية التي تحاربها اليوم، فهي لا تحارب فيدرالية الطوائف، بل فيدرالية المناطق.

أما قضية السودان، فحتى الآن لم تعط صورة كاملها لها.

إنّني أتصوّر أنّ مسألة "سايكس - بيكو" لم تزل تفرض ذاتها، وإنّ مثل هذه الطروحات، إنّما هي لإرباك الواقع السياسي، حتى يستطيعوا الحصول منه على ما يريدون.

أما علماء الدين، فإنهم لا يملكون أيَّ نوع من أنواع القدرة على التغيير السياسي ولو بنسبة 10%، بمن فيهم علماء الدين ورجال الدين الذين يقال بأنهم في القمم الروحية، فهم لا يملكون أي امتداد، إلاّ أنهم واجهة للامتدادات السياسية.

لا زال لبنان الرئة لمشاكل المنطقة

* أين أصبح لبنان بعد 14 آذار ومرحلة الاغتيالات، وبعد تشكيل الحكومة الجديدة؟

- إنني أعتقد أن 14 آذار بحسب الإيحاءات التي يراد للواقع السياسي أن يستوحيها منه، لم يستطع أن يؤكد مناخاً سياسياً لبنانياً يوحِّد اللبنانيين على خطط وبرامج واضحة على المستوى السياسي الذي تكمن وراءه الكثير من الخلفيات التاريخية التي لم يعبر أصحابها عن تغيير أو تبديل فيها.

لقاء 14 آذار خلق مناخاً ضبابياً للتغيير، ولم يطرح الآليات الواقعية لحركة التغيير، فنحن نلاحظ مثلاً، أن قانون الانتخاب الذي أثار الكثير من الجدل، دلَّل على أن المسألة ليست موادّ القانون، بل هي في الذهنية السياسية للمرشح للحصول على أكبر قدر ممكن من الأصوات وبمختلف الوسائل، وهكذا، فإننا نلاحظ أنه استخدمت في هذه المعركة مختلف الشعارات الطائفية، بحيث أدخلت لبنان في الوحل الطائفي بما لم يدخل فيه في أي مرحلة حتى في مرحلة الحرب.

لذلك، فإننا نجد أنّه لم يطرح حتى الآن في الجو السياسي الشامل أيّ صيغة عملية وواقعية لقانون الانتخاب، ولذا أتصوّر أنّ الذين انطلقوا في 14 آذار، وهم الجيل الشاب لم يحصلوا على شيء، والذين استفادوا من 14 آذار، هم مجموعة من السياسيين الذين أثاروا هذا الجوّ، مستفيدين من عدة عناصر في الواقع في الساحة السياسية والأمنية.

أمَّا مسألة الاغتيالات، فقد اتخذت طريقة: "قبضنا على القتيل وفر القاتل"، لأنّ لبنان ما يزال يخضع للكثير من التداعيات الخارجية والداخلية، وإن كان الوسط السياسي يحاول أن يعطي عنواناً غامضاً لا يملكون الخطط التفصيلية له، وهو ما يسمونه النظام الأمني اللبناني _ السوري، لأنّ المسألة تمثل نوعاً من الخروج من مأزق تجهيل الفاعل من هنا وهناك.

أما طريقة تشكيل الحكومة، فقد أظهرت أنّه ليس هناك رؤية لدى الذين دخلوا الحكومة، بل هي تخضع للمحاصصة الطائفية والأشخاص، وهذا ما يواجهنا الآن في التعيينات.

إنّ مستقبل لبنان سيبقى محكوماً للاءات ثلاث: لا تقسيم، لا انهيار، لا استقرار، لأنّ لبنان لم يصنع ليكون وطن اللبنانيين، بل ليكون الرئة التي تتنفس فيها مشاكل المنطقة، وليكون ساحة للتجارب.

الخروج من غزة

* هل تعتقدون في هذه الظروف الضاغطة، أنّ عملية الخروج من غزة سيكون لها انعكاسات سلبية على مستقبل لبنان؟

- لا أتصوّر أن هناك رابطاً بين المقاومة في لبنان وهذا الانسحاب، إلاّ من خلال نقطة واحدة، وهي أنها أعطت انطباعاً أو فكرة، بأن من الممكن للمقاومة في فلسطين أن تجبر العدو على الانسحاب ولو بهذه الطريقة، لأننا نعرف أنّ انسحاب إسرائيل من غزّة، كان للتخلص من مأزق الانتفاضة فيها، والذي عانت منه إسرائيل كثيراً، فالانسحاب من غزة كالانسحاب من لبنان نتيجة ضربات المقاومة، أما التواصل الجهادي بين المقاومة في لبنان والمقاومة في فلسطين، فيمكن أن يستمر من خلال تخطيط جديد.

إنّني أتصوّر نقطتين هنا: الأولى، وهي استراتيجية بالنسبة لوضع إسرائيل في المنطقة، وفي لبنان بالذات، وهو أنّه ليست هناك أي ضمانات دولية للبنان، حتى من الولايات المتّحدة، بأن إسرائيل سوف تمتنع عن العدوان عليه، ولو بتبريرات تضعها هي، كما حصل سنة 82، عندما أثيرت محاولة اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن، وقد تبيَّن أنّه ليس هناك من شيء حقيقي. والثانية، هي أنَّ الصورة السطحية البارزة للسَّلام في غزَّة، سوف تصطدم بتعقيدات جديدة، سوف تظهر إسرائيل على حقيقتها في الضفة والقدس، لأنّ هذا الصراع الجديد الذي سيعقب الانسحاب من غزة، سيخلط الأوراق الإسرائيلية، ليقدم إلى العالم صورة إسرائيل التي تجتاح الأرض الفلسطينية وتمنع الفلسطينيين من الاستقلال، على الأقل بالجدار العنصري والمستوطنات الكبرى.

الاغتيال المعنوي

* لوحظ في الآونة الأخيرة تسريبات في الوسط الإسلامي تنال من دوركم الرائد والحقيقي في نشر ثقافة الوحدة الإسلامية، هل تندرج هذه التسريبات في إطار اغتيالكم فكرياً لتغييبكم عن الحالة الإسلامية في لبنان معنوياً؟

- مشكلتي مع من يوجِّه السهام إليّ من هذا الطرف الإسلامي أو ذاك، هي أنني أؤمن بثقافة الوحدة الإسلامية ونشرها بين "العامة"، حتى لا تبقى رهينة "النخب".

فأنا كنت وحدوياً منذ عام 1952، وسأبقى كذلك، كنت وحدوياً في وقت لم تكن الوحدة الإسلامية - أو ثقافتها - مطروحة في الوسط الاجتماعي والسياسي الإسلامي، ولأنني وحدوي بالمعنى الموضوعي للوحدة، التقيت مع كبار علماء الدين الإسلامي من السنّة وما زلت.

لذلك، فإنه من الطبيعي أن لا يرضى عني المتشدّدون من هنا وهناك، وفي تصوري، أنه لن يستطيع أحد أن يغتال أحداً معنوياً أو فكرياً، لأنّ الفكر يفرض ذاته في الواقع الأصغر والأكبر الذي يعيش بين جنباته.

أنّني أخاف على الوحدة الإسلامية وثقافتها من كلِّ هذه الطحالب التي تزحف على الأرض، لأنّها لا تريد للإسلام أن يكون قوّة، في حين أن الوحدة الإسلامية هي خيار الإسلام في مواجهة كلِّ التحديات التي توجه إليه من كل الأعداء. لذلك نحن نقول للمسلمين: إذا أردتم إسلاماً يتحدى ويواجه التحدي، ويتقدم ولا يتراجع، فتمسكوا بالوحدة الإسلامية، {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا}(آل عمران/103) {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}(النساء/59).* وماذا تقول للبنانيين أخيراً؟

- أقول لهم: إذا كنتم تؤمنون بمستقبل لبلدكم تعيش فيه أجيالكم على أساس الحرية والسيادة والاستقلال والمسؤولية، اخرجوا من كهوف الطائفية إلى ساحة المواطنية الصادقة.

أجرى الحوار: يحيى الكعكي
صحيفة اللواء،  الجمعة الموافق في 14/7/1426هـ، 19/8/2005

 

حينما تكون مع المرجع الإسلامي السيد محمد حسين فضل الله، تحاوره ويسمع منك، ويرد عليك بحكمة واقعية، وبتحليل منطقي لما تستفسر عنه، تشعر عندها بشرف المسؤولية في نقل أفكاره للآخرين عبر الإعلام المكتوب - خصوصاً - كما تشعر في الوقت نفسه بكبر المسؤولية، لأنّك تدرك الثمن المعنوي القاسي الذي ستتحمله في حال لم يكن النقل بالروحية ذاتها التي أرادها أن تصل إلى القارئ، لأنه حينما يتكلم، يدفع بالقضية التي يعالجها إلى خطوات يريدها قوة في إنارة الطريق أمام القارئ، ليدفع بها القارئ إلى فهم أكثر تطوراً، بعد أن تكون أفكار "السيد" قد دلّته على هذا الطريق، فيعرف عندها أين يقف في قلب هذه المتغيرات والتحولات الكبرى، وكيف يتعامل معها، بعد أن يكون فكر "السيد" قد حاصرها وفكَّك رموزها المشفَّرة، وقدَّمها للقارئ (أو السامع حينما يطل عليه من وسائل الإعلام المرئية) بالتفسير الميسر، من خلال ما يملك من خلفية فكرية إسلامية وسياسية قلّ نظيرها في "سوق العولمة السلبية الاختزالية"، وفي جو الإرهاب الفكري الذي ُنحارب به في سبيل تشويه صورة رسالة إسلامنا في الوسطية والاعتدال والحضارة، وتصويرنا من خلال سياسة المكيالين، بأننا ما زلنا نعيش في القرون الوسطى، بهدف تبييض "الإرهاب اليهودي"، أو "إرهاب الأصولية الصهيونية" على حسابنا.

إنك وأنت تحاور "السيد"، تجد متعة الحوار الفكري الإستراتيجي المعمّق، الذي يمهد أمامك طريق إعادة الثقة بالعروبة والإسلام، بعد أن كادت هذه الثقة تضيع بين أحداث 11-9-2001م، وأحداث 7-7-2005م.

ولأن "السيد" كان وحدوياً بفكره الإسلامي منذ عام 1952م، وما زال كذلك "جامعاً وجامعةً" لثقافة وحدوية، تنير العقول والقلوب، وتُعد الأجيال،  وتمّهد لهم طريق الانفتاح والحوار "الإسلامي - الإسلامي" و"الإسلامي الهادف"، في "إطار الوحدة الوطنية" و"الرابطة القومية العربية"، وصل إلى المكانة التي استحقها بكل جدارة، والّتي أهَّلته لأن يكون مرجعاً إسلامياً يلجأ إليه وقت الأزمات والملمات علماء الدين الإسلامي، ورجال الدين المسيحي، ورجال الفكر وأهل السياسة، ليأخذوا عنه المشورة الصحيحة، والفتوى الجامعة، هذه هي قوة المرجع الإسلامي السيد محمد حسين فضل الله.

لانسحاب من غزة "ولاءات" شارون

* سماحة السيد، كيف تقرأون حدث خروج الاحتلال الإسرائيلي من غزة، الذي بدأ فجر الإثنين 15 الجاري، وأخذ صوراً عدة يوم الأربعاء 17 الجاري؟

- عندما ندرس مسألة الانسحاب من غزَّة، فإننا ندرس حدثاً يتصل بالمسألة الفلسطينية ككل، باعتباره الخطوة الأولى في مسافة العشرة آلاف ميل، فنحن نعرف أن غزة كانت المشكلة للحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، ولعل الجميع يذكرون حديث "إسحق رابين"، بأنه يتمنى أن يشرق الصباح عليه ويرى غزة في البحر. لذلك كانت غزة المأزق لإسرائيل، وهي في الوقت نفسه مسألة لا تمثل أي معنى ديني لإسرائيل التوراتية، كونها خارج الخريطة التي رسمها الإسرائيليون لدولتهم في معناها الديني.

ومن جهة أخرى، فإن إسرائيل المحاصرة دولياً، إضافةً إلى حصارها في حركة الانتفاضة، تحاول أن تقدم بالتحالف مع أميركا، مبادرة توحي للعالم بأنها دولة سلام، وأنها ليست في موقع الاحتلال للأرض الفلسطينية. كما أن اللقمة التي لا يزال "شارون" يتحضر لإلتهامها، وهي المستوطنات الست في الضفة الغربية والقدس، امتداداً لرفض عودة اللاجئين؛ إن هذه اللقمة تحتاج إلى ما يمكن أن ينـزلها إلى جوف إسرائيل من الناحية السياسية، حتى يقدَِّم إلى العالم صورة إيجابية عن إسرائيل، بأنه ينسحب من غزة ومن بعض المستوطنات في شمالي الضفة الغربية، مقابل إبقاء المستوطنات الست الكبرى كوضع واقعي لا إمكانية للانسحاب منها، لأنها تضم عشرات الألوف من المستوطنين، وهذا ما أكّده "شارون" في 17 الجاري بقوله: "إن الاستيطان بعد الانسحاب من غزَّة سيتواصل ويتوسَّع"، وهذا ما أكّده الرئيس الأميركي بوش في رسالته الشهيرة إلى "شارون".

إنّ كل هذه الأمور، بما فيها كلام "شارون" عن الإرهاب اليهودي الذي برر فيه قتل أحد المستوطنين اليهود لأربعة من الفلسطينيين في الضفة الغربية الأربعاء 17 الجاري، قُدِّمت بطريقة احتفالية، لتشغل الرأي العام العالمي بالانسحاب من غزَّة، وتُشغِل كذلك اللجنة الرباعية الدولية، كما لو كان هذا الانسحاب يمثل "صدمة الحرية" في القضية الفلسطينية، في حين أن الحقيقة التي أكَّدها "شارون" في لاءاته، دلّلت على أنه ليس في وارد إلحاق هذا الانسحاب بانسحاب من الضفّة الغربية والقدس، كما أكّد أنه لن يعطي الفلسطينيين في الضفة الغربية إلا ما مساحته 42% من الأرض، وبشكل مقطِّع الأوصال "كانتونات منعزل بعضها عن بعض" بحيث لا يسمح لأي دولة فلسطينية بأن تكون قابلة للحياة.

لذلك، عندما ندرس كلِّ هذا الوضع، في كل هذه الأجواء الاحتفالية التي يثيرها الإسرائيليون من جهة، والتي يستعدُّ لها الفلسطينيون من جهة أخرى، وتتحرك فيها التصريحات السياسية في أوروبا وأميركا والبلاد العربية احتفاءً بها، نُلاحظ أن هذا الانسحاب ليس تحريراً، بل هو في كلِّ خطوطه ومفرداته يمثل نوعاً من السجن المحتوي على بعض المساحات التي يتنفس فيها أهالي غزة، لأنّ هذا الانسحاب لا يسمح بحرية المرفأ أو المطار أو المعابر، وإسرائيل تريد أن تشارك المصريين والفلسطينيين في معبر رفح وغيره، بحيث لا يكون للفلسطينيين أية حرية مطلقة، إضافةً إلى التضييق على الصادرات والواردات، والحدّ من حرية الحركة بالنسبة للفلسطينيين. لذلك نقول إنَّ الفلسطينيين انتقلوا من سجن بمستوى معين، إلى سجن أوسع وأكبر مساحة، ولكن من دون أن يتنفسوا كما يتنفس الشعب الذي يملك استقلاله في قضاياه الحيوية والمصيرية.

لذلك، أتصوّر أنه من غير الصحيح اعتبار أنّ هذا الانسحاب يمثِّل خطوةً بشكل يسترجع فيه الفلسطينيون حقوقهم، حتى على مستوى الأرض المحتلَّة، بعد أن فقدوا أكثر فلسطين في اللّعبة الدولية، ذلك أنّني لا أجد أن الحكومة الإسرائيلية، وربما أكثر الإسرائيليين، يريدون أن تمثل هذه التحركات خطوةً في التحرير بشكل وبآخر، ولاسيما أنه ليست هناك أية دولة في العالم تملك الضغط على إسرائيل، فأميركا تلعب اللعبة الضاغطة التي تتيح لإسرائيل استمرار استراتيجيتها في قضم فلسطين لمصلحة خطة "شارون"، لا لمصلحة خطَّة الطريق التي حاول شارون أن يطوِّقها بأكثر من شرط قبله منه الرئيس بوش. أما أوروبا، فإنها ربما اقتربت الآن من الخط الأميركي في مسألة دعم إسرائيل في الكثير من خططها الفلسطينية، أما معظم البلاد العربية، فهي تعيش الضعف أمام أميركا وأمام إسرائيل، ولا تملك من أمرها شيئاً، سوى بعض الكلمات التي لا معنى لها، ولا تمثل شيئاً في اللعبة السياسية الإقليمية أو الدولية، والتي أدخلت القضية الفلسطينية في مغارة مظلمة، لا نعرف كيف يمكن أن نجد الضوء في نهايتها.

لا شريك فلسطيني!

* خروج سلطة الاحتلال الإسرائيلية من غزّة، هل سيكشف عن المشهد السياسي الفلسطيني فيها، بما يدعم مقولة "شارون" إن الشريك الفلسطيني في عملية السلام ما زال غير موجود؟

- حديث "شارون" حول فقدان الشريك الفلسطيني، محاولة لتركيز هذه المقولة في الرأي العام العالمي، على أساس الاستفادة من الشّرط الأميركي، والذي تحوّل إلى ما يشبه الشرط الأوروبي، وربّما الأمم المتحدة وروسيا، وهو إسقاط البنية التحتية لما يسمى الإرهاب، أي "الانتفاضة"، لأنّ المطلوب من السلطة الفلسطينية، إنهاء الانتفاضة بالكامل، ونزع أسلحتها. وهذا أمر لن يحدث في المستقبل القريب، من خلال رصدنا للإرادة الفلسطينية للمجاهدين في الانتفاضة، إضافةً إلى أن أميركا في تصريحات مسؤوليها، لا توافق "شارون" على فقدان الشريك الفلسطيني، لأنها تعتبر أن "محمود عباس" يمثل شريكاً صالحاً للدخول في المفاوضات، وهذا يضعف موقف "شارون" بطريقة وأخرى، إذا لم يسيطر من جديد على قرار الرئيس بوش.

أما مسألة نصب الشرك للفلسطينيين لإيجاد حالة من التقاتل فيما بينهم، فإنني أعتقد أن الجميع متّفقون على وحدة الموقف، حتى إذا حدثت بعض الأحداث، كما حصل قبل مدة، فإنّ الجميع يبادرون إلى تطويقها، لأنهم يعرفون أن نتيجة أي نزاع "فلسطيني - فلسطيني"، سوف يسقط الهيكل على رؤوس الجميع، إضافةً إلى أنّ الانتخابات التشريعية قادمة في كانون الأول، والتي ربما تخلط الكثير من الأوراق على الساحة السياسية الفلسطينية.

على ضوء هذا، فإنني أتصوّر أن القضية الفلسطينية لن تموت، وأنّ مسألة القدس والأقصى ليست بالبساطة التي يتحدث عنها رئيس إسرائيل كاتساف.

قضية القدس

* أين ترى قضية القدس قد أصبحت، بعد تغيير سلطة الاحتلال الإسرائيلية خلافاً لمقررات الشرعية الدولية، معالم القدس القانونية، كمـا أنّها أعلنت في 10-7-2005م الإسراع في بناء "غلاف القدس"، أو جدار التمييز العنصري، الذي سيفصلها عن الضفّة الغربية، وجعلها جزءاً لا يتجزّأ من القدس الكبرى، العاصمة الأبدية لإسرائيل التي أعلنت في 30-6-1980 ؟

- من الطبيعي أن الاستراتيجية الإسرائيلية تجعل القدس الواجهة للعقيدة الصهيونية اليهودية، باعتبار أنّ المسألة الدينية في إسرائيل التوراتية، تتركَّز على القدس خصوصاً وأسطورة الهيكل المزعوم، إضافةً إلى أنّّ القدس تمثل الموقع السياسي المقدَّس الذي يجتذب كلَّ يهود العالم، ويجعل إسرائيل قبلة العالم، ولا سيّما في الأمور السياحية الدينية، التي تأخذ معنى القداسة عند اليهود، والقضية، هي أنه لا بد أن نواجه المرحلة المقبلة فنسأل: هل إنّ الفلسطينيين سوف يستريحون للانسحاب الإسرائيليّ من غزَّة ومن بعض أراضي الضفة الغربية، أم أنهم سوف يتابعون مسيرة الانتفاضة بالرغم من كل التعقيدات الصعبة التي تحيط بها وسوف تواجهها؟!

برأيي، إنّ متابعة المسيرة ستجعل إسرائيل في مأزق متحرّك، وكذلك ستجعل أميركا والاتحاد الأوروبي في مأزق متحرك، باعتبار أنها ستخلق حالة من الإثارة التي يمكن أن تطرح فيها مسألة الإرهاب أو أي مسألة مشابهة.

إنني أتصوّر أن مستقبل القضية الفلسطينية ليس يائساً، بل إنه يختزن من خلال قرار الانتفاضة بالاستمرار، أكثر من نقطة في الأفق.

إحراق الأقصى والتداعيات المستجدّة

* على أي مفترق تقف قضية الأقصى الشريف بعد التطورات الأخيرة، ومنها تهويد معظم القدس، ودعوة الرئيس الإسرائيلي "كاتساف" إلى تقسيم الأقصى المبارك؟

- حينما حدثت جريمة إحراق الأقصى الشريف في عام 1969م، ولدت منظَّمة المؤتمر الإسلامي، حفظاً لماء الوجه الإسلامي الذي يريد أن يقول إنه وفّى قسطه للعلى، وأصبح للعالم الإسلامي منظمة تحافظ على القدس والمسجد الأقصى، إضافةً إلى ولادة لجنة القدس بعدها بقليل، التي وضع على رئاستها ملك المغرب. ولكننا عندما ندرس مسار منظمة المؤتمر الإسلامي، فإننا لن نجد هناك أية قرارات فاعلة ضاغطة في كلِّ ما تملكه من عناصر ضغط على إسرائيل أو على أميركا من خلال دول هذه المنظمة، وكذلك الأمر بالنسبة للجنة القدس التي تبدو كأنها غير موجودة في الواقع الذي نعيشه.

ربما استفادت قضية القدس والمسجد الأقصى من وجود المنظمة ولجنة القدس، أنهما أشاعا مناخاً معيناً، أوحى للأميركيين والإسرائيليين، بأنّ مسألة العلاقة بين إسرائيل والعالم الإسلامي لم تنضج حتى الآن، وأنّ هناك حالة وجدانية نفسية لدى العالم الإسلامي قد تعقِّد علاقة إسرائيل المستقبلية بالواقع الإسلامي كلّه، لأنّ الدول، بما فيها التي صالحت إسرائيل، هي عضو في المؤتمر الإسلامي، ولا تستطيع إلا أن تتماسك أمام شعوبها عندما يحدث أي أمر سلبي في مستوى السيطرة الإسرائيلية على المسجد الأقصى، أو تهويد القدس بالكامل.

إنّني أعتقد أنّ ما حدث يمثل مشكلة للقضية الفلسطينية، ما قد يوحي بأن الأرض بدأت تهتزُّ تحت أقدامها، ولكن علينا أن نرصد المستقبل؛ هل تعود الانتفاضة لتربك الأمن الإسرائيلي؟ لأنّ الصراع الآن هو بين الأمن الإسرائيلي والأمن الفلسطيني، وبين الاستراتيجية الإسرائيلية والاستراتيجية الفلسطينية، كما أنّ استمرار الانتفاضة، إذا ساعدتها الظروف، يعني أن الأمن الفلسطيني سيكون قادراً على أن يقتل الأمن الإسرائيلي، كما حدث في العمليات الاستشهادية.

القضية هي أنّ الشعب الفلسطيني قرّر الاستمرار في النضال لحماية القدس والأقصى، ولا تملك أية سلطة أن تسحب هذا القرار الاستراتيجي من وجدانه، والسؤال الكبير هو: ماذا عن المستقبل بعد الانسحاب من غزة؟ نحن نرى أن المسألة لا تحتمل المزيد من التحليل التجريدي، بل لا بد من مراقبة دقيقة للأمر، لأنّ قضية القدس والأقصى ليست بالأمر السهل الذي تتصوّره سلطة الاحتلال الإسرائيلية ما دامت الانتفاضة قائمة.

أسبوع المسجد العالمي

* في دورة وزراء خارجية مؤتمر "منظّمة المؤتمر الإسلامي" في الخرطوم، كان هناك توصية في أن يصار إلى إحياء أسبوع المسجد العالمي ما بين 21-8 و21-8، لتبقى قضية المسجد الأقصى حيةً في نفوس المسلمين، ولكن للأسف، لم نسمع بهذا الأسبوع إلاَّ في لبنان في عام 2003م، أما في عام 2004م، وفي هذا العام، فلا حديث أو تحرك في هذا المجال. كيف تحلل سماحتكم هذا الانحسار؟ وكيف تردّون على أن مساجدنا أصبحت تخرِّج إرهابيين؟

- أوَّلاًً، إنّ عدم وجود أية حركة في نطاق هذا الأسبوع، ينشأ من حقيقة واحدة، وهي أنّ المؤتمر الإسلامي ليس موجوداً في العالم الإسلامي أبداً، ولذلك فإنّ كل قراراته تبقى في الأدراج، ولن يصل صوته إلى أي عربي أو أيّ مسلم، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الجامعة العربية ولجنة القدس.

ثانياً: إنّ قوة الموقف في قضية القدس والأقصى، تتمثَّل في الشعب الفلسطيني، وهذا ما نلاحظه عندما تثار أيُّ مسألة في إمكانية اجتياح اليهود للمسجد الأقصى، فإننا نجد أن فلسطينيي 1948 وفلسطينيي الضفة وغزة، يبادرون بطريقة وأخرى للالتفاف معاً حول المسجد الأقصى.

أمَّا مسألة أن مساجدنا تخرّج "إرهابيين"، فإنني أعتقد أن الإدارات الأميركية، والأوروبية معها في بعض مواقعها، هي الّتي خرّجت "الإرهابيين"، لأنّ طبيعة السياسة التي تخطط لها هذه الإدارات وتتحرك بها، هي التي تهز وجدان العالم الإسلامي، الذي قد لا يجد لديه أيّة فرصة للمواجهة إن بفعل حجم القوة التي تفرضها أميركا أو يفرضها حلفاء أميركا في العالم، أو بسبب العجز السياسي والأمني. لهذا فإن الكثير من حالات العنف التي قام بها هؤلاء - أو يقومون بها في المستقبل - لم تنشأ من المساجد، وإنما من حركة الدعم الأميركي المطلق، ومعه بعض الدعم الأوروبي، لإسرائيل، وبمختلف الوسائل والإمكانيات الاقتصادية والسياسية والعسكرية، بحيث يشكّل ذلك تطويقاً لكل حركة عربية أو إسلامية احتجاجية أو في خط المواجهة. وهذا ما يساهم في خلق جوٍّ في الوجدان الداخلي لكلِّ مسلم، في التّعبير عن رفضه وعن مواجهته لما يجري بما يستطيع، ولو بأن يفجر نفسه ليربك الأمن الأميركي - ولسنا هنا في مقام التبرير، بل في مقام التحليل - ولتشعر أميركا أن كل قوتها الهائلة لا تستطيع أن تحميها من إنسان يريد أن يموت ليسقط سياستها، أو كما عبَّر الرئيس بلير بعد تفجيرات لندن، وإن تلك التفجيرات قد ترجع في بعض خلفياتها إلى بقاء أزمة الشرق الأوسط، وإن كان قد سحب تصريحه بعد ذلك، ولكن عمدة لندن، والكثير من السياسيين في بريطانيا، وأميركا أكَّدوا ذلك.

إنّ مساجدنا لا تتحدث إلا عن عرض مشكلات العالم الإسلامي الذي تُسلب ثرواته، وتصادر سياسته وما إلى ذلك، أما إذا أردت أن تسأل عن جذور الإرهاب، فابحث عن أميركا.

الفدرلة والعراق

* بدأنا نسمع دعواتٍ جديدةً لفدرلة العراق، فما هو رأي المرجعيات الإسلامية في لبنان حول هذه الطروحات التي انتقلت عدواها إلى لبنان والسودان؟

- الفيدرالية في العراق، هي نتيجة من نتائج المشكلة الكردية، لأنه لم يكن في العراق من يفكِّر في الفيدرالية، لا من السنَّة ولا من الشيعة، لكن المسألة الكردية فرضت ذاتها على المعارضة في كلِّ مؤتمراتها، في مؤتمر صلاح الدين وفي مؤتمر لندن، لذلك رأى السنة والشيعة معاً، أنهم لا يستطيعون اجتذاب الأكراد إلى خط المعارضة، إلا من خلال الاعتراف بالنظام الفيدرالي في العراق، ولكنَّهم أطلقوا الكلمة بشكل ضبابي دون التحدّث عن طبيعتها وخطوطها على الواقع السياسي للعراق في تلك المرحلة.

أما الآن، فإنّ السؤال: هل تقتصر الفيدرالية على الأكراد، أم أنها ستمتد إلى العراق كله، ليكون هناك مثلاً فيدرالية المحافظات أو أيِّ فيدرالية أخرى؟

لذلك نجد أنّ مسألة الفيدرالية قد دخلت في القاموس السياسي العراقي، وهذا ما نلاحظه في الجدل الذي يدور حول كتابة الدستور بهذا الشكل الذي أثير أخيراً، بأن تكون هناك فيدرالية تعطي نوعاً من الاستقلال الذاتي للأكراد، ومثلها لمحافظات الجنوب والوسط، وهكذا بالنسبة إلى مناطق السنة، والمسألة لا تزال مثار جدل، لأنه لا يمكن أن يكتب الدستور على أساس فيدرالية شاملة لا يوافق عليها العرب السنة، لذلك فالقضية ما تزال محل جدل.

أما في لبنان، فإنّ مسألة الفيدرالية لا تتعدى كونها نكتة سياسية، لأنّ لبنان لا يملك عناصر هذا الاستقلال الذاتي لهذه المنطقة أو تلك، لذلك عبر عنها بفيدرالية الطوائف، ولم يعبر عنها بفيدرالية المناطق، باعتبار أن كل طائفة تحاول أن تتحدث كما لو كان عندها استقلال ذاتي، وهذا ما بدأته إحدى الشخصيات الدينية عندما تحدثت عن أنّه لا بد من أن ينتخب المسيحيون نوَّابهم، والسنّة نوابهم، والشيعة نوابهم، إلى آخر القائمة في هذا المجال.

أما الشخصيات الدينية التي تحاربها اليوم، فهي لا تحارب فيدرالية الطوائف، بل فيدرالية المناطق.

أما قضية السودان، فحتى الآن لم تعط صورة كاملها لها.

إنّني أتصوّر أنّ مسألة "سايكس - بيكو" لم تزل تفرض ذاتها، وإنّ مثل هذه الطروحات، إنّما هي لإرباك الواقع السياسي، حتى يستطيعوا الحصول منه على ما يريدون.

أما علماء الدين، فإنهم لا يملكون أيَّ نوع من أنواع القدرة على التغيير السياسي ولو بنسبة 10%، بمن فيهم علماء الدين ورجال الدين الذين يقال بأنهم في القمم الروحية، فهم لا يملكون أي امتداد، إلاّ أنهم واجهة للامتدادات السياسية.

لا زال لبنان الرئة لمشاكل المنطقة

* أين أصبح لبنان بعد 14 آذار ومرحلة الاغتيالات، وبعد تشكيل الحكومة الجديدة؟

- إنني أعتقد أن 14 آذار بحسب الإيحاءات التي يراد للواقع السياسي أن يستوحيها منه، لم يستطع أن يؤكد مناخاً سياسياً لبنانياً يوحِّد اللبنانيين على خطط وبرامج واضحة على المستوى السياسي الذي تكمن وراءه الكثير من الخلفيات التاريخية التي لم يعبر أصحابها عن تغيير أو تبديل فيها.

لقاء 14 آذار خلق مناخاً ضبابياً للتغيير، ولم يطرح الآليات الواقعية لحركة التغيير، فنحن نلاحظ مثلاً، أن قانون الانتخاب الذي أثار الكثير من الجدل، دلَّل على أن المسألة ليست موادّ القانون، بل هي في الذهنية السياسية للمرشح للحصول على أكبر قدر ممكن من الأصوات وبمختلف الوسائل، وهكذا، فإننا نلاحظ أنه استخدمت في هذه المعركة مختلف الشعارات الطائفية، بحيث أدخلت لبنان في الوحل الطائفي بما لم يدخل فيه في أي مرحلة حتى في مرحلة الحرب.

لذلك، فإننا نجد أنّه لم يطرح حتى الآن في الجو السياسي الشامل أيّ صيغة عملية وواقعية لقانون الانتخاب، ولذا أتصوّر أنّ الذين انطلقوا في 14 آذار، وهم الجيل الشاب لم يحصلوا على شيء، والذين استفادوا من 14 آذار، هم مجموعة من السياسيين الذين أثاروا هذا الجوّ، مستفيدين من عدة عناصر في الواقع في الساحة السياسية والأمنية.

أمَّا مسألة الاغتيالات، فقد اتخذت طريقة: "قبضنا على القتيل وفر القاتل"، لأنّ لبنان ما يزال يخضع للكثير من التداعيات الخارجية والداخلية، وإن كان الوسط السياسي يحاول أن يعطي عنواناً غامضاً لا يملكون الخطط التفصيلية له، وهو ما يسمونه النظام الأمني اللبناني _ السوري، لأنّ المسألة تمثل نوعاً من الخروج من مأزق تجهيل الفاعل من هنا وهناك.

أما طريقة تشكيل الحكومة، فقد أظهرت أنّه ليس هناك رؤية لدى الذين دخلوا الحكومة، بل هي تخضع للمحاصصة الطائفية والأشخاص، وهذا ما يواجهنا الآن في التعيينات.

إنّ مستقبل لبنان سيبقى محكوماً للاءات ثلاث: لا تقسيم، لا انهيار، لا استقرار، لأنّ لبنان لم يصنع ليكون وطن اللبنانيين، بل ليكون الرئة التي تتنفس فيها مشاكل المنطقة، وليكون ساحة للتجارب.

الخروج من غزة

* هل تعتقدون في هذه الظروف الضاغطة، أنّ عملية الخروج من غزة سيكون لها انعكاسات سلبية على مستقبل لبنان؟

- لا أتصوّر أن هناك رابطاً بين المقاومة في لبنان وهذا الانسحاب، إلاّ من خلال نقطة واحدة، وهي أنها أعطت انطباعاً أو فكرة، بأن من الممكن للمقاومة في فلسطين أن تجبر العدو على الانسحاب ولو بهذه الطريقة، لأننا نعرف أنّ انسحاب إسرائيل من غزّة، كان للتخلص من مأزق الانتفاضة فيها، والذي عانت منه إسرائيل كثيراً، فالانسحاب من غزة كالانسحاب من لبنان نتيجة ضربات المقاومة، أما التواصل الجهادي بين المقاومة في لبنان والمقاومة في فلسطين، فيمكن أن يستمر من خلال تخطيط جديد.

إنّني أتصوّر نقطتين هنا: الأولى، وهي استراتيجية بالنسبة لوضع إسرائيل في المنطقة، وفي لبنان بالذات، وهو أنّه ليست هناك أي ضمانات دولية للبنان، حتى من الولايات المتّحدة، بأن إسرائيل سوف تمتنع عن العدوان عليه، ولو بتبريرات تضعها هي، كما حصل سنة 82، عندما أثيرت محاولة اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن، وقد تبيَّن أنّه ليس هناك من شيء حقيقي. والثانية، هي أنَّ الصورة السطحية البارزة للسَّلام في غزَّة، سوف تصطدم بتعقيدات جديدة، سوف تظهر إسرائيل على حقيقتها في الضفة والقدس، لأنّ هذا الصراع الجديد الذي سيعقب الانسحاب من غزة، سيخلط الأوراق الإسرائيلية، ليقدم إلى العالم صورة إسرائيل التي تجتاح الأرض الفلسطينية وتمنع الفلسطينيين من الاستقلال، على الأقل بالجدار العنصري والمستوطنات الكبرى.

الاغتيال المعنوي

* لوحظ في الآونة الأخيرة تسريبات في الوسط الإسلامي تنال من دوركم الرائد والحقيقي في نشر ثقافة الوحدة الإسلامية، هل تندرج هذه التسريبات في إطار اغتيالكم فكرياً لتغييبكم عن الحالة الإسلامية في لبنان معنوياً؟

- مشكلتي مع من يوجِّه السهام إليّ من هذا الطرف الإسلامي أو ذاك، هي أنني أؤمن بثقافة الوحدة الإسلامية ونشرها بين "العامة"، حتى لا تبقى رهينة "النخب".

فأنا كنت وحدوياً منذ عام 1952، وسأبقى كذلك، كنت وحدوياً في وقت لم تكن الوحدة الإسلامية - أو ثقافتها - مطروحة في الوسط الاجتماعي والسياسي الإسلامي، ولأنني وحدوي بالمعنى الموضوعي للوحدة، التقيت مع كبار علماء الدين الإسلامي من السنّة وما زلت.

لذلك، فإنه من الطبيعي أن لا يرضى عني المتشدّدون من هنا وهناك، وفي تصوري، أنه لن يستطيع أحد أن يغتال أحداً معنوياً أو فكرياً، لأنّ الفكر يفرض ذاته في الواقع الأصغر والأكبر الذي يعيش بين جنباته.

أنّني أخاف على الوحدة الإسلامية وثقافتها من كلِّ هذه الطحالب التي تزحف على الأرض، لأنّها لا تريد للإسلام أن يكون قوّة، في حين أن الوحدة الإسلامية هي خيار الإسلام في مواجهة كلِّ التحديات التي توجه إليه من كل الأعداء. لذلك نحن نقول للمسلمين: إذا أردتم إسلاماً يتحدى ويواجه التحدي، ويتقدم ولا يتراجع، فتمسكوا بالوحدة الإسلامية، {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا}(آل عمران/103) {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}(النساء/59).* وماذا تقول للبنانيين أخيراً؟

- أقول لهم: إذا كنتم تؤمنون بمستقبل لبلدكم تعيش فيه أجيالكم على أساس الحرية والسيادة والاستقلال والمسؤولية، اخرجوا من كهوف الطائفية إلى ساحة المواطنية الصادقة.

أجرى الحوار: يحيى الكعكي
صحيفة اللواء،  الجمعة الموافق في 14/7/1426هـ، 19/8/2005

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية