الشيعة ليسوا طائفيين أو متقوقعين ولكن لهم أولوياتهم

الشيعة ليسوا طائفيين أو متقوقعين ولكن لهم أولوياتهم
 

فضل اللـه لـ"لنهار": الشيعة ليسوا طائفيين أو متقوقعين ولكن لهم أولوياتهم

بندقية المقاومة حاجة ضرورية تنـزع إذا انتهى خطر العدوان الإسرائيلي

كتب إبراهيم بيرم:

في حمأة الأسئلة المتعملقة يوماً بعد يوم منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والتداعيات التي نجمت عن هذا الحدث، انتصب سؤال عن غياب الكتلة الشيعية عن صفحة الحدث، وتراجعها إلى حد محاصرتها باتهام أنها رافعة السلطة "المتداعية" وأنها ربما أضحت "الطائفة المحبطة"، بعد الانسحاب العسكري السوري.

هذه الأسئلة العريضة، وما يندرج تحتها من عناوين فرعية، حملناها إلى المرجع الشيعي السيد محمد حسين فضل الله. ولقد أعطى هذا العلامة الذي كان دوماً علامة فارقة في الحياة الفكرية والسياسية اللبنانية، إجابات تفسر دوافع هذا السلوك الشيعي الذي يكاد يكون جماعياً، فيؤكد أن المسلم الشيعي لم يكن يوماً "متقوقعاً" أو "طائفياً".

ويلفت إلى أن دافع التقارب الشيعي مع سوريا عنوانه "القضايا الكبرى" ودعم المقاومة، وأن ما يشاع عن غياب الشيعة عن عملية التغيير في لبنان، سببه أن لهم أولوياتهم كالكثيرين من اللبنانيين الذين يدرسون الأمور بحسابات دقيقة بعيداً من كل انفعال".

ويخلص إلى الاستنتاج أن الشيعة "ليسوا معقدين من الآخرين"، فما زالوا "الفئة التي تنطلق من اقتناعها الحر في خطوطها السياسية والجهادية".

ينفي العلامة فضل الله عن الشيعة صفة الإحباط إذا ما انسحبت سوريا، لأنهم موجودون قبل دخول سوريا، وسيبقون موجودين بعد خروجها، كونهم يمثلون الإرادة المستقلة الحرة التي تعرف كيف تتعامل وتتكامل وتتحالف مع الجهات، سواء كانت دولية أو حركية.

وإذ يرفض الدعوات إلى نزع سلاح المقاومة انطلاقاً من أن الخطر الإسرائيلي على لبنان ما زال حاضراً، يبدي فضل الله تحفظه على الذين يطلقون عنوان "الاستقلال" على تحرك المعارضة. ورغم كل هذا "الاهتزاز" الذي تعيشه الساحة اللبنانية، فإن السيد العلامة يبدو مقيما على اعتقاد مفاده أنه "ليست هناك أي معطيات دولية أو إقليمية أو محلية تسمح باندلاع حرب أهلية".

أما الحل في رأيه، فيبقى بالتزام اتفاق الطائف، وكفّ اللبناني عن أن يكون طائفياً بالمعنى العشائري للطائفية، بل أن ينفتح على أساس إنسانيته ويطرد كل الذين يشاركون في الإهدار والفساد، والذين شجعوا أجهزة على أن تسيطر عليهم".

س: بعد أكثر من شهر على اغتيال الرئيس رفيق الحريري والتداعيات التي أعقبت من هذا الحدث الجلل، ماذا ترون من جديد في أعماق هذا الحدث؟

ج: من الطبيعي أن مثل هذا الحدث الذي وصف بالزلزال، في طبيعته السياسية المأساوية، ولا سيما أن الرجل يملك أبعاداً منوعة على غير صعيد، وامتدادات دولية وإقليمية ومحلية، من الطبيعي أن يمثل الصدمة التي استطاعت أن تهز الكثير من عناصر الواقع اللبناني، سواء على مستوى الذين حاولوا أن يوظفوا الحدث لاعتباراتهم أو لعناوينهم السياسية، أو الذين عاشوا تحت تأثير النتائج السلبية التي انعكست عليهم.

لذلك، فإن من الطبيعي أن يترك الحدث آثاره على الواقع اللبناني حاضراً ومستقبلاً، خصوصاً أن تداعيات هذا الحدث أفسحت في المجال لغير موقع دولي ليجد فيه الكثير من الإفادة في خدمة مصالحه على غير مستوى. وهذا ما لاحظناه في الهجمة التي انطلقت دوليا وإقليمياً ومحلياً ضد الوجود السوري في لبنان، فقد لاحظنا أن الرئيس الأميركي جورج بوش سعى إلى الإفادة من هذا المناخ، في الواقع الداخلي الأميركي، حيث اعتبر أن الحركة السياسية المعارضة في لبنان، والتي تنادي بالحرية والسيادة والاستقلال، ظاهرة تثبت نجاحه في مشروعه الداعي إلى نشر الديموقراطية في العالم، انطلاقاً من اعتباره أن هذه الحركة انطلقت من خلال الخطوط الأميركية في تشجيع الساحة اللبنانية على أساس تأكيد الديموقراطية بطريقة أو بأخرى.

كما أننا لاحظنا أنّ فرنسا التي تعتبر أن لها خصوصية في لبنان، من خلال تاريخها السياسي وعلاقتها العضوية تقريباً مع كثير من الشرائح اللبنانية، حاولت ولا تزال الإفادة من ذلك بطريقة تختلف عن الطريقة الأميركية.

إضافةً إلى بعض الدول العربية، التي ربما أرادت الإفادة من هذا الجو الجديد في تصفية بعض الحسابات مع سوريا. لذلك فإنني أعتقد أن هذا الحدث، استطاع أن يهز الواقع اللبناني، وأن يثير الكثير من الحساسيات والقليل من العقد.

إثارة غير دقيقة

س: وجهت في الآونة الأخيرة نداءات من مفكرين وسياسيين تدعو الشيعة وأعيانهم وقواهم إلى فعل شيء للمشاركة في حركة الاعتراض والمعارضة والتغيير، انطلاقاً من أنهم (أي الشيعة) بعيدون بكتلتهم الشعبية عن هذه الحركة، فما ردكم؟

ج: في تصوري أن هناك نوعاً من أنواع الإثارة غير الدقيقة في الموضوع الشيعي، إذ إننا نلاحظ أن المسلمين الشيعة - ألا نتحدث طائفياً؟! - كانوا القوة الأولى التي أحدثت زلزال التغيير في لبنان من خلال حركة المقاومة التي أدت إلى التحرير. وبذلك، فإن الشيعة هم الفريق الإنساني الذي استطاع أن يؤكد سيادة لبنان بعيداً من الشعارات والتسويات، لأنه أجرى أنهاراً من الدماء في سبيل إزالة الاحتلال واستعادة سيادة الوطن وكرامته وعزته.

كما أننا عندما ندرس التاريخ الشيعي في لبنان، فإننا نجد أن الشخصيات الشيعية، سواء على مستوى علماء الدين، أو المثقفين والمفكرين، أو على مستوى القاعدة الشعبية، استطاعوا أن يتركوا تأثيرهم في لبنان على مستوى الانفتاح على القضايا الكبرى، سواء في مسألة الصراع ضد إسرائيل، أو في مسألة الوحدة العربية، أو الوحدة الإسلامية، أو الانطلاق في الآفاق الواسعة لحركات التحرر.لهذا فإننا، عندما ندرس المسألة الشيعية في الواقع الميداني، لا نجد هناك حالاً من القوقعة في الزوايا المغلقة، بل إنّ قيمة الإنسان المسلم الشيعي أنه لم يكن في أي وقت طائفياً. ربما كان يستذكر دائماً حال العدالة، من خلال الاضطهاد الذي عاشه عبر التاريخ، لذلك كان يبحث عن العدالة في أي موقع من المواقع، وهذا ما يفسِّر اندماج الكثير من شباب الشيعة في الخطوط اليسارية، أو ما إلى ذلك، مما يطالب بالعدالة وينشد تحقيقها بعيداً من مسألة المضمون العقائدي لهذا الفريق أو ذاك.

ربما يأخذ بعض الناس على الشيعة في لبنان قربهم من سوريا. ونحن عندما ندرس المسألة، نجد أن المسلمين الشيعة ليسوا بدعاً فيها، فنحن نعرف أن معظم الطوائف الإسلامية والمسيحية عاشت هذا النوع من التقارب أو التكامل مع سوريا، باعتبار موقعها الجغرافي، أو من خلال امتدادات العلاقات السورية اللبنانية التاريخية.

وربما أخذ المسلمون الشيعة بالعنوان الكبير في العلاقات مع سوريا ونتيجة الخط المشترك، في مسألة الصراع مع إسرائيل، باعتبار أن المقاومة الإسلامية، كانت ولا تزال بحاجة إلى الدعم العربي، كما الدعم الإسلامي، لذا فإن عمق العلاقة انطلق من خلال هذا النوع من أنواع التكامل بين المقاومة وبين سوريا التي كانت ولا تزال تدعم المقاومة.

إنني أستطيع أن أؤكد أن الشيعة لم يدخلوا في لبنان في أي مغارة طائفية، لذا فإنهم عموماً لم يشاركوا في الحرب اللبنانية كما شارك الآخرون، وهم في الوقت نفسه انفتحوا على كل الجهات، سواء من داخل المؤسسات الدستورية، أو من خلال الأجواء العامة. لذلك نلاحظ أن الحديث عن غياب المسلمين الشيعة عن عملية التغيير في لبنان، هو حديث غير ذي موضوع، ولكن للشيعة أولوياتهم كالكثيرين من اللبنانيين الذين يدرسون الأمور بحسابات دقيقة بعيداً من كل انفعال، إنهم يعملون على أساس التغيير الذي لا يرتكز إلى صراخ الانفعال، وإنما ينطلق من خلال العقلنة التي تدرس الأمور من الداخل والخارج.

صياغة وطن!

س: في السياق نفسه، بلغت المسلمين الشيعة رسائل فحواها أن عليهم الالتحاق بالركب المعارض، لكي يكون لهم مكان في مسألة إعادة صياغة الوطن، فهل تعتقد أن هناك فعلاً مرحلة صياغة وطن، وأن بالإمكان تحقيق ذلك من دون دور للطائفة الشيعية؟

ج: إننا نتصور أن الشيعة يعيشون الوطن بأوسع ما يكون، وإذا كانت مسألة صياغة الوطن تتحرك في اتجاه المناخ الدولي الذي يريد استغلال لبنان واستغلال العالم العربي لمصالحه، فإن المسلمين الشيعة كانوا ولا يزالون يقفون بقوة مع خط العدالة، الذي يتمثّلون في كل تاريخهم وحركتهم في الواقع السياسي على مستوى لبنان وعلى مستوى الخارج. لذلك من الطبيعي جداً أن يقف المسلمون الشيعة ضد السياسة الأميركية التي تلتزم إسرائيل بالمطلق وتلتزم الديكتاتوريات، والتي قد تعطيها عنوان السلام لأنها تلتقي مع مصالحها، أو عنوان الديموقراطية، وقد تعطي بعض الجزارين لقب رجل السلام كما فعلت مع شارون.

إن المسلمين الشيعة ليسوا معقدين من الآخرين، ولكنهم يدرسون علاقتهم ومواقفهم من خلال خط العدالة الإنسانية التي لا تريد لأي دولة عظمى أو كبرى أن تضطهد المستضعفين. لذا، فإنني أعتقد أن الشيعة مشاركون في كل الوطن ومؤسسات الدولة، فهم في مجلس النواب، وفي الحكومة، ومشاركون في التظاهرات الاحتجاجية، ولكن على أساس ما يريدونه وما يؤمنون به، لا على أساس ما يريده الآخرون.

بعض الناس يعتبرون أنك إذا لم تسقط أمام شعاراتهم وأمام خطوطهم السياسية، فإنك تعتبر خارج نطاق الواقع أو خارج "الإجماع". إن الشيعة عاشوا في كل تاريخهم، سواء في لبنان أو العراق أو أماكن أخرى، الاستقلال والحرية، ودفعوا الكثير في سبيل ذلك وما زالوا يدفعون.

ولذا، فإن القضية ليست قضية أن يركبوا الموجة وأن يسيروا بما يقتنع به الآخرون، لأن لهم قناعاتهم. لقد شارك المسلمون الشيعة في لبنان سياسياً وثقافياً وأمنياً، وما زالوا الفئة التي تنطلق من اقتناعها الحر في خطوطها السياسية والجهادية.

الإحبــاط

س: ولكن ثمة من يعرب عن خوفه من أن يصبح الشيعة من الآن فصاعداً "الطائفة المحبطة" في لبنان؟

ج: أنا لا أتصور أن هناك أي عنصر من عناصر الإحباط، لأن الإحباط إذا كان ينطلق من محاولة البعض عزل المسلمين الشيعة عن ساحة الواقع، فإنه لا يستطيع، لأن الشيعة وفق حضورهم الدائم في كل المواقع، لا يسمحون لأحد بأن يعزلهم، فهم متمردون على العزل، لأن حضورهم قد يكون من أقوى أنواع الحضور في لبنان.

قضية أن تحبط هي قضية أن لا تكون لك قضية، ولا يزال المسلمون الشيعة يحملون قضية التحرير وقضية مقارعة إسرائيل، كما لم يحمله كل العرب في شكل أو آخر في الساحة الميدانية، لذلك فإن حضورهم السياسي في لبنان، والمتزاوج مع الحضور الجهادي، استطاع أن يتجاوز لبنان إلى كل العالم العربي والإسلامي، وحتى العالم الأوروبي، الذي اضطر إلى أن يتحدث عن الشيعة في المقاومة الإسلامية وما إلى ذلك بطريقة إيجابية. أما إذا كانت قضية الإحباط، من جهة أنهم لا يملكون الفرص الكبيرة التي يملكها الآخرون من خلال علاقاتهم الخارجية أو من خلال انفعالهم مع السياسات الخارجية وخضوعهم لها، فإن هذا يعطيهم الكثير من العنفوان، انطلاقاً من أنهم يعيشون استقلال قرارهم وإرادتهم بعيداً من الانفعال أو السقوط تحت عجلة السياسة الدولية التي تحاول السيطرة على المنطقة عبر مشروع الشرق الأوسط الكبير أو المشاريع الأخرى.

إن المسألة هي أن المسلمين الشيعة، ككل الأحرار، عندما تفتح ساحة الصراع القومي أمام القضايا الكبرى، فإنهم لا يشعرون بالسقوط عندما يواجهون التحديات أو بعضاً من أنواع المشكلات، وإنما يعتبرونها ضريبةً للموقف ولحركة الجهاد من أجل قضايا العدالة للإنسان.

س: تأسيساً على ما ذكرت، فإن البعض بدأ يعتبر أن الشيعة كانوا خاسرين جراء الخروج السوري من لبنان، لأن الوجود السوري كان بمثابة رافعة لهم؟

ج: إنني أعتقد أن الشيعة لم ينطلقوا من خلال الدعم السوري في وجودهم، بل إنهم مستقلون استقلالاً كاملاً وفق وجودهم وحضورهم السياسي، الذي لم ينطلق من تعليمات سورية أو غير سورية.

إنني أستطيع التأكيد، وفق معلوماتي الدقيقة، أن عمليات المقاومة لم تتحرك على الطريقة التي كانت تتحرك بها بعض المنظمات من تنفيذ التعليمات في الحاجة إلى مقاومة هنا أو هناك، بل ربما كانت المقاومة الإسلامية في لبنان تقوم بعملياتها بما يخدم استراتيجيتها الجهادية، بحيث إن السوريين لا يعرفون بها إلا بعد ذلك. لهذا فالشيعة يمثلون مجتمعاً مستقلاً حراً في إرادته، ولا أتحدث فقط عن المقاومة الإسلامية، بل إنني أتحدث عن الشرائح المثقفة والمفكرة التي تتنوع في خطوطها السياسية وفي علاقاتها بالأطياف اللبنانية. إن دور سوريا بالنسبة إلى المسلمين الشيعة هو دور التحالف على أساس القضية الكبرى؛ قضية الصراع مع إسرائيل، والتخفيف من الضغط الأميركي. وأعتقد أن الكثيرين من الشيعة إنما يقفون مع سوريا، لأن سوريا هي البلد العربي الوحيد الذي لا يزال يطرح العناوين الكبرى في المسألة العربية، ولا يزال يدفع الأثمان الكبرى في سبيل مواقفه، وخصوصاً لجهة احتضانه حركة المقاومة الفلسطينية، أو من خلال رفضه للاحتلال الأميركي للعراق وتأييده للمقاومة العراقية.

لذا، فإن علاقة المسلمين الشيعة بسوريا، كعلاقة الكثير من القوميين العرب أو من اليساريين، هي علاقة العناوين الكبرى التي لا تزال سوريا تلتزمها، بقطع النظر عما يثيره البعض في هذا الالتزام من علامات استفهام هنا أو هناك. القضية هي قضية نوع من أنواع التكامل في القضايا الكبيرة التي يؤمن بها المسلمون الشيعة، وليست القضية أنهم استعاروا أو يستعيرون قوتهم ووجودهم وحضورهم من الجانب السوري.

كان الشيعة موجودين قبل أن تدخل سوريا إلى لبنان، وهم موجودون بعد دخولها، وسيبقون موجودين بعد خروجها، لأنهم يمثلون الإرادة المستقلة الحرة التي تعرف كيف تتعامل وتتكامل وتتحالف مع الجهات، سواء كانت دولية أو حركية.

حساسية شيعية سنية!

س: برزت في الآونة الأخيرة في لبنان وغيره مسألة الحساسيات الشيعية السنية، فلماذا؟ وإلى أين يمكن أن يفضي ذلك؟

ج: إنني أتصور أنه ليست هناك أي سلبية في الساحة السياسية والثقافية الإسلامية في ما يتصل بالعلاقات بين السنة والشيعة. إن الشيعة كانوا ولا يزالون يحملون شعار الوحدة الإسلامية ويتحركون في اتجاه تحقيقه. وأذكر أنني منذ العام 1952 شاركت في احتفال في بيروت في أربعين المرحوم العلامة السيد محسن الأمين، ودعوت في ذلك الوقت إلى العمل لتحقيق الوحدة الإسلامية. وأذكر أيضاً أنني التقيت في ذلك الحفل بالمرحوم الدكتور مصطفى السباعي المرشد العام للإخوان المسلمين في سوريا ولبنان، حول مسألة الوحدة الإسلامية.

وما زلت منذ ذلك الوقت أتحرك في خط الوحدة الإسلامية على مستوى العالم الإسلامي. وهكذا رأينا كيف أن علماء الشيعة يمارسون الوحدة الإسلامية وينظِّرون لها، ونحن نعرف أن دعوة التقريب بين المذاهب الإسلامية انطلقت في مصر من عالم شيعي هو الشيخ محمد تقي القمي، الذي انفتح على علماء الأزهر. ثم عندما أغلقت دار التقريب بين المذاهب الإسلامية في القاهرة انفتحت عليها الجمهورية الإسلامية الإيرانية، حيث أسست مجدداً مجمع التقريب بين المذاهب الإسلامية، وتنظم كل سنة مؤتمرات يشارك فيها ممثلون عن كل المذاهب.

إن هناك من يحاول الاصطياد في الماء العكر في بعض السلبيات الفردية التي تحدث هنا أو هناك، في بعض الأجواء السياسية، لإيجاد هوة بين السنة والشيعة، ولكني أعتقد أن علماء المذهبين وسياسييهم وعقلاءهم، يعملون على ردم كل هوة يحاول البعض أن يحفرها بين الطائفتين. إننا كنا نقول ولا نزال، نحن في حاجة إلى تأكيد الوحدة الإسلامية بين السنة والشيعة في لبنان والعالم الإسلامي، كخطوة أولى متقدمة للوحدة الوطنية اللبنانية.

لا مشاريع خاصة

س: لكن ثمة من يتهم الشيعة في لبنان وغيره، بأن لديهم مشاريع خاصة؟

ج: إن الحديث عن مشروع خاص للشيعة، سواء على مستوى العالم الإسلامي، كما في الحديث الذي أثاره بعض المسؤولين العرب حول "الهلال الشيعي"، أو على مستوى العراق، ولا سيما بعد التطورات التي شهدها هذا البلد، هو حديثٌ ليس صحيحاً، وأستطيع أن أؤكد أنه ليس للشيعة في كل المواقع التي يعيشون فيها، سواء في لبنان أو الخليج أو العراق، أي مشروع خاص على المستوى السياسي، وهم لا يريدون تقسيم العراق على أساس أن تكون للشيعة دولة فيه، ولا يريدون تقسيم لبنان على أساس أن يكون للشيعة دولة، ولا يريدون أن يضطهدوا أحداً، كما لا يريدون أن يضطهدهم أحد. إنني أستطيع أن أؤكد أن الشيعة في كل المناطق التي يقيمون فيها هم مواطنون يخلصون لوطنهم، ويريدون أن يكونوا متساوين مع المواطنين الآخرين في الحقوق والواجبات.

أما الذين يقولون عكس ذلك، فإنهم يحاولون إبقاء الشيعة في دائرة الاضطهاد والعُزلة. إننا نؤكد أننا مع المسلمين جميعاً في القضايا الإسلامية الكبرى، ومع العرب جميعاً في القضايا العربية الكبرى، ومع كل المستضعفين في العالم في قضايا المستضعفين. ونحن نتحدى أي صوت أن يثير القضية في هذا الاتجاه أو يقدم دليلاً واحداً على أن ثمة خصوصيات شيعية تتجاوز الخصوصيات الوطنية أو العربية أو الإسلامية.

سلاح المقاومة حاجة

س: صدرت في الآونة الأخيرة دعوات إلى نزع سلاح المقاومة في الجنوب، على أساس أن المقاومة قد أدت مهمتها، فهل ترى أن هناك مجالاً بعد للمقاومة وحاجة لبندقيتها؟

ج: عندما ندرس مسألة انطلاقة المقاومة، سنجد أن الانطلاقة كانت من خلال حركة الصراع العربي الإسرائيلي، والعدوان الإسرائيلي ضد لبنان، والذي نجم عنه احتلال بيروت. لذا فإن التجربة اللبنانية مع إسرائيل، كما هي التجربة العربية، تؤكد أن هذا الكيان كيان عدواني يسعى إلى السيطرة على كل المناطق العربية. لذلك فإن المقاومة الإسلامية عملت على جبه الاحتلال حتى أخرجته من معظم المناطق المحتلة. ولا تزال مسألة مزارع شبعا التي يعتقد اللبنانيون على مستوى رسمي وشعبي أنها أرض لبنانية.

ثم قد يفترض الآخرون انسحاب إسرائيل من مزارع شبعا، ويسألون: لماذا يبقى سلاح المقاومة؟ لكننا نعرف أننا لا نزال في حال حرب مع إسرائيل، وأنها ليست الدولة التي يمكن أن يعطي أحد أي ضمانة في أنها لا تعتدي على لبنان في المستقبل، تحت تأثير أي حال سلبية قد تصنعها وقد تستغلها.

فلو فرضنا أن المقاومة نزعت سلاحها، وقامت بعض الجهات أو المنظمات ببعض الأعمال ضد إسرائيل، فإن إسرائيل قد تستغل ذلك للعدوان على لبنان. ونحن نعرف أن إسرائيل لا تزال تحمّل المقاومة الإسلامية مسؤولية بعض العمليات في داخل فلسطين.

وعليه نسأل: من يحمي لبنان إذا ما قامت إسرائيل بعدوان عليه؟

نحن نحترم الجيش اللبناني، ولكننا نعرف أن هذا الجيش لا يستطيع أن يواجه الجيش الإسرائيلي كما يواجه جيش جيشاً، لذا لا بد من مقاومة لبنانية في خط المواجهة تكون بمثابة الجيش الشعبي الاحتياطي في لبنان.

وعندما تصل الأمور في العالم العربي وفي لبنان إلى المستوى الذي يأمن فيه اللبنانيون مئة في المئة من أي عدوان إسرائيلي تضع إسرائيل أسبابه أو مفرداته، وتحصل هناك ضمانات حقيقية في هذا المجال، فإنه لا حاجة عند ذلك إلى سلاح المقاومة.

أي استقلال!

س: تحدثت أصوات المعارضة أخيراً أن لبنان بدأ يعيش مرحلة جديدة عنوانها الاستقلال الجديد، فما رأيك بذلك؟

ج: عندما ندرس الذين يطلقون عنوان الاستقلال، ونعرف أن البعض منهم ادخل الجيش الإسرائيلي إلى لبنان وتعاون معه، فنحن نسأل عن أي استقلال يتحدثون؟

لا حرب أهلية؟

س: هناك تخوف من أن تؤدي الأزمة السياسية الحاصلة إلى حرب أهلية، فهل ترون إمكان العودة إلى هذه الحرب، علماً أنكم أصدرتم فتوى تحرم المساس بالسلم الأهلي؟

ج: نحن نعتقد أنه ليس هناك أي معطيات دولية أو إقليمية أو محلية تسمح باندلاع حرب أهلية. إن الظروف التي كانت قائمة في لبنان في الحرب الأهلية، كانت تملك الكثير من الخطوط السياسية الدولية، خصوصاً أن وزير الخارجية الأميركي الأسبق كيسنجر خطط لهذه الحرب من أجل إسقاط البندقية الفلسطينية، وأن الواقع العربي الذي كان يتوزع على المنظمات الفلسطينية، وأن التعقيدات التي حصلت في ذلك الوقت من الفوضى السياسية على مستوى صراع اليمين واليسار، والحرب الباردة والتمويل الهائل من أكثر الدول العربية وغير العربية... كل هذه العوامل والعناصر غير موجودة الآن، أو هي موجودة على نحو لا يمثل أي خطر حقيقي أو جدي.

إنني أستطيع أن أؤكد حقيقة تاريخية، هي أن خلافات اللبنانيين الطائفية السياسية لم تنتج حربا ولا تنتج حرباً، وإنما كانت الحروب اللبنانية منطلقة من عوامل خارجية سياسية على المستوى الدولي أو الإقليمي، وهذا أمر ليست له أيّ صدقية في الواقع الحاضر.

الحل بالمواطنة

س: طرحت حلول عدة وانطلقت دعوات متعددة لحل الأزمة القائمة حالياً في لبنان، فما هي رؤيتكم للحل؟

ج: إن الكل يتحدث عن اتفاق الطائف، وأنه السقف الذي يستظله الجميع. إنني أقول إن اتفاق الطائف يؤكد المواطنة بديلاً من النظام الطائفي، النظام الطائفي الذي جعل الدول الخارجية تدخل من خلال الثغرات بين طائفة وطائفة.

إنّ الحلّ هو أن يعيش اللبنانيون متساوين كمواطنين، ينفتحون على لبنانهم على أساس الحقوق المشتركة والواجبات المشتركة.

أن يكف اللبناني عن أن يكون طائفياً بالمعنى العشائري للطائفة، وينفتح على أساس إنسانيته، ويطرد كل الذين كانوا يشاركون في الإهدار والفساد، ويطرد من ساحته كل الذين شجعوا أجهزة المخابرات على أن تسيطر عليهم لأنهم يريدون منها أن توظفهم نواباً أو وزراء أو مدراء عامين.

إنّ الذين لا يملكون شجاعة الرفض للأجهزة، لا يملكون شجاعة الرفض للفساد وشجاعة التصدي للاستكبار العالمي.

صحيفة النهار
بيروت 13 صفر 1426هـ الموافق 23 آذار 2005م

 

فضل اللـه لـ"لنهار": الشيعة ليسوا طائفيين أو متقوقعين ولكن لهم أولوياتهم

بندقية المقاومة حاجة ضرورية تنـزع إذا انتهى خطر العدوان الإسرائيلي

كتب إبراهيم بيرم:

في حمأة الأسئلة المتعملقة يوماً بعد يوم منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والتداعيات التي نجمت عن هذا الحدث، انتصب سؤال عن غياب الكتلة الشيعية عن صفحة الحدث، وتراجعها إلى حد محاصرتها باتهام أنها رافعة السلطة "المتداعية" وأنها ربما أضحت "الطائفة المحبطة"، بعد الانسحاب العسكري السوري.

هذه الأسئلة العريضة، وما يندرج تحتها من عناوين فرعية، حملناها إلى المرجع الشيعي السيد محمد حسين فضل الله. ولقد أعطى هذا العلامة الذي كان دوماً علامة فارقة في الحياة الفكرية والسياسية اللبنانية، إجابات تفسر دوافع هذا السلوك الشيعي الذي يكاد يكون جماعياً، فيؤكد أن المسلم الشيعي لم يكن يوماً "متقوقعاً" أو "طائفياً".

ويلفت إلى أن دافع التقارب الشيعي مع سوريا عنوانه "القضايا الكبرى" ودعم المقاومة، وأن ما يشاع عن غياب الشيعة عن عملية التغيير في لبنان، سببه أن لهم أولوياتهم كالكثيرين من اللبنانيين الذين يدرسون الأمور بحسابات دقيقة بعيداً من كل انفعال".

ويخلص إلى الاستنتاج أن الشيعة "ليسوا معقدين من الآخرين"، فما زالوا "الفئة التي تنطلق من اقتناعها الحر في خطوطها السياسية والجهادية".

ينفي العلامة فضل الله عن الشيعة صفة الإحباط إذا ما انسحبت سوريا، لأنهم موجودون قبل دخول سوريا، وسيبقون موجودين بعد خروجها، كونهم يمثلون الإرادة المستقلة الحرة التي تعرف كيف تتعامل وتتكامل وتتحالف مع الجهات، سواء كانت دولية أو حركية.

وإذ يرفض الدعوات إلى نزع سلاح المقاومة انطلاقاً من أن الخطر الإسرائيلي على لبنان ما زال حاضراً، يبدي فضل الله تحفظه على الذين يطلقون عنوان "الاستقلال" على تحرك المعارضة. ورغم كل هذا "الاهتزاز" الذي تعيشه الساحة اللبنانية، فإن السيد العلامة يبدو مقيما على اعتقاد مفاده أنه "ليست هناك أي معطيات دولية أو إقليمية أو محلية تسمح باندلاع حرب أهلية".

أما الحل في رأيه، فيبقى بالتزام اتفاق الطائف، وكفّ اللبناني عن أن يكون طائفياً بالمعنى العشائري للطائفية، بل أن ينفتح على أساس إنسانيته ويطرد كل الذين يشاركون في الإهدار والفساد، والذين شجعوا أجهزة على أن تسيطر عليهم".

س: بعد أكثر من شهر على اغتيال الرئيس رفيق الحريري والتداعيات التي أعقبت من هذا الحدث الجلل، ماذا ترون من جديد في أعماق هذا الحدث؟

ج: من الطبيعي أن مثل هذا الحدث الذي وصف بالزلزال، في طبيعته السياسية المأساوية، ولا سيما أن الرجل يملك أبعاداً منوعة على غير صعيد، وامتدادات دولية وإقليمية ومحلية، من الطبيعي أن يمثل الصدمة التي استطاعت أن تهز الكثير من عناصر الواقع اللبناني، سواء على مستوى الذين حاولوا أن يوظفوا الحدث لاعتباراتهم أو لعناوينهم السياسية، أو الذين عاشوا تحت تأثير النتائج السلبية التي انعكست عليهم.

لذلك، فإن من الطبيعي أن يترك الحدث آثاره على الواقع اللبناني حاضراً ومستقبلاً، خصوصاً أن تداعيات هذا الحدث أفسحت في المجال لغير موقع دولي ليجد فيه الكثير من الإفادة في خدمة مصالحه على غير مستوى. وهذا ما لاحظناه في الهجمة التي انطلقت دوليا وإقليمياً ومحلياً ضد الوجود السوري في لبنان، فقد لاحظنا أن الرئيس الأميركي جورج بوش سعى إلى الإفادة من هذا المناخ، في الواقع الداخلي الأميركي، حيث اعتبر أن الحركة السياسية المعارضة في لبنان، والتي تنادي بالحرية والسيادة والاستقلال، ظاهرة تثبت نجاحه في مشروعه الداعي إلى نشر الديموقراطية في العالم، انطلاقاً من اعتباره أن هذه الحركة انطلقت من خلال الخطوط الأميركية في تشجيع الساحة اللبنانية على أساس تأكيد الديموقراطية بطريقة أو بأخرى.

كما أننا لاحظنا أنّ فرنسا التي تعتبر أن لها خصوصية في لبنان، من خلال تاريخها السياسي وعلاقتها العضوية تقريباً مع كثير من الشرائح اللبنانية، حاولت ولا تزال الإفادة من ذلك بطريقة تختلف عن الطريقة الأميركية.

إضافةً إلى بعض الدول العربية، التي ربما أرادت الإفادة من هذا الجو الجديد في تصفية بعض الحسابات مع سوريا. لذلك فإنني أعتقد أن هذا الحدث، استطاع أن يهز الواقع اللبناني، وأن يثير الكثير من الحساسيات والقليل من العقد.

إثارة غير دقيقة

س: وجهت في الآونة الأخيرة نداءات من مفكرين وسياسيين تدعو الشيعة وأعيانهم وقواهم إلى فعل شيء للمشاركة في حركة الاعتراض والمعارضة والتغيير، انطلاقاً من أنهم (أي الشيعة) بعيدون بكتلتهم الشعبية عن هذه الحركة، فما ردكم؟

ج: في تصوري أن هناك نوعاً من أنواع الإثارة غير الدقيقة في الموضوع الشيعي، إذ إننا نلاحظ أن المسلمين الشيعة - ألا نتحدث طائفياً؟! - كانوا القوة الأولى التي أحدثت زلزال التغيير في لبنان من خلال حركة المقاومة التي أدت إلى التحرير. وبذلك، فإن الشيعة هم الفريق الإنساني الذي استطاع أن يؤكد سيادة لبنان بعيداً من الشعارات والتسويات، لأنه أجرى أنهاراً من الدماء في سبيل إزالة الاحتلال واستعادة سيادة الوطن وكرامته وعزته.

كما أننا عندما ندرس التاريخ الشيعي في لبنان، فإننا نجد أن الشخصيات الشيعية، سواء على مستوى علماء الدين، أو المثقفين والمفكرين، أو على مستوى القاعدة الشعبية، استطاعوا أن يتركوا تأثيرهم في لبنان على مستوى الانفتاح على القضايا الكبرى، سواء في مسألة الصراع ضد إسرائيل، أو في مسألة الوحدة العربية، أو الوحدة الإسلامية، أو الانطلاق في الآفاق الواسعة لحركات التحرر.لهذا فإننا، عندما ندرس المسألة الشيعية في الواقع الميداني، لا نجد هناك حالاً من القوقعة في الزوايا المغلقة، بل إنّ قيمة الإنسان المسلم الشيعي أنه لم يكن في أي وقت طائفياً. ربما كان يستذكر دائماً حال العدالة، من خلال الاضطهاد الذي عاشه عبر التاريخ، لذلك كان يبحث عن العدالة في أي موقع من المواقع، وهذا ما يفسِّر اندماج الكثير من شباب الشيعة في الخطوط اليسارية، أو ما إلى ذلك، مما يطالب بالعدالة وينشد تحقيقها بعيداً من مسألة المضمون العقائدي لهذا الفريق أو ذاك.

ربما يأخذ بعض الناس على الشيعة في لبنان قربهم من سوريا. ونحن عندما ندرس المسألة، نجد أن المسلمين الشيعة ليسوا بدعاً فيها، فنحن نعرف أن معظم الطوائف الإسلامية والمسيحية عاشت هذا النوع من التقارب أو التكامل مع سوريا، باعتبار موقعها الجغرافي، أو من خلال امتدادات العلاقات السورية اللبنانية التاريخية.

وربما أخذ المسلمون الشيعة بالعنوان الكبير في العلاقات مع سوريا ونتيجة الخط المشترك، في مسألة الصراع مع إسرائيل، باعتبار أن المقاومة الإسلامية، كانت ولا تزال بحاجة إلى الدعم العربي، كما الدعم الإسلامي، لذا فإن عمق العلاقة انطلق من خلال هذا النوع من أنواع التكامل بين المقاومة وبين سوريا التي كانت ولا تزال تدعم المقاومة.

إنني أستطيع أن أؤكد أن الشيعة لم يدخلوا في لبنان في أي مغارة طائفية، لذا فإنهم عموماً لم يشاركوا في الحرب اللبنانية كما شارك الآخرون، وهم في الوقت نفسه انفتحوا على كل الجهات، سواء من داخل المؤسسات الدستورية، أو من خلال الأجواء العامة. لذلك نلاحظ أن الحديث عن غياب المسلمين الشيعة عن عملية التغيير في لبنان، هو حديث غير ذي موضوع، ولكن للشيعة أولوياتهم كالكثيرين من اللبنانيين الذين يدرسون الأمور بحسابات دقيقة بعيداً من كل انفعال، إنهم يعملون على أساس التغيير الذي لا يرتكز إلى صراخ الانفعال، وإنما ينطلق من خلال العقلنة التي تدرس الأمور من الداخل والخارج.

صياغة وطن!

س: في السياق نفسه، بلغت المسلمين الشيعة رسائل فحواها أن عليهم الالتحاق بالركب المعارض، لكي يكون لهم مكان في مسألة إعادة صياغة الوطن، فهل تعتقد أن هناك فعلاً مرحلة صياغة وطن، وأن بالإمكان تحقيق ذلك من دون دور للطائفة الشيعية؟

ج: إننا نتصور أن الشيعة يعيشون الوطن بأوسع ما يكون، وإذا كانت مسألة صياغة الوطن تتحرك في اتجاه المناخ الدولي الذي يريد استغلال لبنان واستغلال العالم العربي لمصالحه، فإن المسلمين الشيعة كانوا ولا يزالون يقفون بقوة مع خط العدالة، الذي يتمثّلون في كل تاريخهم وحركتهم في الواقع السياسي على مستوى لبنان وعلى مستوى الخارج. لذلك من الطبيعي جداً أن يقف المسلمون الشيعة ضد السياسة الأميركية التي تلتزم إسرائيل بالمطلق وتلتزم الديكتاتوريات، والتي قد تعطيها عنوان السلام لأنها تلتقي مع مصالحها، أو عنوان الديموقراطية، وقد تعطي بعض الجزارين لقب رجل السلام كما فعلت مع شارون.

إن المسلمين الشيعة ليسوا معقدين من الآخرين، ولكنهم يدرسون علاقتهم ومواقفهم من خلال خط العدالة الإنسانية التي لا تريد لأي دولة عظمى أو كبرى أن تضطهد المستضعفين. لذا، فإنني أعتقد أن الشيعة مشاركون في كل الوطن ومؤسسات الدولة، فهم في مجلس النواب، وفي الحكومة، ومشاركون في التظاهرات الاحتجاجية، ولكن على أساس ما يريدونه وما يؤمنون به، لا على أساس ما يريده الآخرون.

بعض الناس يعتبرون أنك إذا لم تسقط أمام شعاراتهم وأمام خطوطهم السياسية، فإنك تعتبر خارج نطاق الواقع أو خارج "الإجماع". إن الشيعة عاشوا في كل تاريخهم، سواء في لبنان أو العراق أو أماكن أخرى، الاستقلال والحرية، ودفعوا الكثير في سبيل ذلك وما زالوا يدفعون.

ولذا، فإن القضية ليست قضية أن يركبوا الموجة وأن يسيروا بما يقتنع به الآخرون، لأن لهم قناعاتهم. لقد شارك المسلمون الشيعة في لبنان سياسياً وثقافياً وأمنياً، وما زالوا الفئة التي تنطلق من اقتناعها الحر في خطوطها السياسية والجهادية.

الإحبــاط

س: ولكن ثمة من يعرب عن خوفه من أن يصبح الشيعة من الآن فصاعداً "الطائفة المحبطة" في لبنان؟

ج: أنا لا أتصور أن هناك أي عنصر من عناصر الإحباط، لأن الإحباط إذا كان ينطلق من محاولة البعض عزل المسلمين الشيعة عن ساحة الواقع، فإنه لا يستطيع، لأن الشيعة وفق حضورهم الدائم في كل المواقع، لا يسمحون لأحد بأن يعزلهم، فهم متمردون على العزل، لأن حضورهم قد يكون من أقوى أنواع الحضور في لبنان.

قضية أن تحبط هي قضية أن لا تكون لك قضية، ولا يزال المسلمون الشيعة يحملون قضية التحرير وقضية مقارعة إسرائيل، كما لم يحمله كل العرب في شكل أو آخر في الساحة الميدانية، لذلك فإن حضورهم السياسي في لبنان، والمتزاوج مع الحضور الجهادي، استطاع أن يتجاوز لبنان إلى كل العالم العربي والإسلامي، وحتى العالم الأوروبي، الذي اضطر إلى أن يتحدث عن الشيعة في المقاومة الإسلامية وما إلى ذلك بطريقة إيجابية. أما إذا كانت قضية الإحباط، من جهة أنهم لا يملكون الفرص الكبيرة التي يملكها الآخرون من خلال علاقاتهم الخارجية أو من خلال انفعالهم مع السياسات الخارجية وخضوعهم لها، فإن هذا يعطيهم الكثير من العنفوان، انطلاقاً من أنهم يعيشون استقلال قرارهم وإرادتهم بعيداً من الانفعال أو السقوط تحت عجلة السياسة الدولية التي تحاول السيطرة على المنطقة عبر مشروع الشرق الأوسط الكبير أو المشاريع الأخرى.

إن المسألة هي أن المسلمين الشيعة، ككل الأحرار، عندما تفتح ساحة الصراع القومي أمام القضايا الكبرى، فإنهم لا يشعرون بالسقوط عندما يواجهون التحديات أو بعضاً من أنواع المشكلات، وإنما يعتبرونها ضريبةً للموقف ولحركة الجهاد من أجل قضايا العدالة للإنسان.

س: تأسيساً على ما ذكرت، فإن البعض بدأ يعتبر أن الشيعة كانوا خاسرين جراء الخروج السوري من لبنان، لأن الوجود السوري كان بمثابة رافعة لهم؟

ج: إنني أعتقد أن الشيعة لم ينطلقوا من خلال الدعم السوري في وجودهم، بل إنهم مستقلون استقلالاً كاملاً وفق وجودهم وحضورهم السياسي، الذي لم ينطلق من تعليمات سورية أو غير سورية.

إنني أستطيع التأكيد، وفق معلوماتي الدقيقة، أن عمليات المقاومة لم تتحرك على الطريقة التي كانت تتحرك بها بعض المنظمات من تنفيذ التعليمات في الحاجة إلى مقاومة هنا أو هناك، بل ربما كانت المقاومة الإسلامية في لبنان تقوم بعملياتها بما يخدم استراتيجيتها الجهادية، بحيث إن السوريين لا يعرفون بها إلا بعد ذلك. لهذا فالشيعة يمثلون مجتمعاً مستقلاً حراً في إرادته، ولا أتحدث فقط عن المقاومة الإسلامية، بل إنني أتحدث عن الشرائح المثقفة والمفكرة التي تتنوع في خطوطها السياسية وفي علاقاتها بالأطياف اللبنانية. إن دور سوريا بالنسبة إلى المسلمين الشيعة هو دور التحالف على أساس القضية الكبرى؛ قضية الصراع مع إسرائيل، والتخفيف من الضغط الأميركي. وأعتقد أن الكثيرين من الشيعة إنما يقفون مع سوريا، لأن سوريا هي البلد العربي الوحيد الذي لا يزال يطرح العناوين الكبرى في المسألة العربية، ولا يزال يدفع الأثمان الكبرى في سبيل مواقفه، وخصوصاً لجهة احتضانه حركة المقاومة الفلسطينية، أو من خلال رفضه للاحتلال الأميركي للعراق وتأييده للمقاومة العراقية.

لذا، فإن علاقة المسلمين الشيعة بسوريا، كعلاقة الكثير من القوميين العرب أو من اليساريين، هي علاقة العناوين الكبرى التي لا تزال سوريا تلتزمها، بقطع النظر عما يثيره البعض في هذا الالتزام من علامات استفهام هنا أو هناك. القضية هي قضية نوع من أنواع التكامل في القضايا الكبيرة التي يؤمن بها المسلمون الشيعة، وليست القضية أنهم استعاروا أو يستعيرون قوتهم ووجودهم وحضورهم من الجانب السوري.

كان الشيعة موجودين قبل أن تدخل سوريا إلى لبنان، وهم موجودون بعد دخولها، وسيبقون موجودين بعد خروجها، لأنهم يمثلون الإرادة المستقلة الحرة التي تعرف كيف تتعامل وتتكامل وتتحالف مع الجهات، سواء كانت دولية أو حركية.

حساسية شيعية سنية!

س: برزت في الآونة الأخيرة في لبنان وغيره مسألة الحساسيات الشيعية السنية، فلماذا؟ وإلى أين يمكن أن يفضي ذلك؟

ج: إنني أتصور أنه ليست هناك أي سلبية في الساحة السياسية والثقافية الإسلامية في ما يتصل بالعلاقات بين السنة والشيعة. إن الشيعة كانوا ولا يزالون يحملون شعار الوحدة الإسلامية ويتحركون في اتجاه تحقيقه. وأذكر أنني منذ العام 1952 شاركت في احتفال في بيروت في أربعين المرحوم العلامة السيد محسن الأمين، ودعوت في ذلك الوقت إلى العمل لتحقيق الوحدة الإسلامية. وأذكر أيضاً أنني التقيت في ذلك الحفل بالمرحوم الدكتور مصطفى السباعي المرشد العام للإخوان المسلمين في سوريا ولبنان، حول مسألة الوحدة الإسلامية.

وما زلت منذ ذلك الوقت أتحرك في خط الوحدة الإسلامية على مستوى العالم الإسلامي. وهكذا رأينا كيف أن علماء الشيعة يمارسون الوحدة الإسلامية وينظِّرون لها، ونحن نعرف أن دعوة التقريب بين المذاهب الإسلامية انطلقت في مصر من عالم شيعي هو الشيخ محمد تقي القمي، الذي انفتح على علماء الأزهر. ثم عندما أغلقت دار التقريب بين المذاهب الإسلامية في القاهرة انفتحت عليها الجمهورية الإسلامية الإيرانية، حيث أسست مجدداً مجمع التقريب بين المذاهب الإسلامية، وتنظم كل سنة مؤتمرات يشارك فيها ممثلون عن كل المذاهب.

إن هناك من يحاول الاصطياد في الماء العكر في بعض السلبيات الفردية التي تحدث هنا أو هناك، في بعض الأجواء السياسية، لإيجاد هوة بين السنة والشيعة، ولكني أعتقد أن علماء المذهبين وسياسييهم وعقلاءهم، يعملون على ردم كل هوة يحاول البعض أن يحفرها بين الطائفتين. إننا كنا نقول ولا نزال، نحن في حاجة إلى تأكيد الوحدة الإسلامية بين السنة والشيعة في لبنان والعالم الإسلامي، كخطوة أولى متقدمة للوحدة الوطنية اللبنانية.

لا مشاريع خاصة

س: لكن ثمة من يتهم الشيعة في لبنان وغيره، بأن لديهم مشاريع خاصة؟

ج: إن الحديث عن مشروع خاص للشيعة، سواء على مستوى العالم الإسلامي، كما في الحديث الذي أثاره بعض المسؤولين العرب حول "الهلال الشيعي"، أو على مستوى العراق، ولا سيما بعد التطورات التي شهدها هذا البلد، هو حديثٌ ليس صحيحاً، وأستطيع أن أؤكد أنه ليس للشيعة في كل المواقع التي يعيشون فيها، سواء في لبنان أو الخليج أو العراق، أي مشروع خاص على المستوى السياسي، وهم لا يريدون تقسيم العراق على أساس أن تكون للشيعة دولة فيه، ولا يريدون تقسيم لبنان على أساس أن يكون للشيعة دولة، ولا يريدون أن يضطهدوا أحداً، كما لا يريدون أن يضطهدهم أحد. إنني أستطيع أن أؤكد أن الشيعة في كل المناطق التي يقيمون فيها هم مواطنون يخلصون لوطنهم، ويريدون أن يكونوا متساوين مع المواطنين الآخرين في الحقوق والواجبات.

أما الذين يقولون عكس ذلك، فإنهم يحاولون إبقاء الشيعة في دائرة الاضطهاد والعُزلة. إننا نؤكد أننا مع المسلمين جميعاً في القضايا الإسلامية الكبرى، ومع العرب جميعاً في القضايا العربية الكبرى، ومع كل المستضعفين في العالم في قضايا المستضعفين. ونحن نتحدى أي صوت أن يثير القضية في هذا الاتجاه أو يقدم دليلاً واحداً على أن ثمة خصوصيات شيعية تتجاوز الخصوصيات الوطنية أو العربية أو الإسلامية.

سلاح المقاومة حاجة

س: صدرت في الآونة الأخيرة دعوات إلى نزع سلاح المقاومة في الجنوب، على أساس أن المقاومة قد أدت مهمتها، فهل ترى أن هناك مجالاً بعد للمقاومة وحاجة لبندقيتها؟

ج: عندما ندرس مسألة انطلاقة المقاومة، سنجد أن الانطلاقة كانت من خلال حركة الصراع العربي الإسرائيلي، والعدوان الإسرائيلي ضد لبنان، والذي نجم عنه احتلال بيروت. لذا فإن التجربة اللبنانية مع إسرائيل، كما هي التجربة العربية، تؤكد أن هذا الكيان كيان عدواني يسعى إلى السيطرة على كل المناطق العربية. لذلك فإن المقاومة الإسلامية عملت على جبه الاحتلال حتى أخرجته من معظم المناطق المحتلة. ولا تزال مسألة مزارع شبعا التي يعتقد اللبنانيون على مستوى رسمي وشعبي أنها أرض لبنانية.

ثم قد يفترض الآخرون انسحاب إسرائيل من مزارع شبعا، ويسألون: لماذا يبقى سلاح المقاومة؟ لكننا نعرف أننا لا نزال في حال حرب مع إسرائيل، وأنها ليست الدولة التي يمكن أن يعطي أحد أي ضمانة في أنها لا تعتدي على لبنان في المستقبل، تحت تأثير أي حال سلبية قد تصنعها وقد تستغلها.

فلو فرضنا أن المقاومة نزعت سلاحها، وقامت بعض الجهات أو المنظمات ببعض الأعمال ضد إسرائيل، فإن إسرائيل قد تستغل ذلك للعدوان على لبنان. ونحن نعرف أن إسرائيل لا تزال تحمّل المقاومة الإسلامية مسؤولية بعض العمليات في داخل فلسطين.

وعليه نسأل: من يحمي لبنان إذا ما قامت إسرائيل بعدوان عليه؟

نحن نحترم الجيش اللبناني، ولكننا نعرف أن هذا الجيش لا يستطيع أن يواجه الجيش الإسرائيلي كما يواجه جيش جيشاً، لذا لا بد من مقاومة لبنانية في خط المواجهة تكون بمثابة الجيش الشعبي الاحتياطي في لبنان.

وعندما تصل الأمور في العالم العربي وفي لبنان إلى المستوى الذي يأمن فيه اللبنانيون مئة في المئة من أي عدوان إسرائيلي تضع إسرائيل أسبابه أو مفرداته، وتحصل هناك ضمانات حقيقية في هذا المجال، فإنه لا حاجة عند ذلك إلى سلاح المقاومة.

أي استقلال!

س: تحدثت أصوات المعارضة أخيراً أن لبنان بدأ يعيش مرحلة جديدة عنوانها الاستقلال الجديد، فما رأيك بذلك؟

ج: عندما ندرس الذين يطلقون عنوان الاستقلال، ونعرف أن البعض منهم ادخل الجيش الإسرائيلي إلى لبنان وتعاون معه، فنحن نسأل عن أي استقلال يتحدثون؟

لا حرب أهلية؟

س: هناك تخوف من أن تؤدي الأزمة السياسية الحاصلة إلى حرب أهلية، فهل ترون إمكان العودة إلى هذه الحرب، علماً أنكم أصدرتم فتوى تحرم المساس بالسلم الأهلي؟

ج: نحن نعتقد أنه ليس هناك أي معطيات دولية أو إقليمية أو محلية تسمح باندلاع حرب أهلية. إن الظروف التي كانت قائمة في لبنان في الحرب الأهلية، كانت تملك الكثير من الخطوط السياسية الدولية، خصوصاً أن وزير الخارجية الأميركي الأسبق كيسنجر خطط لهذه الحرب من أجل إسقاط البندقية الفلسطينية، وأن الواقع العربي الذي كان يتوزع على المنظمات الفلسطينية، وأن التعقيدات التي حصلت في ذلك الوقت من الفوضى السياسية على مستوى صراع اليمين واليسار، والحرب الباردة والتمويل الهائل من أكثر الدول العربية وغير العربية... كل هذه العوامل والعناصر غير موجودة الآن، أو هي موجودة على نحو لا يمثل أي خطر حقيقي أو جدي.

إنني أستطيع أن أؤكد حقيقة تاريخية، هي أن خلافات اللبنانيين الطائفية السياسية لم تنتج حربا ولا تنتج حرباً، وإنما كانت الحروب اللبنانية منطلقة من عوامل خارجية سياسية على المستوى الدولي أو الإقليمي، وهذا أمر ليست له أيّ صدقية في الواقع الحاضر.

الحل بالمواطنة

س: طرحت حلول عدة وانطلقت دعوات متعددة لحل الأزمة القائمة حالياً في لبنان، فما هي رؤيتكم للحل؟

ج: إن الكل يتحدث عن اتفاق الطائف، وأنه السقف الذي يستظله الجميع. إنني أقول إن اتفاق الطائف يؤكد المواطنة بديلاً من النظام الطائفي، النظام الطائفي الذي جعل الدول الخارجية تدخل من خلال الثغرات بين طائفة وطائفة.

إنّ الحلّ هو أن يعيش اللبنانيون متساوين كمواطنين، ينفتحون على لبنانهم على أساس الحقوق المشتركة والواجبات المشتركة.

أن يكف اللبناني عن أن يكون طائفياً بالمعنى العشائري للطائفة، وينفتح على أساس إنسانيته، ويطرد كل الذين كانوا يشاركون في الإهدار والفساد، ويطرد من ساحته كل الذين شجعوا أجهزة المخابرات على أن تسيطر عليهم لأنهم يريدون منها أن توظفهم نواباً أو وزراء أو مدراء عامين.

إنّ الذين لا يملكون شجاعة الرفض للأجهزة، لا يملكون شجاعة الرفض للفساد وشجاعة التصدي للاستكبار العالمي.

صحيفة النهار
بيروت 13 صفر 1426هـ الموافق 23 آذار 2005م

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية