علمٌ من أعلام الفكر والفقه والفلسفة، جريء في طروحاته، سبَّاق في مطالعاته وقراءاته وفتاويه في الدين والدنيا. الموضوعية والصراحة والانفتاح أقلّ ما يقال عن نهجه ومواقفه بحاضرها وماضيها... العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله ضمير الناس، نبض الشارع السبّاق دائماً في تلمّس أبعاد الأحداث والتّحذير من مخاطرها... لا حدود ولا تفريق بين قضية وأخرى، أو بين منطقة وفئة وطائفة. وحده الإنسان بهمومه واهتماماته، الحاضر الدائم في قاموسه في السياسة كما في الأدب والفكر والفقه. معه اليوم، نقرأ في أبعاد الأحداث، ونتلمَّس مفترقات ومفاصل حاسمة وتاريخية في عمر المنطقة، حصة لبنان منها انفعاله بها وتفاعله معها، بقواه وأطرافه وتياراته بمعارضاته وموالاته.
نرحّب بسماحة العلاّمة المرجع السيد محمد حسين فضل الله...
رسالة العيد
* سماحة السيد في أجواء عيد الفطر، ما هي الرسالة التي تتوجَّه بها إلى اللبنانيين في هذه المناسبة عبر صالون السبت؟
_ إنني من كلِّ عقلي وقلبي وتطلّعاتي إلى المستقبل في حركة الحياة التي تتجدَّد في كل يوم، عندما تتجدَّد الشمس لتبعث الضوء في عيوننا، ولتمنح الحياة لقلوبنا، إنني من كلِّ هذا أتوجَّه إلى اللبنانيين عامّةً، وإلى المسلمين في العالم كله، لأطلب منهم أن يعيشوا فرح العيد حتى لو كانت هناك أكثر من حالة تفترس نفوسهم بالحزن والألم، لأن قضية الفرح في الإنسان هي قضية الحياة، فيما الحزن يضيّق الحياة عليه. وعلى ضوء هذا، لا بدَّ لنا من أن نتلمَّس عناصر الفرح.
وأذكر أن لي قصيدةً في الخمسينات كنت أقول فيها: "فأنا أخلق وحدي جنتي/ فأرى اللذة في أعماق حزني". لذلك فإنني أتوجه إلى الجميع أن يتطلعوا إلى المستقبل ليدرسوا كيف يمكن أن يصنعوا المستقبل من قلب الألم ومن قلب الأمل.
* وماذا عن العوامل الخارجية والخارجة عن إرادتنا والّتي تمنعنا من الفرح؟
- إن قضيَّة الإنسان هي قضيّة الصراع بين الداخل والخارج. إنَّ إنسانيتنا تتحرك من أجل أن تحيا، لذلك لا بد من أن نصارع الموت، أن نصارع العناصر التي تحيط بنا والتي تزحف إلى عقولنا وقلوبنا لتسقط في داخلها معنى الانفتاح على الحياة. لذا علينا أن نعمل على أساس أن نؤكِّد فرح الحياة، وعند ذلك يسقط الكثير مما يغرينا بالموت.
البعد الرسالي للصوم:
* لنتكلم سماحة السيد عن الصوم، فهو عنوان في المسيحية والإسلام معاً، والديانات بأبعاد رسالاتها تجمع ولا تفرِّق. ماذا يعني الصوم في بعده الرسالي وأين نحن منه بالممارسة لبنانياً بشكل خاص، حيث تطغى المظاهر على أداء هذه الفرائض الدينية؟
- إنّ الصَّوم يهدف إلى تأصيل إرادة الإنسان لتأكيد إنسانيته، بحيث يملك الإنسان أمام أيِّ حدث في ما يقبله أو لا يقبله، أن يقول نعم أو لا، وأن لا يكون الإنسان ظلاً أو صدى، بل أن يكون هو ذاته، فينـزل إلى أعماق نفسه ليرى ماذا يريد ليؤكِّد إرادته، وليرى ما يؤمن به ليعمِّق هذا الإيمان، ولينـزل إلى أعماق ذاته ليرى ما الذي يفكر فيه، ليصرخ بما ينكر، وليقول للذين يصنعون المأساة: كفى إنّ عليكم أن تبتعدوا عن فرحنا وعن إيماننا وعن كل أصالتنا في الفكر والمحبة والحياة. لذلك من يصم ولا يملك الإرادة القوية الفاعلة فهو ليس بصائم، بل إنه مجرد إنسان يترك طعامه وشرابه، وقد ورد عندنا في بعض الآثار الدينية: «رُبَّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش». فالصّوم هو حركة فاعلة في عقل الإنسان وقلبه، وبالتالي في حياته.
وحدة المناسبات الروحية:
* سماحة السيد، لماذا الوحدة دائماً رقم صعب في قاموسنا، حتى في المناسبات الروحية على اختلافها وتنوّعها، متى وكيف تتوَّحد الأعياد في نظرك، ومن يقرر ذلك؛ الدولة أم الفعاليات الروحية؟
-المشكلة أنَّ الأُسس التي ترتكز عليها قضية الخط الذي يحكم توقيت العيد قد تعيش بعض التعقيدات في الاجتهادات الفقهية، ففي الدائرة الإسلامية، هناك رأي يرى أنّ مسألة تحديد العيد تتصل بالتجربة الإنسانية الشخصية في الرؤية المجرَّدة للهلال في الأفق، على أساس الحديث المأثور: «صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته».
وعلى ضوء هذا يختلف النَّاس في العالم الإسلامي؛ هل شوهد الهلال أم لا؟ هل إن الذي ادَّعى الرؤية موثوق أم غير موثوق؟ ولكننا انطلقنا في رأينا الفقهي على أساس أن قضية الشهر هي قضية تتصل بالنظام الكوني، ولا علاقة لها برؤية راءٍ، بل هي خاضعة لمسألة دخول القمر في المحاق حيث يبرز الجانب المظلم منه، وخروجه من المحاق حيث يبرز الجانب المضيء، فإذا برز الجانب المضيء بدأ الشهر. لذلك فإننا لا ننتظر نهاية الشهر لنحدِّد العيد، ولكننا ننتظر ماذا يقول الفلكيون الموثوقون الخبراء في طبيعة العناصر التي تحدد الهلال لنفتي بذلك. وعلى هذا الأساس كنا نقول إنَّ من الممكن جداً أن نحدد الهلال في مدى خمسين سنة.
* سماحة السيِّد، بما أننا نتكلَّم عن توحيد الأعياد، فماذا عن العطل في الأعياد الرسمية، خاصّة أن هناك من بدأ يتكلّم عن مسألة العطل بشكل مذهبي وطائفي، ويطالبون بإلزاميّة التعطيل يوم الجمعة بدل السبت، فماذا تقول في ذلك؟
- هناك مشكلة تتّصل بالذهنية في هذا المجال، لأنّ الأحد أو السبت يختزن في داخله معنى دينيّاً، لأن الأحد يمثِّل العطلة المسيحية، والسبت يمثِّل العطلة اليهودية. ولذلك هناك من يقول لماذا لا يكون للمسلمين عطلة تخصُّهم وهي يوم الجمعة. فالقضيّة تتّصل في النظرة إلى العطل باعتبار أنّها تخضع لعنوان ديني، سواء ما تعارف عليه الناس في العطل أو ما لم يتعارفوا عليه في هذا المجال. لذلك فإنّني أتصوَّر أن العطل التي تحدِّد للطلاب أيَّام دراستهم أو أيّام تعطليهم، لا تخضع لاعتبارات دينية إذا كانت هذه الاعتبارات تعطِّل دراستهم أو تعطِّل عليهم أوضاعهم، ولا سيّما أن النظرة الإسلامية ليست في عطلة الجمعة، ولكن في عطلة وقت الصلاة، لأن الآية تقول: {يا أيُّها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون* فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون}(الجمعة/9-10). لذلك نحن نقول إننا في لبنان قد لا يكون هذا الجدل ضرورياً، لأنه قد يخلط الأوراق مما لا داعي له في هذا المجال.
لغز وفاة الرئيس عرفات:
* الرئيس ياسر عرفات الزعيم الفلسطيني، كما كان لغزاً في حياته فقد رحل لغزاً أيضاً. سماحة السيد، ماذا تقرأ وتعاين في حدث رحيل الرجل الرمز الرئيس والمقاوم؟ وماذا تقول في لغز الرحيل وقد اتَّسعت الاتّهامات في ظل اختفاء المعلومات عن أسباب الوفاة؟
- أمَّا مسألة الرحيل، فإن فيها جانبين: جانباً مضيئاً وجانباً ضبابياً، أما الجانب المضيء، فهي أنّ هذا الرجل كان يمسك بيده كلَّ أوراق القضية الفلسطينية، باعتبار أنه الشخص الذي أنتج الشعب الفلسطيني بعد أن كان هناك حديث عن إلغائه. وهذا ما تحدثت به غولدا مائير أنه ليس هناك شعب فلسطيني، كان الشعب الفلسطيني يمثِّل مزقاً متناثرة كلاجئين يتصدَّق العالم عليهم من خلال جهات الأمم المتحدة، لم تكن هناك قضية في مستوى المواجهة للمحتلّ واستعادة الأرض. لذلك كان ياسر عرفات هو الإنسان الذي أطلق صرخة التحرير، والذي حرّكها على الأرض من خلال العمل الفدائي الذي كان يتحرك هنا وهناك بطريقة مثيرة للجدل، لإنقاذ القضية الفلسطينية من التعقيدات التي قد يفرضها عليه العرب من جهة، أو الدول الأخرى من جهة أخرى، فقد كان يقفز من موقع إلى موقع، وكان الآخرون يلاحقونه بكلمات الخيانة وبكلمات بيع القضية الفلسطينية، ولكني كنت أقول ولا أزال أقول إنه أكثر الفلسطينيين إخلاصاً للقضية الفلسطينية، إنَّه الرجل الذي دخل في المفاوضات، ولكن عندما أريد له أن يوقع توقيعاً يقدم فيه تنازلات عن القضايا الاستراتيجية كان يمتنع عن التوقيع، وهذا ما لاحظناه في مفاوضات كمب دايفيد، عندما رفض التوقيع تحت ضغط كلينتون وتحت الضغط الإسرائيلي وما إلى ذلك.
لذلك هذا الرجل كان يملك أوراق القضية الفلسطينية، ويملك الصلابة في إدارتها حتى على مستوى الجدل الذي كان يثار أمريكياً وإسرائيلياً وعربياً بالنسبة إلى الانتفاضة. إنني أعتقد أن الرجل كان يتحرك مع الانتفاضة كما لو كان قائد الانتفاضة، ولذلك أنا أوافق ما يتحدث به الرئيس بوش وما يتحدث به شارون، من أن عرفات كان يمنع الحلّ الذي يقدِّم التنازلات.
أما في الجانب الغامض الضبابي، فإن هذا الرجل كبقية الحكام العرب، كان يمسك كل المؤسسات بيده ويصادر كلَّ المؤسسات، ومثل هذا الأمر قد يكون في بعض الحالات إيجابياً، ولكنه يصادر الواقع الشعبي ويترك تأثيره السلبي على المؤسسات، وهذا ما لاحظناه بعد غيابه، فقد رجعت المؤسسات إلى القائمين عليها، بقطع النظر عن النتائج الإيجابية أو السلبية لهذا الأمر. كان هذا الرجل مثيراً للجدل، ولكنه كان القيادة التي فاقت من قبلها وأتعبت من بعدها.
* أما الجانب الغامض الآخر فهو الوفاة، وفاة غامضة، ماذا عن سر مرض عرفات، فقد سمعنا أن طبيب عرفات الخاص يطالب بتشريح الجثة وبفتح تحقيق؟
- إنني أعتقد أن سرَّه مات معه، لأن القضية قد تكون بدس السم له كما أثير، ولكن من الممكن جداً أنه قتل من خلال المناخ الذي وضع فيه في سجنه، لأنّ هذا المناخ يمكن أن يُثير أكثر من مرض، ويمكن أيضاً أن يُدسَّ فيه أكثر من عنصر من العناصر التي تدس في الهواء وما إلى ذلك. إن الرجل مات تحت تأثير حالة من الغموض الذي فتك بجسده، لأنه كان وهو الرجل الكبير الصلب، لا يستطيع أن يجعل جسده في خدمة طموحاته، ومشكلة الكبار أن أجسادهم أضعف من طموحاتهم.
مستقبل الساحة الفلسطينية بعد عرفات:
* سماحة العلامة، منذ قليل تحدثت عن الرجل الصلب ياسر عرفات الذي اختصر المؤسسات وأمسك بكل الأوراق وحصرها بشخصه، وقد توزَّع رفاق عرفات المسؤوليات من بعده. ولكن السؤال ما زال يفرض نفسه: ماذا بعد هذا الرحيل؟ وهل ما جرى من توزيعٍ للمسؤوليّات يعكس حقيقة التمثيل الفلسطيني ورغبة الشارع، أم أنه إجراء مؤقت لحين الاستحقاق الرئاسي؟ وهل نحن أمام مرحلة فلسطينية لا أحد يعرف كيف ستتطور؟
- من الصعب جداً أن نعتبر أن هؤلاء يمثلون نبض الشارع الفلسطيني. إننا لا نريد أن نسجل نقطة سوداء على هذا أو ذاك، مما انطلق فيه الإعلام عندما كان يتحدث بسلبية عن أبو مازن أو أبو علاء أو عن بعض رفاق عرفات، ولكننا لا بد أن نتابع الأحداث لنرى نبض الشارع الفلسطيني، من المؤكد جداً أن القوة التي كان يتحلى بها هذا الرجل الرمز ليست موجودة لدى أيِّ واحد من هؤلاء، إنه الرجل الذي عاش شعبه في داخل وجدانه، وعاش هو في وجدان شعبه، وهذا ما لاحظناه في هذه الجموع الهادرة التي خرجت خلفه. المشكلة أن هؤلاء الذين جاؤوا بعده، تعلموا منه بالشكل الإداري، ولكنهم لم يتعلموا منه نبض القضية بالمستوى الذي عاشه. إنّ أربعين سنة من الجدال على مستوى العالم، ومن الكفاح والألم والقفز من موقع إلى موقع، ومن هذه الثقافة السياسية التي لم يستطع أي مسؤول عربي وإسلامي أو دولي أن يعيشها، إن هذا لا يمكن أن يأتي بالصدفة أو من الجامعة أو من القراءة، لأنّها كانت جزءاً من أعصابه وجزءاً من عقله.
* إذاً كيف يمكن للقيادة الفلسطينية أن تنجح في الحفاظ على تماسكها؟ وهل ستواجه مخاطر الصراعات الداخلية؟ كيف تقرأون مستقبل الوضع الفلسطيني؟
-لقد قلت في خطبة الجمعة، إنّ على الشعب الفلسطيني أن يكون هو القائد، ومعنى أن يكون هو القائد، أن يرصد كل الخطوط التي تتحرك في ساحته، أن يلاحق القادة الرسميين، وأن يدرس خطورة المرحلة، لتبقى هذه الوحدة الفلسطينية التي عاشها الشعب الفلسطيني بانتفاضته وبسلطته، وليراقب كلَّ التعقيدات التي توضع في طريقه. لذلك إني أعتقد أن المرحلة التي دخل فيها الشعب الفلسطيني هي مرحلة صعبة، ولكن تجربتنا مع الشعب الفلسطيني تجعلنا نفكر في أنه لن يقع في مرحلة الفتنة.
* تحدَّث رئيس الوزراء الإسرائيلي شارون عن منعطفٍ في الشّرق الأوسط بعد رحيل عرفات، فماذا تحمل هذه القراءة الإسرائيلية، خاصة وأنَّ شارون لم يخجل من إعلان فرحته برحيل عرفات؟
-لقد كان عرفات الشخص الذي يمثل كلَّ التحدي لشارون منذ زمن طويل، وكان شارون يشعر بأن عرفات هو المأزق الذي لا يستطيع أن يخرج منه بالرغم من عزل أمريكا له عن القضية الفلسطينية أو عزل شارون، باعتباره الإنسان الذي لا يمثل الشريك المناسب للمفاوضات. ولذلك فإنَّ فرحه بوفاته هو فرح الإنسان الذي شعر بأنه خرج من المأزق من هذا الجانب، أما تصريحاته، فإن هذا الرجل قد يختزن في تصريحاته الكثير من حالات الغموض، فحديثه عن منعطف في الشرق الأوسط بعد رحيل عرفات له علاقة بما يفكِّر به، هل يعني ذلك أنّ الذين سيأتون بعد عرفات هم أقلَّ صلابة منه، وأنه يمكن السيطرة عليهم، أم من جهة أنه يستطيع أن يقوم باللعبة بشكل أكثر حريةً في هذا المجال، عندما تترك أمريكا _ بوش لحلّ المشكلة الفلسطينية وما إلى ذلك؟
غموض سياسة بوش:
* عرفات رحل وبقي شارون، وجُدِّد لبوش، والرئيس الأمريكي كان مقتنعاً بالمشاريع الإسرائيلية في الملفِّ الفلسطيني، فهل تتوقَّع تحريكاً لخريطة الطريق وسواها من المشاريع في ولاية بوش الثانية، خاصة بعد ما قاله بوش في مؤتمر صحفي مع طوني بلير، "أن الدولة الفلسطينية من الممكن أن توجد بعد أربع سنوات"؟
-المشكلة أنّ الدولة الفلسطينية التي طرحها الرئيس بوش كانت غامضة، لأنه لم يتحدَّث عن جغرافيتها ولا عن طبيعتها وشروطها وقابليتها للحياة بشكل تفصيلي، بل كانت مجرَّد لافتةٍ يُراد جذب الفلسطينيين إليها. ونلاحظ أيضاً أنّ بوش قد تحدث عن خارطة الطريق وعن الدولة الفلسطينية، ولكن في الوقت نفسه تحدَّث عما يشبه الشرعية للجدار العنصري الفاصل، بعد ما كان يقول إن الجدار يمنع قيام الدولة الفلسطينية، كما تحدث أيضاً بإيجابية عن المستوطنات، وتحدَّث أيضاً عن إلغاء عودة الفلسطينيين، فالرجل لم يثبت على كلمة بل كان يناقض نفسه. ومشكلة بوش، كأيِّ رئيس أمريكي، مع الاختلاف بين شخص وآخر أن السياسة الداخلية هي التي تحدِّد السياسية الخارجية الأمريكية، على الأقل في منطقة الشرق الأوسط. ولذلك فقد انضمّ إلى اللوبي الصهيوني المحافظون الجدد، الذين هم أكثر هستيريةً في المسألة الفلسطينية من اللّوبي الصهيوني، ولذلك فقد كان الرجل أسير الأصوات الانتخابية لهؤلاء. هذا في الوقت الذي استطاع المحافظون الجدد أن يقوموا بعملية تبشيرية لجعل هذا الرجل يؤمن بالدولة العبرية التي يمكن أن تستقبل السيد المسيح في نهاية المطاف. ولذلك فإنَّ تأكيد الدولة العبرية يعني تأكيد مجيء السيد المسيح، وإن كان اليهود لا يقبلون بذلك، لأن نظرية المحافظين الجدد أنه سيأتي ليقود اليهود إلى المسيحية في هذا المجال. إنَّ المشكلة هي أن بوش رجل يعيش اختلاط التفكير والقفز من موقع إلى موقع على أساس الأوضاع الداخلية في أمريكا.
* ولكن ها هو اليوم رئيس لولاية ثانية، هل المنطقة حاضرة لمبادرة أمريكية جديدة؟
-إنني ألاحظ أن بوش _ ومعه بلير _ يحاول أن يدخل التاريخ من باب القضية الفلسطينية، ولكن المسألة ليست في ذلك، لكن ما هي شروطه؟ وما هي نسبة الضغوط اليهودية عليه إضافة إلى الظروف الموضوعية للمنطقة وعلاقة ذلك بالحرب ضد الإرهاب؟! لقد اعتبر بوش أنَّ المسألة السياسية تابعة للمسألة الأمنية بدلاً من أن يعتبر أن المسألة الأمنية تابعة للمسألة السياسية، لأن قضية المقاومة والانتفاضة إنما هي رد فعل للاحتلال وليس الاحتلال ردّ فعل للانتفاضة. ولذلك كنا نقول لكثير من الصحفيين الأمريكيين إن بوش وضع العربة قبل الحصان، ولم يضع الحصان قبل العربة.
التلاقي الأوروبي الأمريكي:
* تقدَّمت بمطالعة في ندوتك الأسبوعية حول التلاقي الأمريكي الأوروبي على دعم إسرائيل، وأنتم من القائلين إن مقولة التفوّق النوعي لإسرائيل على بقية دول المنطقة هي أمريكية المنشأ، ولكنها أوروبية الحركة والتنفيذ. لماذا هذا التلاقي بين أمريكا وأوروبا؟ هل هي أحداث 11 أيلول والحرب على الإرهاب؟ هل هو العراق، أم كما يقول البعض إنّها حرب صليبية جديدة بأهداف قديمة، أم هي من أجل ثروات المنطقة ومصالح الغرب فيها؟
-لقد سألت أحد السفراء الأوروبيين الكبار. لماذا اعتبرتم حركة حماس منظمة إرهابية مع أنكم كأوروبيين تعرفون أن حركة حماس هي حركة تحرير، وأنها جاءت ردَّ فعل للاحتلال، وأنتم ضدّ احتلال شعب لشعب أو دولة لشعب؟ وكان جوابه أننا لم نستطع الوقوف أمام الضغط الأمريكي، خصوصاً في المسائل الاقتصادية والسياسة، من خلال هذا التداخل في المصالح بين المصالح الأوروبية والمصالح الأمريكية. إن القضية هي أن أوروبا لا تزال ضعيفة أمام أمريكا، ثم أنها لا تريد لأمريكا أن تنهزم، ولذلك فهي في الوقت الذي تعارض الحرب على العراق، لا توافق على سقوط أمريكا في العراق، وهذه هي المشكلة التي نواجهها في هذا النوع من الاهتزاز الأوروبي بين موقع وموقع آخر، ولعلَّ هذا هو ما لاحظناه في خلفيات القرار 1559 الذي يتَّصل بسوريا ولبنان.
التمييز بين المقاومة والإرهاب:
* الأحداث تتوالى منذ 11 أيلول، والشعار لكل الحملات محاربة الإرهاب، فهل نجحت الدول في المنطقة في فصل المقاومة عن الإرهاب ونفي تهمة الإرهاب عن الإسلام، لأن البعض يعتبر أن معظم الأنظمة العربية هي مسؤولة عن الانهزام العربي أمام الانتداب الأمريكي الجديد؟
-أولاً نقول إن الإسلام ليس إرهابياً، وإن حركة الجهاد في الإسلام هي حركة دفاعية وقائية تماماً كما هي في كلِّ حضارات العالم.
أما دول المنطقة، فقد صودرت من قبل مسؤوليها الذين كانوا موظفين للاستخبارات الأمريكية بشكل عام، ولذلك فهم لا يمثِّلون أية انطلاقة شعبية تؤكد هوية هذا الشعب، ثم إننا نلاحظ أن هؤلاء الحكام صادروا شعوبهم، لأن وظيفتهم هي أن يحاصروا شعوبهم، وأن يحوّلوا البلد إلى سجن كبير. ولذلك، فإننا لا نجد هناك أي معنى للحرية في كلِّ العالم العربي والإسلامي، حتى إنّي كنت أقول من باب النكتة إن الإنسان يخاف من أن يضبط نفسه وهو يفكر بحرية، حذراً من أن تمسكه المخابرات.
فنحن نعتقد أن هؤلاء لا يمثلون شعوبهم، ولذلك فإننا لا نستطيع أن نتحدث عن نجاحهم في تصوير القضية العربية والإسلامية وما إلى ذلك.. أما قضية الحرب ضد الإرهاب، فإني أعتقد أن أمريكا فشلت في الحرب ضدّ الإرهاب، بل هي زادت العالم إرهاباً، وهذا ما لاحظناه الآن في احتلالها للعراق وحتى لأفغانستان، لأن العراق كان يعاني إرهاب الديكتاتور، أما الآن، فإن العراق أصبح ساحة للإرهاب العالمي، إذا صحَّ تسمية هؤلاء بالإرهاب.
* في ظلِّ تنامي الحركات الأصولية في المنطقة، ما هو معيار التمييز بين المقاومة والإرهاب؟
-نحن مع المقاومة بأشرس ما يكون، ولكن من خلال الأصول الحضارية للمقاومة، ونحن ضد الإرهاب في أيِّ موقع من المواقع، لذلك نحن ضد هذا العنف المجنون الذي يبيح لنفسه قتل المدنيين وقتل الأبرياء وخطفهم وذبحهم وما إلى ذلك. إن في القرآن الكريم مبدأً للعدالة الإنسانية: {ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى} أي لا يتحمَّل الإنسان خطيئة غيره. ولذلك فإن ما يحدث الآن في العراق من قتل الأبرياء تحت أي عنوان من العناوين، نعتبره إرهاباً ولا نعتبره مقاومة. ولكن الذين يواجهون المحتلّ لإخراجه من بلدهم بالطرق الطبيعية، نعتبرهم من المقاومة، كما نعتبر الفلسطينيين في كلِّ فصائلهم من المقاومة، ونعتبر اللبنانيين أيضاً من المقاومة وما إلى ذلك.