الصراع بين المرجعيات في النجف عنوان أكبر من الواقع

الصراع بين المرجعيات في النجف عنوان أكبر من الواقع

الصراع بين المرجعيات في النجف عنوان أكبر من الواقع على الشعب العراقي أن يستفيد من كل تجاربه

حفلت الساحة الإسلامية الشيعية في الأسبوعين الماضيين بتطورات متسارعة بعد سقوط العراق في قبضة الاحتلال الأميركي وتحرر مدينة النجف من سلطة النظام العراقي، ما جعلها مفتوحة لصراعات جديدة وخلافات متعددة حول المرجعية الدينية الشيعية، بالإضافة إلى الحديث القديم/الجديد عن الخلاف بين قم والنجف واستعادة النجف دورها التاريخي وتراجع دور قم وبروز الصراع بين مرجعية عربية ومرجعية إيرانية.

وجاء اغتيال السيد عبد المجيد الخوئي في مقام الإمام علي(ع) في النجف والاتهامات التي وجهت لأنصار السيد مقتدى الصدر (نجل المرجع الشهيد محمد الصدر) على الرغم من نفيهم لذلك، وما قيل عن تهديدات للمراجع الدينية في النجف، ليطلق جملة معطيات حول دور يمكن أن يقوم به المرجع السيد محمد حسين فضل الله في النجف وعلى صعيد المرجعية الشيعية.

أمام هذه المعطيات والتطورات، كان لا بد من الاستماع إلى وجهة نظر السيد فضل الله وموقفه مما يجري، وهو من الذين عاشوا سنين طويلة في النجف، وكانت تربطه بالمرجعية الدينية في النجف، خصوصاً المرجع الأعلى للطائفة الشيعية المرحوم السيد أبو القاسم الخوئي وبـ"الشهيدين المرجعين" السيد محمد باقر الصدر والسيد محمد الصدر، علاقات خاصة.

لكن السيد فضل الله حرص في الأسبوعين الماضيين على عدم الحديث لوسائل الإعلام، باستثناء البيان الذي أصدره تنديداً بأي تضييقات على المراجع وخطب الجمعة التي دعا فيها العراقيين للحفاظ على الوحدة.

إلاّ أن "السيد" خص "المستقبل" بأول حديث مطوّل حول واقع المرجعية الدينية الشيعية والصراعات بين المرجعيات ومستقبل النجف وقم والتحديات التي تواجه العراقيين اليوم في ظل الاحتلال الأميركي.

وشاء "السيد" أن يكون الحديث عشية ذكرى الأربعين للإمام الحسين، والتي تشكّل للعراقيين مناسبة "حارة وخاصة"، حيث يتوجه الملايين من الشيعة نحو كربلاء من المدن العراقية كافة وسيراً على الأقدام لإحياء هذه الذكرى، ولتأكيد ارتباطهم بالإمام الحسين، وفي ما يتوقع أن يتحوّل إحياء الذكرى غداً الأربعاء مناسبة سياسية بامتياز ضد الاحتلال الأميركي. الآتي نص الحوار:

لا صراع بين المرجعيات في النجف

* بداية سماحة السيد، لقد كثر الحديث أخيراً عن صراع بين المرجعيات في النجف وخارجها، فما صحة ذلك؟

ـ عنوان الصراع بين المرجعيات هو عنوان أكبر من الواقع، من الطبيعي أن التعددية في المرجعية تخلق حالة من التنافس، ولا سيما بين الذين يحيطون بهذا المرجع أو ذاك المرجع، ومن الطبيعي أن يعمل كل فريق على أساس أن تمتد مرجعية المرجع الذي يؤيّدونه في العالم الشيعي في هذا المقام، وربما تستخدم بعض الأساليب السلبية بطريقة أو بأخرى، لكنها في الخط العام تبقى في مرحلة التوازن، ولذا عندما ندرس المسألة على مستوى النجف، بحسب المرجعية في معناها الفقهي، فهناك تعدّدية في المرجعية في النجف، ولكن ما حدث في الآونة الأخيرة من فوضى وعنف أو من بعض الكلمات الطائرة، ليس صراعاً بين مرجعيّتين، بل هو يمثل بحسب طبيعته بعض الحساسيات التي حصلت في السنوات السابقة، لأن الشخص الذي طرح اسمه كعنوان للعنف، في الوقت الذي ينفي هو ذلك، ليس بمستوى المرجعية، بل هو ابن مرجع. ولذلك ليس هناك في النجف ما نطلق عليه صراع المرجعيات.

النجف وأسباب الانكفاء

* البعض يتحدث عن خلاف إيراني ـ عراقي حول المرجعية، فما مدى تأثير إيران في الوضع المرجعي في العراق؟

ـ إني لا أتصور أن مسألة الولاية الإيرانية (بعنوان ولاية الفقيه) تملك امتداداً في العراق، من الممكن جداً أن نجد بعض الذين قد يلتزمونها، ولكنهم لا يمثلون الظاهرة البارزة لدى الشعب العراقي.

ولم يبرز على السطح في المدى التاريخي للمرجعية عنوان الصراع بين مرجعية عربية ومرجعية إيرانية، وإن أغلب مراجع الشيعة كانوا من غير العرب. ولكن عندما تنشأ مرجعية عربية، تبرز أحياناً من بعض الجهات الأخرى بعض الحدة في مواجهتها، لكن هذه المرجعية عندما تؤكد حضورها، فإن تلك الحساسيات أو الإثارات تغيب عن الواقع، لأن المرجعية الجديدة عندما تملك عناصر القوة تصبح أمراً واقعاً. وهذا ما حدث بالنسبة إلى مرجعية السيد محسن الحكيم، عندما برزت كمرجعية عربية في البداية وواجهت الكثير من الحساسيات والتحديات، حتى إن بعض الجهات في النجف الأشرف أصدرت منشوراً يحاول أن يلتقط بعض النقاط الفقهية التي تخالف مشهور الفقهاء، واهتزت النجف في ذلك الوقت، لكن الأمور عادت وسارت بشكل طبيعي. ولذلك عندما واجهتُ مثل هذه الأمور تذكرت أن هذه المسألة ليست جديدة في التقاط الجهات الأخرى المضادّة بعض الفتاوى أو التعليقات المثيرة للجماهير، لأنها تصطدم ببعض مشاعرها أو مسلماتها التي لا تخضع لبديهة دينية والتي لا يختلف حولها العلماء.

* الحديث هو عن صراع بين النجف وقم في حال تجدد دور النجف بعد سقوط النظام العراقي، فهل صحيح أننا سنشهد صراعاً بين النجف وقم حول قضايا فقهية أو سياسية؟

ـ إن هذه المسألة ليست بهذه الدقة، لأن النجف وقم انطلقتا من رحم واحد، وهو رحم المرجعية الشيعية التي تتحرك في أكثر من موقع. لقد كانت قم كموقع للدراسة الفقهية تملك تاريخاً انحسر في قرون معينة، ثم جاءت الظروف الأخيرة لتجعل قم الحوزة العلمية الأولى في العالم الشيعي. لكن المسألة في الوقت نفسه أنه كانت هناك حوزات علمية صغيرة في أكثر من بلد من بلدان إيران أو خارج إيران. ولذلك كان العلماء موجودين في أكثر من بلد، ولهم مواقعهم الكبيرة جداً، كما أن تاريخ العلاقات بين إيران الشيعية وجبل عامل الشيعي، جعل الكثير من علماء جبل عامل يذهبون إلى إيران، وكان لهم دور كبير في أكثر من موقع، ومنهم الشيخ البهائي والحر العاملي وغيرهما، لذلك لم تكن هناك مركزية حاسمة للحوزة العلمية لدى الشيعة. ولكن النجف استطاعت في امتدادها التاريخي، وفي حجم العلماء الذين عاشوا فيها سواء من الذين جاؤوا من إيران أو من سائر بلدان العالم، أن تأخذ الحجم الكبير من خلال قداسة الأرض، لوجود مرقد أمير المؤمنين الإمام علي(ع)، وباعتبار امتدادها التاريخي كحوزة علمية لأكثر من 11 قرناً، وما إلى ذلك من عناصر أعطت النجف هذا الدور الكبير حتى على الصعيد الايراني، حيث كان العلماء الايرانيون يسافرون إلى النجف، وكان يقال "إن الذي لا يتخرج من النجف لا يملك ذلك العمق العلمي والفقهي والأصولي وما إلى ذلك"، كون النجف كانت تتميز بالعمق الفقهي والعلمي بالنسبة إلى المواقع الأخرى، ولذلك فإن دور النجف كان دوراً تفرضه طبيعة الظروف التاريخية التي أحاطت بها.

النظام الطاغي في العراق حاول وعمل على أساس تهجير العلماء غير العراقيين من النجف، والتضييق على العلماء العراقيين بمختلف وسائل التضييق، وأعدم الكثير من العلماء، ومنهم الشهيد السيد محمد باقر الصدر والشهيد السيد محمد صادق الصدر، كما اغتال عالمين كبيرين مؤهلين للمرجعية، وهما إيرانيان: الميرزا علي الغروي التبريزي والشيخ مرتضى البروجوردي، ما جعل النجف تخلو من العلماء الكبار في امتدادهم الحوزوي.

ولهذا بقي في النجف السيد الخوئي الذي كان مصراً على البقاء إلى آخر حياته في النجف، كما بقي بعض من معاونيه، مثل السيد السيستاني والسيد علي البهشتي والسيد محمد اسحاق الفياض وغيرهم، ممن يشار إليهم الآن بالبنان. ولكنهم عاشوا في حصار قاس وأسيءَ إليهم بطريقة أو بأخرى، ما جعل دور النجف يتراجع، لأنها فقدت الزخم العلمي والمرجعي بالمستوى الذي كانت فيه، وانتقل الكثير من العلماء الذين كانوا في النجف إلى قم، وأغلبهم من تلامذة النجف وممن درسوا في النجف، ومعظم الطلاب الذين كانوا في النجف سافروا إلى قم، ولا سيما أن الظروف الجديدة التي عاشتها قم، وخصوصاً بعد الثورة الإسلامية في إيران، جعلت للحوزة العلمية فيها موقعاً قوياً، بسبب طبيعة المناخ الذي يسود الحوزة، والذي يتلاءم مع خطوطها العلمية وآفاقها، والذي يتنفس إسلاماً وتشيعاً وما إلى ذلك. بالإضافة إلى أن العهد الجديد في إيران من خلال الجمهورية الاسلامية قام بتقوية مركز حوزة قم لاعتبارات دينية من جهة، وربما لاعتبارات سياسية من جهة أخرى، وخصوصاً أن الثورة الإسلامية الإيرانية انطلقت من داخل الحوزة العلمية، ما جعل العهد الجديد يفكر بأنه لا بد من أن تبقى الحوزة العلمية قوية لأنها تدعم الجمهورية الاسلامية من جهة، وتصلح لأن تكون في المستقبل قوة في مواجهة أي قوة أخرى تحاول إضعاف الحكم الاسلامي.

حوزة قم حرة ومستقلة

وربما كان من إيجابيات الجمهورية الاسلامية أنها لم تفرض نفسها على الحوزة العلمية، فلم تصادر الحوزة العلمية، ولم تخنق حرياتها، ونحن نلاحظ أن هناك في قم عدداً من العلماء الكبار والمراجع سابقاً والآن ممن لا يلتزمون بولاية الفقيه، وهم يأخذون حريتهم في الدراسة وفي المرجعية. لكن الطبيعي جداً كدولة تتعرض للتحديات، ولا سيما للحصار الغربي والاستكباري الأميركي، أن ترصد الجهات التي تتحرك ضد الثورة من داخل الحوزة، كما تقدر أجهزة الدولة، أو التي ربما يستغلها الأعداء ضد الثورة، وهذا يفسر بعضاً من الأعمال السلبية أو الحصار لعالم من هنا أو عالم من هناك، على أساس أن المسألة تدخل في الجانب الأمني للجمهورية الإسلامية بسبب الحرب التي تشن عليها، بغضِّ النظر عمّا اذا كان هذا مقبولاً لدى بعض الجهات أو غير مقبول. لكن الظاهرة البارزة جداً هي أن الحوزة العلمية في قم لم تسقط أمام العهد الجديد بالمعنى الذي يصادرها، وبقيت مستقلة، حتى إن الدولة في إيران لا تصرف على الحوزة، بل المرجعية هي التي تتولى ذلك، وحتى إن السيد علي خامنئي عندما قدم نفسه كمرجع، فهو يصرف على الحوزة بعنوان مرجعيته، لا بعنوان كونه رئيساً أو مرشداً للجمهورية الإسلامية، لأنهم يفكرون في المستقبل أنه إذا كانت الحوزة تمثل تفصيلاً من تفاصيل الدولة وتابعاً من توابعها، فإنه من الممكن جداً أن تأتي في المستقبل دولة أخرى ليست بمستوى المسؤولية.

المرجعية أمام التحدي

* ولكن ما هو الواقع حالياً بين النجف وقم؟

ـ حالياً إنني أتصور أن النجف لا تزال تعيش الوجدان الشيعي في العالم، حتى إن الكثيرين من الشيعة في العالم ليسوا مستعدين لأن يرتبطوا بمرجعية إلا مرجعية النجف، بغضِّ النظر عمن هو المرجع بالمعنى التفصيلي.

هذا الحجم الروحي والعلمي والفقهي للنجف ما زال يعيش في عمق الوجدان الشيعي، ولذا من الطبيعي أن النجف سوف تزدهر.

ولكن السؤال الكبير هو كيف تكون صورة النجف، على مستوى المرجعيات؟
وهل إن المرجعية النجفية كما المرجعية في قم في كثير من نماذجها، أصبحت تفكر بتطوير أساليبها أو تطوير امتداداتها في العالم الإسلامي والعالم الشيعي خصوصاً؟

هل هناك مخططات للوحدة الإسلامية ومخططات للمواجهة (ليس بالضرورة بطريقة عسكرية) لعالم الاحتلال أو عالم الظلم؟ هل إنها تؤيد الحركات الإسلامية الفاعلة أو انها تنأى بنفسها عن كل هذا الواقع لتبقى مجرد مصدر للفتوى وراعٍ للحقوق الشرعية ولبعض الجوانب هنا وهناك؟

إن المسألة ليست بين قم والنجف، المسألة تنطلق من خلال طبيعة النظرة للعالم والتطورات التي حصلت في العالم، ولا سيما في الامتداد الشيعي في العالم، لأن الشيعة في العالم يملكون الكثير من الكوادر المثقفة والعلمية، وقد دخلوا السياسة من الباب الواسع، وأصبحوا يمثلون مشكلةً لأكثر من فريق في العالم، وأصبحت المخططات الدولية تنفذ إلى مواقعهم وتحاول تجميد ما يراد تجميده وتحريك ما يراد تحريكه كأيِّ شعب من الشعوب التي تملك مواقع للمصالح الدولية. وهناك الكثير من علامات الاستفهام التي ترتسم في أذهان الشباب الشيعي والإسلامي الذي يريد أن يتعرف على موقعه أمام أي حدث عالمي، سواء كان علمياً أو سياسياً أو اقتصادياً أو ما شابه ذلك. لهذا فإنني أتصور ان التطورات الحديثة ليس في العراق فحسب، بل في العالم أجمع، تجعل من الضروري جداً أن تتغير الكثير من الأوضاع والخطوط والاستراتيجيات للمرجعية الشيعية.

* هل تفكرون في العودة إلى النجف لممارسة دوركم المرجعي من هناك، بما تملكون من رؤية شاملة للأوضاع؟

ـ إن المسألة حتى الآن ليست واضحة من حيث طبيعة الاحتلال وحركته ومفاعيله، ومن خلال الفوضى التي تتحرك هنا وهناك، إنني أرصد الوضع ليس من بعيد، بل من قريب، وأحاول أن أدرس الصورة الجديدة لأحدّد الموقف.

* كيف هي علاقتكم بالوضع الجديد في العراق؟

ـ نحن نملك امتداداً جيدا في أكثر من موقع، ولا سيما لدى المثقفين الواعين في العراق.

* البعض تحدث عن صلة خاصة مع أبناء المرجع الشهيد السيد محمد صادق الصدر، فما هي حقيقة ذلك؟

ـ في الواقع ليست هناك صلة مباشرة، ولكني وقفت مع المرحوم السيد محمد الصدر عندما أطلق صلاة الجمعة، وأصدرت بياناً وزع في العراق، كما إنني وقفت ضد الحملة التي استهدفته خلال حياته وبعد وفاته، وأجريت أحاديث كثيرة في هذا المجال.

الشيعة والسنة معاً ضد المحتل

* هناك دعوات تطلق للقيام بتعاون إسلامي (سني ـ شيعي) لمواجهة الاحتلال الاميركي للعراق، فما رأيكم بذلك؟

ـ لقد أطلقت دعوة، قبل الحرب وبعدها، إلى إقامة علاقات مع علماء من أهل السنة في بغداد والموصل، وكنت ولا أزال أتعاون معهم في تأصيل الوحدة الإسلامية في العراق، لأننا نؤمن بالوحدة الإسلامية في العالم، ولأننا نتصور أنه على الرغم من الحساسيات الناشئة من التعددية المذهبية، فإن الوضع العراقي لا يختزن في داخله أيّ نوع من أنواع العنف بين السنة والشيعة، لأن تاريخ العراق كان تاريخ التعددية التي لم تخضع لأي حالة عنف. والعنوان الإسلامي كان هو العنوان الذي يحكم الوجدان العراقي، على الرغم من أن هناك جهات تحاول أن تثير الحساسيات داخل الشيعة ضد السنة، أو الحساسيات داخل السنة ضد الشيعة، ولكنها لم تصل إلى مرحلة تتحوّل فيها إلى ما يشبه الفتن الطائفية، كما حدث في لبنان أو كما يحدث في باكستان أو غير ذلك من الأماكن. ولذلك نحن عملنا ونعمل لتأكيد الوحدة الاسلامية. ولذلك بادرت منذ أن انطلقت الحرب، وحين كانت التعليقات تركز على أن الشيعة سوف يستقبلون المحتل وسوف يرحبون به بالورود وما إلى ذلك، بتأكيد الموقف الشيعي الرافض للحرب، وتعاملت مع الأحداث التي جعلت من المواقع الشيعية في الجنوب العراقي والوسط مواقع للمقاومة، مع أنه لم تحدث مقاومة بهذا الحجم في أي منطقة أخرى، مع اننا لم نتحدث مذهبياً بل إسلامياً.

وأكدت أن الشيعة يحملون روح الحرية ضد أي احتلال أو استكبار، وأنهم يتحملون الكثير من الضغوط والآلام والجروح لمصلحة الواقع الوطني والإسلامي في مواجهة أي محتل.

وأظن أن الإعلام قرأ ردي على وزير الدفاع الاميركي دونالد رامسفيلد عندما بدأ يتحدث أنه لدينا في بغداد ثلاثة ملايين شيعي وفي البصرة كذلك، وكأنه يريد أن يقول "إن الشيعة معنا، وإن المشكلة مع السنة"، ولذلك أطلقت الكلمة القوية في وجه رامسفيلد وقلت له: إنك تريد أن تخلق فتنة بين الشيعة والسنة في العراق، باعتبار أن الشيعة مع المحتل والسنة ضد المحتل، وهذا موضوع خطر جداً، ونحن نريد أن نؤكد أن الشيعة والسنة معاً ضد الاحتلال، وأن تاريخ الشيعة هو تاريخ الدفاع عن حرية الإنسان والشعب أمام المحتل أيّاً كان المحتل، ولا نزال نراقب هذه المسألة. وإني في آخر جمعة خاطبت العراقيين بكل محبة ومسؤولية، وقلت لهم إن عليهم المحافظة على الوحدة في بعدها العربي والإسلامي والوطني في هذا المجال، لأن الوحدة تحمي الوضع الجديد في العراق.

بين تشريع الاحتلال وحفظ النظام العام

* البعض يعتبر أن عدم مشاركة الشيعة في الإدارات المدنية التي سيشكلها الأميركيون ستحرمهم من دورهم السياسي في العراق، فما صحة ذلك؟

ـ إن بعض الأصوات تتحدث بطريقة سطحية ساذجة أن الشيعة لم يشاركوا في القرن الماضي في الوظائف والدخول في الدولة، ما حرمهم أن يكونوا في الواجهة رغم أنهم الأكثرية. فإذا امتنعوا الآن من الدخول في الدولة فسوف يكون حظهم من الدولة كما حصل سابقاً.

ولكني قلت وأقول إن المسألة كانت في تلك المرحلة منطلقة من فتاوى من العلماء تحرّم التعاون مع أيِّ حكم غير إسلامي، أو لكونه حاكماً ظالماً، والمسألة لم تكن مسألة انعزال أو منطلقة فقط من حالة سياسية، فقد تكون ناشئة من حالة دينية تختزن حالة سياسية.

والآن المسألة ليست كذلك، لأن أغلب العلماء يشجعون الدخول في الوظائف والدولة لرعاية أمور المسلمين، مع التحفظات الشرعية في هذا المجال.

إن مسألة عدم مشاركة الشيعة في الواجهات السياسية التي يشرف عليها المحتل، تمثل رفض تشريع الاحتلال ورفض اعتبار الاحتلال قوةً تمثل بشكل مباشر أو غير مباشر العراقيين، لكننا في الوقت الذي نؤكّد فيه أن ينطلق المسلمون جميعاً والعراقيون جميعاً، ومنهم الشيعة، لرفض التعاون مع الأميركيين ـ لأننا لا ندخل في إيجاد وضع شيعي منفصل عن وضع سني وعن الوضع العراقي، أو وضع كردي منفصل عن وضع عربي. ونحن ندعو إلى وحدة العراق وندعو العراقيين إلى التعاون ـ نقول للجميع لا تكونوا في الواجهة التي تشرعن الاحتلال الأميركي، ولكننا ندعو الجميع إلى المشاركة في كل الإدارات التي تمس حياة الناس على صعيد الكهرباء والماء والخدمات الصحية والاجتماعية، لأن القضية لا تمثل الجانب السياسي، بل الجانب المدني في حياة الناس، ولذلك لا نرفض المشاركة في المؤسسات المدنية التي تتوقف عليها حياة الناس ونرى وجوب حفظ النظام العام للناس في أي سلطة سواء كانت سلطة حق أو سلطة، باطل.

الموقف الحسيني

* ماذا تقولون للعراقيين عشية ذكرى أربعين الإمام الحسين (ع)؟

ـ أولاً إنه ليس من الصحيح أن العراقيين على مستوى زيارة الإمام الحسين لم يكونوا يقومون بها، لقد كانت زيارة الإمام الحسين وزيارة أئمة أهل البيت هي المتنفس الوحيد للعراقيين الشيعة في ظلِّ النظام، ولقد سمعنا (بغض النظر عن المبالغة في ذلك)، أن زيارة الأربعين السنة الماضية ضمت أربعة ملايين شيعي، وكان الشيعة ينطلقون أيضاً مشياً وسيراً على الأقدام خلال الزيارة رغم أن النظام حاول منع ذلك.

وهنا أؤكّد أن اجتماع الشيعة لزيارة الإمام الحسين(ع) في ذكرى الأربعين لم يغب عن الواقع العراقي، بل كان هو المتنفس الذي يعبر عن المعارضة الصامتة، وهذه نقطة مهمة يجب أن تعرف، لأنه يثار في هذه الأيام أن قضية زيارة الإمام الحسين تحدث لأول مرة بعد سقوط النظام، وهذا الكلام غير صحيح.

ونحن اليوم نقول لإخواننا وأبنائنا من العراقيين الطيبين الذين تحمّلوا ما لم يتحمله شعب في الماضي القريب، لأن الطاغية كان يمثل وحشاً لا يوجد مثيله في كل تفاصيل النظام، وأنا أدعو المؤرخين لكي يكشفوا خلفيات هذا النظام لئلا يتجدّد في العالم العربي والإسلامي نظام كهذا النظام، وإن كنت أرى أن الكثير من الأنظمة تشبه هذا النظام، ولكن هناك فرق بين ديكتاتور عاقل وديكتاتور مجنون، ديكتاتور يستغرق بذاته وديكتاتور يستغرق في موقعه الرسمي، ولذلك أعتبر أن هذا النظام جزء من النظام العربي والإسلامي الذي قد يتنوع في أساليبه وإن كان لا يتنوع في ذهنيته.

إننا نقول لأهلنا في العراق وندعوهم إلى أن يتذكروا في زيارتهم للإمام الحسين(ع) أن الإمام قال: "لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرّ لكم إقرار العبيد، إن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين؛ بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة"، وعليهم أن يستحضروا هذه الكلمة الرائعة الإسلامية الحسينية في وجه الظلم والطغيان، وكما رفضوا الذل مع النظام الطاغية، عليهم أن يرفضوا الذل مع النظام الاستكباري الأميركي ـ البريطاني، الاحتلالي، الذي يحاول أن يعطي دوره دور المحرِّض، أو ملامحه ملامح الجهة التي تريد تحرير الناس أو ربطهم بحقوق الإنسان وما إلى ذلك من أمور، بحيث يخيل إليهم أنهم سيجلبون لهم المنّ والسلوى وسوف ينطلقون من خلال تجربتهم في العراق إلى جعل العراق جنة على الأرض. وفي هذا المجال، عليهم أن يفهموا جيداً معنى المحتل، وأن يقارنوا كيف كان يزيد يبرز للناس والمسلمين بعناوين إسلامية ليصور الحسين كخارجي، وأن محاربته بهدف حفظ الإسلام والمسلمين، وأن عليهم أن يجعلوا من مسألة يزيد والتي انتهت بقتل الإمام الحسين واجهةً ليزيد مسلم أو يزيد كافر في هذا المجال. وأن لا يعتبروا أن يزيد المسلم هو كل المشكلة، بل إن يزيد المسلم المعاصر هو جزء من مشكلة يزيد الكافر والمستكبر والظالم والذي يحاول أن يسيطر على العالم كله. وإنني أريد لهم ألا يلدغوا من جحر مرتين، وقد لدغوا من الجحر الاستكباري الاستعماري آلاف المرات. فلا تعيدوا التجربة الفاشلة، وكونوا أحراراً في دنياكم، وكونوا الشعب الذي يستفيد من كل تجاربه المأساوية الدامية والجهادية. وكونوا مع الوحدة الوطنية والوحدة الإسلامية والوحدة العربية ووحدة الإنسان في معنى إنسانيته، وحاولوا أن ترجعوا إلى معنى إنسانيتكم لتعمروا بلدكم على أساس المعاني الإنسانية والتي هي معان إسلامية.

قاسم قصير صحيفة "المستقبل" اللبنانية 20صفر 1424هـ/22-4-2003م.

الصراع بين المرجعيات في النجف عنوان أكبر من الواقع على الشعب العراقي أن يستفيد من كل تجاربه

حفلت الساحة الإسلامية الشيعية في الأسبوعين الماضيين بتطورات متسارعة بعد سقوط العراق في قبضة الاحتلال الأميركي وتحرر مدينة النجف من سلطة النظام العراقي، ما جعلها مفتوحة لصراعات جديدة وخلافات متعددة حول المرجعية الدينية الشيعية، بالإضافة إلى الحديث القديم/الجديد عن الخلاف بين قم والنجف واستعادة النجف دورها التاريخي وتراجع دور قم وبروز الصراع بين مرجعية عربية ومرجعية إيرانية.

وجاء اغتيال السيد عبد المجيد الخوئي في مقام الإمام علي(ع) في النجف والاتهامات التي وجهت لأنصار السيد مقتدى الصدر (نجل المرجع الشهيد محمد الصدر) على الرغم من نفيهم لذلك، وما قيل عن تهديدات للمراجع الدينية في النجف، ليطلق جملة معطيات حول دور يمكن أن يقوم به المرجع السيد محمد حسين فضل الله في النجف وعلى صعيد المرجعية الشيعية.

أمام هذه المعطيات والتطورات، كان لا بد من الاستماع إلى وجهة نظر السيد فضل الله وموقفه مما يجري، وهو من الذين عاشوا سنين طويلة في النجف، وكانت تربطه بالمرجعية الدينية في النجف، خصوصاً المرجع الأعلى للطائفة الشيعية المرحوم السيد أبو القاسم الخوئي وبـ"الشهيدين المرجعين" السيد محمد باقر الصدر والسيد محمد الصدر، علاقات خاصة.

لكن السيد فضل الله حرص في الأسبوعين الماضيين على عدم الحديث لوسائل الإعلام، باستثناء البيان الذي أصدره تنديداً بأي تضييقات على المراجع وخطب الجمعة التي دعا فيها العراقيين للحفاظ على الوحدة.

إلاّ أن "السيد" خص "المستقبل" بأول حديث مطوّل حول واقع المرجعية الدينية الشيعية والصراعات بين المرجعيات ومستقبل النجف وقم والتحديات التي تواجه العراقيين اليوم في ظل الاحتلال الأميركي.

وشاء "السيد" أن يكون الحديث عشية ذكرى الأربعين للإمام الحسين، والتي تشكّل للعراقيين مناسبة "حارة وخاصة"، حيث يتوجه الملايين من الشيعة نحو كربلاء من المدن العراقية كافة وسيراً على الأقدام لإحياء هذه الذكرى، ولتأكيد ارتباطهم بالإمام الحسين، وفي ما يتوقع أن يتحوّل إحياء الذكرى غداً الأربعاء مناسبة سياسية بامتياز ضد الاحتلال الأميركي. الآتي نص الحوار:

لا صراع بين المرجعيات في النجف

* بداية سماحة السيد، لقد كثر الحديث أخيراً عن صراع بين المرجعيات في النجف وخارجها، فما صحة ذلك؟

ـ عنوان الصراع بين المرجعيات هو عنوان أكبر من الواقع، من الطبيعي أن التعددية في المرجعية تخلق حالة من التنافس، ولا سيما بين الذين يحيطون بهذا المرجع أو ذاك المرجع، ومن الطبيعي أن يعمل كل فريق على أساس أن تمتد مرجعية المرجع الذي يؤيّدونه في العالم الشيعي في هذا المقام، وربما تستخدم بعض الأساليب السلبية بطريقة أو بأخرى، لكنها في الخط العام تبقى في مرحلة التوازن، ولذا عندما ندرس المسألة على مستوى النجف، بحسب المرجعية في معناها الفقهي، فهناك تعدّدية في المرجعية في النجف، ولكن ما حدث في الآونة الأخيرة من فوضى وعنف أو من بعض الكلمات الطائرة، ليس صراعاً بين مرجعيّتين، بل هو يمثل بحسب طبيعته بعض الحساسيات التي حصلت في السنوات السابقة، لأن الشخص الذي طرح اسمه كعنوان للعنف، في الوقت الذي ينفي هو ذلك، ليس بمستوى المرجعية، بل هو ابن مرجع. ولذلك ليس هناك في النجف ما نطلق عليه صراع المرجعيات.

النجف وأسباب الانكفاء

* البعض يتحدث عن خلاف إيراني ـ عراقي حول المرجعية، فما مدى تأثير إيران في الوضع المرجعي في العراق؟

ـ إني لا أتصور أن مسألة الولاية الإيرانية (بعنوان ولاية الفقيه) تملك امتداداً في العراق، من الممكن جداً أن نجد بعض الذين قد يلتزمونها، ولكنهم لا يمثلون الظاهرة البارزة لدى الشعب العراقي.

ولم يبرز على السطح في المدى التاريخي للمرجعية عنوان الصراع بين مرجعية عربية ومرجعية إيرانية، وإن أغلب مراجع الشيعة كانوا من غير العرب. ولكن عندما تنشأ مرجعية عربية، تبرز أحياناً من بعض الجهات الأخرى بعض الحدة في مواجهتها، لكن هذه المرجعية عندما تؤكد حضورها، فإن تلك الحساسيات أو الإثارات تغيب عن الواقع، لأن المرجعية الجديدة عندما تملك عناصر القوة تصبح أمراً واقعاً. وهذا ما حدث بالنسبة إلى مرجعية السيد محسن الحكيم، عندما برزت كمرجعية عربية في البداية وواجهت الكثير من الحساسيات والتحديات، حتى إن بعض الجهات في النجف الأشرف أصدرت منشوراً يحاول أن يلتقط بعض النقاط الفقهية التي تخالف مشهور الفقهاء، واهتزت النجف في ذلك الوقت، لكن الأمور عادت وسارت بشكل طبيعي. ولذلك عندما واجهتُ مثل هذه الأمور تذكرت أن هذه المسألة ليست جديدة في التقاط الجهات الأخرى المضادّة بعض الفتاوى أو التعليقات المثيرة للجماهير، لأنها تصطدم ببعض مشاعرها أو مسلماتها التي لا تخضع لبديهة دينية والتي لا يختلف حولها العلماء.

* الحديث هو عن صراع بين النجف وقم في حال تجدد دور النجف بعد سقوط النظام العراقي، فهل صحيح أننا سنشهد صراعاً بين النجف وقم حول قضايا فقهية أو سياسية؟

ـ إن هذه المسألة ليست بهذه الدقة، لأن النجف وقم انطلقتا من رحم واحد، وهو رحم المرجعية الشيعية التي تتحرك في أكثر من موقع. لقد كانت قم كموقع للدراسة الفقهية تملك تاريخاً انحسر في قرون معينة، ثم جاءت الظروف الأخيرة لتجعل قم الحوزة العلمية الأولى في العالم الشيعي. لكن المسألة في الوقت نفسه أنه كانت هناك حوزات علمية صغيرة في أكثر من بلد من بلدان إيران أو خارج إيران. ولذلك كان العلماء موجودين في أكثر من بلد، ولهم مواقعهم الكبيرة جداً، كما أن تاريخ العلاقات بين إيران الشيعية وجبل عامل الشيعي، جعل الكثير من علماء جبل عامل يذهبون إلى إيران، وكان لهم دور كبير في أكثر من موقع، ومنهم الشيخ البهائي والحر العاملي وغيرهما، لذلك لم تكن هناك مركزية حاسمة للحوزة العلمية لدى الشيعة. ولكن النجف استطاعت في امتدادها التاريخي، وفي حجم العلماء الذين عاشوا فيها سواء من الذين جاؤوا من إيران أو من سائر بلدان العالم، أن تأخذ الحجم الكبير من خلال قداسة الأرض، لوجود مرقد أمير المؤمنين الإمام علي(ع)، وباعتبار امتدادها التاريخي كحوزة علمية لأكثر من 11 قرناً، وما إلى ذلك من عناصر أعطت النجف هذا الدور الكبير حتى على الصعيد الايراني، حيث كان العلماء الايرانيون يسافرون إلى النجف، وكان يقال "إن الذي لا يتخرج من النجف لا يملك ذلك العمق العلمي والفقهي والأصولي وما إلى ذلك"، كون النجف كانت تتميز بالعمق الفقهي والعلمي بالنسبة إلى المواقع الأخرى، ولذلك فإن دور النجف كان دوراً تفرضه طبيعة الظروف التاريخية التي أحاطت بها.

النظام الطاغي في العراق حاول وعمل على أساس تهجير العلماء غير العراقيين من النجف، والتضييق على العلماء العراقيين بمختلف وسائل التضييق، وأعدم الكثير من العلماء، ومنهم الشهيد السيد محمد باقر الصدر والشهيد السيد محمد صادق الصدر، كما اغتال عالمين كبيرين مؤهلين للمرجعية، وهما إيرانيان: الميرزا علي الغروي التبريزي والشيخ مرتضى البروجوردي، ما جعل النجف تخلو من العلماء الكبار في امتدادهم الحوزوي.

ولهذا بقي في النجف السيد الخوئي الذي كان مصراً على البقاء إلى آخر حياته في النجف، كما بقي بعض من معاونيه، مثل السيد السيستاني والسيد علي البهشتي والسيد محمد اسحاق الفياض وغيرهم، ممن يشار إليهم الآن بالبنان. ولكنهم عاشوا في حصار قاس وأسيءَ إليهم بطريقة أو بأخرى، ما جعل دور النجف يتراجع، لأنها فقدت الزخم العلمي والمرجعي بالمستوى الذي كانت فيه، وانتقل الكثير من العلماء الذين كانوا في النجف إلى قم، وأغلبهم من تلامذة النجف وممن درسوا في النجف، ومعظم الطلاب الذين كانوا في النجف سافروا إلى قم، ولا سيما أن الظروف الجديدة التي عاشتها قم، وخصوصاً بعد الثورة الإسلامية في إيران، جعلت للحوزة العلمية فيها موقعاً قوياً، بسبب طبيعة المناخ الذي يسود الحوزة، والذي يتلاءم مع خطوطها العلمية وآفاقها، والذي يتنفس إسلاماً وتشيعاً وما إلى ذلك. بالإضافة إلى أن العهد الجديد في إيران من خلال الجمهورية الاسلامية قام بتقوية مركز حوزة قم لاعتبارات دينية من جهة، وربما لاعتبارات سياسية من جهة أخرى، وخصوصاً أن الثورة الإسلامية الإيرانية انطلقت من داخل الحوزة العلمية، ما جعل العهد الجديد يفكر بأنه لا بد من أن تبقى الحوزة العلمية قوية لأنها تدعم الجمهورية الاسلامية من جهة، وتصلح لأن تكون في المستقبل قوة في مواجهة أي قوة أخرى تحاول إضعاف الحكم الاسلامي.

حوزة قم حرة ومستقلة

وربما كان من إيجابيات الجمهورية الاسلامية أنها لم تفرض نفسها على الحوزة العلمية، فلم تصادر الحوزة العلمية، ولم تخنق حرياتها، ونحن نلاحظ أن هناك في قم عدداً من العلماء الكبار والمراجع سابقاً والآن ممن لا يلتزمون بولاية الفقيه، وهم يأخذون حريتهم في الدراسة وفي المرجعية. لكن الطبيعي جداً كدولة تتعرض للتحديات، ولا سيما للحصار الغربي والاستكباري الأميركي، أن ترصد الجهات التي تتحرك ضد الثورة من داخل الحوزة، كما تقدر أجهزة الدولة، أو التي ربما يستغلها الأعداء ضد الثورة، وهذا يفسر بعضاً من الأعمال السلبية أو الحصار لعالم من هنا أو عالم من هناك، على أساس أن المسألة تدخل في الجانب الأمني للجمهورية الإسلامية بسبب الحرب التي تشن عليها، بغضِّ النظر عمّا اذا كان هذا مقبولاً لدى بعض الجهات أو غير مقبول. لكن الظاهرة البارزة جداً هي أن الحوزة العلمية في قم لم تسقط أمام العهد الجديد بالمعنى الذي يصادرها، وبقيت مستقلة، حتى إن الدولة في إيران لا تصرف على الحوزة، بل المرجعية هي التي تتولى ذلك، وحتى إن السيد علي خامنئي عندما قدم نفسه كمرجع، فهو يصرف على الحوزة بعنوان مرجعيته، لا بعنوان كونه رئيساً أو مرشداً للجمهورية الإسلامية، لأنهم يفكرون في المستقبل أنه إذا كانت الحوزة تمثل تفصيلاً من تفاصيل الدولة وتابعاً من توابعها، فإنه من الممكن جداً أن تأتي في المستقبل دولة أخرى ليست بمستوى المسؤولية.

المرجعية أمام التحدي

* ولكن ما هو الواقع حالياً بين النجف وقم؟

ـ حالياً إنني أتصور أن النجف لا تزال تعيش الوجدان الشيعي في العالم، حتى إن الكثيرين من الشيعة في العالم ليسوا مستعدين لأن يرتبطوا بمرجعية إلا مرجعية النجف، بغضِّ النظر عمن هو المرجع بالمعنى التفصيلي.

هذا الحجم الروحي والعلمي والفقهي للنجف ما زال يعيش في عمق الوجدان الشيعي، ولذا من الطبيعي أن النجف سوف تزدهر.

ولكن السؤال الكبير هو كيف تكون صورة النجف، على مستوى المرجعيات؟
وهل إن المرجعية النجفية كما المرجعية في قم في كثير من نماذجها، أصبحت تفكر بتطوير أساليبها أو تطوير امتداداتها في العالم الإسلامي والعالم الشيعي خصوصاً؟

هل هناك مخططات للوحدة الإسلامية ومخططات للمواجهة (ليس بالضرورة بطريقة عسكرية) لعالم الاحتلال أو عالم الظلم؟ هل إنها تؤيد الحركات الإسلامية الفاعلة أو انها تنأى بنفسها عن كل هذا الواقع لتبقى مجرد مصدر للفتوى وراعٍ للحقوق الشرعية ولبعض الجوانب هنا وهناك؟

إن المسألة ليست بين قم والنجف، المسألة تنطلق من خلال طبيعة النظرة للعالم والتطورات التي حصلت في العالم، ولا سيما في الامتداد الشيعي في العالم، لأن الشيعة في العالم يملكون الكثير من الكوادر المثقفة والعلمية، وقد دخلوا السياسة من الباب الواسع، وأصبحوا يمثلون مشكلةً لأكثر من فريق في العالم، وأصبحت المخططات الدولية تنفذ إلى مواقعهم وتحاول تجميد ما يراد تجميده وتحريك ما يراد تحريكه كأيِّ شعب من الشعوب التي تملك مواقع للمصالح الدولية. وهناك الكثير من علامات الاستفهام التي ترتسم في أذهان الشباب الشيعي والإسلامي الذي يريد أن يتعرف على موقعه أمام أي حدث عالمي، سواء كان علمياً أو سياسياً أو اقتصادياً أو ما شابه ذلك. لهذا فإنني أتصور ان التطورات الحديثة ليس في العراق فحسب، بل في العالم أجمع، تجعل من الضروري جداً أن تتغير الكثير من الأوضاع والخطوط والاستراتيجيات للمرجعية الشيعية.

* هل تفكرون في العودة إلى النجف لممارسة دوركم المرجعي من هناك، بما تملكون من رؤية شاملة للأوضاع؟

ـ إن المسألة حتى الآن ليست واضحة من حيث طبيعة الاحتلال وحركته ومفاعيله، ومن خلال الفوضى التي تتحرك هنا وهناك، إنني أرصد الوضع ليس من بعيد، بل من قريب، وأحاول أن أدرس الصورة الجديدة لأحدّد الموقف.

* كيف هي علاقتكم بالوضع الجديد في العراق؟

ـ نحن نملك امتداداً جيدا في أكثر من موقع، ولا سيما لدى المثقفين الواعين في العراق.

* البعض تحدث عن صلة خاصة مع أبناء المرجع الشهيد السيد محمد صادق الصدر، فما هي حقيقة ذلك؟

ـ في الواقع ليست هناك صلة مباشرة، ولكني وقفت مع المرحوم السيد محمد الصدر عندما أطلق صلاة الجمعة، وأصدرت بياناً وزع في العراق، كما إنني وقفت ضد الحملة التي استهدفته خلال حياته وبعد وفاته، وأجريت أحاديث كثيرة في هذا المجال.

الشيعة والسنة معاً ضد المحتل

* هناك دعوات تطلق للقيام بتعاون إسلامي (سني ـ شيعي) لمواجهة الاحتلال الاميركي للعراق، فما رأيكم بذلك؟

ـ لقد أطلقت دعوة، قبل الحرب وبعدها، إلى إقامة علاقات مع علماء من أهل السنة في بغداد والموصل، وكنت ولا أزال أتعاون معهم في تأصيل الوحدة الإسلامية في العراق، لأننا نؤمن بالوحدة الإسلامية في العالم، ولأننا نتصور أنه على الرغم من الحساسيات الناشئة من التعددية المذهبية، فإن الوضع العراقي لا يختزن في داخله أيّ نوع من أنواع العنف بين السنة والشيعة، لأن تاريخ العراق كان تاريخ التعددية التي لم تخضع لأي حالة عنف. والعنوان الإسلامي كان هو العنوان الذي يحكم الوجدان العراقي، على الرغم من أن هناك جهات تحاول أن تثير الحساسيات داخل الشيعة ضد السنة، أو الحساسيات داخل السنة ضد الشيعة، ولكنها لم تصل إلى مرحلة تتحوّل فيها إلى ما يشبه الفتن الطائفية، كما حدث في لبنان أو كما يحدث في باكستان أو غير ذلك من الأماكن. ولذلك نحن عملنا ونعمل لتأكيد الوحدة الاسلامية. ولذلك بادرت منذ أن انطلقت الحرب، وحين كانت التعليقات تركز على أن الشيعة سوف يستقبلون المحتل وسوف يرحبون به بالورود وما إلى ذلك، بتأكيد الموقف الشيعي الرافض للحرب، وتعاملت مع الأحداث التي جعلت من المواقع الشيعية في الجنوب العراقي والوسط مواقع للمقاومة، مع أنه لم تحدث مقاومة بهذا الحجم في أي منطقة أخرى، مع اننا لم نتحدث مذهبياً بل إسلامياً.

وأكدت أن الشيعة يحملون روح الحرية ضد أي احتلال أو استكبار، وأنهم يتحملون الكثير من الضغوط والآلام والجروح لمصلحة الواقع الوطني والإسلامي في مواجهة أي محتل.

وأظن أن الإعلام قرأ ردي على وزير الدفاع الاميركي دونالد رامسفيلد عندما بدأ يتحدث أنه لدينا في بغداد ثلاثة ملايين شيعي وفي البصرة كذلك، وكأنه يريد أن يقول "إن الشيعة معنا، وإن المشكلة مع السنة"، ولذلك أطلقت الكلمة القوية في وجه رامسفيلد وقلت له: إنك تريد أن تخلق فتنة بين الشيعة والسنة في العراق، باعتبار أن الشيعة مع المحتل والسنة ضد المحتل، وهذا موضوع خطر جداً، ونحن نريد أن نؤكد أن الشيعة والسنة معاً ضد الاحتلال، وأن تاريخ الشيعة هو تاريخ الدفاع عن حرية الإنسان والشعب أمام المحتل أيّاً كان المحتل، ولا نزال نراقب هذه المسألة. وإني في آخر جمعة خاطبت العراقيين بكل محبة ومسؤولية، وقلت لهم إن عليهم المحافظة على الوحدة في بعدها العربي والإسلامي والوطني في هذا المجال، لأن الوحدة تحمي الوضع الجديد في العراق.

بين تشريع الاحتلال وحفظ النظام العام

* البعض يعتبر أن عدم مشاركة الشيعة في الإدارات المدنية التي سيشكلها الأميركيون ستحرمهم من دورهم السياسي في العراق، فما صحة ذلك؟

ـ إن بعض الأصوات تتحدث بطريقة سطحية ساذجة أن الشيعة لم يشاركوا في القرن الماضي في الوظائف والدخول في الدولة، ما حرمهم أن يكونوا في الواجهة رغم أنهم الأكثرية. فإذا امتنعوا الآن من الدخول في الدولة فسوف يكون حظهم من الدولة كما حصل سابقاً.

ولكني قلت وأقول إن المسألة كانت في تلك المرحلة منطلقة من فتاوى من العلماء تحرّم التعاون مع أيِّ حكم غير إسلامي، أو لكونه حاكماً ظالماً، والمسألة لم تكن مسألة انعزال أو منطلقة فقط من حالة سياسية، فقد تكون ناشئة من حالة دينية تختزن حالة سياسية.

والآن المسألة ليست كذلك، لأن أغلب العلماء يشجعون الدخول في الوظائف والدولة لرعاية أمور المسلمين، مع التحفظات الشرعية في هذا المجال.

إن مسألة عدم مشاركة الشيعة في الواجهات السياسية التي يشرف عليها المحتل، تمثل رفض تشريع الاحتلال ورفض اعتبار الاحتلال قوةً تمثل بشكل مباشر أو غير مباشر العراقيين، لكننا في الوقت الذي نؤكّد فيه أن ينطلق المسلمون جميعاً والعراقيون جميعاً، ومنهم الشيعة، لرفض التعاون مع الأميركيين ـ لأننا لا ندخل في إيجاد وضع شيعي منفصل عن وضع سني وعن الوضع العراقي، أو وضع كردي منفصل عن وضع عربي. ونحن ندعو إلى وحدة العراق وندعو العراقيين إلى التعاون ـ نقول للجميع لا تكونوا في الواجهة التي تشرعن الاحتلال الأميركي، ولكننا ندعو الجميع إلى المشاركة في كل الإدارات التي تمس حياة الناس على صعيد الكهرباء والماء والخدمات الصحية والاجتماعية، لأن القضية لا تمثل الجانب السياسي، بل الجانب المدني في حياة الناس، ولذلك لا نرفض المشاركة في المؤسسات المدنية التي تتوقف عليها حياة الناس ونرى وجوب حفظ النظام العام للناس في أي سلطة سواء كانت سلطة حق أو سلطة، باطل.

الموقف الحسيني

* ماذا تقولون للعراقيين عشية ذكرى أربعين الإمام الحسين (ع)؟

ـ أولاً إنه ليس من الصحيح أن العراقيين على مستوى زيارة الإمام الحسين لم يكونوا يقومون بها، لقد كانت زيارة الإمام الحسين وزيارة أئمة أهل البيت هي المتنفس الوحيد للعراقيين الشيعة في ظلِّ النظام، ولقد سمعنا (بغض النظر عن المبالغة في ذلك)، أن زيارة الأربعين السنة الماضية ضمت أربعة ملايين شيعي، وكان الشيعة ينطلقون أيضاً مشياً وسيراً على الأقدام خلال الزيارة رغم أن النظام حاول منع ذلك.

وهنا أؤكّد أن اجتماع الشيعة لزيارة الإمام الحسين(ع) في ذكرى الأربعين لم يغب عن الواقع العراقي، بل كان هو المتنفس الذي يعبر عن المعارضة الصامتة، وهذه نقطة مهمة يجب أن تعرف، لأنه يثار في هذه الأيام أن قضية زيارة الإمام الحسين تحدث لأول مرة بعد سقوط النظام، وهذا الكلام غير صحيح.

ونحن اليوم نقول لإخواننا وأبنائنا من العراقيين الطيبين الذين تحمّلوا ما لم يتحمله شعب في الماضي القريب، لأن الطاغية كان يمثل وحشاً لا يوجد مثيله في كل تفاصيل النظام، وأنا أدعو المؤرخين لكي يكشفوا خلفيات هذا النظام لئلا يتجدّد في العالم العربي والإسلامي نظام كهذا النظام، وإن كنت أرى أن الكثير من الأنظمة تشبه هذا النظام، ولكن هناك فرق بين ديكتاتور عاقل وديكتاتور مجنون، ديكتاتور يستغرق بذاته وديكتاتور يستغرق في موقعه الرسمي، ولذلك أعتبر أن هذا النظام جزء من النظام العربي والإسلامي الذي قد يتنوع في أساليبه وإن كان لا يتنوع في ذهنيته.

إننا نقول لأهلنا في العراق وندعوهم إلى أن يتذكروا في زيارتهم للإمام الحسين(ع) أن الإمام قال: "لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرّ لكم إقرار العبيد، إن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين؛ بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة"، وعليهم أن يستحضروا هذه الكلمة الرائعة الإسلامية الحسينية في وجه الظلم والطغيان، وكما رفضوا الذل مع النظام الطاغية، عليهم أن يرفضوا الذل مع النظام الاستكباري الأميركي ـ البريطاني، الاحتلالي، الذي يحاول أن يعطي دوره دور المحرِّض، أو ملامحه ملامح الجهة التي تريد تحرير الناس أو ربطهم بحقوق الإنسان وما إلى ذلك من أمور، بحيث يخيل إليهم أنهم سيجلبون لهم المنّ والسلوى وسوف ينطلقون من خلال تجربتهم في العراق إلى جعل العراق جنة على الأرض. وفي هذا المجال، عليهم أن يفهموا جيداً معنى المحتل، وأن يقارنوا كيف كان يزيد يبرز للناس والمسلمين بعناوين إسلامية ليصور الحسين كخارجي، وأن محاربته بهدف حفظ الإسلام والمسلمين، وأن عليهم أن يجعلوا من مسألة يزيد والتي انتهت بقتل الإمام الحسين واجهةً ليزيد مسلم أو يزيد كافر في هذا المجال. وأن لا يعتبروا أن يزيد المسلم هو كل المشكلة، بل إن يزيد المسلم المعاصر هو جزء من مشكلة يزيد الكافر والمستكبر والظالم والذي يحاول أن يسيطر على العالم كله. وإنني أريد لهم ألا يلدغوا من جحر مرتين، وقد لدغوا من الجحر الاستكباري الاستعماري آلاف المرات. فلا تعيدوا التجربة الفاشلة، وكونوا أحراراً في دنياكم، وكونوا الشعب الذي يستفيد من كل تجاربه المأساوية الدامية والجهادية. وكونوا مع الوحدة الوطنية والوحدة الإسلامية والوحدة العربية ووحدة الإنسان في معنى إنسانيته، وحاولوا أن ترجعوا إلى معنى إنسانيتكم لتعمروا بلدكم على أساس المعاني الإنسانية والتي هي معان إسلامية.

قاسم قصير صحيفة "المستقبل" اللبنانية 20صفر 1424هـ/22-4-2003م.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية