حاوره: عباس بيضون و زياد ماجد
يصعب تقديم حوار مع سماحة السيد محمد حسين فضل الله.
فانسياب أفكاره وتدفقها لا يترك مجالاً لمقدمات نمطية، كما لم يترك مجالاً خلال اللقاء للأسئلة التي كانت معدة. تحول الحوار معه الى تجوال في فضاء الافكار الرحب حيث ذهن السيد المتوقد يفتح الابواب على مصاريعها.
تفرض الحالة الراهنة نفسها علينا، وتستولد الأسئلة حول ما جرى منذ 11 أيلول لغاية اليوم، حول قضية الإسلام السياسي، وابن لادن، والمدرسة الأفغانية وما أنتجته، وموقف علماء الدين، ما رأي سماحتك بكل ذلك؟
ج:في البداية، ربما يشكو الإنسان الذي يتابع خلفية الواقع السياسي في المنطقة وفي العالم من المظالم، ويكتشف الكراهية لأميركا نتيجة سياستها، بالمستوى الذي وصلت به الأمور الى الدرجة التي يشعر فيها الناس بالإحباط، بحيث لا فائدة من عمل، حتى إن الحركات الشعبية والمقاومة المسلحة أو السياسية تتحرك، ولكنها تبقى في مكانها دون أن تملك أية وسائل للوصول الى نتائج حاسمة.
بالاضافة الى أن المنطقة العربية وكل منطقة العالم الثالث ومنها المنطقة الإسلامية، تعيش حالة من المصادرة للشعب كله حتى إن الظاهرة العامة في كل هذا الواقع، هي عناوين أجهزة المخابرات وقوانين الطوارئ، حتى يخيّل للانسان أنه يشعر بالرعب عندما يكتشف نفسه وهو يفكر بحرية، لأنه قد يتصور أن هناك أجهزة لاكتشاف الفكر، كأجهزة اكتشاف الكذب. هناك شعب يصادر بشخص أو بجهة معينة في عملية إرغام؛ وهناك التدمير اللاحق بالفلسطينيين كل يوم.وتبرز في آخر النفق أميركا التي تزود الأنفاق كلها بالظلام الذي تعيشه.
الإسلام بين عنق الفكرة وسلامة الوسيلة
ما جرى إذاً لم يكن مسألة فوق العادة، بل هو ينطلق من مفردات طبيعية في قلب الواقع الإنساني أمام كل هذا الضغط الاستكباري. وفي هذا السياق تحركت بعض الاتجاهات الإسلامية التي قرأت الإسلام، في آيات الجهاد وفي الحديث عن الكفار والموقف من الكفار، وربما قرأت بعض التاريخ الذي يتميز بالعنف، فوصلت الى النتيجة التي تحاول أن تختصر الطريق الى الهدف بعمل عنفي قد يرضي الحالة النفسية في داخلها، بقطع النظر عما إذا كان يؤدي الى نتائج في مستوى الهدف أو لا يؤدي. وهذه هي مشكلة هذا الاتجاه في فهم التحرك نحو الأهداف الإسلامية، لأن المشكلة في بعض هذا الفهم للإسلام أنهم يخلطون بين عنف الفكرة في مواجهة فكرة أخرى، وبين عنف الوسيلة. فمن الطبيعي جدا عندما تناقش فكرةٌ فكرةً أخرى، أو عندما ترفض فكرة فكرة أخرى، أن يكون هناك عنف في الفكر، لأن الفكر لا بد من أن يعنف بتقديم كل المفردات التي تسقط الفكر الآخر عندما تكون المسألة صراعَ فكر وفكر. ولكن الإسلام، إذ كان يؤكد على عنف الفكرة، فإنه كان يعمل على أساس إنسانية الوسيلة، وهذا ما نلاحظه في القرآن الكريم عندما نقرأ مثلا: «لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة» أو: «لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم» ولكننا نقرأ الى جانب ذلك «ولتجدنّ أقربهم مودة الى الذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى ذلك أن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون»، ونقرأ: «قل يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم»، ونقرأ أيضا: «ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنّا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون»... «ادعُ الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة»، «وجادلهم بالتي هي أحسن»... إذاً، إن عنف الفكرة لا يعني عنف الأسلوب، ولكن الذهنية غير المثقفة وغير الواعية وغير المنفتحة تخلط بين عنف الفكرة وعنف الأسلوب.
لمواجهة الإحباط نفتش عن بطل
هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن الواقع في الشرق أو في العالم الثالث، أمام الأزمات الخانقة وأمام كثير من حالات الإحباط والسقوط، كان يفتش عن بطل، عن منقذ، عن ثائر. ولذلك كان من السهل جدا أن تتحرك بعض الطموحات لتقدم نفسها في موقع البطل، سواء من خلال الموقف المتحدي الذي ينفتح بالعنفوان، أو من خلال حركة هنا أو هناك، مما يوحي بأن هناك قوة قادمة يمكن أن تحل المشكلة أو تخفف بعض أوضاعها. وهذا ما لاحظناه منذ الخمسينيات وحتى الآن، أن الأمة أدمنت شخصيات لا نستطيع أن نشك في جدارتها، ولكنها لم تكن بالمستوى الذي تصادر فيه العنف أو تختصر الأمة في شخصها، ولكن الأمة قبلت أن تُختصر بهذا الشخص، ولذلك فإن من أدبياتنا أن نقول إذا ماتت شخصية إسلامية إن الإسلام مات، وإذا ماتت شخصية عربية إن العرب ماتوا وسقطوا، وما أشبه ذلك.
لذلك، كانت ظاهرة ابن لادن، بكل عناصر شخصيته، توحي بالكثير من الإعجاب من دون أية مناقشة للتفاصيل لأن التفاصيل لم تكن واضحة، على الأقل على مستوى الأسلوب والثقافة وطبيعة التنظيم وما إلى ذلك. كان هناك شيء يتمظهر في أعمال عنف ترتفع بالعنفوان فيما يخيل إسقاط عنفوان القوة الكبرى. وحوّلت الحماسة التمنيات إلى وقائع، وهكذا استطاع هذا الرجل أن يحصل على امتداد في العالم الاسلامي. وربما أمكنه أن ينفذ الى مجموعات كبيرة من المتعلمين، لأن المسألة كانت عندهم تماما كتلك الموجودة في المجتمع العشائري، أي الثأر، بقطع النظر عن المضمون.
القراءة الخاطئة للأوضاع
لقد كانت التراكمات التي عاشها هؤلاء الذين شعروا بأن انتصارهم على الاتحاد السوفياتي في أفغانستان يمكن أن يحقق لهم انتصارا على أميركا من دون دراسة للظروف الموضوعية التي تحقق فيها الانتصار في أفغانستان عندما كانت هناك حرب عالمية ضد الاتحاد السوفياتي، مع أن الواقع الحالي لأفغانستان يختلف اختلافا كبيرا. هذه التراكمات استطاعت أن تخلق حالة من العنفوان الذي ابتعد عن الواقع، وخطة تنظيمية دقيقة جدا في كل مفرداتها، وحدثت التفجيرات. وربما كانت اللحظة الأولى في العالم الاسلامي وغير العالم الاسلامي، في كل العالم المستضعف، هي لحظة فرح، لأن العنفوان الأميركي سقط، لا سيما عندما رافق هذا الجو الذي لا يراه الناس إلا في المسرحيات والأفلام، ان رئيس الولايات المتحدة الأميركية لا يملك أن ينزل بطائرته في واشنطن، وأن نائب الرئيس قد اختفى وكذلك أغلب الإدارة الأميركية، حتى إن أميركا مرت في لحظات أو ساعات من انعدام الوزن.
كان هناك فرح ينطلق من معنى الثأر والشماتة وما الى ذلك، وبدأت الأمور تأخذ حركتها الواقعية الطبيعية، لأن الفرق بين العالم الثالث والدول الكبرى وفي مقدمتها أميركا، أننا في العالم الثالث، إذا واجهنا المشكلة نسقط أمامها، ولكن الدول الكبرى أو المتقدمة بغض النظر عن مضمون التقدم إذا واجهت المشكلات تدرسها وتدرس كيف يمكن أن تحصل على أكبر مكسب من خلالها، وهذا ما حدث. فقد بادرت أميركا الى اتهام الإسلاميين، وكان ابن لادن جاهزا في وسائل الإعلام الأميركية، وربما جاءت المعطيات الأمنية وغير الأمنية لتؤكد هذا المعنى، حقا كان أو باطلا، لأننا لسنا في حسابات القوانين. ولم يكن هناك إلا أفغانستان لأن ابن لادن فيها وتنظيم القاعدة فيها، ولأن طالبان تمردت على سادتها الأول الذين صنعوها بإدارة باكستانية وتعاملوا مع نظام طالبان تماما كما تعاملوا مع نظام صدام: مفاوضات ومفاوضات لتسليم ابن لادن أو قاعدته وهم يعرفون، بطبيعة الظروف الموجودة هناك وبطبيعة الأساليب التي يحركونها نفسيا، أنهم سيرفضون. ولذلك فإن كبش الفداء أصبح جاهزا للذبح. فأقنعوا دول حلف شمالي الأطلسي بالمشاركة في الحرب بحجة أنها دفاعية.
وكان يخيل للناس أن طالبان سوف تصمد، وأن أميركا سوف تغرق في وحول أفغانستان كما غرق الاتحاد السوفياتي، ولكننا كنا نعرف أن أميركا لو دخلت أفغانستان وحدها ولم يكن هناك فصيل أفغاني يقاتل فصيلا أفغانيا مع المساعدة الأميركية الجوية وغير الجوية، لأمكن أن تغرق في الوحول، لكن الأفغان المعارضين لطالبان كانوا جاهزين. ثم تخلت باكستان عن طالبان وبقيت طالبان وحدها في مواجهة حرب عالمية فسقطت. وما تزال الحرب العالمية موجهة ضد هذا المنطق الأسطوري الذي استطاعت أميركا، بإعلامها، أن تضخم شخصيته ليكون الانتصار عليه بحجمها...
إن خلاصة الفكرة، هي أن هذا العمل إذا كان هؤلاء الإسلاميون قد قاموا به فإنهم استطاعوا أن يخدموا أميركا خدمة لو بذلت المليارات من الدولارات لما استطاعت أن تحصل عليها، في الوقت الذي أرادوا فيه أن يسقطوا أميركا.
الجواب يفتح الطريق أمام أسئلة كثيرة. بغض النظر عن التحليل السياسي العميق جدا الذي سمعناه لحركة ابن لادن ولسقوطه، ولكن ابن لادن يحتج على نحو ما بالإسلام، بالقرآن الكريم، ويحتج بفقه ما، هو فقه العزلة الذي سمّيته سماحتك «فقه التخلف».
ج: إذا رجعنا الى فقه العنف في الإسلام، فإننا نلاحظ أولا أن العنوان الكبير الذي يوضع في واجهة هذا الفقه، هو عنوان الجهاد والقتال. وإذا أردنا أن ننفذ الى داخل هذا العنوان فإننا نجد أن هناك آية تقول: «وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم» ما يعني أن المسألة مسألة دفاع عن النفس، أو عن المجتمع المستهدف، «وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين» هذا القتال من أجل الفئات المحرومة أو المضطهدة.
«وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة» أي فتنة عن الدين، قتال في سبيل الحرية إذا لم نستخدم المصطلحات الحديثة حتى لا يتحرك هؤلاء ليفتنوهم عن دينهم بالضغط والإكراه وبالقتل «ويكون الدين لله» حتى يأخذ الإسلام حريته. إذاً ليس هناك في النص القرآني قتال بمعنى الهجوم. وهناك أيضا آية تقول: «وإما تخافنّ من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء»، وهذا قتال وقائي. عندما تجد أن هناك معطيات بأن قوماً سوف يهجمون عليك. ثم نقرأ: «ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين» ونقرأ أيضا: «وإن جنحوا للسلم فاجنح لها»، حتى عندما تريد أن ترد العدوان فعليك أن ترده بمثله: «وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به» ثم يقول: «ولئن صبرتم لهو خير للصابرين»، «فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم»، وهذا ما نلاحظه في صورة مشرقة في وصية الإمام علي عليه السلام بعد أن ضربه ابن ملجم، إذ قال: «انظروا، إذا أنا مت من ضربتي هذه فاضربوه ضربة بضربة ولا تمثلوا بالرجل لأني سمعت رسول الله يقول: إياكم والمُثلة ولو بالكلب العقور».
من خلال ذلك نفهم أنه ليس هناك في مفهوم الجهاد قتال عدواني. عندما ندرس المسألة في نظرة الإسلام الى الآخر، كان الآخر في ذلك الوقت اليهود والنصارى، ونحن نقرأ: «قل يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله». الكلمة السواء، هي وحدة الله، وإن اختلفنا في طبيعة هذه الوحدة ووحدة الإنسانية، أي أن لا يكون إنسان رباً لإنسان، تعالوا الى مواقع اللقاء. والتأريخ يدل على أن الإسلام احتضن الآخر ولم يتدخل في فكره. ربما كانت هناك مشاكل بين المسلمين والنصارى واليهود، تماما كالمشاكل بين المسلمين في ما بينهم والنصارى في ما بينهم، وكذلك اليهود. والدليل أن اليهود والنصارى لا يزالون في البلاد الإسلامية في كل التاريخ، ويعيشون كما يعيش المسلمون. ربما كان هناك تحفظ في أن يدخلوا في جسم القيادة لأنهم لا يؤمنون بفكرة القيادة. ثم نقرأ: «لتجدنّ أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا»، هنا يتحدث القرآن عن سلوكيتهم ولا يتحدث عن يهوديتهم؛ ولذلك يقول: «ولتجدنّ أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى، ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون». إنه يحدد الموقف من ناحية السلوكية. ثم يركز على مسألة التعايش: «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تَبَرّوهم وتُقْسِطوا إليهم» (أي تعاملوا معهم بالعدل)، «إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تَولّوهم ومن يتولّهم منكم فأولئك هم الظالمون». إذاً حدد القرآن المسألة حتى في قضية التعامل مع الآخر من موقع العدوان لا من موقع اختلاف الفكر، فاعتبر النصارى هم الأقرب الى المؤمنين مع اختلافهم في الفكر، وحتى إننا نلاحظ في الآية التي قرأناها: «ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم» عندما يظلمون فإن عليك أن تتعامل معهم تعامل المظلوم مع الظالم؛ أما الذين يبحثون عن الحوار فحاورهم بالتي هي أحسن «وقولوا آمنا بالذي أُنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون». هذا هو المنطق التعايشي والتصالحي الذي يقول لك إن هناك أرضاً مشتركة بيننا تعالوا لننطلق من خلالها.
لا علاقة للشعب الأمريكي بجرائم إدارته السياسية
إذاً، الخطاب الإسلامي ليس خطابا عدوانيا بل هو خطاب تصالحي إنساني منفتح على الآخر. يبقى ما يحاول أولئك أن يحتجوا به لمثل هذا العمل. إنهم يقولون إن الشعب الأميركي هو كالإدارة الأميركية يتحمل المسؤولية لأنه يدفع الضرائب لهذه الإدارة. هذا كلام سخيف؛ لأن من الطبيعي لكل شعب أن يدفع الضرائب حفاظا على مصالحه أو خوفا من النتائج السلبية التي قد تحدث، ونحن نعرف أن كثيرا من الشعب الأميركي لا يرتاح للإدارة الأميركية، ولذلك فإن الكثيرين لم ينتخبوا هذه الإدارة ورئيسها. لكن هناك نقطة، هي الآية التي تقول: «ولا تزر وازرة وزر أخرى»؛ المسؤولية في الإسلام فردية. لا يجوز لك أن تحمّل إنسانا جريمة إنسان آخر مهما كانت قرابته. وعلى ضوء هذا، لا يجوز لنا أن نحمّل الشعب الأميركي مسؤولية إدارته، كما لا يجوز لنا أن نحمّل المسؤولية للناس الموجودين في الطائرات أو في أميركا نفسها، القادمين إليها إما لعمل تجاري أو سياحي أو غيره... ولذلك نحن أنكرنا هذه المسألة وقلنا انه لا يقبل بها شرع ولا عقل ولا دين، وإننا نعارض السياسة الأميركية، ولكننا لا نعارضها بهذه الطريقة، لأن الشعب الأميركي لا علاقة له بجرائم إدارته. ولذلك نقول إن الخطأ هو في التطبيق.
إنسانية الفقه الإسلامي
ربما تكون المسألة بالعناوين الكبرى توحي بوجوب محاربة أميركا، لكن ما هي الوسيلة لمحاربتها. إن الفقه الاسلامي هو فقه إنساني؛ فمثلاً «ادعُ الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة»، «وجادلهم بالتي هي أحسن»، «إن ربك هو أعلم بمن يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين»، «أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين»، «لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي»؛ ثم نقرأ آية في قمة الإنسانية في الأسلوب: «ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عدواة كأنه وليٌّ حميم، وما يُلقّاها الذين صبروا وما يُلقّاها إلا ذو حظ عظيم». القرآن يقول لك: اتبع الوسيلة والأسلوب الذي تحول به أعداءك الى أصدقاء. هذا هو الإسلام في رحابته الإنسانية. الإمام علي(ع) يقول إن الناس «صنفان، إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق»، والنبي (ص) يقول: «إن الرفق ما وضع على شيء إلا زانه ولا رفع عن شيء إلا شانه»، و«إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف»،. إذاً، الفهم الذي يعتبر أن العنف هو وسيلة التغيير الوحيدة، بقطع النظر أيضا عن حركية هذه الوسيلة، ليس فقها إسلاميا كما هو الإسلام في رحابته الإنسانية، ولذلك أنا قلت عندما كانوا يتحدثون عن الأصولية الإسلامية وأن الإسلام أصولي، وما شابه، قلت لهم لا تنقلوا المفهوم الغربي للواقع الإسلامي. إن الإسلام ليس أصوليا بالمفهوم الغربي لأن الأصولية تقوم على عنصرين، العنصر الأول: إلغاء الآخر، والثاني اعتبار العنف وسيلة وحيدة للعمل. ونحن عندما نقرأ خطاب الإسلام لأهل الكتاب، نرى أنه لم يلغ أهل الكتاب، وعندما نقرأ «ادفع بالتي هي أحسن»، «وجادلهم بالتي هي أحسن»، و«قل لعبادي يقولوا التي هي أحسن» لا نجد عنفاً. العنف في الاسلام كمثل العملية الجراحية التي تلجأ إليها عندما يهدد المرض حياتك. العنف لمن يفرض عليك العنف.
الإحتلال ولّد مناخ العنف في المنطقة
تعرضت مجتمعات كثيرة في العالم الثالث لظلم أميركي وفي بالي مجتمعات أميركا اللاتينية، وجرى هناك التعبير عن عنف وعن حركية كبيرة، لكن على نحو مختلف. ألا تعتقدون أن الظاهرة العنفية مرتبطة بالعالم الإسلامي دون سواه؟
ج: أولئك ليس لديهم هذا التراث الإسلامي، لذلك عندما تلحظ حركية الشعوب ادرس مفردات التراث الذي يعيش في وجدانها ثم ادرس طريقة فهم هذا التراث مما يجعل الحركة في خط هذا الفهم الذي قد يكون خاطئا ويستقي حيويته وكل توتره وحرارته من خلال ارتباطه بالقاعدة، بالأصل، بالإسلام. أنا أريد أن أجاهد في سبيل الله، وهذا جهاد. كيف نفسر العنف الماركسي، وكيف نفسر العنف القومي. هناك فكرة تجعل العنف قضيتك لإلغاء الإقطاعية وللقضاء على الرأسمالية، يجب أن نقتل وندمر إلخ... من الأمور التي كنت أتابعها منذ الخمسينيات أن أغلب الحركات القومية والوطنية والإسلامية لم يكن لديها أي منهج في الأسلوب. كل هذه الحركات أخذت أسلوبها الحركي من الماركسية ووجدت أرضيتها في الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين، ودخل العنف في المنطقة من خلال هذا الاحتلال ومن خلال الخطط السياسية، في إرباك العالم العربي من انقلاب الى انقلاب الى آخر، في مسألة الحرب الباردة بين الشرق والغرب، التي دخلت فيها تفاصيل العنصر القومي من هنا والوطني من هناك إلخ.. لذلك كيف نفسر كل هذا العنف الذي لم يكن للإسلام أي مدخلية فيه. فالإسلام لم يكن فريقا في الحرب اللبنانية، ولا في حرب اليمن، ولا في أي حرب أخرى، لأن الإسلام السياسي دخل كقوة بعد ضعف التيارات اليسارية، باعتبار أن الناس لجأوا إليه من خلال ظروف موضوعية محيطة.
انطلاقا من كلام سماحتك، الإسلام الراهن والمعاصر، والذي تكوّن بعد الحقبة الاستعمارية، تكوّن أيضا في ظروف العنف الغربي، سواء العنف الاستعماري أو العنف الثوري، ألا ترى أن الحركات الإسلامية المعاصرة هي أيضا من حيث تدري أو لا تدري وريثة هذا العنف الغربي، الثوري والاستعماري؟
ج: هناك نقطة يجب أن نعرفها، وهي ان أي حركة، سواء كانت إسلامية أو قومية، أو علمانية على العموم، تعيش بحسب وسائلها وروحيتها تبعاً لذهنية القائمين عليها، والعالم الاسلامي هو عالم متحرك، مختلف؛ فهناك إسلاميون يملكون ثقافة طليعية تقترب من العصر، وهناك إسلاميون لا يملكون هذه الثقافة بل يعيشون في الماضي. هنا إسلاميون ولدوا في دورة العنف واستطاع هذا العنف أن يخترق كل كيانهم وجاؤوا بالإسلام من غير تصور لثقافته ومفرداته ليكون عنوانا يثير الناس. ولهذا لا تستطيع أن تحكم على الإسلام الحركي من خلال بعض النماذج. لا إشكال في أن هناك نماذج في الإسلام تملك رؤية معاصرة (لا أحب استخدام عبارة الاعتدال والتطرف لاستهلاكهما) ومتوازنة. ولكن المشكلة أن الأنظمة ومن ورائها الخطط الغربية والاستكبارية أصبحت تعاني من الإسلام المعتدل الحركي أكثر من الإسلام المتطرف؛ نفس الطريقة الاسرائيلية.
من تسمون مثلا من هذا التيار المعتدل؟
ج: مثلا، الاخوان المسلمون الذين أصبحوا يعتبرون من الخطوط المعتدلة المعقولة عاشوا مرحلة من العنف أيام عبد الناصر إذا صح ذلك وولدت منهم فئات أخرى انطلقت من رحم الاخوان لكنها سارت بعيدا عنهم؛ تماما مثل اليسار. أليس هناك جهات انطلقت من اليسار، أخذت من الماركسية بعض الأمور لكنها انطلقت بعيدا عنها. وكلك مثل القوميين؛ ألم نكن نقول في الأربعينيات: «العرب فوق الجميع» على طريقة هتلر. على هذا الأساس، عندما ندرس الموضوع، نلاحظ أنه لا يُفسح المجال الآن للإسلاميين المعتدلين لأن يأخذوا حريتهم. فمثلا في مصر، وفي أكثر من بلد إسلامي، لا يسمح بحزب ديني إسلامي. عندما يكون لدى هذا الحزب رؤية سياسية (بغض النظر عن الاختلاف معها وصحتها أو خطئها، فهذا حساب آخر) فلماذا لا تعطيه حريته من ضمن النظام. هل على أساس أن الإسلاميين لا يعتبرون مسلماً كل من لا ينتمي الى حزبهم وجماعتهم. هذا ليس صحيحا. لا أحد من الإسلاميين يقول إن من لا ينتمي الى الحزب الإسلامي الفلاني ليس مسلما. هذا المعنى أوجد حالة من ردود الفعل التي اختزنت العنف كحالة جنينية للمستقبل. ولو أن بعض هذه الدول أعطت الحرية للإسلاميين وحاولت أن تحاصر هذه الحرية كما تحاصر حرية الأحزاب الأخرى لما كانت هناك مشكلة. على العكس.
عقبات تعيق التيار الإسلامي المتوازن
هل هذا ينطبق على التجربة الجزائرية؟
ج: عندما نقرأ التجربة الجزائرية، نجد أن جبهة الإنقاذ عندما انطلقت كانت حركة فيها عقل وفيها حماسة؛ انطلقت واستطاعت أن تأخذ مدى شعبيا، لكنها ما كانت تملك ثقافة حركية. فليس من الطبيعي أن يقولوا بعد فوزهم في الدورة الأولى للانتخابات: لن نعطي أحدا الحرية. ثم بعد ذلك اضطُهد هؤلاء وانفجر الصراع الأميركي الفرنسي، ودخل الجيش الجزائري في ثمانين بالمئة على الأقل مما ينسب الى الإسلاميين في الجزائر، وهو من أعمال المخابرات، حتى إن المخابرات دخلت في أذهان بعض البدائيين فصنعت هذا أو ذاك أميرا وهو لا يعرف شيئا من الإسلام، ولا تزال مسألة الجزائر هي مسألة اللامعقول، والتي لا يوافق عليها أي مسلم، وليس فقط أي إسلامي. علينا أن ندرس المسألة ونشجب ما يحصل، لكن الصحف أخيرا، الفرنسية وغيرها، بدأت تتحدث عن أن من يقوم بتلك الأعمال ليس الإسلاميين.
ألا ترى، سماحتك، أن هناك إمكانية تحت لافتة الإسلام لأن توجد حركات تمتص كل علاقات المجتمع وتتصرف ككل الجماعات العنفية، فتتصرف أحيانا على نحو مافياوي، فتبيح كل شيء وتعتدي على كل شيء، الا تعتقدون أن هذا يؤذي الإسلام، فهناك في كل مرة وجود واقعي لهذه الحركات، وكل حركة إسلامية أو غير إسلامية تمتص، بصورة أو بأخرى، علاقات هذا المجتمع، وتعرض نفسها لامتحان نظري ومبدئي خطر، وربما يؤذيها هذا الامتحان؛ هل يستطيع الإسلام بمثاليته أن يتحمل هكذا ممارسات؟
ج: هناك عنوان كبير، وهو أن أي فكر لا يستطيع أن يحمي نفسه من المنتمين إليه، وأي قانون لا يستطيع أن يحمي نفسه. إنسان الفكر هو الذي يحمي الفكر، وإنسان القانون هو الذي يحمي القانون. الإسلام نشأ في مجتمع متنوع بتنوعه الثقافي ومتنوع حتى بمبادراته الروحية. لماذا نتكلم فقط عن الإسلام ولا نسأل ماذا بالنسبة الى مجتمعاتنا العشائرية؛ الطائفية الموجودة عند غير المسلمين، العرقيات الموجودة حتى في البلدان المتحضرة، مثل يوغوسلافيا التي عاشت في ظل الحكم الماركسي، كيف أصبحت كما هي الآن... وهكذا. هناك مجتمعات تتصل بتاريخ مرتبك، تاريخ فوضوي المفاهيم، فوضوي الأساليب. لهذا لا تستطيع أن تقوم بعملية هندسية تجمع كل هؤلاء الناس على أساس أنهم مسلمون مثلا. لا. صحيح أنهم مسلمون ولكن هذا يفهم الإسلام بطريقته وذاك بطريقته.
لا يُسمح للمسلمين الذين يفكرون بطريقة متوازنة، وبطريقة الذين يريدون أن يدخلوا الواقع ليتعاونوا مع الآخرين. الأنظمة لا تسمح لهم؛ والعنف الموجود في الجهات الأخرى لا يسمح لهم؛ الحساسيات الموجودة في عملية التنافس، والإلغاء أيضا. فالإلغاء ليس مقتصرا على الإسلاميين، وكل فريق يمسك الساحة يحاول إلغاء غيره. ألم تكن هناك في الخمسينيات والستينيات عمليات إلغاء، حتى في داخل التيارات العلمانية. إذاً عملية الإلغاء عملية إنسانية، ليس بالمعنى العميق للإنسان، بل انطلاقاً من إحساس الإنسان بالقوة. لذلك أقول: لنفسح المجال للأصوات الصافية. لنُعطِ فرصة للإسلاميين الذين عندهم ستون بالمئة حالة انفتاح، نشجعهم ونتعاون معهم، وخصوصا مع هذا التوجه الإسلامي الجديد الذي يحاول أن ينفتح على الآخر، ولو كانت هناك بعض التحفظات. هذه إيران مثلاً، تتعاون مع روسيا، ومع الهند، وتحاول أن تكون مع أرمينيا ضد أذربيجان التي هي دولة إسلامية وشيعية. في الداخل أيضا هناك صراع حقيقي، لكنه يدلل على أن هناك حياة سياسية، قد تكون الأساليب هنا أو هناك غير مناسبة، لأن هذه أول تجربة في تاريخ إيران لهذا النوع من الحياة السياسية التي يمارس فيها الشعب حقوقه ودوره وآراءه وما الى ذلك. من الطبيعي أن تكون هناك سلبيات، لكن الخط هو خط إيجابي.
الآن في واقعنا الإسلامي بدأ التفكير جديا بأن يتعاون الإسلاميون مع الشيوعيين؛ حزب الله مثلا، بكل ما يثار حوله من علامات استفهام، يلتقي مع كل الفئات، مع الشيوعيين ومع القوميين وحتى مع الكتائب وسائر المسيحيين أيضا؛ ربما تسجل نقطة هنا أو تبحث عن نقطة سلبية هناك، لكن كل هذا معناه أن هناك مناخا جديدا تتقبله القاعدة. في البداية لم تكن القاعدة تتقبل أن يجلس الإسلامي مع الشيوعي. الآن أصبح ذلك مقبولا. في بداية القرن الماضي كان القومي مثلا، كافرا بمعنى ما. الآن دخل القوميون في تحالف مع الإسلاميين. فالقضية الفلسطينية جمعت الكل.
إن مسؤولية كل التيارات، بما فيها التيارات العلمانية، أن لا تحاول التقاط السلبيات لتحارب بها الإسلام، كما على الإسلاميين أن لا يحاولوا التقاط سلبيات الآخرين. ليلتقوا جميعا على الإيجابيات. وليشجع كل منا إيجابيات الآخر لعل هذه الإيجابيات تعيننا على تفادي السلبيات والوصول الى نتيجة تفاهم إذا لم يكن لقاء.
المشكلة أننا لا نزال نعيش الحالات النفسية بعضنا تجاه بعض، وكل منا لا يثق بالآخر، ويخاف من المنطقة الخفية. وعندنا حديث نبوي مشهور يقول: «لو تكاشفتم لما تدافنتم» لأن الناس يخافون من المنطقة الخفية. إذا تكلم مسلم مع مسيحي في لبنان فإنه سيقول لمن هو تابع وماذا يريد مني، يبحث عما يجعله حالة سلبية، لأنه ليس مستعدا لأن يصدق وأن يلتقي به.
بين الشك والإلحاد
في الفكر الديني، هناك مطلقات تصعب مساءلتها. الإسلام يعتبر نفسه ديناً ودنيا، ويحاول أن يحيط بالمجتمع من مختلف جوانبه. هل هو برأيكم قابل للتطوّروللتكيف مع العصر ومع طرح الأسئلة والقبول بمدأ الشك ورفض اليقين المطلق؟
ج: من الأشياء التي طرحتها في بعض محاضراتي في الجامعة الأميركية أن لا مقدسات في الحوار، قلت إن الله حاور إبليس كما حاور الملائكة، والقرآن هو كتاب الحوار؛ الحوار مع المشركين، مع اليهود، مع النصارى، مع المنافقين... لذلك فالحوار هو أمر في صلب العقيدة الإنسانية. عندي كتاب هو «الحوار في القرآن». هذا من جهة، ومن جهة ثانية، الشك ليس كفراً. نحن نروي عن أحد أئمة أهل البيت، الإمام الصادق(ع)، أنه جاءه شخص قال له: رجل شك في الله وفي رسول الله... ثم عقب الإمام: إنما يكفر إذا جحد. فما دام سائرا في حركة الشك نحو اليقين لا يُعتبر كافرا. أيضا هناك حديث آخر يقول: لو أن الناس إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا، لم يكفروا. أكثر من هذا، في النص القرآني منهج الحوار هو منهج قائم على أساس اعتبار الشك الوسيلة التي يحاور بها المحاور صاحبه: «وإنّا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين» هذا منطق النبي(ص) ولسانه؛ هو ليس شاكا ولكنه أراد أن يجتذب الآخر الى الحوار فقال له إني قد أكون على هدى أو في ضلال وكذلك أنت. إذاً هناك حقيقة ضائعة بيننا فلنتعاون من أجل البحث عنها. في الحوار الإسلامي ليس هناك فرض مسبق بأنك أنت على خطأ بنسبة سبعين بالمئة وعلى هدى بنسبة ثلاثين بالمئة، أو: رأيك خطأ يحتمل الصواب، ورأيي صواب يحتمل الخطأ، بل: «إنا أو إياكم». لذلك فإن الشك ليس مظهرا للكفر. عليك أن تشك لتصل الى الحقيقة. كنت مرة في جلسة مع مثقفين منهم كريم مروة وحبيب صادق وغيرهما، قلت لهم: ليس هناك ملحد. لأن الإلحاد يحسم بعدم وجود الله. ولكن يجب قيام الدليل على عدم وجود الله، لأن النفي الحاسم الجازم يحتاج الى دليل، كما أن الإثبات الجازم يحتاج الى دليل. متى تستطيع أن تقول إن الله ليس موجودا؟ عندما ترى الكون كله بكل خفاياه ولا تجده. مثل غاغارين الذي قال عندما صعد الى الفضاء: لم أر الله. قد يقول شخص غير مسلم: لم يثبت عندي الدليل على وجود الله، ولكن ليس عندك دليل على العدم.
ليس عندنا دليل حاسم لا هنا ولا هناك.
ج: فإذا كان الأمر كذلك، فعليك ألا تتجمد في حياتك وعليك أن تكون رحبا.
الطريقة العقلانية في التفكير
لكن هناك من يبحثون، وعن ايمان، مثل نصر حامد أبو زيد، فيقابَلون بأسلوب التكفير والتهديد...
ج: كتبت مرة في جريدة «الشعب» أني لا أوافق على هذا الأسلوب. حتى في موضوع سلمان رشدي. أنا عندي شعار: أعط الفكر الآخر حريته تحجّمْه. اضطهده تنشره.
نستطيع إذاً أن نفكر أن الإسلام دعوة موجهة للمسلم وغير المسلم...
ج: عندما يقول القرآن: يا أيها الناس، إني رسول الله إليكم جميعا؛ فإذا كان رسول الله يخاطب كل الناس وهناك منهم من يؤمن ومن لا يؤمن. من آمن بي أريد أن أطبق كل مسؤوليات الإيمان عليه، والذي لا يؤمن بي أتعامل معه بطريقة مختلفة، تماما كأي فكر آخر. والنص القرآني يقول:: «وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر»؛ مع هذا النوع من الرحابة في الإسلام، من الذي خلّد لنا الاتهامات التي وجهت الى النبي حتى في عقله؛ حتى إنه عندما كانوا يقولون عنه «مجنون». لم يرد بعنف بل كان يدلهم على المنهج الذي يؤدي الى التفكير السليم، وهذا ما سيما بعد أن استسلموا لما يسمى بالعقل الجمعي: «قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرداى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنّة»، انفصلوا عن هذا الجو الانفعالي الذي يلغي للإنسان عقله وتفرقوا واحدا واحدا، اثنين اثنين وفكروا في أسلوبي وكلماتي وسوف تصلون الى النتيجة. كان يدلهم على المنهج.
عندما يقدم القرآن للأجيال الاتهامات التي كانت تتهم النبي(ص) في عقله (كاذب، ساحر،كاهن، «أساطير الأولين اكتتبها وهي تملى عليه بكرة وأصيلا» و«لقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلّمه بشر، لسان الذي يلحدون إليه أعجمي (يقصدون بحيرا) وهذا لسان عربي مبين» فإنه يحاول أن ينطلق بالطريقة العقلانية.
إسقاط التوتر يميت القضية الفلسطينية
يبدو من الدروس التي نأخذها مما جرى في العراق وما جرى في أفغانستان، أن هناك وعيا انتحاريا ما زال يتوهم بأنه في عصر العولمة من الممكن ببطولة ما أو فروسية هزيمة العالم، فهزيمة أميركا هي هزيمة العالم. ونستطيع أن نتخيل أن هذا السلوك الانتحاري هو سلوك اليأس على نحو ما، والشعور بأن هناك مشكلة لا حل لها. هناك أيضا سلوك انتحاري في النضال الفردي، في النضال الحركي، ويكاد هذا الأسلوب يصبح سائدا، ويهدد بانتحار ما آخر، هو انتحار الكيان الفلسطيني. بغض النظر عن موقف سماحتك من الرئيس ياسر عرفات، ولكن لا شيء يدل على الإطلاق على أن انتهاء الكيان الفلسطيني أمر مفيد لأحد.
ج: هذا جانب من الصورة، إذا درسنا المجتمع بكله، فإن الفريق الذي يفكر بهذه الطريقة، ليس كبيرا، هناك مثلا فريق من المثقفين ينفتح على العولمة، مع التحفظات في الجانب الثقافي... وهناك أيضاً فريق من غير المثقفين مثل التجار وغيرهم.
المسألة أن هناك إحساسا بمصادرة الغرب لعالمنا. هذا يخلق حالة إحباط، وحالة انتحار ويأس، وهذا ليس موجودا فقط على المستوى السياسي، وإلا فكيف نفسر ظاهرة الانتحار في أميركا، كيف نفسر قضية طلاب وتلاميذ يحملون السلاح ويقتلون زملاءهم أو أساتذتهم؟ كيف نفسر ما حدث في سويسرا... وما يحدث في إيرلندا؟ هذه الحالة ليست مقتصرة على مجتمع معين، وهي ليست حالة الإسلام أو حالة الشرق وحده، بل إن كل حالة إنسانية تحاصر في فكرها وفي أحاسيسها ومشاعرها وفي اقتصادها وسياساتها وتشعر بأنها ليست قادرة على الفعل، في هذه الحالة قد نحتاج الى أن نبقي حالة التوتر، في الحالة الفلسطينية أو غيرها، لأنك بمجرد أن تسقط التوتر فمعنى ذلك الموت. التوتر هو عبارة عن الحالة التي يمكن أن تحولك الى طاقة حيوية متحركة. نعم، مضمون التوتر قد يكون خطأ. نحن نمر في عالمنا العربي والإسلامي في فترة انتقالية، لأن عندنا الكثير من الطاقات التي تملك فكرا وثقافة وواقعية، ولكنك لا تجد المناخ الذي يستطيع أن يجعلها تتكامل. فالقضية الفلسطينية، مثلا، دخلت العالم ولا يمكن التفريط بها. اسرائيل لا تريد أن تتحول الى دولة من دول المنطقة إلا بعد أن تحصل على أكبر قدر من المكاسب في داخل فلسطين وخارجها. وهذا ما يجعلها المعنية بالحل والتسوية، لأن اللاتسوية لا تفيدها في شيء في المستقبل، لكن يفيدها أنها تأخذ من المتغيرات الدولية والظروف لعلها تكسب ما يمكن أن تكسبه.
المشكلة في القضية الفلسطينية، مع كل هذه الروح التي تكاد تكون أسطورية في عالم الصبر والصمود والثبات والجهاد، هي مشكلة التنسيق. المشكلة أن العنف يتحرك في اتجاه ضبابي. أي عملية عسكرية، حتى في حالة الثورة، يجب أن تجري لها الحسابات السياسية. المشكلة التي قد تكون موجودة هناك، أن الجهات التي تملك السيطرة على الواقع الفلسطيني، بعضها يعيش ذهنية الثورة، وبعضها يعيش ذهنية تقليدية.
المشكلة هي الجمع بين ذهنية تقليدية في السياسة وذهنية ثورية. ثم لا تنس أن الحصار الدولي في هذه المرحلة، في هذه الحرب العالمية وأنا سميتها حرب أميركا الثانية... أن أميركا الآن تعمل على أن تقتل كل الحركات التي تملك قوة، خصوصا إذا كانت هذه القوة تنطلق من حالة مقدسة، إسلامية. وهذا ما يجعلها تتحدث بالصوت العالي عن حماس والجهاد وحزب الله، لأن هناك استراتيجية أميركية اسرائيلية تعمل على أن لا يكون هناك مكان للأقوياء في العالم العربي حتى لا تصاب المصالح الأميركية بالضرر...
ليس عندي تشاؤم، فأنا أقول إن كل هذا العالم يشبه حالات الولادة القيصرية. تحدثنا عن سلبيات ما حدث، ولكن في المقابل فقد الأميركي شعوره بالأمن، وأعتقد أن كل هذه الحرب الأميركية ضد ما يسمى بالإرهاب في العالم قد تستطيع أن تصل الى بعض النتائج في محاصرة كثير من «الارهاب» ولكنها سوف تنتج ردود فعل من أشرس ما يمكن، لأنها سوف تزيد الواقع قهرا، ونحن نعرف أن المنظمات التي يسمونها إرهابية ومنظمات العنف، تولد في مثل هذا المناخ.
أعتقد أن هناك بعض الإيجابيات، لا بد من أن ندرسها ؛ يجب أن ندرس طالبان، وشخصية ابن لادن، من ناحية نفسية، ومن ناحية أسلوبه في الخطاب وعناصر شخصيته. مشكلتنا أن الأشياء التي تحتاج الى دراسات نفسية واجتماعية وسياسية، نحاول أن نستهلكها في عملية الرفض والتأييد.
كان يعول على الإسلام الحركي في أن يحدّث المواجهة الإسلامية ويجعلها أقرب الى العقل، وثانيا أن يبرهن على أنه يملك حلولا للمستقبل، وإذا بهذا الإسلام الحركي يتحول الى أحزاب «ستالينية» نظاما وعقيدة، ليس فيها أي تجديد (..) بل جمود عقائدي وتحجر فكري. وقد تحول هذا الإسلام الحركي الى أنظمة أيديولوجية على غرار الأنظمة العقائدية التي سقطت ربما بسبب هذا الجمود...
ج: لا أعتقد أن الإسلام الحركي هو إسلام الأحزاب الإسلامية. الإسلام الحركي قد تمثله شخصيات إسلامية تعيش حركية الإسلام في طريقة تفكيرها وفي أسلوب عملها، وأعتقد أن عندنا في العالم الإسلامي شخصيات طليعية حركية. حتى على مستوى الأحزاب والأنظمة هناك جوانب إيجابية.
علينا أن لا نهمل حقيقة أن الإسلام الحركي لا يزال في سن المراهقة، ولم ينضج بعد.
وأنا أعتقد أنه يحتاج الى وقت طويل وتجارب تولّد الإيجابيات بفعل الصدمات والمتغيرات وبفعل الوعي العميق للواقع والدخول في ساحات الصراع.
رجم الفكر يجعله متألقاً
وما تعليقكم على عدم ارتياح البعض من الإسلاميين الحركيين لطروحاتكم؟
ج: جأنا لا أتعقد من أن الآخرين لا يرتاحون لطروحاتي. أعتقد أن ما يخدم طروحاتي هو أن الكثيرين يرجمونها بالحجارة، لأنك عندما تُرجم يتألّق فكرك. فأي فكر لا يشتبك مع المعارضين، لا يستطيع أن يترك تأثيره في الحياة.
هاجس العدل يحرّك المذهب الشيعي
عندما ننظر الى التاريخ الشيعي نلاحظ أنه خلال مئات السنين بدا كأنه يُتوجَّس من الدولة ومن السياسة، وهذا التوجس أدى الى واقع عملي ليس له بالضرورة أساس نظري. وذلك فصل على نحو ما بين الممارسة الدينية والممارسة السياسية. ولهذا السبب ربما امتلك الشيعة القدرة على الحلم. ألا ترى سماحتك أن الغرق في السياسة يؤدي الى خسارة هذا الحلم من جهة، ويؤدي الى منع التشيع من أن يكون عباءة واسعة أو خيمة واسعة لكل المضطهدين وكل المستضعفين من جهة ثانية.؟
ج: لماذا انفصل الشيعة عن الدولة؟ لأن الفكر الشيعي يختزن لاشرعية الدولة، وينظر الى الحكام على أنهم حكام الجور، ولكن في الوقت ذاته كان الشيعة منفتحين. مثلا ثورة العشرين في العراق، كانت ضد الانكليز، ومن ناحية رسمية لمصلحة العثمانيين الذين اضطهدوا الشيعة. أيضا وقف الشيعة مع القضية الفلسطينية مثلا. هناك انفتاح شيعي موجود وإن كان يمشي بين مد وجزر. وتأتي قوى انعزالية تحاول أن تنشر التعصب ضدهم، وهناك فئات تحاول أن تنفتح عليهم. أما الحلم الشيعي، فإن في العقيدة الشيعية عقيدة المهدي المنتظر «يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا»؛ العدل العالمي أمام الظلم العالمي. هذا الفكر الآن يأخذ طريق الفكر الحركي، بأن يجب أن نهيئ الظروف للإمام المنتظر، فنصنع دولة العدل هنا ودولة العدل هناك ونتبنى رسالة العدل في العالم ونقف مع كل قضايا العدل وضد قضايا الظلم في العالم. وهذا التحرك الشيعي في بعض مواقعه يتحرك من جهة تأكيد الحلم والسير في طريق الحلم.
للمشهد أيضاً وجهه المشرق
ألا تتوجس سماحتك من كل دولة ومن كل حزب؟
ج: لا، أنا أنظر الى الإيجابيات. آخذ عن السيد المسيح عليه السلام عندما مر بجيفة كلب فقال الحواريون : ما أشد هذه الرائحة فقال عيسى ما أشد بياض أسنانه. أعتقد أن علينا أن ننظر الى الجانب المشرق من الصورة.
لي قصيدة لا أحفظها ولكن مضمونها يؤكد على أن هذه النجوم خلقها الله حتى توحي للإنسان بأنه ليس هناك ظلام مطلق، كل ظلام يحمل نقاط نور، ونقاط النور هذه تتجمع لتشير الى الفجر. في عالمنا العربي يبقى المغنّون ساعات يغنون «يا ليل»، ولكني لم أسمع أحدا يقول: يا فجر...
حاوره: عباس بيضون و زياد ماجد
يصعب تقديم حوار مع سماحة السيد محمد حسين فضل الله.
فانسياب أفكاره وتدفقها لا يترك مجالاً لمقدمات نمطية، كما لم يترك مجالاً خلال اللقاء للأسئلة التي كانت معدة. تحول الحوار معه الى تجوال في فضاء الافكار الرحب حيث ذهن السيد المتوقد يفتح الابواب على مصاريعها.
تفرض الحالة الراهنة نفسها علينا، وتستولد الأسئلة حول ما جرى منذ 11 أيلول لغاية اليوم، حول قضية الإسلام السياسي، وابن لادن، والمدرسة الأفغانية وما أنتجته، وموقف علماء الدين، ما رأي سماحتك بكل ذلك؟
ج:في البداية، ربما يشكو الإنسان الذي يتابع خلفية الواقع السياسي في المنطقة وفي العالم من المظالم، ويكتشف الكراهية لأميركا نتيجة سياستها، بالمستوى الذي وصلت به الأمور الى الدرجة التي يشعر فيها الناس بالإحباط، بحيث لا فائدة من عمل، حتى إن الحركات الشعبية والمقاومة المسلحة أو السياسية تتحرك، ولكنها تبقى في مكانها دون أن تملك أية وسائل للوصول الى نتائج حاسمة.
بالاضافة الى أن المنطقة العربية وكل منطقة العالم الثالث ومنها المنطقة الإسلامية، تعيش حالة من المصادرة للشعب كله حتى إن الظاهرة العامة في كل هذا الواقع، هي عناوين أجهزة المخابرات وقوانين الطوارئ، حتى يخيّل للانسان أنه يشعر بالرعب عندما يكتشف نفسه وهو يفكر بحرية، لأنه قد يتصور أن هناك أجهزة لاكتشاف الفكر، كأجهزة اكتشاف الكذب. هناك شعب يصادر بشخص أو بجهة معينة في عملية إرغام؛ وهناك التدمير اللاحق بالفلسطينيين كل يوم.وتبرز في آخر النفق أميركا التي تزود الأنفاق كلها بالظلام الذي تعيشه.
الإسلام بين عنق الفكرة وسلامة الوسيلة
ما جرى إذاً لم يكن مسألة فوق العادة، بل هو ينطلق من مفردات طبيعية في قلب الواقع الإنساني أمام كل هذا الضغط الاستكباري. وفي هذا السياق تحركت بعض الاتجاهات الإسلامية التي قرأت الإسلام، في آيات الجهاد وفي الحديث عن الكفار والموقف من الكفار، وربما قرأت بعض التاريخ الذي يتميز بالعنف، فوصلت الى النتيجة التي تحاول أن تختصر الطريق الى الهدف بعمل عنفي قد يرضي الحالة النفسية في داخلها، بقطع النظر عما إذا كان يؤدي الى نتائج في مستوى الهدف أو لا يؤدي. وهذه هي مشكلة هذا الاتجاه في فهم التحرك نحو الأهداف الإسلامية، لأن المشكلة في بعض هذا الفهم للإسلام أنهم يخلطون بين عنف الفكرة في مواجهة فكرة أخرى، وبين عنف الوسيلة. فمن الطبيعي جدا عندما تناقش فكرةٌ فكرةً أخرى، أو عندما ترفض فكرة فكرة أخرى، أن يكون هناك عنف في الفكر، لأن الفكر لا بد من أن يعنف بتقديم كل المفردات التي تسقط الفكر الآخر عندما تكون المسألة صراعَ فكر وفكر. ولكن الإسلام، إذ كان يؤكد على عنف الفكرة، فإنه كان يعمل على أساس إنسانية الوسيلة، وهذا ما نلاحظه في القرآن الكريم عندما نقرأ مثلا: «لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة» أو: «لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم» ولكننا نقرأ الى جانب ذلك «ولتجدنّ أقربهم مودة الى الذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى ذلك أن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون»، ونقرأ: «قل يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم»، ونقرأ أيضا: «ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنّا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون»... «ادعُ الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة»، «وجادلهم بالتي هي أحسن»... إذاً، إن عنف الفكرة لا يعني عنف الأسلوب، ولكن الذهنية غير المثقفة وغير الواعية وغير المنفتحة تخلط بين عنف الفكرة وعنف الأسلوب.
لمواجهة الإحباط نفتش عن بطل
هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن الواقع في الشرق أو في العالم الثالث، أمام الأزمات الخانقة وأمام كثير من حالات الإحباط والسقوط، كان يفتش عن بطل، عن منقذ، عن ثائر. ولذلك كان من السهل جدا أن تتحرك بعض الطموحات لتقدم نفسها في موقع البطل، سواء من خلال الموقف المتحدي الذي ينفتح بالعنفوان، أو من خلال حركة هنا أو هناك، مما يوحي بأن هناك قوة قادمة يمكن أن تحل المشكلة أو تخفف بعض أوضاعها. وهذا ما لاحظناه منذ الخمسينيات وحتى الآن، أن الأمة أدمنت شخصيات لا نستطيع أن نشك في جدارتها، ولكنها لم تكن بالمستوى الذي تصادر فيه العنف أو تختصر الأمة في شخصها، ولكن الأمة قبلت أن تُختصر بهذا الشخص، ولذلك فإن من أدبياتنا أن نقول إذا ماتت شخصية إسلامية إن الإسلام مات، وإذا ماتت شخصية عربية إن العرب ماتوا وسقطوا، وما أشبه ذلك.
لذلك، كانت ظاهرة ابن لادن، بكل عناصر شخصيته، توحي بالكثير من الإعجاب من دون أية مناقشة للتفاصيل لأن التفاصيل لم تكن واضحة، على الأقل على مستوى الأسلوب والثقافة وطبيعة التنظيم وما إلى ذلك. كان هناك شيء يتمظهر في أعمال عنف ترتفع بالعنفوان فيما يخيل إسقاط عنفوان القوة الكبرى. وحوّلت الحماسة التمنيات إلى وقائع، وهكذا استطاع هذا الرجل أن يحصل على امتداد في العالم الاسلامي. وربما أمكنه أن ينفذ الى مجموعات كبيرة من المتعلمين، لأن المسألة كانت عندهم تماما كتلك الموجودة في المجتمع العشائري، أي الثأر، بقطع النظر عن المضمون.
القراءة الخاطئة للأوضاع
لقد كانت التراكمات التي عاشها هؤلاء الذين شعروا بأن انتصارهم على الاتحاد السوفياتي في أفغانستان يمكن أن يحقق لهم انتصارا على أميركا من دون دراسة للظروف الموضوعية التي تحقق فيها الانتصار في أفغانستان عندما كانت هناك حرب عالمية ضد الاتحاد السوفياتي، مع أن الواقع الحالي لأفغانستان يختلف اختلافا كبيرا. هذه التراكمات استطاعت أن تخلق حالة من العنفوان الذي ابتعد عن الواقع، وخطة تنظيمية دقيقة جدا في كل مفرداتها، وحدثت التفجيرات. وربما كانت اللحظة الأولى في العالم الاسلامي وغير العالم الاسلامي، في كل العالم المستضعف، هي لحظة فرح، لأن العنفوان الأميركي سقط، لا سيما عندما رافق هذا الجو الذي لا يراه الناس إلا في المسرحيات والأفلام، ان رئيس الولايات المتحدة الأميركية لا يملك أن ينزل بطائرته في واشنطن، وأن نائب الرئيس قد اختفى وكذلك أغلب الإدارة الأميركية، حتى إن أميركا مرت في لحظات أو ساعات من انعدام الوزن.
كان هناك فرح ينطلق من معنى الثأر والشماتة وما الى ذلك، وبدأت الأمور تأخذ حركتها الواقعية الطبيعية، لأن الفرق بين العالم الثالث والدول الكبرى وفي مقدمتها أميركا، أننا في العالم الثالث، إذا واجهنا المشكلة نسقط أمامها، ولكن الدول الكبرى أو المتقدمة بغض النظر عن مضمون التقدم إذا واجهت المشكلات تدرسها وتدرس كيف يمكن أن تحصل على أكبر مكسب من خلالها، وهذا ما حدث. فقد بادرت أميركا الى اتهام الإسلاميين، وكان ابن لادن جاهزا في وسائل الإعلام الأميركية، وربما جاءت المعطيات الأمنية وغير الأمنية لتؤكد هذا المعنى، حقا كان أو باطلا، لأننا لسنا في حسابات القوانين. ولم يكن هناك إلا أفغانستان لأن ابن لادن فيها وتنظيم القاعدة فيها، ولأن طالبان تمردت على سادتها الأول الذين صنعوها بإدارة باكستانية وتعاملوا مع نظام طالبان تماما كما تعاملوا مع نظام صدام: مفاوضات ومفاوضات لتسليم ابن لادن أو قاعدته وهم يعرفون، بطبيعة الظروف الموجودة هناك وبطبيعة الأساليب التي يحركونها نفسيا، أنهم سيرفضون. ولذلك فإن كبش الفداء أصبح جاهزا للذبح. فأقنعوا دول حلف شمالي الأطلسي بالمشاركة في الحرب بحجة أنها دفاعية.
وكان يخيل للناس أن طالبان سوف تصمد، وأن أميركا سوف تغرق في وحول أفغانستان كما غرق الاتحاد السوفياتي، ولكننا كنا نعرف أن أميركا لو دخلت أفغانستان وحدها ولم يكن هناك فصيل أفغاني يقاتل فصيلا أفغانيا مع المساعدة الأميركية الجوية وغير الجوية، لأمكن أن تغرق في الوحول، لكن الأفغان المعارضين لطالبان كانوا جاهزين. ثم تخلت باكستان عن طالبان وبقيت طالبان وحدها في مواجهة حرب عالمية فسقطت. وما تزال الحرب العالمية موجهة ضد هذا المنطق الأسطوري الذي استطاعت أميركا، بإعلامها، أن تضخم شخصيته ليكون الانتصار عليه بحجمها...
إن خلاصة الفكرة، هي أن هذا العمل إذا كان هؤلاء الإسلاميون قد قاموا به فإنهم استطاعوا أن يخدموا أميركا خدمة لو بذلت المليارات من الدولارات لما استطاعت أن تحصل عليها، في الوقت الذي أرادوا فيه أن يسقطوا أميركا.
الجواب يفتح الطريق أمام أسئلة كثيرة. بغض النظر عن التحليل السياسي العميق جدا الذي سمعناه لحركة ابن لادن ولسقوطه، ولكن ابن لادن يحتج على نحو ما بالإسلام، بالقرآن الكريم، ويحتج بفقه ما، هو فقه العزلة الذي سمّيته سماحتك «فقه التخلف».
ج: إذا رجعنا الى فقه العنف في الإسلام، فإننا نلاحظ أولا أن العنوان الكبير الذي يوضع في واجهة هذا الفقه، هو عنوان الجهاد والقتال. وإذا أردنا أن ننفذ الى داخل هذا العنوان فإننا نجد أن هناك آية تقول: «وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم» ما يعني أن المسألة مسألة دفاع عن النفس، أو عن المجتمع المستهدف، «وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين» هذا القتال من أجل الفئات المحرومة أو المضطهدة.
«وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة» أي فتنة عن الدين، قتال في سبيل الحرية إذا لم نستخدم المصطلحات الحديثة حتى لا يتحرك هؤلاء ليفتنوهم عن دينهم بالضغط والإكراه وبالقتل «ويكون الدين لله» حتى يأخذ الإسلام حريته. إذاً ليس هناك في النص القرآني قتال بمعنى الهجوم. وهناك أيضا آية تقول: «وإما تخافنّ من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء»، وهذا قتال وقائي. عندما تجد أن هناك معطيات بأن قوماً سوف يهجمون عليك. ثم نقرأ: «ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين» ونقرأ أيضا: «وإن جنحوا للسلم فاجنح لها»، حتى عندما تريد أن ترد العدوان فعليك أن ترده بمثله: «وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به» ثم يقول: «ولئن صبرتم لهو خير للصابرين»، «فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم»، وهذا ما نلاحظه في صورة مشرقة في وصية الإمام علي عليه السلام بعد أن ضربه ابن ملجم، إذ قال: «انظروا، إذا أنا مت من ضربتي هذه فاضربوه ضربة بضربة ولا تمثلوا بالرجل لأني سمعت رسول الله يقول: إياكم والمُثلة ولو بالكلب العقور».
من خلال ذلك نفهم أنه ليس هناك في مفهوم الجهاد قتال عدواني. عندما ندرس المسألة في نظرة الإسلام الى الآخر، كان الآخر في ذلك الوقت اليهود والنصارى، ونحن نقرأ: «قل يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله». الكلمة السواء، هي وحدة الله، وإن اختلفنا في طبيعة هذه الوحدة ووحدة الإنسانية، أي أن لا يكون إنسان رباً لإنسان، تعالوا الى مواقع اللقاء. والتأريخ يدل على أن الإسلام احتضن الآخر ولم يتدخل في فكره. ربما كانت هناك مشاكل بين المسلمين والنصارى واليهود، تماما كالمشاكل بين المسلمين في ما بينهم والنصارى في ما بينهم، وكذلك اليهود. والدليل أن اليهود والنصارى لا يزالون في البلاد الإسلامية في كل التاريخ، ويعيشون كما يعيش المسلمون. ربما كان هناك تحفظ في أن يدخلوا في جسم القيادة لأنهم لا يؤمنون بفكرة القيادة. ثم نقرأ: «لتجدنّ أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا»، هنا يتحدث القرآن عن سلوكيتهم ولا يتحدث عن يهوديتهم؛ ولذلك يقول: «ولتجدنّ أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى، ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون». إنه يحدد الموقف من ناحية السلوكية. ثم يركز على مسألة التعايش: «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تَبَرّوهم وتُقْسِطوا إليهم» (أي تعاملوا معهم بالعدل)، «إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تَولّوهم ومن يتولّهم منكم فأولئك هم الظالمون». إذاً حدد القرآن المسألة حتى في قضية التعامل مع الآخر من موقع العدوان لا من موقع اختلاف الفكر، فاعتبر النصارى هم الأقرب الى المؤمنين مع اختلافهم في الفكر، وحتى إننا نلاحظ في الآية التي قرأناها: «ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم» عندما يظلمون فإن عليك أن تتعامل معهم تعامل المظلوم مع الظالم؛ أما الذين يبحثون عن الحوار فحاورهم بالتي هي أحسن «وقولوا آمنا بالذي أُنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون». هذا هو المنطق التعايشي والتصالحي الذي يقول لك إن هناك أرضاً مشتركة بيننا تعالوا لننطلق من خلالها.
لا علاقة للشعب الأمريكي بجرائم إدارته السياسية
إذاً، الخطاب الإسلامي ليس خطابا عدوانيا بل هو خطاب تصالحي إنساني منفتح على الآخر. يبقى ما يحاول أولئك أن يحتجوا به لمثل هذا العمل. إنهم يقولون إن الشعب الأميركي هو كالإدارة الأميركية يتحمل المسؤولية لأنه يدفع الضرائب لهذه الإدارة. هذا كلام سخيف؛ لأن من الطبيعي لكل شعب أن يدفع الضرائب حفاظا على مصالحه أو خوفا من النتائج السلبية التي قد تحدث، ونحن نعرف أن كثيرا من الشعب الأميركي لا يرتاح للإدارة الأميركية، ولذلك فإن الكثيرين لم ينتخبوا هذه الإدارة ورئيسها. لكن هناك نقطة، هي الآية التي تقول: «ولا تزر وازرة وزر أخرى»؛ المسؤولية في الإسلام فردية. لا يجوز لك أن تحمّل إنسانا جريمة إنسان آخر مهما كانت قرابته. وعلى ضوء هذا، لا يجوز لنا أن نحمّل الشعب الأميركي مسؤولية إدارته، كما لا يجوز لنا أن نحمّل المسؤولية للناس الموجودين في الطائرات أو في أميركا نفسها، القادمين إليها إما لعمل تجاري أو سياحي أو غيره... ولذلك نحن أنكرنا هذه المسألة وقلنا انه لا يقبل بها شرع ولا عقل ولا دين، وإننا نعارض السياسة الأميركية، ولكننا لا نعارضها بهذه الطريقة، لأن الشعب الأميركي لا علاقة له بجرائم إدارته. ولذلك نقول إن الخطأ هو في التطبيق.
إنسانية الفقه الإسلامي
ربما تكون المسألة بالعناوين الكبرى توحي بوجوب محاربة أميركا، لكن ما هي الوسيلة لمحاربتها. إن الفقه الاسلامي هو فقه إنساني؛ فمثلاً «ادعُ الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة»، «وجادلهم بالتي هي أحسن»، «إن ربك هو أعلم بمن يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين»، «أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين»، «لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي»؛ ثم نقرأ آية في قمة الإنسانية في الأسلوب: «ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عدواة كأنه وليٌّ حميم، وما يُلقّاها الذين صبروا وما يُلقّاها إلا ذو حظ عظيم». القرآن يقول لك: اتبع الوسيلة والأسلوب الذي تحول به أعداءك الى أصدقاء. هذا هو الإسلام في رحابته الإنسانية. الإمام علي(ع) يقول إن الناس «صنفان، إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق»، والنبي (ص) يقول: «إن الرفق ما وضع على شيء إلا زانه ولا رفع عن شيء إلا شانه»، و«إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف»،. إذاً، الفهم الذي يعتبر أن العنف هو وسيلة التغيير الوحيدة، بقطع النظر أيضا عن حركية هذه الوسيلة، ليس فقها إسلاميا كما هو الإسلام في رحابته الإنسانية، ولذلك أنا قلت عندما كانوا يتحدثون عن الأصولية الإسلامية وأن الإسلام أصولي، وما شابه، قلت لهم لا تنقلوا المفهوم الغربي للواقع الإسلامي. إن الإسلام ليس أصوليا بالمفهوم الغربي لأن الأصولية تقوم على عنصرين، العنصر الأول: إلغاء الآخر، والثاني اعتبار العنف وسيلة وحيدة للعمل. ونحن عندما نقرأ خطاب الإسلام لأهل الكتاب، نرى أنه لم يلغ أهل الكتاب، وعندما نقرأ «ادفع بالتي هي أحسن»، «وجادلهم بالتي هي أحسن»، و«قل لعبادي يقولوا التي هي أحسن» لا نجد عنفاً. العنف في الاسلام كمثل العملية الجراحية التي تلجأ إليها عندما يهدد المرض حياتك. العنف لمن يفرض عليك العنف.
الإحتلال ولّد مناخ العنف في المنطقة
تعرضت مجتمعات كثيرة في العالم الثالث لظلم أميركي وفي بالي مجتمعات أميركا اللاتينية، وجرى هناك التعبير عن عنف وعن حركية كبيرة، لكن على نحو مختلف. ألا تعتقدون أن الظاهرة العنفية مرتبطة بالعالم الإسلامي دون سواه؟
ج: أولئك ليس لديهم هذا التراث الإسلامي، لذلك عندما تلحظ حركية الشعوب ادرس مفردات التراث الذي يعيش في وجدانها ثم ادرس طريقة فهم هذا التراث مما يجعل الحركة في خط هذا الفهم الذي قد يكون خاطئا ويستقي حيويته وكل توتره وحرارته من خلال ارتباطه بالقاعدة، بالأصل، بالإسلام. أنا أريد أن أجاهد في سبيل الله، وهذا جهاد. كيف نفسر العنف الماركسي، وكيف نفسر العنف القومي. هناك فكرة تجعل العنف قضيتك لإلغاء الإقطاعية وللقضاء على الرأسمالية، يجب أن نقتل وندمر إلخ... من الأمور التي كنت أتابعها منذ الخمسينيات أن أغلب الحركات القومية والوطنية والإسلامية لم يكن لديها أي منهج في الأسلوب. كل هذه الحركات أخذت أسلوبها الحركي من الماركسية ووجدت أرضيتها في الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين، ودخل العنف في المنطقة من خلال هذا الاحتلال ومن خلال الخطط السياسية، في إرباك العالم العربي من انقلاب الى انقلاب الى آخر، في مسألة الحرب الباردة بين الشرق والغرب، التي دخلت فيها تفاصيل العنصر القومي من هنا والوطني من هناك إلخ.. لذلك كيف نفسر كل هذا العنف الذي لم يكن للإسلام أي مدخلية فيه. فالإسلام لم يكن فريقا في الحرب اللبنانية، ولا في حرب اليمن، ولا في أي حرب أخرى، لأن الإسلام السياسي دخل كقوة بعد ضعف التيارات اليسارية، باعتبار أن الناس لجأوا إليه من خلال ظروف موضوعية محيطة.
انطلاقا من كلام سماحتك، الإسلام الراهن والمعاصر، والذي تكوّن بعد الحقبة الاستعمارية، تكوّن أيضا في ظروف العنف الغربي، سواء العنف الاستعماري أو العنف الثوري، ألا ترى أن الحركات الإسلامية المعاصرة هي أيضا من حيث تدري أو لا تدري وريثة هذا العنف الغربي، الثوري والاستعماري؟
ج: هناك نقطة يجب أن نعرفها، وهي ان أي حركة، سواء كانت إسلامية أو قومية، أو علمانية على العموم، تعيش بحسب وسائلها وروحيتها تبعاً لذهنية القائمين عليها، والعالم الاسلامي هو عالم متحرك، مختلف؛ فهناك إسلاميون يملكون ثقافة طليعية تقترب من العصر، وهناك إسلاميون لا يملكون هذه الثقافة بل يعيشون في الماضي. هنا إسلاميون ولدوا في دورة العنف واستطاع هذا العنف أن يخترق كل كيانهم وجاؤوا بالإسلام من غير تصور لثقافته ومفرداته ليكون عنوانا يثير الناس. ولهذا لا تستطيع أن تحكم على الإسلام الحركي من خلال بعض النماذج. لا إشكال في أن هناك نماذج في الإسلام تملك رؤية معاصرة (لا أحب استخدام عبارة الاعتدال والتطرف لاستهلاكهما) ومتوازنة. ولكن المشكلة أن الأنظمة ومن ورائها الخطط الغربية والاستكبارية أصبحت تعاني من الإسلام المعتدل الحركي أكثر من الإسلام المتطرف؛ نفس الطريقة الاسرائيلية.
من تسمون مثلا من هذا التيار المعتدل؟
ج: مثلا، الاخوان المسلمون الذين أصبحوا يعتبرون من الخطوط المعتدلة المعقولة عاشوا مرحلة من العنف أيام عبد الناصر إذا صح ذلك وولدت منهم فئات أخرى انطلقت من رحم الاخوان لكنها سارت بعيدا عنهم؛ تماما مثل اليسار. أليس هناك جهات انطلقت من اليسار، أخذت من الماركسية بعض الأمور لكنها انطلقت بعيدا عنها. وكلك مثل القوميين؛ ألم نكن نقول في الأربعينيات: «العرب فوق الجميع» على طريقة هتلر. على هذا الأساس، عندما ندرس الموضوع، نلاحظ أنه لا يُفسح المجال الآن للإسلاميين المعتدلين لأن يأخذوا حريتهم. فمثلا في مصر، وفي أكثر من بلد إسلامي، لا يسمح بحزب ديني إسلامي. عندما يكون لدى هذا الحزب رؤية سياسية (بغض النظر عن الاختلاف معها وصحتها أو خطئها، فهذا حساب آخر) فلماذا لا تعطيه حريته من ضمن النظام. هل على أساس أن الإسلاميين لا يعتبرون مسلماً كل من لا ينتمي الى حزبهم وجماعتهم. هذا ليس صحيحا. لا أحد من الإسلاميين يقول إن من لا ينتمي الى الحزب الإسلامي الفلاني ليس مسلما. هذا المعنى أوجد حالة من ردود الفعل التي اختزنت العنف كحالة جنينية للمستقبل. ولو أن بعض هذه الدول أعطت الحرية للإسلاميين وحاولت أن تحاصر هذه الحرية كما تحاصر حرية الأحزاب الأخرى لما كانت هناك مشكلة. على العكس.
عقبات تعيق التيار الإسلامي المتوازن
هل هذا ينطبق على التجربة الجزائرية؟
ج: عندما نقرأ التجربة الجزائرية، نجد أن جبهة الإنقاذ عندما انطلقت كانت حركة فيها عقل وفيها حماسة؛ انطلقت واستطاعت أن تأخذ مدى شعبيا، لكنها ما كانت تملك ثقافة حركية. فليس من الطبيعي أن يقولوا بعد فوزهم في الدورة الأولى للانتخابات: لن نعطي أحدا الحرية. ثم بعد ذلك اضطُهد هؤلاء وانفجر الصراع الأميركي الفرنسي، ودخل الجيش الجزائري في ثمانين بالمئة على الأقل مما ينسب الى الإسلاميين في الجزائر، وهو من أعمال المخابرات، حتى إن المخابرات دخلت في أذهان بعض البدائيين فصنعت هذا أو ذاك أميرا وهو لا يعرف شيئا من الإسلام، ولا تزال مسألة الجزائر هي مسألة اللامعقول، والتي لا يوافق عليها أي مسلم، وليس فقط أي إسلامي. علينا أن ندرس المسألة ونشجب ما يحصل، لكن الصحف أخيرا، الفرنسية وغيرها، بدأت تتحدث عن أن من يقوم بتلك الأعمال ليس الإسلاميين.
ألا ترى، سماحتك، أن هناك إمكانية تحت لافتة الإسلام لأن توجد حركات تمتص كل علاقات المجتمع وتتصرف ككل الجماعات العنفية، فتتصرف أحيانا على نحو مافياوي، فتبيح كل شيء وتعتدي على كل شيء، الا تعتقدون أن هذا يؤذي الإسلام، فهناك في كل مرة وجود واقعي لهذه الحركات، وكل حركة إسلامية أو غير إسلامية تمتص، بصورة أو بأخرى، علاقات هذا المجتمع، وتعرض نفسها لامتحان نظري ومبدئي خطر، وربما يؤذيها هذا الامتحان؛ هل يستطيع الإسلام بمثاليته أن يتحمل هكذا ممارسات؟
ج: هناك عنوان كبير، وهو أن أي فكر لا يستطيع أن يحمي نفسه من المنتمين إليه، وأي قانون لا يستطيع أن يحمي نفسه. إنسان الفكر هو الذي يحمي الفكر، وإنسان القانون هو الذي يحمي القانون. الإسلام نشأ في مجتمع متنوع بتنوعه الثقافي ومتنوع حتى بمبادراته الروحية. لماذا نتكلم فقط عن الإسلام ولا نسأل ماذا بالنسبة الى مجتمعاتنا العشائرية؛ الطائفية الموجودة عند غير المسلمين، العرقيات الموجودة حتى في البلدان المتحضرة، مثل يوغوسلافيا التي عاشت في ظل الحكم الماركسي، كيف أصبحت كما هي الآن... وهكذا. هناك مجتمعات تتصل بتاريخ مرتبك، تاريخ فوضوي المفاهيم، فوضوي الأساليب. لهذا لا تستطيع أن تقوم بعملية هندسية تجمع كل هؤلاء الناس على أساس أنهم مسلمون مثلا. لا. صحيح أنهم مسلمون ولكن هذا يفهم الإسلام بطريقته وذاك بطريقته.
لا يُسمح للمسلمين الذين يفكرون بطريقة متوازنة، وبطريقة الذين يريدون أن يدخلوا الواقع ليتعاونوا مع الآخرين. الأنظمة لا تسمح لهم؛ والعنف الموجود في الجهات الأخرى لا يسمح لهم؛ الحساسيات الموجودة في عملية التنافس، والإلغاء أيضا. فالإلغاء ليس مقتصرا على الإسلاميين، وكل فريق يمسك الساحة يحاول إلغاء غيره. ألم تكن هناك في الخمسينيات والستينيات عمليات إلغاء، حتى في داخل التيارات العلمانية. إذاً عملية الإلغاء عملية إنسانية، ليس بالمعنى العميق للإنسان، بل انطلاقاً من إحساس الإنسان بالقوة. لذلك أقول: لنفسح المجال للأصوات الصافية. لنُعطِ فرصة للإسلاميين الذين عندهم ستون بالمئة حالة انفتاح، نشجعهم ونتعاون معهم، وخصوصا مع هذا التوجه الإسلامي الجديد الذي يحاول أن ينفتح على الآخر، ولو كانت هناك بعض التحفظات. هذه إيران مثلاً، تتعاون مع روسيا، ومع الهند، وتحاول أن تكون مع أرمينيا ضد أذربيجان التي هي دولة إسلامية وشيعية. في الداخل أيضا هناك صراع حقيقي، لكنه يدلل على أن هناك حياة سياسية، قد تكون الأساليب هنا أو هناك غير مناسبة، لأن هذه أول تجربة في تاريخ إيران لهذا النوع من الحياة السياسية التي يمارس فيها الشعب حقوقه ودوره وآراءه وما الى ذلك. من الطبيعي أن تكون هناك سلبيات، لكن الخط هو خط إيجابي.
الآن في واقعنا الإسلامي بدأ التفكير جديا بأن يتعاون الإسلاميون مع الشيوعيين؛ حزب الله مثلا، بكل ما يثار حوله من علامات استفهام، يلتقي مع كل الفئات، مع الشيوعيين ومع القوميين وحتى مع الكتائب وسائر المسيحيين أيضا؛ ربما تسجل نقطة هنا أو تبحث عن نقطة سلبية هناك، لكن كل هذا معناه أن هناك مناخا جديدا تتقبله القاعدة. في البداية لم تكن القاعدة تتقبل أن يجلس الإسلامي مع الشيوعي. الآن أصبح ذلك مقبولا. في بداية القرن الماضي كان القومي مثلا، كافرا بمعنى ما. الآن دخل القوميون في تحالف مع الإسلاميين. فالقضية الفلسطينية جمعت الكل.
إن مسؤولية كل التيارات، بما فيها التيارات العلمانية، أن لا تحاول التقاط السلبيات لتحارب بها الإسلام، كما على الإسلاميين أن لا يحاولوا التقاط سلبيات الآخرين. ليلتقوا جميعا على الإيجابيات. وليشجع كل منا إيجابيات الآخر لعل هذه الإيجابيات تعيننا على تفادي السلبيات والوصول الى نتيجة تفاهم إذا لم يكن لقاء.
المشكلة أننا لا نزال نعيش الحالات النفسية بعضنا تجاه بعض، وكل منا لا يثق بالآخر، ويخاف من المنطقة الخفية. وعندنا حديث نبوي مشهور يقول: «لو تكاشفتم لما تدافنتم» لأن الناس يخافون من المنطقة الخفية. إذا تكلم مسلم مع مسيحي في لبنان فإنه سيقول لمن هو تابع وماذا يريد مني، يبحث عما يجعله حالة سلبية، لأنه ليس مستعدا لأن يصدق وأن يلتقي به.
بين الشك والإلحاد
في الفكر الديني، هناك مطلقات تصعب مساءلتها. الإسلام يعتبر نفسه ديناً ودنيا، ويحاول أن يحيط بالمجتمع من مختلف جوانبه. هل هو برأيكم قابل للتطوّروللتكيف مع العصر ومع طرح الأسئلة والقبول بمدأ الشك ورفض اليقين المطلق؟
ج: من الأشياء التي طرحتها في بعض محاضراتي في الجامعة الأميركية أن لا مقدسات في الحوار، قلت إن الله حاور إبليس كما حاور الملائكة، والقرآن هو كتاب الحوار؛ الحوار مع المشركين، مع اليهود، مع النصارى، مع المنافقين... لذلك فالحوار هو أمر في صلب العقيدة الإنسانية. عندي كتاب هو «الحوار في القرآن». هذا من جهة، ومن جهة ثانية، الشك ليس كفراً. نحن نروي عن أحد أئمة أهل البيت، الإمام الصادق(ع)، أنه جاءه شخص قال له: رجل شك في الله وفي رسول الله... ثم عقب الإمام: إنما يكفر إذا جحد. فما دام سائرا في حركة الشك نحو اليقين لا يُعتبر كافرا. أيضا هناك حديث آخر يقول: لو أن الناس إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا، لم يكفروا. أكثر من هذا، في النص القرآني منهج الحوار هو منهج قائم على أساس اعتبار الشك الوسيلة التي يحاور بها المحاور صاحبه: «وإنّا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين» هذا منطق النبي(ص) ولسانه؛ هو ليس شاكا ولكنه أراد أن يجتذب الآخر الى الحوار فقال له إني قد أكون على هدى أو في ضلال وكذلك أنت. إذاً هناك حقيقة ضائعة بيننا فلنتعاون من أجل البحث عنها. في الحوار الإسلامي ليس هناك فرض مسبق بأنك أنت على خطأ بنسبة سبعين بالمئة وعلى هدى بنسبة ثلاثين بالمئة، أو: رأيك خطأ يحتمل الصواب، ورأيي صواب يحتمل الخطأ، بل: «إنا أو إياكم». لذلك فإن الشك ليس مظهرا للكفر. عليك أن تشك لتصل الى الحقيقة. كنت مرة في جلسة مع مثقفين منهم كريم مروة وحبيب صادق وغيرهما، قلت لهم: ليس هناك ملحد. لأن الإلحاد يحسم بعدم وجود الله. ولكن يجب قيام الدليل على عدم وجود الله، لأن النفي الحاسم الجازم يحتاج الى دليل، كما أن الإثبات الجازم يحتاج الى دليل. متى تستطيع أن تقول إن الله ليس موجودا؟ عندما ترى الكون كله بكل خفاياه ولا تجده. مثل غاغارين الذي قال عندما صعد الى الفضاء: لم أر الله. قد يقول شخص غير مسلم: لم يثبت عندي الدليل على وجود الله، ولكن ليس عندك دليل على العدم.
ليس عندنا دليل حاسم لا هنا ولا هناك.
ج: فإذا كان الأمر كذلك، فعليك ألا تتجمد في حياتك وعليك أن تكون رحبا.
الطريقة العقلانية في التفكير
لكن هناك من يبحثون، وعن ايمان، مثل نصر حامد أبو زيد، فيقابَلون بأسلوب التكفير والتهديد...
ج: كتبت مرة في جريدة «الشعب» أني لا أوافق على هذا الأسلوب. حتى في موضوع سلمان رشدي. أنا عندي شعار: أعط الفكر الآخر حريته تحجّمْه. اضطهده تنشره.
نستطيع إذاً أن نفكر أن الإسلام دعوة موجهة للمسلم وغير المسلم...
ج: عندما يقول القرآن: يا أيها الناس، إني رسول الله إليكم جميعا؛ فإذا كان رسول الله يخاطب كل الناس وهناك منهم من يؤمن ومن لا يؤمن. من آمن بي أريد أن أطبق كل مسؤوليات الإيمان عليه، والذي لا يؤمن بي أتعامل معه بطريقة مختلفة، تماما كأي فكر آخر. والنص القرآني يقول:: «وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر»؛ مع هذا النوع من الرحابة في الإسلام، من الذي خلّد لنا الاتهامات التي وجهت الى النبي حتى في عقله؛ حتى إنه عندما كانوا يقولون عنه «مجنون». لم يرد بعنف بل كان يدلهم على المنهج الذي يؤدي الى التفكير السليم، وهذا ما سيما بعد أن استسلموا لما يسمى بالعقل الجمعي: «قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرداى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنّة»، انفصلوا عن هذا الجو الانفعالي الذي يلغي للإنسان عقله وتفرقوا واحدا واحدا، اثنين اثنين وفكروا في أسلوبي وكلماتي وسوف تصلون الى النتيجة. كان يدلهم على المنهج.
عندما يقدم القرآن للأجيال الاتهامات التي كانت تتهم النبي(ص) في عقله (كاذب، ساحر،كاهن، «أساطير الأولين اكتتبها وهي تملى عليه بكرة وأصيلا» و«لقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلّمه بشر، لسان الذي يلحدون إليه أعجمي (يقصدون بحيرا) وهذا لسان عربي مبين» فإنه يحاول أن ينطلق بالطريقة العقلانية.
إسقاط التوتر يميت القضية الفلسطينية
يبدو من الدروس التي نأخذها مما جرى في العراق وما جرى في أفغانستان، أن هناك وعيا انتحاريا ما زال يتوهم بأنه في عصر العولمة من الممكن ببطولة ما أو فروسية هزيمة العالم، فهزيمة أميركا هي هزيمة العالم. ونستطيع أن نتخيل أن هذا السلوك الانتحاري هو سلوك اليأس على نحو ما، والشعور بأن هناك مشكلة لا حل لها. هناك أيضا سلوك انتحاري في النضال الفردي، في النضال الحركي، ويكاد هذا الأسلوب يصبح سائدا، ويهدد بانتحار ما آخر، هو انتحار الكيان الفلسطيني. بغض النظر عن موقف سماحتك من الرئيس ياسر عرفات، ولكن لا شيء يدل على الإطلاق على أن انتهاء الكيان الفلسطيني أمر مفيد لأحد.
ج: هذا جانب من الصورة، إذا درسنا المجتمع بكله، فإن الفريق الذي يفكر بهذه الطريقة، ليس كبيرا، هناك مثلا فريق من المثقفين ينفتح على العولمة، مع التحفظات في الجانب الثقافي... وهناك أيضاً فريق من غير المثقفين مثل التجار وغيرهم.
المسألة أن هناك إحساسا بمصادرة الغرب لعالمنا. هذا يخلق حالة إحباط، وحالة انتحار ويأس، وهذا ليس موجودا فقط على المستوى السياسي، وإلا فكيف نفسر ظاهرة الانتحار في أميركا، كيف نفسر قضية طلاب وتلاميذ يحملون السلاح ويقتلون زملاءهم أو أساتذتهم؟ كيف نفسر ما حدث في سويسرا... وما يحدث في إيرلندا؟ هذه الحالة ليست مقتصرة على مجتمع معين، وهي ليست حالة الإسلام أو حالة الشرق وحده، بل إن كل حالة إنسانية تحاصر في فكرها وفي أحاسيسها ومشاعرها وفي اقتصادها وسياساتها وتشعر بأنها ليست قادرة على الفعل، في هذه الحالة قد نحتاج الى أن نبقي حالة التوتر، في الحالة الفلسطينية أو غيرها، لأنك بمجرد أن تسقط التوتر فمعنى ذلك الموت. التوتر هو عبارة عن الحالة التي يمكن أن تحولك الى طاقة حيوية متحركة. نعم، مضمون التوتر قد يكون خطأ. نحن نمر في عالمنا العربي والإسلامي في فترة انتقالية، لأن عندنا الكثير من الطاقات التي تملك فكرا وثقافة وواقعية، ولكنك لا تجد المناخ الذي يستطيع أن يجعلها تتكامل. فالقضية الفلسطينية، مثلا، دخلت العالم ولا يمكن التفريط بها. اسرائيل لا تريد أن تتحول الى دولة من دول المنطقة إلا بعد أن تحصل على أكبر قدر من المكاسب في داخل فلسطين وخارجها. وهذا ما يجعلها المعنية بالحل والتسوية، لأن اللاتسوية لا تفيدها في شيء في المستقبل، لكن يفيدها أنها تأخذ من المتغيرات الدولية والظروف لعلها تكسب ما يمكن أن تكسبه.
المشكلة في القضية الفلسطينية، مع كل هذه الروح التي تكاد تكون أسطورية في عالم الصبر والصمود والثبات والجهاد، هي مشكلة التنسيق. المشكلة أن العنف يتحرك في اتجاه ضبابي. أي عملية عسكرية، حتى في حالة الثورة، يجب أن تجري لها الحسابات السياسية. المشكلة التي قد تكون موجودة هناك، أن الجهات التي تملك السيطرة على الواقع الفلسطيني، بعضها يعيش ذهنية الثورة، وبعضها يعيش ذهنية تقليدية.
المشكلة هي الجمع بين ذهنية تقليدية في السياسة وذهنية ثورية. ثم لا تنس أن الحصار الدولي في هذه المرحلة، في هذه الحرب العالمية وأنا سميتها حرب أميركا الثانية... أن أميركا الآن تعمل على أن تقتل كل الحركات التي تملك قوة، خصوصا إذا كانت هذه القوة تنطلق من حالة مقدسة، إسلامية. وهذا ما يجعلها تتحدث بالصوت العالي عن حماس والجهاد وحزب الله، لأن هناك استراتيجية أميركية اسرائيلية تعمل على أن لا يكون هناك مكان للأقوياء في العالم العربي حتى لا تصاب المصالح الأميركية بالضرر...
ليس عندي تشاؤم، فأنا أقول إن كل هذا العالم يشبه حالات الولادة القيصرية. تحدثنا عن سلبيات ما حدث، ولكن في المقابل فقد الأميركي شعوره بالأمن، وأعتقد أن كل هذه الحرب الأميركية ضد ما يسمى بالإرهاب في العالم قد تستطيع أن تصل الى بعض النتائج في محاصرة كثير من «الارهاب» ولكنها سوف تنتج ردود فعل من أشرس ما يمكن، لأنها سوف تزيد الواقع قهرا، ونحن نعرف أن المنظمات التي يسمونها إرهابية ومنظمات العنف، تولد في مثل هذا المناخ.
أعتقد أن هناك بعض الإيجابيات، لا بد من أن ندرسها ؛ يجب أن ندرس طالبان، وشخصية ابن لادن، من ناحية نفسية، ومن ناحية أسلوبه في الخطاب وعناصر شخصيته. مشكلتنا أن الأشياء التي تحتاج الى دراسات نفسية واجتماعية وسياسية، نحاول أن نستهلكها في عملية الرفض والتأييد.
كان يعول على الإسلام الحركي في أن يحدّث المواجهة الإسلامية ويجعلها أقرب الى العقل، وثانيا أن يبرهن على أنه يملك حلولا للمستقبل، وإذا بهذا الإسلام الحركي يتحول الى أحزاب «ستالينية» نظاما وعقيدة، ليس فيها أي تجديد (..) بل جمود عقائدي وتحجر فكري. وقد تحول هذا الإسلام الحركي الى أنظمة أيديولوجية على غرار الأنظمة العقائدية التي سقطت ربما بسبب هذا الجمود...
ج: لا أعتقد أن الإسلام الحركي هو إسلام الأحزاب الإسلامية. الإسلام الحركي قد تمثله شخصيات إسلامية تعيش حركية الإسلام في طريقة تفكيرها وفي أسلوب عملها، وأعتقد أن عندنا في العالم الإسلامي شخصيات طليعية حركية. حتى على مستوى الأحزاب والأنظمة هناك جوانب إيجابية.
علينا أن لا نهمل حقيقة أن الإسلام الحركي لا يزال في سن المراهقة، ولم ينضج بعد.
وأنا أعتقد أنه يحتاج الى وقت طويل وتجارب تولّد الإيجابيات بفعل الصدمات والمتغيرات وبفعل الوعي العميق للواقع والدخول في ساحات الصراع.
رجم الفكر يجعله متألقاً
وما تعليقكم على عدم ارتياح البعض من الإسلاميين الحركيين لطروحاتكم؟
ج: جأنا لا أتعقد من أن الآخرين لا يرتاحون لطروحاتي. أعتقد أن ما يخدم طروحاتي هو أن الكثيرين يرجمونها بالحجارة، لأنك عندما تُرجم يتألّق فكرك. فأي فكر لا يشتبك مع المعارضين، لا يستطيع أن يترك تأثيره في الحياة.
هاجس العدل يحرّك المذهب الشيعي
عندما ننظر الى التاريخ الشيعي نلاحظ أنه خلال مئات السنين بدا كأنه يُتوجَّس من الدولة ومن السياسة، وهذا التوجس أدى الى واقع عملي ليس له بالضرورة أساس نظري. وذلك فصل على نحو ما بين الممارسة الدينية والممارسة السياسية. ولهذا السبب ربما امتلك الشيعة القدرة على الحلم. ألا ترى سماحتك أن الغرق في السياسة يؤدي الى خسارة هذا الحلم من جهة، ويؤدي الى منع التشيع من أن يكون عباءة واسعة أو خيمة واسعة لكل المضطهدين وكل المستضعفين من جهة ثانية.؟
ج: لماذا انفصل الشيعة عن الدولة؟ لأن الفكر الشيعي يختزن لاشرعية الدولة، وينظر الى الحكام على أنهم حكام الجور، ولكن في الوقت ذاته كان الشيعة منفتحين. مثلا ثورة العشرين في العراق، كانت ضد الانكليز، ومن ناحية رسمية لمصلحة العثمانيين الذين اضطهدوا الشيعة. أيضا وقف الشيعة مع القضية الفلسطينية مثلا. هناك انفتاح شيعي موجود وإن كان يمشي بين مد وجزر. وتأتي قوى انعزالية تحاول أن تنشر التعصب ضدهم، وهناك فئات تحاول أن تنفتح عليهم. أما الحلم الشيعي، فإن في العقيدة الشيعية عقيدة المهدي المنتظر «يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا»؛ العدل العالمي أمام الظلم العالمي. هذا الفكر الآن يأخذ طريق الفكر الحركي، بأن يجب أن نهيئ الظروف للإمام المنتظر، فنصنع دولة العدل هنا ودولة العدل هناك ونتبنى رسالة العدل في العالم ونقف مع كل قضايا العدل وضد قضايا الظلم في العالم. وهذا التحرك الشيعي في بعض مواقعه يتحرك من جهة تأكيد الحلم والسير في طريق الحلم.
للمشهد أيضاً وجهه المشرق
ألا تتوجس سماحتك من كل دولة ومن كل حزب؟
ج: لا، أنا أنظر الى الإيجابيات. آخذ عن السيد المسيح عليه السلام عندما مر بجيفة كلب فقال الحواريون : ما أشد هذه الرائحة فقال عيسى ما أشد بياض أسنانه. أعتقد أن علينا أن ننظر الى الجانب المشرق من الصورة.
لي قصيدة لا أحفظها ولكن مضمونها يؤكد على أن هذه النجوم خلقها الله حتى توحي للإنسان بأنه ليس هناك ظلام مطلق، كل ظلام يحمل نقاط نور، ونقاط النور هذه تتجمع لتشير الى الفجر. في عالمنا العربي يبقى المغنّون ساعات يغنون «يا ليل»، ولكني لم أسمع أحدا يقول: يا فجر...