إحياء عاشوراء
في كلّ سنةٍ نحتفل فيها بذكرى "عاشوراء"، تطرح جملة مواضيع تتمحور بمجملها حول أساليب الاحتفال المتّبعة، ولكنّ ثمة أسئلةً جوهريّةً تطال مبدأ الاحتفال بذكرى تعود إلى مئات السّنين، ومدى إلزاميّته من الناحية الشرعيّة، وكيفية توظيفه إيجاباً في الواقع السياسي والاجتماعي الراهن، وعلامات استفهام أخرى حول مصدر السيرة الحسينيّة ومدى دقّتها، ولا سيما في ظلّ اختلافٍ ـ ولو من حيث التفاصيل ـ في مضمون النّصوص.
وإذا كانت معظم الأساليب الاحتفاليّة قد انطلق من مبادراتٍ شعبيّة، لتكتسب مع الوقت طابعاً لا يجرؤ حتّى العلماء أحياناً على نقضه، فإنّ السيّد محمد حسين فضل الله، الّذي سبق له أن تعرّض لحملةٍ حادّةٍ جرّاء إعلانه رسميّاً حرمة ضرب الرّؤوس بالسّيوف والظّهور بالسّلاسل في السّنة الماضية، فإنّ انتقاداته هذه المرّة لم تقتصر على الأساليب فحسب، بل طاولت نصوص السّيرة الحسينيّة ـ باعتبار أنَّ المجالس الحسينيّة من أبرز وجوه الاحتفال ـ وذلك من خلال رفض كلّ أشكال التحريف أو المبالغة في سرد الوقائع التاريخيّة، داعياً إلى نقد النصوص علميّاً وموضوعيّاً، لإعادتها إلى واقعيّتها قدر الإمكان.
وإذ يشدّد على أهميّة أهداف الذكرى التي تعكسها النّتائج التي تحقّقت حتّى اليوم من خلال قيام الثّورة الإيرانيّة، والمقاومة الإسلاميّة في لبنان، إلا أنّه يدعو إلى عدم استغلالها لإثارة الحساسيّات المذهبيّة.
إنّها جملة أفكارٍ عالجها السيّد فضل الله في حديثه مع "السّفير":
قراءة علميّة لنصّ السّيرة:
س: كلّ سنةٍ في ذكرى عاشوراء، تكون السّيرة الحسينيَّة هي المادَّة الأساسيَّة لإحياء هذه الذّكرى، من أين جاء نصّ السّيرة الحسينيّة؟
ـ لعلَّ من أوثق المصادر الّتي تحدَّثت عن السّيرة الحسينيَّة، ما جاء في تاريخ الطبري، وفي كتاب "اللّهوف في قتلى الطّفوف" للسيّد ابن طاووس، وعندما يدرس الإنسان هذين النصّين، يجد أنّ هناك توازناً معقولاً في عرض الواقعة بحسب ظروفها الطبيعيّة، وبحسب الإمكانات الموجودة في داخلها.
ولكن كون هذه الواقعة انطلقت في بدايتها من عمق الحزن كعنصر إثارةٍ في حركة هذه المأساة في الزَّمن، جعل مسألة الحزن المأساويّ تتَّخذ عنصراً أساسيّاً في وعي الكثير من الأجيال الّتي عاشت هذه الذّكرى في التَّاريخ.
ومن الطّبيعيّ أنَّ الحزن المأساويّ يحتاج إلى الكثير من عناصر الإثارة الّتي يمكن أن تفتح المشاعر والأحاسيس على أكثر من قصّةٍ تجتذب الأنظار، وتدفع بالوجدان إلى أن يتحرّك بشكلٍ مثيرٍ في مواجهة الواقعة. ولذا رأينا أنّ الّذين يثيرون العزاء، بدؤوا يتسابقون ويتنافسون في أساليب الإثارة، ومن الطّبيعيّ أنّ مثل هذا الأمر هيّأ الجوّ لكثيرٍ من حالات الوضع للأحاديث والقصص وما إلى ذلك، وهذا ما أدركه المرحوم السيّد محسن الأمين، فكتب "المجالس السنيّة" كتجربةٍ في هذا المجال، وهذا الكتاب يشتمل على مجالس عاشورائيّة، يقدّمها لقرّاء التعزية من خلال الروايات المعقولة فيما يراها هو، وإن كان البعض يرى أنّ التجربة ليست ناجحةً بشكلٍ دقيق جداً، ولكنّها مثّلت خطوةً إلى الأمام.
وكذلك رأينا أنَّ الشّهيد المطهّري في كتاب "الملحمة الحسينيّة" في محاضراته حول هذا الموضوع، أثار كثيراً من علامات الاستفهام حول كثيرٍ من الرّوايات، ونحن نعتقد أنّ عرض السّيرة الآن أصبح يصطدم بالكثير من القضايا والقصص والأجواء الّتي يمكن أن تثير علامات الاستفهام. |
|
ولعلّ حجّة الكثيرين ممن يرفضون الدّخول في النقد العلميّ الموضوعيّ لمثل هذه القصص أو الأحاديث، أنّ المسألة هي من المسائل التي يراد بها إثارة المأساة، وليست هناك أيّة مشكلة تتّصل بالجانب العقيديّ، أو تتصل بالقضايا السلبيّة في واقع السلوك الإسلاميّ في خطّ القضيّة الحسينيّة، ولا سيّما أنّ هذا قد يستثير الكثير من ردود الفعل الشعبيّة، باعتبار أنّ الكثير من هذه المفاهيم دخلت في عمق الحسّ الشّعبيّ.
ولكنّنا لا نوافق هؤلاء، ونجد أنَّ من الضّروريّ نقد نص السّيرة الحسينيّة، كنقد نصّ السّيرة النبويّة الشّريفة، كنقد أيّ نصّ تاريخيّ، لأنّ التاريخ وإن ابتعد عنّا، فهو قد دخل في وجداننا الثّقافيّ، وإحساسنا الدّينيّ، وحركتنا السياسيّة، وبناءً على ذلك، فعندما نقدّم بعض الصّورة غير الواقعيّة على أنّها تمثّل الشرعيّة، باعتبار أنّها تُنسب إلى الحسين(ع)، الإمام الّذي يُعتبر قوله وفعله يمثّلان الخطّ الشّرعيّ الصّحيح، فإنّ ذلك سوف يدخل حتى في حركتنا الثّوريّة في ما هو شرعيّ وما هو غير شرعيّ.
إنّني أتصوّر أنَّ من الضّروريّ أن ينطلق النَّقد بشكلٍ موضوعيّ علميّ، يمكن أن نحصل من خلاله على سيرةٍ متوازنة، وإذا لم تكن هي الواقع، فلا مانع من أن نحاول أن تكون الأقرب إلى الواقع، مع إبقاء الجوّ المأساويّ في عناصره الداخليّة.
وأعتقد أنّ قرّاء التّعزية، إذا كانوا يملكون أسلوباً أدبيّاً فنيّاً في طريقة التّعبير، وعناصر الإثارة، فإنّهم يستطيعون أن يحرّكوا المأساة في قضيّة الإمام الحسين(ع) من دون الحاجة إلى قصصٍ وحكاياتٍ جديدة. |
|
الوجه الإيجابيّ لإحياء الذّكرى:
س: لعلّ المسألة الأساسيّة الّتي ذكرتها، لها علاقة بمدى تفاعل النّاس مع الذكرى، بمعنى أنّ بعض المسلمين يأخذهم الانفعال والحماس ويتفاعلون معها بشكل حارّ، في حين لا يشعر البعض الآخر بمصداقيّة ما يُروى وما يُسرد، ما يسبّب ردّ فعل سلبيّ نوعاً ما؟..
ـ ج: إنّ الجانب الآخر، وليس من الضّروري أن يكون جانباً مسلماً، بل قد يكون في الاتجاهات الأخرى، قد يلاحظ أنّه ليس هناك أيّ مبرّر لإبقاء هذه الذّكرى بهذا الشّكل الشّعبيّ الدّينيّ لإثارة مأساة التّاريخ، لأنّ أيّ تاريخٍ لا بدَّ من أن يحتوي الكثير من المآسي الخاضعة لظروفها الموضوعيّة، إن في دائرة الصّراع بين خطّين، أو في نطاق حركة الأقوياء ضدّ المستضعفين، ولذلك، فإنَّ مسألة أن نثير المأساة لنحرّكها في الوجدان الشعبيّ، ولتترك تأثيراتها على حياة النّاس، لتجعلهم يعيشون في مثل حالة الطّوارئ البكائيّة أو غير ذلك، هو أمر غير حضاري، أو غير إسلامي، أو ما إلى ذلك!!..
وربما يتحرك المسلمون من الجانب الآخر في هذه المسألة، على أساس أنَّ عاشوراء موجّهة ضدّ فريقٍ يمثّل الخطّ الإسلاميّ السنّيّ في التّاريخ، لأنّ السنّة يحترمون بني أميّة، ولذلك، فإنّ الحديث عن بني أميّة بشكلٍ سلبيّ، قد يترك نتائج سلبيّة على واقع الوحدة الإسلاميّة، أو واقع السّلام الإسلاميّ، والاجتماع الإسلاميّ، إذا صحّ التّعبير. ومن هنا، فإنّ هؤلاء يعتبرون أنّ إثارة عاشوراء في كلّ سنة، هي إثارة للحساسيّات التاريخيّة، التي تقتحم الحساسيّات المذهبيّة الموجودة فيما بين المسلمين، من خلال ما يقدّسه هؤلاء، أو ما يقدّسه أولئك..
لكنّي أحبّ أن أسجّل ملاحظتين على هاتين النّقطتين أو الفكرتين:
الملاحظة الأولى: إنني أتصوّر أنّ مسألة إحياء ذكريات التاريخ ليس أمراً غير إنسانيّ أو غير حضاريّ، فإنّنا نجد العالم كلّه، مع اختلاف اتجاهاته، يحتفل في كلّ سنة بذكرى، قد تتّصل بانتصارٍ وطنيّ، أو قوميّ، لمعركةٍ ترقى إلى مئات السّنين، أو لمأساةٍ من المآسي الّتي قد تكون نتيجة وضعٍ صراعيّ أو سياسيّ معيّن، مما يرقى إلى عشرات أو مئات السّنين أيضاً.
وكذلك، فإنّنا نجد أنَّ الحاضر في كلّ مواقعه، لا يعيش انفصالاً عن التّاريخ، بل نجد أنّ الإنسان الّذي يحاول أن يؤكّد نفسه، وأن يؤصّل مرحلته، ويركّز خطواته في الاتجاه الّذي يريده في تقدّمه وتطوّره، لا يزال يشعر بأنّ هناك في التّاريخ نقاطاً مضيئة، يبقى استحضارها حاجةً لكلّ مرحلةٍ من المراحل الّتي يعيش فيها نوع معيّن من الظّلام، أو أنّ فيها درساً لا يرتبط بمرحلةٍ معيّنة، بل يرتبط بالحياة كلّها، ما يجعله يدرس الماضي والحاضر والمستقبل، وإضافةً إلى ذلك، فقد تستدعي الحاجة نوعاً من أنواع الإثارة الّتي لا يجد الإنسان عناصرها الحيويّة في الحاضر، فيحاول أن يجتذبها من خلال التّاريخ.
وفي المقابل، فإنّ القرآن الكريم عندما يتحدّث عن التّاريخ، فإنّه ينظر إليه بطريقتين:
الطّريقة الأولى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ}[يوسف:111]، باعتبار أنّ دور القصّة التاريخيّة هو دور العبرة الّتي تمثّل الدّرس الذي يمكن أن يأخذه العاقلون في ما يمكن لهم استيحاؤه من التّاريخ لمصلحة الحاضر.
والطّريقة الثانية: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}[البقرة:141]، وهذه الآية تركِّز على أنَّ التّاريخ ليس مسؤوليّة الجيل الحاضر، وإنّما هو مسؤوليّة الّذين صنعوه، ولذلك فعلينا أن لا نفرض التّاريخ على أنفسنا كما لو كنّا نحمل مسؤوليّته، ونحمّل الآخرين مسؤوليّته، فيما هو التّوزيع بين فريقٍ قد يرتبط بجانبٍ من التّاريخ، وفريقٍ يرتبط بجانبٍ آخر، لأنّه لا معنى لأن أحمل مسؤوليّة تاريخٍ لم أصنعه، أو أحمّل الآخرين مسؤوليّة تاريخٍ لم يصنعوه، لأنّ مسألة آبائنا وأجدادنا هي مسألتهم هم، وإنّما القضيّة أنّنا نُسأل عن صنع تاريخنا: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ- من خير أو شر- وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}[البقرة:141]، فلا تشغلوا أنفسكم بالحديث عن مسؤوليّتكم أمام هذا التّاريخ!. |
|
الملاحظة الثّانية: إنّنا نستطيع أن نستوحي من هذا، أنّنا لا نحمّل الشّيعة وزر بعض السلبيّات الّتي عاشت في خلاف السنّة والشّيعة في الماضي، أو نحمّل السنّة الموجودين خلافات ما جرى على الشّيعة سلباً من السّابقين، بل إنّ الشّيعة والسنّة الآن يعيشون عصراً واحداً ومرحلةً واحدة، وتبقى هناك وجهات نظرٍ في فهم الإسلام، أو في حركيّة الإسلام، أو في تقديس هذا، وتقديس ذاك، تبقى هذه وجهات نظر يمكن أن نتحاور حولها، أمّا المعطيات التاريخيّة، فهي ليست مسؤوليّاتنا، ولا يجوز أن نتراشق مع بعضنا البعض على هذا الأساس.
من خلال ذلك كلّه نقول: إنّ قضية الإمام الحسين(ع) هي من القضايا التي تتّصل بأكثر من بُعد؛ فعندما ندرس الحسين(ع)، فإنّنا ندرس الإنسان الّذي يمثّل القيمة الإنسانيّة الرّوحيّة الرائعة الّتي انفتحت على الله كأوسع ما هو الانفتاح، وعاشت عمق الإسلام كأعمق ما يكون العمق، وانطلقت مع النَّاس في انفتاحٍ ومحبَّة، وتحرَّكت في خطِّ القضايا المتَّصلة بالجانب الإسلاميّ في حركيَّته في الواقع، بينما يمثِّل يزيد في صورته التَّاريخيَّة، الإنسان الفاسق، الّذي لا يملك أيَّ التزامٍ في المحرَّمات الشَّرعيَّة، كشرب الخمر، وقتل النفس المحترمة وما إلى ذلك، ولا يملك أيّة قيمةٍ روحيّةٍ أو أخلاقيّةٍ أو إنسانيّةٍ في حكمه، في الوقت الّذي لا يملك أيّة كفاءةٍ، بغضّ النّظر عمّا هو الخلاف في طبيعة الشّرعيّة بين السنّة والشّيعة. |
|
فهناك شخصيّتان: الشّخصيّة المثاليّة، شخصيّة الأريحيّة، وشخصيّة المنفعة، كما يعبّر عباس محمود العقّاد في كتابه "أبو الشّهداء".
ثم نجد أنَّ المسألة تتصل بالواقع الإسلاميّ العام، فهناك نوع من أنواع الانحراف الّذي فرض على هذا الواقع الإسلاميّ، من خلال مجموعة عوامل تبدأ بتلك الفوضى الّتي جاءت نتيجة الصّراعات الداخليّة، وصولاً إلى ابتعاد الواقع الإسلاميّ عن خطّ الخلافة، وتحوّله إلى ملكٍ عضوض، مروراً بانطلاق الكثيرين من الرّواة والمحدّثين ليصنعوا لهذا روايةً في فضل عنوانٍ معيَّن، أو شخصٍ معيَّن، ويصنعون لذاك مثله، الأمر الّذي أدَّى إلى تبدّلٍ في المفاهيم من ناحية التصوّر، رافقه انحرافٌ في السّلوك، ما أدَّى إلى ظهور صورةٍ معيَّنةٍ من صور المجتمع الإسلاميّ آنذاك أثيرت الكثير من التّساؤلات عن مدى انسجامها مع الإسلام، وهو ما نستوحيه من المقارنة بين تلك المرحلة وبين الصّورة المشرقة للإسلام وحكمه.
أمّا المسألة البكائيّة، فإنّها لا تمثّل منطقاً غير حضاريّ، لأنّها تتّصل بالعاطفة الإنسانيّة الّتي تستثيرها المأساة الّتي تصيب حياة إنسانٍ تحبّه أو تعظّمه، ولا سيّما إذا كانت متمثّلةً في المجازر الوحشيّة ضدّ الإنسان والطّفولة، وبشكلٍ يقشعرّ له الوجدان. إنّ اللاحضاريّة تتمثّل في القسوة الشّعوريّة، وفي اللامبالاة والبرودة العاطفيّة أمام المأساة، وإذا لم ينفعل الإنسان بمأساة التّاريخ، فإنه لا ينفعل بمأساة الحاضر، ما يؤدّي إلى سلبيّةٍ في علاقته بالواقع.. ونحن لا نتصوّر أنّ الشّيعة يعيشون في حالة طوارئ بكائيّة، بل إنّهم ينفتحون على الحسين الّذي يحبّونه ويحبّون أهل بيته وأصحابه، انطلاقاً من محبّتهم لما يمثّلونه من معنى الرّسالة، فيتمثّلون فيه الثّورة والعبرة، كما يتمثّلون المأساة الّتي تستدرّ دموعهم في مضمونهم الإنسانيّ المعنويّ، كما قال ذلك الشّاعر:
تبكيك عيني لا لأجل مثوبةٍ لكنّما عيني لأجلك باكيـة
بين مأساة الماضي وصناعة ثورة الحاضر
س: هل العبرة الأساسيّة من الاحتفال بذكرى عاشوراء، هي ربط الحاضر بالتّاريخ؟
ج: إنّ الخطّ السياسيّ في الواقع القياديّ، لخّصه الإمام الحسين(ع) بهذه الكلمات: "أيّها النّاس، إنَّ رسولَ اللَّهِ(ص) قالَ: مَن رأى منكُم سُلطاناً جائِراً، مُستحلاً لحرم الله، ناكثاً بعَهدِه، مُخالِفاً لسنّةِ رسولِ الله، يَعملُ في عبادِه بالإثمِ والعدوانِ، فلم يغِرْ عليهِ بقولٍ ولا بفعلٍ، كان حَقّاً على الله أن يُدخِله مَدخلَه. ألا وإنَّ هؤلاء القومَ قد لَزِموا طاعةَ الشّيطانِ، وتَولّوا عن طاعةِ الرّحمنِ، وأظهرُوا الفسادَ، وعطّلوا الحدودَ، واستأثَروا بالفيء، وأحَلّوا حرامَ اللَّهِ وحَرَّموا حلالَهُ، وأنا أحقُّ من غير"[تاريخ الطّبري، ج3، ص:307].
عندما نجمع كلّ هذه الأمور، نجد أنّ بمستطاعنا أن نستوحي في واقعنا الحاضر، شخصيّة الإمام الحسين(ع)، مقارنةً بشخصيّة يزيد، في كلّ النّماذج التي تلتقي بهاتين الشّخصيّتين في الواقع. كما أنّنا نستطيع أن نقارن بين المجتمع الإسلاميّ في انحرافاته التصوّرية والعمليّة هناك، لنقارنه بمجتمعنا هنا، ثم لننطلق في الخطّ القياديّ الّذي يفكّر فيه المسلمون: كيف يكون القائد في الخطّ الحركيّ ومسألة الثّورة على القائد الظّالم المنحرف؟
وإذا لاحظنا أنّ هذه العناوين الّتي تتّصل بكلّ واقعنا السياسيّ والاجتماعيّ الإسلاميّ، قد امتزجت بدماء أهل البيت(ع)، وفي وضع مأساويّ، يمثّل مأساةً إنسانيّة، ما يجعل الأمر أنّنا لو عرضناها على أيّ جيلٍ من الأجيال، لعاش التأثّر الإنسانيّ، ولامتلأت نفسه بالثّورة على مثل هذه النّماذج.
ونحن دائماً نركّز أنّ علينا أن نستعيد المأساة، وأن نبقي عنصر المأساة بالأساليب العاطفيّة المتّزنة، لأنّ القضيّة عندما تمتزج بالمأساة، فإنّ تأثيرها في النّفس الإنسانيّة يكون أكثر عمقاً، ما يجعل إثارة المأساة في كربلاء تشكّل ثورةً ضدّ كلّ صانعي المأساة في الحاضر. |
|
أمّا المسألة الإسلاميَّة، فإنَّني أعتقد أنَّنا عندما ندخل مع الخطّ الإسلاميّ السنّيّ، فإنّنا لا نعتقد أنَّ قصَّة بني أميَّة تمثِّل أيَّ مقدَّس سنّي، فقد يختلف رأي المسلمين السنَّة في بني أميَّة مقارناً بالرّأي الشّيعيّ، ولكنَّنا نعتقد أنَّ المسألة عندما تبتعد عن قضيَّة الخلافة الّتي تمثّل المقدَّس الإيجابيَّ هنا والسَّلبي هناك، فإنَّ بقيَّة التَّاريخ الإسلاميّ يخضع لأيِّ اجتهادٍ في الحكم عليه إيجاباً أو سلباً، من دون أن يمسّ أيّ مقدّسٍ إسلاميّ، ولذلك فنحن لا نعتبر أنّ يزيد يمثّل قيمةً إسلاميّةً سنيّة، ليُعتبر رفضه ضدّ القيمة.
ومن هنا، فإنّ إثارة الذّكرى لا تمثّل سلبيّةً إسلاميّة، ولا سلبيّة إنسانيّة حضاريّة. نعم، يبقى أنّ بعض الّذين يثيرون عاشوراء، ربّما يخطئون ويتحرّكون بطريقةٍ انفعاليّةٍ قد يثيرون فيها الحساسيّات، وهذا ما نرفضه ونحاربه، ونعمل على إصلاحه ما أمكننا ذلك..
الكذب المرفوض:
س: ورد لسماحتكم عبارة تقول فيها: "نستنزف دموع النَّاس بالكلمة الصَّادقة والكاذبة". في بداية الحديث، نحن بدأنا بهذا الموضوع، وورد في جوابك السّابق ما يوضح العبارة، لكنّ السّؤال من ناحية شرعيّة: هل الكذب في هذا المجال جائز؟
ـ ج: الكذب حرام في كلّ موقعٍ إلا في المواقع الّتي يمثّل الكذب فيها حمايةً للقضايا الكبرى، كما كنت أعبِّر دائماً: عندما يحقّق معي العدوّ ليطلب مني أسرار شعبي، من أسرار سياسيّة أو اقتصاديّة، أو أسرار المقاومة، ويطلب منّي أن أحلف بالله العظيم، فإنّنا نعتبر أنّه يجب الكذب في هذه الحال ويحرم الصّدق، وهكذا إذا كان هناك من يلاحق شخصاً بريئاً مؤمناً أو أشخاصاً أبرياء، وطلب منّي أن أعرّف عن مكانهم الّذي أعرفه، هنا يأتي القول الإسلاميّ المعروف: "احلف بالله كاذباً ونجِّ أخاك من القتل"، ولكن لا يجوز الكذب في تزوير التَّاريخ، حتى لو كان على أساس المأساة هنا، ولا سيّما إذا كان كذباً يستنطق النّماذج المقدّسة في كلامٍ لم تقله. |
|
إحياء الذّكرى بين السَّلب والإيجاب:
س: هل تطوّرت أساليب الاحتفال بعاشوراء منذ سنوات؟
ـ ج: إنّني أعتقد أنَّ هناك جانبين: الجانب الإيجابيّ المتمثّل في أنّ الاحتفال بعاشوراء دخل فيه العنصر الثّقافيّ، حيث يقف العلماء والمفكّرون والمثقّفون ليعالجوا للنّاس قضاياهم من وحي عاشوراء، كما أنّهم يعملون على تحليل القضيّة الحسينيّة للاستفادة منها بشكلٍ أعمق، ولإثارة قضايا الواقع، لتكون مجالس عاشوراء ساحةً من ساحات تحريك الواقع في وعي الناس.
ونحن نعتبر أنّ هذا يمثّل عنصراً إيجابيّاً، لأنّ الاحتفال بعاشوراء يمثّل حركةً تغني الواقع عندما تستثير التّاريخ، وهذا ما لاحظناه في العناصر الّتي انطلقت منها الثّورة الإسلاميّة في إيران، والّتي عبّر عنها الإمام الخمينيّ(قده) وهو يشير إلى العناصر الحيّة في نجاح حركته على المستوى الشّعبيّ، فيقول: "إنّ كلّ ما عندنا هو من عاشوراء". كما أنّنا نعتقد أنّ لعاشوراء دوراً كبيراً في تعبئة الشّباب الّذين ينفتحون على خطّ المقاومة في مواجهة العدوّ.
أمّا الجانب السلبيّ، فيتّصل ببروز العناصر الّتي تمثّل التخلّف، كضرب الرّؤوس بالسّيف، وضرب الظّهور بالسّلاسل، وما إلى ذلك، مما نعتبر أنّه يمثّل عنصراً متخلّفاً في أساليب هذه الذّكرى.
س: هل الاحتفال السّنويّ في عاشوراء يستند إلى نصّ شرعيّ واضح؟
ـ هناك أحاديث عن أئمّة أهل البيت(ع) تشجّع وتدعو إلى إقامة هذه المجالس، ولعلّهم هم الّذين كانوا يقيمونها من أجل إبقاء الذّكرى حيّةً، لإحياء الخطّ الإسلاميّ الأصيل، وهذا ما نلاحظه في بعض الأحاديث الّتي تقول: "أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا"، في إشارةٍ إلى هذه المجالس، ونحن نعلم أنّ أئمّة أهل البيت(ع) ليس لهم أمر خاصّ بعيداً عن الإسلام، بل إنّ أمرهم هو الإسلام كلّه. |
|
س: هل الاستماع إلى المجالس الحسينيّة أو حضورها أمرٌ مستحبّ أم واجب؟
ـ ج: من الطّبيعيّ أنّه ليس واجباً بالمعنى الشّرعيّ للواجب، ولكنّ الحضور مهمّ، إن للتعرّف إلى الكثير من العناوين الإسلاميَّة، أو لتعميقها في نفوس المسلمين، وهو ما يشكِّل استجابةً لبعض الكلمات المأثورة عن الأئمّة(ع)، ومن خلال ذلك، فإنّنا نستطيع القول إنّ الحضور مستحبّ بشكلٍ مؤكّد.
حرمة الإضرار بالنّفس:
س: كما تعلمون، الاجتهاد في تطوّرٍ دائم، هل يمكن أن تضعونا في أجواء الاجتهاد القديم والاجتهاد الحديث؟
ـ ج: إنّنا نتصوّر أنَّ الاجتهاد لم يختلف في القاسم المشترك بين طريقة الاحتفال في الماضي والحاضر، وهو إقامة مجالس العزاء، كما أنَّ الماضي كان يختزن اللَّطم، ولكن بشكلٍ هادئ معبِّرٍ عن الحزن، ولكن ما حدث هو بروز لبعض العادات الشّعبيّة، كضرب الرّؤوس بالسّيف، وضرب الظّهور بالسّلاسل، وهذه العادات لم تنطلق من اجتهادٍ فقهيّ شارك في إنتاجها وتحويلها إلى عادةٍ شعبيّةٍ لدى النّاس، بل إنّ مثل هذه العادات انطلقت من مبادراتٍ فرديّةٍ ما لبثت أن تحوّلت إلى حالةٍ مقدّسةٍ استثارت عاطفة النّاس فقلّدوها، ثم تعاظمت العاطفة، وتجذَّرت العادة، بحيث أصبحت من المقدّسات الّتي قد لا يجرؤ حتّى العلماء على مواجهتها، إلى درجة أصبح الّذين يقفون ضدّ هذه العادات يوصمون بأنّهم ضدّ الحسين وأهل البيت(ع)، وأنّهم يريدون إسقاط هذه الذّكرى وإبعادها عن الوجدان الشّعبيّ، وما إلى ذلك... وقد ثارت الغوغاء ـ وحتّى من بعض العلماء ـ ضدّ سماحة المرجع السيّد محسن الأمين(قده)، عندما حرّم هذه العادات في كتابه "التنـزيه في أعمال التّشبيه" وعانى الكثير، حتى سُبّ وشُتِم ونُظِمت القصائد في هجائه.
لكن قد يقول قائل: إنَّ هناك من المجتهدين الكبار جدّاً ومن المحدثين، قد أفتوا منذ خمسين أو ستّين سنةً بإباحة هذه الشَّعائر، وبأنَّها ليست محرَّمة في ذاتها، إلا إذا أدَّت إلى التّهلكة.
وعن التّساؤل عن أسباب صدور هذه الفتاوى، فإنّه يمكن القول بأنَّ المسألة انطلقت من جدلٍ فقهيّ عنوانه: هل يحرم إضرار الإنسان بنفسه إذا لم يكن الضّرر بالغاً، كأن يجرح الإنسان يده، أو يجرح رأسه، أو ما إلى ذلك، مما لا يشكِّل خطراً على حياته؟ أي هل الضّرر محرَّم في ذاته، في مقابل القول إنَّ المحرّم هو الإضرار الّذي يؤدّي إلى التّهلكة، أو إلى وضعٍ صحّيّ خطير؟
وقد صدر رأيان اجتهاديّان في هذه المسألة:
فهناك من قال بحرمة الإضرار بالنّفس من ناحيةٍ مبدئيّة، إلا في الحالات الّتي تكون هناك مصلحة أهمّ، كما في تعريض الإنسان نفسه للضَّرر في الأسفار، أو في سهر اللَّيالي، حتَّى يحصل على ربحٍ مادّيٍ أو معنويّ، حيث هناك ميزان بين المفسدة في الضّرر وبين المصلحة، وهذا أمرٌ إنسانيّ يفيد بأنّه إذا كانت المصلحة أقوى من المفسدة، فإنَّها تجمّد المفسدة، وشرعيّاً، نضع هذا الأمر في "باب التّزاحم"، أي أنّه إذا تزاحم حكم تحريميّ ما مع حكمٍ وجوبيّ أو جائز، وكانت المصلحة هنا أقوى من المفسدة هناك، فإنّها تجمّد حكم التّحريم. وعلى هذا الأساس، فهؤلاء يقولون إنّه يحرم على الإنسان أن يجرح نفسه، حتّى في التّعبير عن التّأسّي أو المحبّة، وغير ذلك.
وهناك رأي اجتهاديّ آخر يتبنّاه الكثيرون من العلماء، وهو أنّه لا يحرم على الإنسان أن يضرّ نفسه إذا لم يصل الضّرر إلى حالةٍ صحيّةٍ سلبيّةٍ كبيرة، أو إلى التّهلكة، وعلى ضوء ذلك، أفتى هؤلاء العلماء بأنّ ضرب الرّأس بالسّيف حزناً أو مواساةً ليس محرّماً في ذاته، وإنما يحرم إذا كان الضّرر مؤدّياً إلى التّهلكة.
وهناك تحفُّظاتٌ لدى بعض العلماء الَّذين يقولون بالإباحة من حيث العنوان الأوَّليّ، أي من حيث المبدأ، ذلك أنَّهم يرون أنَّ هذا الأمر، وفي حالات معيَّنة، قد يحرم، لأنَّه قد يحرم من ناحية العنوان الثّانويّ، وهذا ما أجاب به المرجع الكبير الرَّاحل السيّد أبو القاسم الخوئي(قده)، عندما سُئِل عن الضّرب بالسّيف والسّلاسل، فأجاب بأنّه لا يجوز إذا استلزم الهتك والتّوهين، وعندما سُئِل مرّةً ثانيةً: كيف تفسّر الهتك والتّوهين؟ قال: ما يوجب الذلّ والهوان للمذهب في نظر العرف السّائد.
أمّا رأينا في الموضوع، فهو الإفتاء بالحرمة، لأنّنا نرى أنّه يحرم إضرار الإنسان بنفسه، إلا في الحالات الّتي تفرضها الضّرورة؛ ولذلك قلنا بأنّه يحرم ضرب الرّؤوس بالسّيف، أو ضرب الظّهور بالسّلاسل، وحتى اللّطم العنيف الّذي يوجب إضراراً بالإنسان، ولو إضراراً غير خطير، لأنّنا نستفيد من النّصوص الّتي بين أيدينا، حرمة الإضرار بالنّفس، كما أنّنا نجد أنّ السّيرة العقلائيّة تقتضي ذلك، فالنّاس يستنكرون على أيّ إنسانٍ أن يضرّ نفسه إذا لم تكن هناك مسألة أهمّ وأولى بالرّعاية من هذا الإضرار، ومن هنا، فإنّنا نرى أنّ هذا أمرٌ محرّم شرعاً، حتّى لو كان ذلك بعنوان الحزن والمؤاساة. |
|
ولديّ ملاحظة أخرى في هذا المجال، وهي أنّ الّذين يضربون رؤوسهم بالسّيف أو ظهورهم بالسّياط، يقولون: إنّنا نريد أن نواسي الحسين(ع) في جراحاته، أو نواسي زينب(ع) وأخواتها عندما جلدن بالسّياط، فنجلد ظهورنا، ونجرح رؤوسنا... لكنّني أقول: إنَّ المواساة تفرض أن تجرح في الموقع الّذي جرح فيه الحسين(ع)، وأن تجلد في الموقع الّذي جلدت فيه زينب(ع).. فالحسين(ع) جرح وهو يجاهد، ولذلك فالّذين يواسون الحسين(ع)، هم الّذين يجاهدون العدوّ الإسرائيليّ من شباب المقاومة، فهم يجرحون في الموقع الّذي جرح فيه الحسين(ع)، والّذين يواسون السيّدة زينب(ع) هم الّذين يجلدون في سجون العدوّ، لأنّها جلدت وهي في خطّ الثّورة والقضيّة، سواء كانوا من الرّجال أو النّساء..
لهذا، فإنّني أجد أنّ هذه العادات لا بدَّ من إزالتها من ناحية شرعيّة، لأنّها محرّمة بالعنوان الأوّليّ بناءً على رأينا، ومحرّمة بالعنوان الثّانويّ أيضاً، من خلال السلبيّات الكثيرة على مستوى الإنسان، وعلى مستوى صورة الطّائفة الإسلاميّة الشّيعيّة في العالم، ولذلك قلنا: هي نوع من أنواع التخلّف.
س: ثمة قول في السّنوات الأخيرة، بأنّ المقرئ الّذي يتلو السيرة الحسينيّة إذا لم يبك تأثّراً بوقائع هذه السّيرة، فليتباك لكي يؤثّر في النّاس، هل هذا صحيح؟
ـج: القول هو دعوة النَّاس إلى أن يبكوا أو يتباكوا، ولكن التّباكي ليس تمثيلاً، بل إنّه يمثّل الإنسان الّذي يختنق الحزن في صدره، ولكنّه لا يملك أن يعبّر عنه بالدّموع، فالتّباكي إنما ينطلق من الحالة البكائيّة النّفسيّة الّتي لا تتفجّر دمعاً. ولذلك، فإنّ المطلوب هو إثارة التّعبير عن الحزن، فإذا لم يمكن أن يعبّر بدموعه، فيعبِّر عن ذلك بأن يكون في صورة الدّامع.
س: إلى أيّ مدى يستحبّ البكاء عند المستمعين؟
ـج: البكاء عاطفة، ولذلك، لا معنى لأن نقول للإنسان إنّه يستحبّ أن تبكي أو لا تبكي، من الطّبيعي للإنسان عندما يقف أمام المأساة أن يتفاعل معها..
س: نلاحظ أنَّ الاحتفال السّنويّ بذكرى عاشوراء يركِّز فيه الخطباء على المأساة والمعاناة الّتي تعرّض لها أهل البيت(ع)، ويغفلون ناحيةً إيجابيّةً، وهي انتصار الرّسالة الّتي نعيش بظلّها، والدّليل على ذلك، أنّنا استمرّينا مسلمين بفضل انتصار أهل البيت، فلماذا يغفلون دائماً هذه النّاحية الإيجابيّة؟
ـ ج: إنّ تاريخ إثارة مجالس عاشوراء كان تاريخ المأساة، ونحن ندعو دائماً إلى أن ننطلق من القضايا الإيجابيّة، ولو من خلال الانتصار المعنويّ، إذا لم يكن هناك انتصار مادّيّ، لأنّ هذا هو الّذي يمكن أن يحرّك الواقع في خطّ الانتصار.
الفنّ الملتزم ورسالة عاشوراء
س: من جملة ما اقترحتموه، إدخال عاشوراء للمسرح الحديث وإلى العمل الفنّي التمثيليّ، هل من اقتراحاتٍ أخرى؟
ج: ـ أنا أعتبر أنّه من الضَّروريّ استعمال كلّ الوسائل الّتي اكتشفها الإنسان الحديث في تصوير التَّاريخ، أو في تصوير الواقع، إن من خلال التَّمثيل السينمائيّ، أو التَّمثيل المسرحيّ أو غيرهما، لأنَّ هذه الوسائل، ومن خلال اللّفتات الفنيّة، والغنى الفنّيّ، الّذي يمكن أن يحشده كاتب القصَّة، أو مخرجها، أو الأشخاص الّذين يمثّلونها، من الممكن أن تعبِّر عن المعاني الكبيرة الّتي تختزنها عاشوراء، وعن عمق المأساة فيها أكثر مما يعبِّر عنها ألف قارئ، ومن الممكن أن تترك تأثيراتها على كلّ العالم، كما نلاحظ أنَّ فيلم "الرّسالة"، بالرّغم من أنّ هناك من يناقشه، استطاع أن يكون دعوةً للإسلام على مستوى العالم، بما لا يملك الكثير من الدّعاة أن يحصلوا عليه.
لهذا، فنحن نعتبر أنّه إذا أردنا أن نحرّك قضيّة عاشوراء للعالم، فإنَّ علينا أن نقدّمها في إطار مسرحيّ، أو سينمائيّ، أو ما إلى ذلك، من كل ّوسائل التّعبير الحديثة.
وإذا كان بعض النّاس ينتقدون ذلك، بأنّ هذا قد يؤدّي إلى بعض الخروج عن الخطوط الشرعية الإسلاميّة، فإنّنا نقول بأنّه ليس من الضّروريّ أن يكون التّمثيل المسرحيّ أو السينمائيّ بعيداً عن هذه الخطوط، بل يبقى على الضّوابط الشّرعيّة في هذا المجال، من خلال كيفيّة كتابة القصّة، ومفردات الإخراج، وحركة الممثّلين.. |
|
س: إلى أيّ مدى في رأيكم استطاع المسلمون، من خلال الاحتفالات السنويّة بالذّكرى، أن يوصلوا الرّسالة الإسلاميّة من عاشوراء، وأن يأخذوا عبرةً ما من هذه الذّكرى؟
ـ ج: إنَّ بعض التّجارب الجيّدة الّتي عاشتها الذّكرى، استطاعت أن تُلقي بعض الأضواء على هذا الصّعيد، وأن تحرّك الإحساس الإنسانيّ بالرّفض لكلّ النّماذج المعاصرة المماثلة، وهذا ما أشرنا إليه في مسألة الثّورة الإسلاميّة في إيران، لأنّ الشّعب الإيرانيّ هو شعب يعيش الثّورة الحسينيّة منذ القدم، كما أنَّ المقاومة الإسلاميَّة في لبنان تعتبر نتيجةً من نتائجها أيضاً.
* نصّ المقابلة الّتي أجرتها جريدة السّفير اللبنانية مع سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله(رض)،بتاريخ 10 محرم 1417هـ / 27/5/1996م
إحياء عاشوراء
في كلّ سنةٍ نحتفل فيها بذكرى "عاشوراء"، تطرح جملة مواضيع تتمحور بمجملها حول أساليب الاحتفال المتّبعة، ولكنّ ثمة أسئلةً جوهريّةً تطال مبدأ الاحتفال بذكرى تعود إلى مئات السّنين، ومدى إلزاميّته من الناحية الشرعيّة، وكيفية توظيفه إيجاباً في الواقع السياسي والاجتماعي الراهن، وعلامات استفهام أخرى حول مصدر السيرة الحسينيّة ومدى دقّتها، ولا سيما في ظلّ اختلافٍ ـ ولو من حيث التفاصيل ـ في مضمون النّصوص.
وإذا كانت معظم الأساليب الاحتفاليّة قد انطلق من مبادراتٍ شعبيّة، لتكتسب مع الوقت طابعاً لا يجرؤ حتّى العلماء أحياناً على نقضه، فإنّ السيّد محمد حسين فضل الله، الّذي سبق له أن تعرّض لحملةٍ حادّةٍ جرّاء إعلانه رسميّاً حرمة ضرب الرّؤوس بالسّيوف والظّهور بالسّلاسل في السّنة الماضية، فإنّ انتقاداته هذه المرّة لم تقتصر على الأساليب فحسب، بل طاولت نصوص السّيرة الحسينيّة ـ باعتبار أنَّ المجالس الحسينيّة من أبرز وجوه الاحتفال ـ وذلك من خلال رفض كلّ أشكال التحريف أو المبالغة في سرد الوقائع التاريخيّة، داعياً إلى نقد النصوص علميّاً وموضوعيّاً، لإعادتها إلى واقعيّتها قدر الإمكان.
وإذ يشدّد على أهميّة أهداف الذكرى التي تعكسها النّتائج التي تحقّقت حتّى اليوم من خلال قيام الثّورة الإيرانيّة، والمقاومة الإسلاميّة في لبنان، إلا أنّه يدعو إلى عدم استغلالها لإثارة الحساسيّات المذهبيّة.
إنّها جملة أفكارٍ عالجها السيّد فضل الله في حديثه مع "السّفير":
قراءة علميّة لنصّ السّيرة:
س: كلّ سنةٍ في ذكرى عاشوراء، تكون السّيرة الحسينيَّة هي المادَّة الأساسيَّة لإحياء هذه الذّكرى، من أين جاء نصّ السّيرة الحسينيّة؟
ـ لعلَّ من أوثق المصادر الّتي تحدَّثت عن السّيرة الحسينيَّة، ما جاء في تاريخ الطبري، وفي كتاب "اللّهوف في قتلى الطّفوف" للسيّد ابن طاووس، وعندما يدرس الإنسان هذين النصّين، يجد أنّ هناك توازناً معقولاً في عرض الواقعة بحسب ظروفها الطبيعيّة، وبحسب الإمكانات الموجودة في داخلها.
ولكن كون هذه الواقعة انطلقت في بدايتها من عمق الحزن كعنصر إثارةٍ في حركة هذه المأساة في الزَّمن، جعل مسألة الحزن المأساويّ تتَّخذ عنصراً أساسيّاً في وعي الكثير من الأجيال الّتي عاشت هذه الذّكرى في التَّاريخ.
ومن الطّبيعيّ أنَّ الحزن المأساويّ يحتاج إلى الكثير من عناصر الإثارة الّتي يمكن أن تفتح المشاعر والأحاسيس على أكثر من قصّةٍ تجتذب الأنظار، وتدفع بالوجدان إلى أن يتحرّك بشكلٍ مثيرٍ في مواجهة الواقعة. ولذا رأينا أنّ الّذين يثيرون العزاء، بدؤوا يتسابقون ويتنافسون في أساليب الإثارة، ومن الطّبيعيّ أنّ مثل هذا الأمر هيّأ الجوّ لكثيرٍ من حالات الوضع للأحاديث والقصص وما إلى ذلك، وهذا ما أدركه المرحوم السيّد محسن الأمين، فكتب "المجالس السنيّة" كتجربةٍ في هذا المجال، وهذا الكتاب يشتمل على مجالس عاشورائيّة، يقدّمها لقرّاء التعزية من خلال الروايات المعقولة فيما يراها هو، وإن كان البعض يرى أنّ التجربة ليست ناجحةً بشكلٍ دقيق جداً، ولكنّها مثّلت خطوةً إلى الأمام.
وكذلك رأينا أنَّ الشّهيد المطهّري في كتاب "الملحمة الحسينيّة" في محاضراته حول هذا الموضوع، أثار كثيراً من علامات الاستفهام حول كثيرٍ من الرّوايات، ونحن نعتقد أنّ عرض السّيرة الآن أصبح يصطدم بالكثير من القضايا والقصص والأجواء الّتي يمكن أن تثير علامات الاستفهام. |
|
ولعلّ حجّة الكثيرين ممن يرفضون الدّخول في النقد العلميّ الموضوعيّ لمثل هذه القصص أو الأحاديث، أنّ المسألة هي من المسائل التي يراد بها إثارة المأساة، وليست هناك أيّة مشكلة تتّصل بالجانب العقيديّ، أو تتصل بالقضايا السلبيّة في واقع السلوك الإسلاميّ في خطّ القضيّة الحسينيّة، ولا سيّما أنّ هذا قد يستثير الكثير من ردود الفعل الشعبيّة، باعتبار أنّ الكثير من هذه المفاهيم دخلت في عمق الحسّ الشّعبيّ.
ولكنّنا لا نوافق هؤلاء، ونجد أنَّ من الضّروريّ نقد نص السّيرة الحسينيّة، كنقد نصّ السّيرة النبويّة الشّريفة، كنقد أيّ نصّ تاريخيّ، لأنّ التاريخ وإن ابتعد عنّا، فهو قد دخل في وجداننا الثّقافيّ، وإحساسنا الدّينيّ، وحركتنا السياسيّة، وبناءً على ذلك، فعندما نقدّم بعض الصّورة غير الواقعيّة على أنّها تمثّل الشرعيّة، باعتبار أنّها تُنسب إلى الحسين(ع)، الإمام الّذي يُعتبر قوله وفعله يمثّلان الخطّ الشّرعيّ الصّحيح، فإنّ ذلك سوف يدخل حتى في حركتنا الثّوريّة في ما هو شرعيّ وما هو غير شرعيّ.
إنّني أتصوّر أنَّ من الضّروريّ أن ينطلق النَّقد بشكلٍ موضوعيّ علميّ، يمكن أن نحصل من خلاله على سيرةٍ متوازنة، وإذا لم تكن هي الواقع، فلا مانع من أن نحاول أن تكون الأقرب إلى الواقع، مع إبقاء الجوّ المأساويّ في عناصره الداخليّة.
وأعتقد أنّ قرّاء التّعزية، إذا كانوا يملكون أسلوباً أدبيّاً فنيّاً في طريقة التّعبير، وعناصر الإثارة، فإنّهم يستطيعون أن يحرّكوا المأساة في قضيّة الإمام الحسين(ع) من دون الحاجة إلى قصصٍ وحكاياتٍ جديدة. |
|
الوجه الإيجابيّ لإحياء الذّكرى:
س: لعلّ المسألة الأساسيّة الّتي ذكرتها، لها علاقة بمدى تفاعل النّاس مع الذكرى، بمعنى أنّ بعض المسلمين يأخذهم الانفعال والحماس ويتفاعلون معها بشكل حارّ، في حين لا يشعر البعض الآخر بمصداقيّة ما يُروى وما يُسرد، ما يسبّب ردّ فعل سلبيّ نوعاً ما؟..
ـ ج: إنّ الجانب الآخر، وليس من الضّروري أن يكون جانباً مسلماً، بل قد يكون في الاتجاهات الأخرى، قد يلاحظ أنّه ليس هناك أيّ مبرّر لإبقاء هذه الذّكرى بهذا الشّكل الشّعبيّ الدّينيّ لإثارة مأساة التّاريخ، لأنّ أيّ تاريخٍ لا بدَّ من أن يحتوي الكثير من المآسي الخاضعة لظروفها الموضوعيّة، إن في دائرة الصّراع بين خطّين، أو في نطاق حركة الأقوياء ضدّ المستضعفين، ولذلك، فإنَّ مسألة أن نثير المأساة لنحرّكها في الوجدان الشعبيّ، ولتترك تأثيراتها على حياة النّاس، لتجعلهم يعيشون في مثل حالة الطّوارئ البكائيّة أو غير ذلك، هو أمر غير حضاري، أو غير إسلامي، أو ما إلى ذلك!!..
وربما يتحرك المسلمون من الجانب الآخر في هذه المسألة، على أساس أنَّ عاشوراء موجّهة ضدّ فريقٍ يمثّل الخطّ الإسلاميّ السنّيّ في التّاريخ، لأنّ السنّة يحترمون بني أميّة، ولذلك، فإنّ الحديث عن بني أميّة بشكلٍ سلبيّ، قد يترك نتائج سلبيّة على واقع الوحدة الإسلاميّة، أو واقع السّلام الإسلاميّ، والاجتماع الإسلاميّ، إذا صحّ التّعبير. ومن هنا، فإنّ هؤلاء يعتبرون أنّ إثارة عاشوراء في كلّ سنة، هي إثارة للحساسيّات التاريخيّة، التي تقتحم الحساسيّات المذهبيّة الموجودة فيما بين المسلمين، من خلال ما يقدّسه هؤلاء، أو ما يقدّسه أولئك..
لكنّي أحبّ أن أسجّل ملاحظتين على هاتين النّقطتين أو الفكرتين:
الملاحظة الأولى: إنني أتصوّر أنّ مسألة إحياء ذكريات التاريخ ليس أمراً غير إنسانيّ أو غير حضاريّ، فإنّنا نجد العالم كلّه، مع اختلاف اتجاهاته، يحتفل في كلّ سنة بذكرى، قد تتّصل بانتصارٍ وطنيّ، أو قوميّ، لمعركةٍ ترقى إلى مئات السّنين، أو لمأساةٍ من المآسي الّتي قد تكون نتيجة وضعٍ صراعيّ أو سياسيّ معيّن، مما يرقى إلى عشرات أو مئات السّنين أيضاً.
وكذلك، فإنّنا نجد أنَّ الحاضر في كلّ مواقعه، لا يعيش انفصالاً عن التّاريخ، بل نجد أنّ الإنسان الّذي يحاول أن يؤكّد نفسه، وأن يؤصّل مرحلته، ويركّز خطواته في الاتجاه الّذي يريده في تقدّمه وتطوّره، لا يزال يشعر بأنّ هناك في التّاريخ نقاطاً مضيئة، يبقى استحضارها حاجةً لكلّ مرحلةٍ من المراحل الّتي يعيش فيها نوع معيّن من الظّلام، أو أنّ فيها درساً لا يرتبط بمرحلةٍ معيّنة، بل يرتبط بالحياة كلّها، ما يجعله يدرس الماضي والحاضر والمستقبل، وإضافةً إلى ذلك، فقد تستدعي الحاجة نوعاً من أنواع الإثارة الّتي لا يجد الإنسان عناصرها الحيويّة في الحاضر، فيحاول أن يجتذبها من خلال التّاريخ.
وفي المقابل، فإنّ القرآن الكريم عندما يتحدّث عن التّاريخ، فإنّه ينظر إليه بطريقتين:
الطّريقة الأولى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ}[يوسف:111]، باعتبار أنّ دور القصّة التاريخيّة هو دور العبرة الّتي تمثّل الدّرس الذي يمكن أن يأخذه العاقلون في ما يمكن لهم استيحاؤه من التّاريخ لمصلحة الحاضر.
والطّريقة الثانية: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}[البقرة:141]، وهذه الآية تركِّز على أنَّ التّاريخ ليس مسؤوليّة الجيل الحاضر، وإنّما هو مسؤوليّة الّذين صنعوه، ولذلك فعلينا أن لا نفرض التّاريخ على أنفسنا كما لو كنّا نحمل مسؤوليّته، ونحمّل الآخرين مسؤوليّته، فيما هو التّوزيع بين فريقٍ قد يرتبط بجانبٍ من التّاريخ، وفريقٍ يرتبط بجانبٍ آخر، لأنّه لا معنى لأن أحمل مسؤوليّة تاريخٍ لم أصنعه، أو أحمّل الآخرين مسؤوليّة تاريخٍ لم يصنعوه، لأنّ مسألة آبائنا وأجدادنا هي مسألتهم هم، وإنّما القضيّة أنّنا نُسأل عن صنع تاريخنا: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ- من خير أو شر- وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}[البقرة:141]، فلا تشغلوا أنفسكم بالحديث عن مسؤوليّتكم أمام هذا التّاريخ!. |
|
الملاحظة الثّانية: إنّنا نستطيع أن نستوحي من هذا، أنّنا لا نحمّل الشّيعة وزر بعض السلبيّات الّتي عاشت في خلاف السنّة والشّيعة في الماضي، أو نحمّل السنّة الموجودين خلافات ما جرى على الشّيعة سلباً من السّابقين، بل إنّ الشّيعة والسنّة الآن يعيشون عصراً واحداً ومرحلةً واحدة، وتبقى هناك وجهات نظرٍ في فهم الإسلام، أو في حركيّة الإسلام، أو في تقديس هذا، وتقديس ذاك، تبقى هذه وجهات نظر يمكن أن نتحاور حولها، أمّا المعطيات التاريخيّة، فهي ليست مسؤوليّاتنا، ولا يجوز أن نتراشق مع بعضنا البعض على هذا الأساس.
من خلال ذلك كلّه نقول: إنّ قضية الإمام الحسين(ع) هي من القضايا التي تتّصل بأكثر من بُعد؛ فعندما ندرس الحسين(ع)، فإنّنا ندرس الإنسان الّذي يمثّل القيمة الإنسانيّة الرّوحيّة الرائعة الّتي انفتحت على الله كأوسع ما هو الانفتاح، وعاشت عمق الإسلام كأعمق ما يكون العمق، وانطلقت مع النَّاس في انفتاحٍ ومحبَّة، وتحرَّكت في خطِّ القضايا المتَّصلة بالجانب الإسلاميّ في حركيَّته في الواقع، بينما يمثِّل يزيد في صورته التَّاريخيَّة، الإنسان الفاسق، الّذي لا يملك أيَّ التزامٍ في المحرَّمات الشَّرعيَّة، كشرب الخمر، وقتل النفس المحترمة وما إلى ذلك، ولا يملك أيّة قيمةٍ روحيّةٍ أو أخلاقيّةٍ أو إنسانيّةٍ في حكمه، في الوقت الّذي لا يملك أيّة كفاءةٍ، بغضّ النّظر عمّا هو الخلاف في طبيعة الشّرعيّة بين السنّة والشّيعة. |
|
فهناك شخصيّتان: الشّخصيّة المثاليّة، شخصيّة الأريحيّة، وشخصيّة المنفعة، كما يعبّر عباس محمود العقّاد في كتابه "أبو الشّهداء".
ثم نجد أنَّ المسألة تتصل بالواقع الإسلاميّ العام، فهناك نوع من أنواع الانحراف الّذي فرض على هذا الواقع الإسلاميّ، من خلال مجموعة عوامل تبدأ بتلك الفوضى الّتي جاءت نتيجة الصّراعات الداخليّة، وصولاً إلى ابتعاد الواقع الإسلاميّ عن خطّ الخلافة، وتحوّله إلى ملكٍ عضوض، مروراً بانطلاق الكثيرين من الرّواة والمحدّثين ليصنعوا لهذا روايةً في فضل عنوانٍ معيَّن، أو شخصٍ معيَّن، ويصنعون لذاك مثله، الأمر الّذي أدَّى إلى تبدّلٍ في المفاهيم من ناحية التصوّر، رافقه انحرافٌ في السّلوك، ما أدَّى إلى ظهور صورةٍ معيَّنةٍ من صور المجتمع الإسلاميّ آنذاك أثيرت الكثير من التّساؤلات عن مدى انسجامها مع الإسلام، وهو ما نستوحيه من المقارنة بين تلك المرحلة وبين الصّورة المشرقة للإسلام وحكمه.
أمّا المسألة البكائيّة، فإنّها لا تمثّل منطقاً غير حضاريّ، لأنّها تتّصل بالعاطفة الإنسانيّة الّتي تستثيرها المأساة الّتي تصيب حياة إنسانٍ تحبّه أو تعظّمه، ولا سيّما إذا كانت متمثّلةً في المجازر الوحشيّة ضدّ الإنسان والطّفولة، وبشكلٍ يقشعرّ له الوجدان. إنّ اللاحضاريّة تتمثّل في القسوة الشّعوريّة، وفي اللامبالاة والبرودة العاطفيّة أمام المأساة، وإذا لم ينفعل الإنسان بمأساة التّاريخ، فإنه لا ينفعل بمأساة الحاضر، ما يؤدّي إلى سلبيّةٍ في علاقته بالواقع.. ونحن لا نتصوّر أنّ الشّيعة يعيشون في حالة طوارئ بكائيّة، بل إنّهم ينفتحون على الحسين الّذي يحبّونه ويحبّون أهل بيته وأصحابه، انطلاقاً من محبّتهم لما يمثّلونه من معنى الرّسالة، فيتمثّلون فيه الثّورة والعبرة، كما يتمثّلون المأساة الّتي تستدرّ دموعهم في مضمونهم الإنسانيّ المعنويّ، كما قال ذلك الشّاعر:
تبكيك عيني لا لأجل مثوبةٍ لكنّما عيني لأجلك باكيـة
بين مأساة الماضي وصناعة ثورة الحاضر
س: هل العبرة الأساسيّة من الاحتفال بذكرى عاشوراء، هي ربط الحاضر بالتّاريخ؟
ج: إنّ الخطّ السياسيّ في الواقع القياديّ، لخّصه الإمام الحسين(ع) بهذه الكلمات: "أيّها النّاس، إنَّ رسولَ اللَّهِ(ص) قالَ: مَن رأى منكُم سُلطاناً جائِراً، مُستحلاً لحرم الله، ناكثاً بعَهدِه، مُخالِفاً لسنّةِ رسولِ الله، يَعملُ في عبادِه بالإثمِ والعدوانِ، فلم يغِرْ عليهِ بقولٍ ولا بفعلٍ، كان حَقّاً على الله أن يُدخِله مَدخلَه. ألا وإنَّ هؤلاء القومَ قد لَزِموا طاعةَ الشّيطانِ، وتَولّوا عن طاعةِ الرّحمنِ، وأظهرُوا الفسادَ، وعطّلوا الحدودَ، واستأثَروا بالفيء، وأحَلّوا حرامَ اللَّهِ وحَرَّموا حلالَهُ، وأنا أحقُّ من غير"[تاريخ الطّبري، ج3، ص:307].
عندما نجمع كلّ هذه الأمور، نجد أنّ بمستطاعنا أن نستوحي في واقعنا الحاضر، شخصيّة الإمام الحسين(ع)، مقارنةً بشخصيّة يزيد، في كلّ النّماذج التي تلتقي بهاتين الشّخصيّتين في الواقع. كما أنّنا نستطيع أن نقارن بين المجتمع الإسلاميّ في انحرافاته التصوّرية والعمليّة هناك، لنقارنه بمجتمعنا هنا، ثم لننطلق في الخطّ القياديّ الّذي يفكّر فيه المسلمون: كيف يكون القائد في الخطّ الحركيّ ومسألة الثّورة على القائد الظّالم المنحرف؟
وإذا لاحظنا أنّ هذه العناوين الّتي تتّصل بكلّ واقعنا السياسيّ والاجتماعيّ الإسلاميّ، قد امتزجت بدماء أهل البيت(ع)، وفي وضع مأساويّ، يمثّل مأساةً إنسانيّة، ما يجعل الأمر أنّنا لو عرضناها على أيّ جيلٍ من الأجيال، لعاش التأثّر الإنسانيّ، ولامتلأت نفسه بالثّورة على مثل هذه النّماذج.
ونحن دائماً نركّز أنّ علينا أن نستعيد المأساة، وأن نبقي عنصر المأساة بالأساليب العاطفيّة المتّزنة، لأنّ القضيّة عندما تمتزج بالمأساة، فإنّ تأثيرها في النّفس الإنسانيّة يكون أكثر عمقاً، ما يجعل إثارة المأساة في كربلاء تشكّل ثورةً ضدّ كلّ صانعي المأساة في الحاضر. |
|
أمّا المسألة الإسلاميَّة، فإنَّني أعتقد أنَّنا عندما ندخل مع الخطّ الإسلاميّ السنّيّ، فإنّنا لا نعتقد أنَّ قصَّة بني أميَّة تمثِّل أيَّ مقدَّس سنّي، فقد يختلف رأي المسلمين السنَّة في بني أميَّة مقارناً بالرّأي الشّيعيّ، ولكنَّنا نعتقد أنَّ المسألة عندما تبتعد عن قضيَّة الخلافة الّتي تمثّل المقدَّس الإيجابيَّ هنا والسَّلبي هناك، فإنَّ بقيَّة التَّاريخ الإسلاميّ يخضع لأيِّ اجتهادٍ في الحكم عليه إيجاباً أو سلباً، من دون أن يمسّ أيّ مقدّسٍ إسلاميّ، ولذلك فنحن لا نعتبر أنّ يزيد يمثّل قيمةً إسلاميّةً سنيّة، ليُعتبر رفضه ضدّ القيمة.
ومن هنا، فإنّ إثارة الذّكرى لا تمثّل سلبيّةً إسلاميّة، ولا سلبيّة إنسانيّة حضاريّة. نعم، يبقى أنّ بعض الّذين يثيرون عاشوراء، ربّما يخطئون ويتحرّكون بطريقةٍ انفعاليّةٍ قد يثيرون فيها الحساسيّات، وهذا ما نرفضه ونحاربه، ونعمل على إصلاحه ما أمكننا ذلك..
الكذب المرفوض:
س: ورد لسماحتكم عبارة تقول فيها: "نستنزف دموع النَّاس بالكلمة الصَّادقة والكاذبة". في بداية الحديث، نحن بدأنا بهذا الموضوع، وورد في جوابك السّابق ما يوضح العبارة، لكنّ السّؤال من ناحية شرعيّة: هل الكذب في هذا المجال جائز؟
ـ ج: الكذب حرام في كلّ موقعٍ إلا في المواقع الّتي يمثّل الكذب فيها حمايةً للقضايا الكبرى، كما كنت أعبِّر دائماً: عندما يحقّق معي العدوّ ليطلب مني أسرار شعبي، من أسرار سياسيّة أو اقتصاديّة، أو أسرار المقاومة، ويطلب منّي أن أحلف بالله العظيم، فإنّنا نعتبر أنّه يجب الكذب في هذه الحال ويحرم الصّدق، وهكذا إذا كان هناك من يلاحق شخصاً بريئاً مؤمناً أو أشخاصاً أبرياء، وطلب منّي أن أعرّف عن مكانهم الّذي أعرفه، هنا يأتي القول الإسلاميّ المعروف: "احلف بالله كاذباً ونجِّ أخاك من القتل"، ولكن لا يجوز الكذب في تزوير التَّاريخ، حتى لو كان على أساس المأساة هنا، ولا سيّما إذا كان كذباً يستنطق النّماذج المقدّسة في كلامٍ لم تقله. |
|
إحياء الذّكرى بين السَّلب والإيجاب:
س: هل تطوّرت أساليب الاحتفال بعاشوراء منذ سنوات؟
ـ ج: إنّني أعتقد أنَّ هناك جانبين: الجانب الإيجابيّ المتمثّل في أنّ الاحتفال بعاشوراء دخل فيه العنصر الثّقافيّ، حيث يقف العلماء والمفكّرون والمثقّفون ليعالجوا للنّاس قضاياهم من وحي عاشوراء، كما أنّهم يعملون على تحليل القضيّة الحسينيّة للاستفادة منها بشكلٍ أعمق، ولإثارة قضايا الواقع، لتكون مجالس عاشوراء ساحةً من ساحات تحريك الواقع في وعي الناس.
ونحن نعتبر أنّ هذا يمثّل عنصراً إيجابيّاً، لأنّ الاحتفال بعاشوراء يمثّل حركةً تغني الواقع عندما تستثير التّاريخ، وهذا ما لاحظناه في العناصر الّتي انطلقت منها الثّورة الإسلاميّة في إيران، والّتي عبّر عنها الإمام الخمينيّ(قده) وهو يشير إلى العناصر الحيّة في نجاح حركته على المستوى الشّعبيّ، فيقول: "إنّ كلّ ما عندنا هو من عاشوراء". كما أنّنا نعتقد أنّ لعاشوراء دوراً كبيراً في تعبئة الشّباب الّذين ينفتحون على خطّ المقاومة في مواجهة العدوّ.
أمّا الجانب السلبيّ، فيتّصل ببروز العناصر الّتي تمثّل التخلّف، كضرب الرّؤوس بالسّيف، وضرب الظّهور بالسّلاسل، وما إلى ذلك، مما نعتبر أنّه يمثّل عنصراً متخلّفاً في أساليب هذه الذّكرى.
س: هل الاحتفال السّنويّ في عاشوراء يستند إلى نصّ شرعيّ واضح؟
ـ هناك أحاديث عن أئمّة أهل البيت(ع) تشجّع وتدعو إلى إقامة هذه المجالس، ولعلّهم هم الّذين كانوا يقيمونها من أجل إبقاء الذّكرى حيّةً، لإحياء الخطّ الإسلاميّ الأصيل، وهذا ما نلاحظه في بعض الأحاديث الّتي تقول: "أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا"، في إشارةٍ إلى هذه المجالس، ونحن نعلم أنّ أئمّة أهل البيت(ع) ليس لهم أمر خاصّ بعيداً عن الإسلام، بل إنّ أمرهم هو الإسلام كلّه. |
|
س: هل الاستماع إلى المجالس الحسينيّة أو حضورها أمرٌ مستحبّ أم واجب؟
ـ ج: من الطّبيعيّ أنّه ليس واجباً بالمعنى الشّرعيّ للواجب، ولكنّ الحضور مهمّ، إن للتعرّف إلى الكثير من العناوين الإسلاميَّة، أو لتعميقها في نفوس المسلمين، وهو ما يشكِّل استجابةً لبعض الكلمات المأثورة عن الأئمّة(ع)، ومن خلال ذلك، فإنّنا نستطيع القول إنّ الحضور مستحبّ بشكلٍ مؤكّد.
حرمة الإضرار بالنّفس:
س: كما تعلمون، الاجتهاد في تطوّرٍ دائم، هل يمكن أن تضعونا في أجواء الاجتهاد القديم والاجتهاد الحديث؟
ـ ج: إنّنا نتصوّر أنَّ الاجتهاد لم يختلف في القاسم المشترك بين طريقة الاحتفال في الماضي والحاضر، وهو إقامة مجالس العزاء، كما أنَّ الماضي كان يختزن اللَّطم، ولكن بشكلٍ هادئ معبِّرٍ عن الحزن، ولكن ما حدث هو بروز لبعض العادات الشّعبيّة، كضرب الرّؤوس بالسّيف، وضرب الظّهور بالسّلاسل، وهذه العادات لم تنطلق من اجتهادٍ فقهيّ شارك في إنتاجها وتحويلها إلى عادةٍ شعبيّةٍ لدى النّاس، بل إنّ مثل هذه العادات انطلقت من مبادراتٍ فرديّةٍ ما لبثت أن تحوّلت إلى حالةٍ مقدّسةٍ استثارت عاطفة النّاس فقلّدوها، ثم تعاظمت العاطفة، وتجذَّرت العادة، بحيث أصبحت من المقدّسات الّتي قد لا يجرؤ حتّى العلماء على مواجهتها، إلى درجة أصبح الّذين يقفون ضدّ هذه العادات يوصمون بأنّهم ضدّ الحسين وأهل البيت(ع)، وأنّهم يريدون إسقاط هذه الذّكرى وإبعادها عن الوجدان الشّعبيّ، وما إلى ذلك... وقد ثارت الغوغاء ـ وحتّى من بعض العلماء ـ ضدّ سماحة المرجع السيّد محسن الأمين(قده)، عندما حرّم هذه العادات في كتابه "التنـزيه في أعمال التّشبيه" وعانى الكثير، حتى سُبّ وشُتِم ونُظِمت القصائد في هجائه.
لكن قد يقول قائل: إنَّ هناك من المجتهدين الكبار جدّاً ومن المحدثين، قد أفتوا منذ خمسين أو ستّين سنةً بإباحة هذه الشَّعائر، وبأنَّها ليست محرَّمة في ذاتها، إلا إذا أدَّت إلى التّهلكة.
وعن التّساؤل عن أسباب صدور هذه الفتاوى، فإنّه يمكن القول بأنَّ المسألة انطلقت من جدلٍ فقهيّ عنوانه: هل يحرم إضرار الإنسان بنفسه إذا لم يكن الضّرر بالغاً، كأن يجرح الإنسان يده، أو يجرح رأسه، أو ما إلى ذلك، مما لا يشكِّل خطراً على حياته؟ أي هل الضّرر محرَّم في ذاته، في مقابل القول إنَّ المحرّم هو الإضرار الّذي يؤدّي إلى التّهلكة، أو إلى وضعٍ صحّيّ خطير؟
وقد صدر رأيان اجتهاديّان في هذه المسألة:
فهناك من قال بحرمة الإضرار بالنّفس من ناحيةٍ مبدئيّة، إلا في الحالات الّتي تكون هناك مصلحة أهمّ، كما في تعريض الإنسان نفسه للضَّرر في الأسفار، أو في سهر اللَّيالي، حتَّى يحصل على ربحٍ مادّيٍ أو معنويّ، حيث هناك ميزان بين المفسدة في الضّرر وبين المصلحة، وهذا أمرٌ إنسانيّ يفيد بأنّه إذا كانت المصلحة أقوى من المفسدة، فإنَّها تجمّد المفسدة، وشرعيّاً، نضع هذا الأمر في "باب التّزاحم"، أي أنّه إذا تزاحم حكم تحريميّ ما مع حكمٍ وجوبيّ أو جائز، وكانت المصلحة هنا أقوى من المفسدة هناك، فإنّها تجمّد حكم التّحريم. وعلى هذا الأساس، فهؤلاء يقولون إنّه يحرم على الإنسان أن يجرح نفسه، حتّى في التّعبير عن التّأسّي أو المحبّة، وغير ذلك.
وهناك رأي اجتهاديّ آخر يتبنّاه الكثيرون من العلماء، وهو أنّه لا يحرم على الإنسان أن يضرّ نفسه إذا لم يصل الضّرر إلى حالةٍ صحيّةٍ سلبيّةٍ كبيرة، أو إلى التّهلكة، وعلى ضوء ذلك، أفتى هؤلاء العلماء بأنّ ضرب الرّأس بالسّيف حزناً أو مواساةً ليس محرّماً في ذاته، وإنما يحرم إذا كان الضّرر مؤدّياً إلى التّهلكة.
وهناك تحفُّظاتٌ لدى بعض العلماء الَّذين يقولون بالإباحة من حيث العنوان الأوَّليّ، أي من حيث المبدأ، ذلك أنَّهم يرون أنَّ هذا الأمر، وفي حالات معيَّنة، قد يحرم، لأنَّه قد يحرم من ناحية العنوان الثّانويّ، وهذا ما أجاب به المرجع الكبير الرَّاحل السيّد أبو القاسم الخوئي(قده)، عندما سُئِل عن الضّرب بالسّيف والسّلاسل، فأجاب بأنّه لا يجوز إذا استلزم الهتك والتّوهين، وعندما سُئِل مرّةً ثانيةً: كيف تفسّر الهتك والتّوهين؟ قال: ما يوجب الذلّ والهوان للمذهب في نظر العرف السّائد.
أمّا رأينا في الموضوع، فهو الإفتاء بالحرمة، لأنّنا نرى أنّه يحرم إضرار الإنسان بنفسه، إلا في الحالات الّتي تفرضها الضّرورة؛ ولذلك قلنا بأنّه يحرم ضرب الرّؤوس بالسّيف، أو ضرب الظّهور بالسّلاسل، وحتى اللّطم العنيف الّذي يوجب إضراراً بالإنسان، ولو إضراراً غير خطير، لأنّنا نستفيد من النّصوص الّتي بين أيدينا، حرمة الإضرار بالنّفس، كما أنّنا نجد أنّ السّيرة العقلائيّة تقتضي ذلك، فالنّاس يستنكرون على أيّ إنسانٍ أن يضرّ نفسه إذا لم تكن هناك مسألة أهمّ وأولى بالرّعاية من هذا الإضرار، ومن هنا، فإنّنا نرى أنّ هذا أمرٌ محرّم شرعاً، حتّى لو كان ذلك بعنوان الحزن والمؤاساة. |
|
ولديّ ملاحظة أخرى في هذا المجال، وهي أنّ الّذين يضربون رؤوسهم بالسّيف أو ظهورهم بالسّياط، يقولون: إنّنا نريد أن نواسي الحسين(ع) في جراحاته، أو نواسي زينب(ع) وأخواتها عندما جلدن بالسّياط، فنجلد ظهورنا، ونجرح رؤوسنا... لكنّني أقول: إنَّ المواساة تفرض أن تجرح في الموقع الّذي جرح فيه الحسين(ع)، وأن تجلد في الموقع الّذي جلدت فيه زينب(ع).. فالحسين(ع) جرح وهو يجاهد، ولذلك فالّذين يواسون الحسين(ع)، هم الّذين يجاهدون العدوّ الإسرائيليّ من شباب المقاومة، فهم يجرحون في الموقع الّذي جرح فيه الحسين(ع)، والّذين يواسون السيّدة زينب(ع) هم الّذين يجلدون في سجون العدوّ، لأنّها جلدت وهي في خطّ الثّورة والقضيّة، سواء كانوا من الرّجال أو النّساء..
لهذا، فإنّني أجد أنّ هذه العادات لا بدَّ من إزالتها من ناحية شرعيّة، لأنّها محرّمة بالعنوان الأوّليّ بناءً على رأينا، ومحرّمة بالعنوان الثّانويّ أيضاً، من خلال السلبيّات الكثيرة على مستوى الإنسان، وعلى مستوى صورة الطّائفة الإسلاميّة الشّيعيّة في العالم، ولذلك قلنا: هي نوع من أنواع التخلّف.
س: ثمة قول في السّنوات الأخيرة، بأنّ المقرئ الّذي يتلو السيرة الحسينيّة إذا لم يبك تأثّراً بوقائع هذه السّيرة، فليتباك لكي يؤثّر في النّاس، هل هذا صحيح؟
ـج: القول هو دعوة النَّاس إلى أن يبكوا أو يتباكوا، ولكن التّباكي ليس تمثيلاً، بل إنّه يمثّل الإنسان الّذي يختنق الحزن في صدره، ولكنّه لا يملك أن يعبّر عنه بالدّموع، فالتّباكي إنما ينطلق من الحالة البكائيّة النّفسيّة الّتي لا تتفجّر دمعاً. ولذلك، فإنّ المطلوب هو إثارة التّعبير عن الحزن، فإذا لم يمكن أن يعبّر بدموعه، فيعبِّر عن ذلك بأن يكون في صورة الدّامع.
س: إلى أيّ مدى يستحبّ البكاء عند المستمعين؟
ـج: البكاء عاطفة، ولذلك، لا معنى لأن نقول للإنسان إنّه يستحبّ أن تبكي أو لا تبكي، من الطّبيعي للإنسان عندما يقف أمام المأساة أن يتفاعل معها..
س: نلاحظ أنَّ الاحتفال السّنويّ بذكرى عاشوراء يركِّز فيه الخطباء على المأساة والمعاناة الّتي تعرّض لها أهل البيت(ع)، ويغفلون ناحيةً إيجابيّةً، وهي انتصار الرّسالة الّتي نعيش بظلّها، والدّليل على ذلك، أنّنا استمرّينا مسلمين بفضل انتصار أهل البيت، فلماذا يغفلون دائماً هذه النّاحية الإيجابيّة؟
ـ ج: إنّ تاريخ إثارة مجالس عاشوراء كان تاريخ المأساة، ونحن ندعو دائماً إلى أن ننطلق من القضايا الإيجابيّة، ولو من خلال الانتصار المعنويّ، إذا لم يكن هناك انتصار مادّيّ، لأنّ هذا هو الّذي يمكن أن يحرّك الواقع في خطّ الانتصار.
الفنّ الملتزم ورسالة عاشوراء
س: من جملة ما اقترحتموه، إدخال عاشوراء للمسرح الحديث وإلى العمل الفنّي التمثيليّ، هل من اقتراحاتٍ أخرى؟
ج: ـ أنا أعتبر أنّه من الضَّروريّ استعمال كلّ الوسائل الّتي اكتشفها الإنسان الحديث في تصوير التَّاريخ، أو في تصوير الواقع، إن من خلال التَّمثيل السينمائيّ، أو التَّمثيل المسرحيّ أو غيرهما، لأنَّ هذه الوسائل، ومن خلال اللّفتات الفنيّة، والغنى الفنّيّ، الّذي يمكن أن يحشده كاتب القصَّة، أو مخرجها، أو الأشخاص الّذين يمثّلونها، من الممكن أن تعبِّر عن المعاني الكبيرة الّتي تختزنها عاشوراء، وعن عمق المأساة فيها أكثر مما يعبِّر عنها ألف قارئ، ومن الممكن أن تترك تأثيراتها على كلّ العالم، كما نلاحظ أنَّ فيلم "الرّسالة"، بالرّغم من أنّ هناك من يناقشه، استطاع أن يكون دعوةً للإسلام على مستوى العالم، بما لا يملك الكثير من الدّعاة أن يحصلوا عليه.
لهذا، فنحن نعتبر أنّه إذا أردنا أن نحرّك قضيّة عاشوراء للعالم، فإنَّ علينا أن نقدّمها في إطار مسرحيّ، أو سينمائيّ، أو ما إلى ذلك، من كل ّوسائل التّعبير الحديثة.
وإذا كان بعض النّاس ينتقدون ذلك، بأنّ هذا قد يؤدّي إلى بعض الخروج عن الخطوط الشرعية الإسلاميّة، فإنّنا نقول بأنّه ليس من الضّروريّ أن يكون التّمثيل المسرحيّ أو السينمائيّ بعيداً عن هذه الخطوط، بل يبقى على الضّوابط الشّرعيّة في هذا المجال، من خلال كيفيّة كتابة القصّة، ومفردات الإخراج، وحركة الممثّلين.. |
|
س: إلى أيّ مدى في رأيكم استطاع المسلمون، من خلال الاحتفالات السنويّة بالذّكرى، أن يوصلوا الرّسالة الإسلاميّة من عاشوراء، وأن يأخذوا عبرةً ما من هذه الذّكرى؟
ـ ج: إنَّ بعض التّجارب الجيّدة الّتي عاشتها الذّكرى، استطاعت أن تُلقي بعض الأضواء على هذا الصّعيد، وأن تحرّك الإحساس الإنسانيّ بالرّفض لكلّ النّماذج المعاصرة المماثلة، وهذا ما أشرنا إليه في مسألة الثّورة الإسلاميّة في إيران، لأنّ الشّعب الإيرانيّ هو شعب يعيش الثّورة الحسينيّة منذ القدم، كما أنَّ المقاومة الإسلاميَّة في لبنان تعتبر نتيجةً من نتائجها أيضاً.
* نصّ المقابلة الّتي أجرتها جريدة السّفير اللبنانية مع سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله(رض)،بتاريخ 10 محرم 1417هـ / 27/5/1996م