في سياق متابعتها لمجريات الأحداث، والسّعي للاطّلاع على تفاصيلها وتحليلاتها، أجرت مجلّة التصدّي مقابلةً مع سماحة المرجع السيِّد محمد حسين فضل الله، تناولت مواضيع متنوّعة، منها ما يتعلّق بلبنان، ومنها ما يتعلّق بفلسطين، وبمصطلحات الإرهاب والجهاد، وغيرها من المواضيع... وهذا نصّ الحوار...
سمتان للشّعب اللّبنانيّ
ـ إنَّ المتتبِّع لموقفكم ورأيكم من خلال الخطب والتَّصريحات، والأقوال والأحاديث، ولقاءات الصّحافة، والنَّدوات والمحاضرات، يستنتج بما لا يقبل الشَّكّ، أنَّ لكم تفرّداً وخصوصيَّةً في تحليلكم طبيعة الصِّراع في لبنان وعلاقاته وأبعاده.
هل لنا التوسّع في الحديث حول هذا الإشكال اللّبنانيّ الكبير، وتبيان بعض التّفاصيل الأساسيَّة، وإضاءة زواياها؟
ـ لعلّ من أبرز سمات الشَّعب اللّبناني سمتين: الأولى؛ أنه يختزن الحالة الطائفيّة فيما الدّين هو الواجهة. والثّانية؛ أنه شعب تاجر. ومن خلال هاتين السّمتين، يمكننا أن ندرس حالات الصّراع السّياسيّ في المستوى الفوقي، إذا صحَّ التعبير، من مواقع السّياسة اللبنانيّة، ومدى تأثيرها في تحتيات الواقع اللبناني، فنحن نعتبر أنَّ الشَّعب اللّبنانيّ لم يُهيَّأ سياسياً ليكون متديّناً، بل هُيِّئَ ليكون طائفيّاً.
والفرق بين الدّين والطائفيَّة، هو أنَّك في الدِّين تحرّك فكرك وضميرك وحياتك، لأنَّ هناك خطّاً يحمل مفردات تتَّصل بك وبالآخرين، بينما الطّائفيَّة هي حالة عشائريَّة عصبيَّة، تتَّخذ من الدِّين واجهةً بمجموعة بشريَّة معيَّنة، لا تتحرَّك من خلال خطّ، ولكنّها تتحرك من خلال تاريخ فقد معناه في الحاضر.
وفي هذا الإطار، تنطلق اللّعبة الطائفيّة وهي تحمل قداسة التاريخ في إثارة حساسيّات الأفراد، من دون أن تحرّك مضمون الدّين في إثارة مبادئه على الأرض.. وبذلك يتحرّك الإنسان البسيط على أساس ما تتَّسم به الطائفيَّة من تحريكٍ لمشاكل معقَّدة تاريخيَّة وحاضرة، ومن ملامسةٍ لمشاعر الزّهو أمام هذا الفريق أو ذاك، تماماً كما يحدث في العشيرة الَّتي تريد أن تثير أكثر من حالة للزّهو وللقوّة الاستعراضيّة أمام العشيرة الأخرى.
في هذا المجال، تنطلق القوى السياسيّة الطائفيّة لتستغلّ هذه العناصر المختزنة في داخل الحسّ الطّائفيّ الّذي يختلط في مفهوم الإنسان السَّاذج بالحسّ الدّينيّ، وتعمل على توظيفه في أكثر من خطّة سياسيّة ذاتيّة أو إقليميّة أو دوليّة أو ما إلى ذلك، تبعاً للارتباطات التي تفكّر فيها.
ومن خلال ذلك، لا تعود المسألة السّياسيَّة هنا متَّصلةً بطبيعة موقعها من حركة السَّاحة في ما هو الحاضر والمستقبل على مستوى قضايا المصير العام للأمَّة، بل تتحرّك من خلال ما هو الرّبح والخسارة لهذه الجماعة الخاصَّة الّتي تسمّى طائفة معيَّنة.. عند ذلك، تكون المبادئ في خدمة الطائفة، ولا تكون الطّائفة في خدمة المبادئ.. وتكون القضايا العامّة في خدمة القضايا الخاصّة للطّائفة، بدلاً من العكس.
أمّا سمة التاجر، فهي أصيلة في واقع الشَّعب اللبنانيّ، الّذي تميّز من بين شعوب المنطقة بأنّه الشّعب الذي ينتشر في كلِّ أنحاء العالم منذ القرن التاسع عشر، ليطلب الرّزق.. الشّعب الّذي لا يجمد على حالة اقتصاديّة معيّنة، ولا تحاصره الحالات الاقتصاديّة، بل يحاول أن يتفاعل في أيّ مكانٍ يستطيع أن يجد فيه موطئ قدم أو فرصة عمل.
من المفارقات في لبنان، أنَّ الزّعماء الذين كانوا إقطاعيّين أو شبه إقطاعيّين، تحوَّلوا إلى رؤساء أحزاب
هذه الرّوح التجاريّة تعمّقت في نفسية الشعب اللبناني، وأصبحت في رواسبه اللاشعوريّة، بحيث أصبحت تحرّك كثيراً من أوضاعه، وتنعكس على أفكاره وتوجّهاته السياسيّة. فالشعب اللّبناني تحرك وتربّى في الساحة السياسيّة على أساس أن تكون السّياسة إحدى وسائل التجارة، فالناس يرتبطون مثلاً بالمرشَّح أو النائب أو الوزير، على أساس أنه يكفل لهذا وظيفة ولذاك وظيفة.
إنّ آخر ما كان يفكّر فيه النَّاس هو الجانب السّياسيّ المتَّصل بطبيعة البرامج والأهداف السياسيّة الّتي يحملها هذا الحزب أو ذاك التيّار، ولهذا لاحظنا أنَّ الأحزاب في لبنان مثلاً، لا تتحرّك من خلال ارتباط الناس بالمبادئ، بل من خلال الارتباط بالأشخاص الَّذين يكفلون لهم ذلك.. ولعلَّ من المفارقات، أنَّ الزّعماء الذين كانوا إقطاعيّين أو شبه إقطاعيّين، تحوَّلوا إلى رؤساء أحزاب، وبات من المفروض أن يكون ولد الزّعيم هو رئيس الحزب بعد أبيه، حتى لو كانت هناك في الحزب أعلى الكفاءات وأقدمها في مجال التّجربة.
لبنان مركز الخدمات
ـ كيف تحدِّدون موقع لبنان من خارطة المنطقة؟ ما هي خياراته في قسوة التّجاذبات الّتي تعصف به بين القوى المحليَّة والإقليميَّة والعالميَّة؟
ـ في أيام السّلطنة العثمانيّة، كان لبنان البلد الوحيد في المنطقة الّذي تستطيع أوروبا من خلاله أن تدخل إلى المنطقة، بحجّة حماية الأقليّات المسيحيّة.. أما بعد ذلك، فإنَّ لبنان يتميّز بإنسانه الّذي يستطيع أن يقدِّم الخدمات لأيِّ فريق، نتيجة انفتاحه المبكر على الغرب قبل أيِّ بلد آخر.. وهذا ما جعل الكثيرين من اللّبنانيّين يتميَّزون بإمكانات وخبرات يستطيعون من خلالها أن يقدِّموا خدمات سياسيّة وخدمات مخابراتيّة وخدمات تجاريّة للغرب، وبالتّالي، فإنَّ هذا التنوّع الموجود في لبنان، يجعله يطلّ على المنطقة من خلال الطّبيعة الشّرقيّة الموجودة فيه، ويطلّ على الغرب من خلال المواقع الغربيّة الموجودة فيه، ما جعله بلداً مميّزاً، وجعل التنوّع الّذي لا تتغلّب فيه جهة على أخرى، مركزاً من مراكز التجاذب الذي تستطيع كلّ الفئات فيه أن تحصل على مواقع متوازنة، من دون أن تخاف تغلّب موقع على آخر.
ولهذا، استطاع لبنان أن يكون مركز المخابرات والملهى والفندق والمصرف والسياحة... يعني أنّ لبنان هو الخدمات، سواء كانت سياسيّة أو مخابراتيّة أو ثقافيّة (جامعيّة)، أو غيرها...
هذا التنوّع المتوازن، وهذا الجوّ، سمحا بحريَّة الحركة أمام أيّ فريق إقليميّ أو دوليّ للاستفادة من هذا الحقل المتنوّع في هذا البلد أكثر من أيّ بلد آخر...
العلاقة بين الإسلام والعروبة
ـ العروبة والإسلام؛ هل لنا أن نجادل فيهما بالّتي هي أحسن؟ ما هي التّوافقات؟ ما هي التّقاطعات؟ ما هي الافتراقات، وبخاصّة أنَّ أمامنا أفكاراً وتصوّرات في القوميّة العربيّة، ولدينا حقيقة واقعة هي الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة؟
ـ عندما نريد أن نتحدَّث في هذا الموضوع بعيداً من الخصوصيَّة، فينبغي أن نطرح عنواناً طالما يُثار في السَّاحة، وهو: ما موقع العروبة من الإسلام؟ وما موقع الإسلام من العروبة؟
عندما نريد أن نثير هذه المسألة بطريقة نحدِّد فيها المصطلحات، علينا أن نحدّد مصطلح العروبة ومصطلح الإسلام. ربما يحدّد البعض العروبة بالحالة الروحيّة والنفسيّة والثقافيّة والجغرافيّة واللغويّة الّتي تجمع شعباً معيّناً على ثوابت معيَّنة، يمكن أن تهيِّئ وحدة شعوريّة وثقافيّة في أكثر من جانب، بعيداً من أيِّ خطاب تنظيميّ، أو من أيّ تحديد لخطوط معيّنة تفصيليّة، وربما يراد من الإسلام أنّه هو الدّين الّذي يتحرك في مفهومه على الطّريقة الغربيّة، بأنّه عبادة أو علاقة بين الخالق والمخلوق، ومجرّد أحكام عباديّة ومبادئ أخلاقيّة مما يمكن أن تتَّسع لأيِّ حالة، ويمكن أن تلتقي مع أيِّ تخطيط ومع أيّ فكر.
ولكنَّ الإسلام دين يختزن الحياة كلَّها في داخله، إذ إنَّه ينطلق من الجانب الرّوحيّ والفكريّ والسياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ، من خلال تشريعاتٍ عامَّةٍ وخاصَّة، ومن خلال تجربةٍ طويلةٍ عاشت أكثر من ألف سنة، بقطع النَّظر عن تقويم التَّجربة.
وعندما نريد أن نتحدَّث عن العروبة بالمعنى الأوَّل، فلا نجد هناك أيَّ مشكلة بينها وبين الإسلام بهذا المعنى، لأنَّ العروبة هي بهذا المعنى العاطفيّ الشّعوريّ الثّقافيّ، والإسلام أيضاً هو هذا المعنى الروحيّ المطلق..
ليست هناك فوارق بين العروبة والإسلام، فحتّى العروبة بمفهومها الأوَّل، لا تختلف كلّياً ولا جزئيّاً عن الإسلام بالمعنى الّذي نطرحه كمضمونٍ فكريّ وتشريعيّ، والخلاف هنا يحصل فقط في بعض الحالات، لأنَّ العروبة كحالة ثقافيّة وشعوريّة وتاريخيّة وجغرافيّة لا يتنكّر لها الإسلام، وهي لا تتنكّر له كفكرٍ وتاريخٍ وتشريعٍ وما إلى ذلك، بل ربما أنّها كما اتّحدت معه في السّابق، تستطيع أن تتَّحد معه الآن، ولا نجد أيّ مشكلة بين العروبة التي لا يحدّدها إطار فكريّ تشريعيّ سياسيّ، وبين الإسلام في كِلا معنييه؛ المعنى الخاطئ الّذي لا نرتضيه، والمعنى الذي نتبنَّاه.
لقد أكَّد الإسلام اختلاف الشّعوب: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}[1]؛ أكَّد أنَّ هناك شعوباً لها خصائص ذاتيَّة معيَّنة، وربما نجد أكثر من هذا، أنَّ العروبة تتميّز بأنها هي الّتي نشأ الإسلام في أحضانها، وكان نبيّ الإسلام عربيّاً، كما أنَّ القرآن باللّغة العربيّة، وأغلب الثقافة الإسلاميّة باللّغة العربية. الإسلام عرّب كثيراً من الثّقافات؛ عرّب كثيراً من الناس غير العرب في فكرهم.. الإنسان المسلم لا يستطيع أن يبتعد عن العروبة بمعناها الواسع، لأنَّ العروبة تقتحم عليه فكره وصلاته وقرآنه وشعاراته أيضاً.
ما نريد أن نتوقَّف عنده، هو العروبة بالمعنى السّياسيّ؛ العروبة كإطار سياسيّ معيَّن، فيما تحركت به التّيارات الفكريّة الأخيرة، باعتبار القوميَّة إطاراً، في مقابل بقيَّة الأطر الأخرى. في هذا المجال، قد نجد هناك علامات استفهام تُثار في السَّاحة، عندما كنّا نتحدّث عن العروبة كقوميّة عربيّة، وكحركة فكريّة سياسيّة، هنا من الطبيعي أنّ القوميّة العربيّة عندما نشأت، نشأت عنصريّة، على الطّريقة الهتلريّة أو غيرها، في أوائل عهود نشوئها، أي أنّها نشأت بفكرة أنّ العرب فوق الجميع وما إلى ذلك، وهذه طبعاً تجاوزتها الحركة القوميّة العربيَّة، وأصبحت تحمل البعد الإنسانيّ بدلاً من البعد العنصريّ؛ القوميّة الّتي تنفتح على الآخرين، وتتفاعل معهم، وتعيش معهم.
في هذا المجال، علينا أن نقول، إذا كانت القوميّة العربيّة إطاراً تهتمّ بالبشر لتوحّدهم، على أساس أنَّ الآخرين يوحّدون شعوبهم، وعلينا أن نوحِّد شعوبنا، فقد لا تكون هناك أيّ مشكلة في هذه الدّائرة، ليست عندنا مشكلة أن تحبّ قومك، كما ورد في بعض كلمات أهل البيت(ع)، الإمام زين العابدين، الّذي قال: "العصبية الّتي يأثم عليها صاحبها، أن يرى الرّجل شرار قومه خيراً من خيار قومٍ آخرين، وليس من العصبيَّة أن يحبَّ الرّجل قومه، ولكن أن يعين الرّجل قومه على الظلم"[2].
إنّ الكلمة الّتي تقول إنّ وطني على حقّ دائماً ليست مقبولة، لأنّ علينا أن ننصر العدل دائماً...
ليست المشكلة أن تحبَّ قومك وأن ترعى أمورهم، في الوقت الّذي يرعى الآخرون قومهم. أمّا عندما يتغلّب الجانب القوميّ على الجانب المبدئيّ الفكريّ، فهنا تبتعد القوميّة عن الإنسانيّة.
ولهذا، فإنّ الكلمة التي تقول إنّ وطني على حقّ دائماً، أو إنّ العرب إذا قاتلوا غير العرب، فينبغي أن ننصر العرب على أيِّ حال، أو إنَّ الفرس إذا قاتلوا غير الفرس، فينبغي أن ننصر الفرس، هذا ليس مقبولاً، لأنّ علينا أن ننصر العدل دائماً، وعندما تنصر العدل حتى على حسابك، فسوف يكون ذلك لحسابك في المستقبل. في هذا المجال أقول إذا كانت القوميّة تهدف كإطار إلى توحيد العرب في دولة، فما هو فكر هذه الدّولة؟ ما هو قانونها؟ ما هي شريعتها؟ هل إنَّك تعطي هذا الإطار فكراً من خلال الفكر الماركسي، كما نجد أنّ بعض حركات القوميّة العربيّة تبنّت الفكر الماركسيّ، أو أنّك تتبنّى الليبراليَّة أيضاً، أو أنّك تتبنّى شيئاً مختلطاً، كما لاحظناه في القوميّة الناصريّة، حيث يُقال إنَّ هناك اشتراكيَّة عربيّة؟!
نحن نعرف أن لا معنى لأن تكون هناك اشتراكيّة عربيّة، لكن من قبيل أشياء نجمعها، من الليبراليّة نأخذ شيئاً ومن الاشتراكيّة نأخذ شيئاً، هذ المزيج ربما يتمظهر مشوّهاً، لأنه لا تحكمه قاعدة. عندما تريد أن تأخذ أنت القوميّة العربيّة هنا، وتتبنى الماركسيَّة، فمن الطّبيعيّ أن يقف الإسلام ضدّ القوميّة العربيّة، من خلال أنّه يقف ضدَّ الماركسيّة. عندما تتَّخذ أنت اللّيبراليّة، والإسلام قد يختلف مع الليبراليَّة في بعض الحالات، فسيقف ضدَّ القوميّة العربيَّة، من خلال وقوفه ضدَّ هذا الفكر.
الإسلام شريعة الحياة
ـ بعد الحديث عن التاريخ والتغيّر، كيف نستطيع تلمّس باب الاجتهاد في الإسلام أمام سرعة التطوّر في الحياة المعاصرة؟ هذا يحيلني إلى سؤالٍ آخر، حول طبيعة نظام الحكم في الإسلام. وكما نعرف، فقد طرح الأستاذ علي عبد الرّازق هذه المشكلة في كتابه "الإسلام وأصول الحكم"، فأثار عاصفةً من النّقد والتّشكيك.
بالنِّسبة إلى الأستاذ علي عبد الرّازق، فإنّه أحد رموز حالة ثقافيَّة معيَّنة في الوسط الإسلامي فيما يسمَّى بعصر النَّهضة، تحاول أن توفّق بين الإسلام والحضارة الغربية، وهذه الحالة ربما كانت ناشئة عن الانسحاق الثّقافي أمام الحالة الغربيَّة. لا نريد أن نناقش القضيّة فقط من هذا الإطار، لكنّنا نقول خلفيّاتها، ولهذا كانت المرحلة؛ مرحلة ما يسمّى بعصر النّهضة، مرحلة هيمنة الأسلوب التّوفيقي بين الإسلام والحضارة الغربيّة، وهذا ما تبنَّاه محمد عبده وتلميذه في البدايات رشيد رضا، أو مرحلة فهم بعض الجوانب في الإسلام بطريقةٍ لا تسيء إلى الموقف من الحضارة الغربيّة، كما لاحظناه في موقف قاسم أمين من المرأة ومسألة تحرّرها، ومسألة السّفور والحجاب، أو بالنِّسبة إلى نظريّة الإسلام وأصول الحكم للأستاذ علي عبد الرّازق، الّذي يعتبر أنَّ الإسلام ليس فيه نظريّة حكم، وأنَّ تجربة الحكم الّتي انطلقت في الإسلام لم تنطلق من نظريّة سياسيّة حدَّدها الإسلام، وإنّما انطلقت بفعل التطوّر الطّبيعيّ للمجتمع الإسلاميّ في ذلك الوقت، يعني على الطّريقة العشائريّة: "منكم أمير ومنّا أمير"، حكم الإمارة، حكم العشيرة، حكم المجموعة، فلم تكن المسألة مستمدّة من الحالة التشريعيّة للحكم، وإنما كانت مستمدّة من حالة واقعية تاريخيّة.
هنا في هذا المجال، هل نستطيع أن نتصوَّر عدلاً بدون حكم أو خطّ سياسيّ؟ إنَّ الله أرسل الرّسل والكتب والأنبياء حتى لا يترك فراغاً، وليقوم النّاس بالقسط.. الآيات تقول: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[3] الكافرون والظّالمون...{يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ}[4]...
الجانب الثّاني هو عندما ندرس الإسلام على أنَّه شريعة كاملة، لا شريعة المجتهدين. المجتهدون اعتمدوا على نصوص من الكتاب والسنَّة، وعلى القواعد العامَّة الّتي تركها الكتاب والسنَّة، لطريقة استلهام الأحكام الشرعيَّة.
عندما يكون عندك دين يأتي بنظام كامل، بتشريع كامل، وفيه قانون كامل، فيه جوانب تشريع اقتصاد الجماعة، فيه حرب، فيه سلم، فيه علاقات، تحالف، مهادنات...كيف يمكن أن تطبّق ذلك بدون حكم؟ كيف نتصوّر قانوناً تفصيليّاً دون أن يكون هناك حكم يركّزه، حكم يعلن الحرب، يعلن السّلم، حكم يطبّق الجوانب الجزائيّة والحدود، ينظّم العلاقات والواقع، يحفظ النّظام، كيف يمكن بناء هذا دون حكم؟
لهذا، فإنَّ القول إنّه لم يكن هناك حكم على أساس الإسلام، تنفيه الدّراسة المعمّقة للكثير من النّصوص في القرآن وفي السنّة، الّتي تعطينا الدَّليل على أنَّ الإسلام حمل رؤيةً حول الحكم. وقد اتّصف النبيّ بصفتين: صفة الدّاعية النبيّ، وصفة الحاكم؛ صفة الدّاعية: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً}[5]، {إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ}[6]، {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ}[7].
ثمّ إنَّنا نلاحظ الجانب التّاريخيّ، فنجد أنَّ المسلمين لو لم يكن لديهم رؤية حول الحكم، لما حدَّدوا الطّريقة الّتي ينبغي أن يتمّ فيها تأسيسه ليكون منسجماً مع الشّرعيّة الإسلاميّة، يعني أنَّ النبيّ دعا إلى البيعة، ما حاجته إلى البيعة إذا كان الدّخول في الإسلام مجرّد إيمان بحالة فكرية؟ القضيّة هي: لماذا يدعو النّبيّ المسلمين أن يبايعوه؟
عملية البيعة هي عملية التزام بالقيادة، وليست عملية التزام فكري فقط، فعندما تريد أن تؤمن بفكري، فلماذا تريد أن تبايعني؟ ليس هناك حاجة لأن تبايعني كخطّ فكريّ فقط، لكن متى أحتاج إلى البيعة؟ البيعة التزام بالحكم؛ التزام بالقيادة، التزام بالطاعة، {أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}[8].
بين الجهاد والإرهاب!
ـ كيف يحدِّد الإرهاب؟ ومتى يكون؟ ومن المسؤول عن العنف؛ المجاهدون والمستضعفون، أم المتجبّرون؟ ما مفهوم الحريّة والعدالة، الجهاد والعنف الثّوريّ؟
ـ إنّ قضيَّة أنَّ التحدّي يجعلك تستنفر طاقاتك، ومن خلال استنفار الطّاقات يمكن لك أن تولّد الإبداع، ويمكن لك أن تكتشف الجانب المتعفِّن في هذه الطاقات فتغيّره، هذا صحيح، ولكن عندما ننزل إلى الواقع، فإنّنا نواجه المسألة من خلال المقولة التي تتحرّك فيها الأجهزة الإعلاميّة التي تنطلق، كما نعلم، من أجهزة مخابراتيّة، ولذلك نعتقد أنّ دراستنا لهذه الإثارة الإعلاميّة، تجعلنا نتوقّف أمام عدّة مفردات؛ المفردة الأولى هي أنّ هناك قدراً كبيراً من الكذب وتشويه الحقيقة، بحيث إنّ الإعلام يصنع الخبر بالطّريقة التي تثير النّاس، وتشوّه الصّورة، ونحن نعرف الآن أنّ الإعلام ليست مهمّته كشف الحقيقة، ولكن صناعة حقائق سياسيّة على حساب حقائق أخرى.
هناك مفردات لتشويه الواقع، فمن يقرأ عن إيران في الصّحف الغربيَّة، أو يقرأ عن لبنان الإسلامي الأصولي كذا، ويعرف الواقع في إيران أو هنا، يشعر بأنّه يقرأ شيئاً آخر لا يدري أين هو، لأنّه وهم. لا أقول إنّه بعيد عن الواقع مئة في المئة، ولكن على الأقل هو بعيد عن الواقع بنسبة سبعين في المئة. إذاً، مسألة الكذب في الفكرة وفي الصورة وفي الجوّ والأسلوب، هذه ليست مجال بحثنا، لأنها لا تمثّل شيئاً واقعيّاً وحقيقيّاً.
إنّنا نتحدَّث عن الأفكار الّتي أثارها الإعلام الغربي في مسألة الإرهاب، لندرس من أين انطلقت مفردات هذا الإعلام؟! انطلقت مفردات هذا الإعلام من خلال العمليّات التي قام بها المجاهدون في مواجهة القوّات المتعدّدة الجنسيّة "المارينز والمظلّيّين الفرنسيّين"، فيما قام به المجاهدون في الجنوب ضدّ إسرائيل بطريقة العمليات الاستشهادية أو غيرها، وفيما قام به الفلسطينيّون أيضاً في هذا المجال، وفيما قامت به بعض الجهات؛ كالّذي قامت به منظّمة الجهاد الإسلامي من عمليّة الخطف، خطف الأجانب، خطف الطّائرات، عمليّات التفجير التي حدثت في أوروبّا من قبل فئات محسوبة على التيّار الفلسطيني أو التيّار الإسلامي أو العربي بشكلٍ خاصّ.
من خلال هذا، انطلقت فكرة الإرهاب، لكن عندما نريد أن ندرس هذه الأمور بعقل بارد، فهناك طريقتان لدراستها، ربما تدرسها وأنت مستغرق في الجانب الذاتي. إنك إن استغرقت في الجانب الذاتي، ستجد حالةً مأساويّةً تستثير في نفسك كلّ المشاعر الإنسانيّة؛ ستجد هذا الجنديّ الإسرائيليّ الّذي يبلغ الثامنة عشرة من العمر، أو تجد هؤلاء الجنود الصّباح الوجوه كذا، أو هؤلاء الشّباب من المارينز الذين جاؤوا وهم شباب يحملون أحلام الحياة كذا، أو هؤلاء المخطوفين من الصحفيّين، ومن الأطبّاء وما إلى ذلك...!!
عندما تريد أن تستغرق في الحالة الذاتية، فإنّك لا تملك إلا أن تعتبر أنَّ هؤلاء الذين قاموا بهذه الأمور إرهابيّون في العمق وفي الواقع، ولا يعيشون أيَّ حالة من حالات الإنسانيّة. وهناك حالة ثانية، وهي أن تضع هذه الأمور في دائرة الوضع السّياسيّ العام، وفي دائرة الضّغوط الصّعبة السّاحقة التي ينطلق بها الوضع السياسيّ الدّوليّ، سواء كان أوروبيّاً أو أمريكياً أو صهيونياً، وحالة التّشريد الّتي عاشها الشّعب الفلسطيني، وحالة التمزّق التي عاشها الشعب اللّبناني، وحالة الوضع الاقتصادي، سواء في نهب الثّروات الطبيعيّة التي تختزنها المنطقة، أو في منع عمليّات التصنيع، والاكتفاء الذّاتي لحساب أمريكا وأوروبّا وما إلى ذلك، والتحرك الإسرائيليّ الّذي يقصف أيّ بلد من البلدان العربيّة أو الإسلاميّة، دون أن يحدث أيّ ردّ فعل.
هذا الجوّ عندما تستجمعه، وتضع إلى جانبه القدرات الّتي تملكها شعوب المنطقة، سواء الشّعب الفلسطيني أو اللّبنانيّ، أو أيّ شعبّ عربيّ، أو حتى القوميّون الّذين يعيشون التحدّي وردّ التحدّي أمام القضايا المصيرية، تدرك أنّهم لا يملكون أيّ إمكانات حقيقيّة على مستوى السّلاح، لا دولاً ولا شعوباً، ولا يملكون أيَّ إمكانات حقيقيّة ضاغطة على مستوى الواقع السياسي بشكلٍ كبيرٍ جدّاً. عندما تدرس هذه الحالة وتدرس الإمكانات، ستجد أنَّ شعوب المنطقة محصورة في زاوية، ونحن نعرف أنَّ الإنسان عندما يحشر في زاوية لا يملك مجالاً لحرية الحركة فيها، فإنّه ينطح الجدار برأسه، حتى ولو تكسَّر رأسه، من أجل أن يفتح ثغرة.
عندما ندرس القضيَّة في هذه الزّاوية، عند ذلك، لا تعود المسألة الإنسانيّة مسألة أشخاص؛ تعود مسألة شعب ومسألة أمّة، ولا تعود المسألة عند ذلك مسألة العمل الأمنيّ أو العسكريّ، أو مسألة حالة أو دائرة محدودة، إنَّ المسألة عند ذلك، تكون عمليَّة حرب بطريقة أخرى. لقد دمَّر الحلفاء ألمانيا على أساس الحرب، ولا زالوا يقولون بأنّ الحرب تعطي لأيِّ تحرك شرعيّة معيّنة، حتى الأسلحة المحرّمة يعتبرونها محلّلة بطريقة أو بأخرى، فلماذا لا نفكِّر في أنَّ الحرب إنما تعطي شرعيّة لك لأن تقتل بريئاً، وأن تدمّر بيتاً، أو تدمِّر موقعاً عسكريّاً تضطرُّ إليه في مقام الدِّفاع، لماذا لا نعتبر أنَّ الحرب يمكن أن تعطيك شرعيّة أن تفعل مثل ذلك في حال الاضطرار؟
إذا كانت أهداف الحرب، كما في مثل حرب الحلفاء، تعطي لكلِّ ما يُستخدَم فيها شرعيّة أخلاقيّةً، فلماذا لا تمنح الأهداف الكبيرة للشّعوب الّتي تسعى للتحرّر، الشّرعيّة الأخلاقيّة للتصرّفات التي قد تقوم بها ضدّ مصالح دول معيّنة، أو شعوب دول معيّنة؟ نحن نقول من النّاحية الذاتيّة إنّ الشّعوب لا دخل لها في سياسة حكّامها، ولكن ربما تقف الشّعوب في دائرة تشعر فيها بالحصار من كلّ جانب، فتضطرّ إلى أن تعطي العمل اللاأخلاقيّ معنىً أخلاقيّاً.
إننا نريد أن نقول إنّ ما يحدث في المنطقة هو داخلٌ في مسألة حركة الحريّة لدى شعوب المنطقة.
هناك فرق بين أن تكون مجاهداً ينطلق من أجل قضيَّة، وأن تكون إرهابيّاً تنطلق من أجل حالة ذاتيّة
هل إنّ هذه التفاصيل قد تفيد وقد لا تفيد؟ هذه أمور تفصيلية جزئية، لكن نحن نريد أن نفرّق بين حركة الحريّة وحركة الإرهاب، إنّنا نفهم أنَّ حركة الإرهاب تنطلق من العمل الذي يؤدّي إلى قتل الأبرياء نتيجة دوافع شخصيَّة، ونتيجة حالات خاصَّة، أمّا الأعمال التي قد تؤدّي إلى قتل الأبرياء أو إثارة المأساة في حياتهم، انطلاقاً من خطّة تكون فيها القضيّة جزءاً من الخطّة، فهذا أمر يعترف به العالم كلّه.
هناك فرق بين أن تكون مجاهداً ينطلق من أجل قضيَّة، وأن تكون إرهابيّاً تنطلق من أجل حالة ذاتيّة.
فلسطين قضيَّة ضائعة!
ـ فلسطين قضيَّة العرب الأولى، ما هو السّبيل لتصبح قضيّة الإسلام؟
ـ إن تطوّر القضيّة الفلسطينيَّة جعلها قضيّة ضائعة، وبذلك تحوَّل الفلسطينيّون إلى شعب ضائع، وبدأت القضيّة الفلسطينيّة تستنفد كلّ شعاراتها، حتى وصلت إلى الدّائرة التي تبحث فيها عن موقع قدمٍ كيفما كان، في هذا الواقع الّذي استهلكت فيه الشعارات الإقليميّة والعربيَّة والتحرريّة، ووقفت الدّول جميعاً أمام جدار العدوّ الإسرائيلي، واعترفت بأجمعها بواقعيّة جدار العدوّ الإسرائيليّ، وأنه لا بدَّ من أن يبقى، وأن فكرة إزالته تطرّف ومثاليّة وخيال، وأنَّ علينا أن لا نتحدَّث عن حدود ما قبل 67، وأن لا نتحدَّث عن الحقوق المشروعة للشَّعب الفلسطيني، لكي لا يخرب أيّ معادلة إقليميّة أو دوليّة، وأن نشغله بمشاكل ومشاكل طويلة تجعله يأكل نفسه، وبالتّالي يأكل قضيّته.
يسعى الجميع بطريقةٍ وبأخرى لسدّ ثغرة الجنوب اللّبناني حتّى لا يفكّر أحد في إرباك أمن العدوّ الإسرائيلي
في هذا الجوّ، أصبحت الأرض مزروعةً بالألغام على كلّ المستويات، وأصبحت فلسطين محاصرةً من جميع الجهات، لا يسمح بالنّفاذ إليها إلا من هذه الثّغرة؛ ثغرة الجنوب الّتي يتعامل الجميع بطريقةٍ وبأخرى في سبيل أن يسدّوها ليغلقوا باب الأمل في أن يفكّر أحد بأن يربك أمن العدوّ الإسرائيلي في الدّاخل. في هذا الواقع، أصبحت المسألة صعبة جدّاً.
ربما نحتاج إلى أن نفسح المجال للفكرة الإسلاميّة لأن تتحرَّك في السّاحة؛ أن يفكّر النّاس المسلمون إسلاميّاً على أساس أنَّ الإسلام يعني لهم شيئاً في السياسة وفي الاقتصاد وفي الواقع.. وعلى أساس أنَّ مسألة حريّة الإنسان المسلم، وحريّة الأرض المسلمة، هي قضيَّة تتحرّك في عمق الجانب العباديّ من شخصيّة الإنسان، تماماً كما هي الصَّلاة والصَّوم، أن تتحرّك القضيَّة الفلسطينيَّة في مقاتلة العدوّ الإسرائيليّ، وإزالة وجوده من المنطقة كحكمٍ شرعيّ، تماماً كما تقول إنّه لا يجوز لك أن تغصب أرض إنسانٍ أو ماله، لا يجوز لك أن تغصب بلد شعب، أن تقول للنّاس إنَّ اليهود حتى لو تحوّلوا إلى مسلمين سنقول لهم ارجعوا إلى بلادكم، وأرجعوا الأرض إلى أهلها، لأنّ المسألة ليست مسألة أنكم يهود، حتى المسلمون لو غصبوا أرض ناس مسلمين، نقول إنّ عليكم أن تعيدوها إلى أهلها.
نحن نعرف أنَّ التيّار الإسلاميّ محاصر أيضاً، لأنّه يُخاف منه أن يخرّب المعادلات، لا أقصد التيَّار الإسلامي الذي يعيش في بلاطات الملوك والأمراء، والَّذي يحاول أن يستنزف الأموال الّتي يعطونه إيّاها، ويبرّر سياساتهم وما إلى ذلك؛ بل التيّار الإسلاميّ الّذي يعتبر قضيَّة الحرية كما هي الصّلاة والصّوم؛ التيار الإسلامي الذي يقول فيه الله سبحانه وتعالى: {وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}[9]، ويعلّق عليه الإمام جعفر الصّادق(ع) بقول: "إنّ الله عزَّ وجلَّ فوَّض إلى المؤمن أموره كلّها، ولم يفوّض إليه أن يُذلّ نفسه"[10]، التيار الذي يقول: "لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً"[11]، التيار الذي يقول للحاكمين: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحراراً!". هذا التيّار الحاسم في المسألة السياسيّة في قضيّة الحريّة، هذا التيار يحاصَر من كلّ جانب، من خلال إطلاق مصطلحات التطرّف والتعصّب والتزمّت والإرهاب والتخلّف، وما إلى ذلك، عليه، وهم يفهمون أنه ليس كذلك، ولكنهم يخافون أن يقترب من الخطوط الحمر المزروعة إقليمياً ودولياً، ولهذا فإنهم يحاصرونه كما يحاصرون القضية الفلسطينية التي تريد أن تتَّجه إلى الحسم في المسألة الفلسطينيّة.
من الطّبيعيّ جداً أنَّ هذا الواقع يشكّل صعوبات ومشاكل من الناحية الثقافية، ومن الناحية الواقعية، ومن الناحية الأمنية والعسكرية. ربما كانت المنطقة الجنوبيَّة في لبنان تملك الآن معطيات وحركات لمواجهة إسرائيل ولإرباكها، ولكنّنا نعرف أنَّ هناك أكثر من لعبة سياسيَّة تحاول أن تنطلق لتمنع أيّ مقاوم من أن يقاوم، ولو بطريقة الإخلاص للمقاومة، وحماية المقاومة، وحماية أمن الناس، وما إلى ذلك.
هذا إلى جانب أنَّ البلاد الإسلاميَّة بشكل عام، واقعة تحت تأثير الاستعمار الذي يحاول أن يثقّف البلاد الإسلاميّة بثقافة سياسة الأمر الواقع، والسّياسة الميكيافيليّة في القضايا وما إلى ذلك.
إنَّ هذا يخلق صعوبة كبيرة جدّاً، ولكنَّه لا يخلق استحالة. نحن نجد أنَّ هناك في داخل فلسطين أكثر من موقع من مواقع التحرك الإسلامي الواعي في هذا الاتجاه، ونجد في العالم الإسلامي يقظة إسلاميَّة، ونشعر بأنّ على الإسلاميّين في مواجهتهم لمسألة الصهيونية والاستعمار، أن يقوموا بعملية تكامل وتحالف مع الآخرين الّذين يخلصون لقضية الحرية.
إننا نفكّر أنَّ اليهود وصلوا إلى هذا الواقع في خلال مئة سنة أو أكثر، فلنخطّط لمئة سنة، وفي الوقت نفسه، نحن نعتقد أنّ اليهود يفكّرون في تخطيطهم السياسي في حجم المنطقة كلّها، وفي حجم العالم.
وعندما نستطيع أن نثقّف المسلمين والمستضعفين من غير المسلمين بهذه الطريقة الحاسمة في قضية الحريّة، نعتقد أنّ الحرية يمكن أن تنتظرنا في وقت لا يكون بعيداً كثيراً.
منظَّمة التَّحرير.. وياسر عرفات
ـ منظمة التّحرير الفلسطينيّة، أوضاعها، قياداتها، كيف ترى حالة ياسر عرفات؟
ـ مشكلة القيادة الفلسطينيَّة، أنها انطلقت من موقع الثقافة السّياسيّة للمدرسة العربيّة التي ربّتها الجامعات الأميركيّة والأوروبيّة؛ سياسة أن تبتعد عن كلّ تاريخك فيما تستلهمه من هذا التّاريخ، فتأخذ من التّاريخ فقط جوانب الإثارة، وتأخذ من الّذين استعبدوك كيف يمكن أن تتحرّك على أيديهم، ومن الطبيعي أنهم لن يعطوك شيئاً يخدم قضيّة الحريّة، بل إنّهم يعطونك كما أعطونا، مجرّد مرسومٍ بالاستقلال، ولكنَّهم حاصرونا من جميع الجهات، وفي كلّ المجالات.
إنني أعتقد أنَّ هذا الرّجل انطلق من سياسة المعادلات، فكّر أن لا يرهن قراره لأحد، لكنّه وقع تحت تأثير الصيغة المشتركة بين الجميع، ولهذا فقد أصبح ينتقل من حضن إلى حضن، ومن موقع إلى موقع. مشكلته أن الشعب الفلسطيني أعطاه الكثير من تأييده، ولكنه لا يعرف كيف يحرك طاقات الشعب الفلسطيني نحو قضيّة الحريّة من أوسع الأبواب، مشكلته أنّه احترم المعادلات الإقليميّة والدوليّة أكثر مما احترم قضيّته واحترم شعبه.
إنّ الثائرين لا يبحثون عن الخطوط الحمر، ولكنّهم يعتبرون الساحة لهم، وبعيداً عن كلّ خطّ أحمر أو أخضر. هناك فرق بين أن تكون ثائراً وأن تكون صاحب دولة؛ إنّ صاحب الدولة يتعامل بالوسائل الدبلوماسيَّة، ولكن صاحب الثّورة لا يفهم بالوسائل الدبلوماسيّة. مشكلته أنه عاش هذه الفترة الطويلة وهو يتحرّك في دائرة الخلافات العربيّة، بعيداً من قضيّة فلسطين.
لقد كان مع الكثيرين معه، يقولون إنَّ طريق فلسطين تنطلق من هنا وهناك.. ولكن الطريق الوحيد الّذي لم يقولوا إنّه طريق فلسطين، هو طريق فلسطين الحقيقي؛ طريق البندقية المقاتلة التي تحرق الأرض حتى تستطيع أن تحررها.
تسويات وشبهات!
ـ من زيارة السادات إلى القدس، إلى زيارة رئيس وزراء العدو إلى المغرب، ولقائه الملك الحسن الثاني، كيف تقيّمون ذلك من جانبكم وتفسّرونه؟ وما هو انعكاسه على المنطقة، في مدار شبهات التسوية والصَّفقات الاستسلاميّة المنفردة مع العدوّ؟
ـ إنني أعتقد أنَّ مسألة العلاقات مع العدوّ الإسرائيلي، أصبحت مسألة محسومة في مجمل السّاحة العربيّة، لا أقول في كلّها.. لذلك كانت المسألة وما تزال هي مسألة الإخراج، ومسألة احتواء مشاعر الشّعب العربيّ، حتى لا يعود يفكّر في القضيّة الفلسطينيّة، وحتى يشعر بأنَّ القضيّة الفلسطينيّة هي عبء عليه يجب أن يتخلَّص منه، وليست قضيّة يجب أن يجاهد في سبيلها.
ولعلَّ حرب المخيّمات، والحروب الّتي تتحرّك في السّاحة الفلسطينيّة العربيّة، هي أحد مظاهر ذلك؛ أن تخلق عقدةً في نفس الشّعب ضدّ الفلسطينيّين، وبالتّالي، من الطبيعيّ أن تكون هناك عقدة ضدّ القضيّة الفلسطينيَّة، لأنّ القضيّة الفلسطينيّة بدون فلسطينيّين، تبقى شيئاً لا يحمل أيَّ أساس..
إنَّ مسألة العلاقات مع العدوّ الإسرائيلي أصبحت مسألة محسومة في مجمل السَّاحة العربيّة، وما تزال المسألة هي مسألة الإخراج
إنني أعتقد أنّ عرب أميركا بشكل عامّ، لا يزالون يتحركون في سبيل إخضاع المنطقة للسياسة الأميركيّة، والصّمت على كلّ سلبيّات السياسة الأميركيّة ضدّ العرب، ولهذا فإن السياسة الأميركيّة قد تحرجهم، ولكن هذا الإحراج لا يثير في أنفسهم روح التحدّي، بل يثير في أنفسهم روح البحث عن كيفيّة التّخفيف من هذا الإحراج لدى شعوبهم بخدمة السياسة الأميركيّة أكثر.
ولهذا، فإنّ المسألة هي مسألة إعطاء الحلّ السلميّ على جرعات. ربما كانت قضيّة السادات جرعة أولى مثّلت حالة صدمة، ثم استهلكت، نتيجة أنها لم تحقّق شيئاً خارج سيناء، وأريد لهذا الحدث الجديد أن يكون جرعةً أخرى تربك الواقع، ليتحفَّظ البعض، وليؤيّد البعض، وليصرخ البعض، وقد تعوَّدنا أن الصراخ والتحفظ يمكن أن يقود الجميع إلى الحلّ.
المسألة هي مسألة أنّ المخرجين قد يختلفون في طريقة الإخراج، ولكن القصَّة واحدة..
[مقابلة مع مجلة "التصدي": 7 آب 1986م، العدد الأوّل]
[1] [الحجرات: 13].
[2] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج 15، ص 373.
[3] [المائدة: 47].
[4] [ص: 26].
[5] [الإسراء: 105].
[6] [الغاشية: 21، 22].
[7] [الكهف: 29].
[8] [النساء: 59].
[9] [المنافقون: 8].
[10] الكافي، الشيخ الكليني، ج 5، ص 63.
[11] نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 3، ص 51.
في سياق متابعتها لمجريات الأحداث، والسّعي للاطّلاع على تفاصيلها وتحليلاتها، أجرت مجلّة التصدّي مقابلةً مع سماحة المرجع السيِّد محمد حسين فضل الله، تناولت مواضيع متنوّعة، منها ما يتعلّق بلبنان، ومنها ما يتعلّق بفلسطين، وبمصطلحات الإرهاب والجهاد، وغيرها من المواضيع... وهذا نصّ الحوار...
سمتان للشّعب اللّبنانيّ
ـ إنَّ المتتبِّع لموقفكم ورأيكم من خلال الخطب والتَّصريحات، والأقوال والأحاديث، ولقاءات الصّحافة، والنَّدوات والمحاضرات، يستنتج بما لا يقبل الشَّكّ، أنَّ لكم تفرّداً وخصوصيَّةً في تحليلكم طبيعة الصِّراع في لبنان وعلاقاته وأبعاده.
هل لنا التوسّع في الحديث حول هذا الإشكال اللّبنانيّ الكبير، وتبيان بعض التّفاصيل الأساسيَّة، وإضاءة زواياها؟
ـ لعلّ من أبرز سمات الشَّعب اللّبناني سمتين: الأولى؛ أنه يختزن الحالة الطائفيّة فيما الدّين هو الواجهة. والثّانية؛ أنه شعب تاجر. ومن خلال هاتين السّمتين، يمكننا أن ندرس حالات الصّراع السّياسيّ في المستوى الفوقي، إذا صحَّ التعبير، من مواقع السّياسة اللبنانيّة، ومدى تأثيرها في تحتيات الواقع اللبناني، فنحن نعتبر أنَّ الشَّعب اللّبنانيّ لم يُهيَّأ سياسياً ليكون متديّناً، بل هُيِّئَ ليكون طائفيّاً.
والفرق بين الدّين والطائفيَّة، هو أنَّك في الدِّين تحرّك فكرك وضميرك وحياتك، لأنَّ هناك خطّاً يحمل مفردات تتَّصل بك وبالآخرين، بينما الطّائفيَّة هي حالة عشائريَّة عصبيَّة، تتَّخذ من الدِّين واجهةً بمجموعة بشريَّة معيَّنة، لا تتحرَّك من خلال خطّ، ولكنّها تتحرك من خلال تاريخ فقد معناه في الحاضر.
وفي هذا الإطار، تنطلق اللّعبة الطائفيّة وهي تحمل قداسة التاريخ في إثارة حساسيّات الأفراد، من دون أن تحرّك مضمون الدّين في إثارة مبادئه على الأرض.. وبذلك يتحرّك الإنسان البسيط على أساس ما تتَّسم به الطائفيَّة من تحريكٍ لمشاكل معقَّدة تاريخيَّة وحاضرة، ومن ملامسةٍ لمشاعر الزّهو أمام هذا الفريق أو ذاك، تماماً كما يحدث في العشيرة الَّتي تريد أن تثير أكثر من حالة للزّهو وللقوّة الاستعراضيّة أمام العشيرة الأخرى.
في هذا المجال، تنطلق القوى السياسيّة الطائفيّة لتستغلّ هذه العناصر المختزنة في داخل الحسّ الطّائفيّ الّذي يختلط في مفهوم الإنسان السَّاذج بالحسّ الدّينيّ، وتعمل على توظيفه في أكثر من خطّة سياسيّة ذاتيّة أو إقليميّة أو دوليّة أو ما إلى ذلك، تبعاً للارتباطات التي تفكّر فيها.
ومن خلال ذلك، لا تعود المسألة السّياسيَّة هنا متَّصلةً بطبيعة موقعها من حركة السَّاحة في ما هو الحاضر والمستقبل على مستوى قضايا المصير العام للأمَّة، بل تتحرّك من خلال ما هو الرّبح والخسارة لهذه الجماعة الخاصَّة الّتي تسمّى طائفة معيَّنة.. عند ذلك، تكون المبادئ في خدمة الطائفة، ولا تكون الطّائفة في خدمة المبادئ.. وتكون القضايا العامّة في خدمة القضايا الخاصّة للطّائفة، بدلاً من العكس.
أمّا سمة التاجر، فهي أصيلة في واقع الشَّعب اللبنانيّ، الّذي تميّز من بين شعوب المنطقة بأنّه الشّعب الذي ينتشر في كلِّ أنحاء العالم منذ القرن التاسع عشر، ليطلب الرّزق.. الشّعب الّذي لا يجمد على حالة اقتصاديّة معيّنة، ولا تحاصره الحالات الاقتصاديّة، بل يحاول أن يتفاعل في أيّ مكانٍ يستطيع أن يجد فيه موطئ قدم أو فرصة عمل.
من المفارقات في لبنان، أنَّ الزّعماء الذين كانوا إقطاعيّين أو شبه إقطاعيّين، تحوَّلوا إلى رؤساء أحزاب
هذه الرّوح التجاريّة تعمّقت في نفسية الشعب اللبناني، وأصبحت في رواسبه اللاشعوريّة، بحيث أصبحت تحرّك كثيراً من أوضاعه، وتنعكس على أفكاره وتوجّهاته السياسيّة. فالشعب اللّبناني تحرك وتربّى في الساحة السياسيّة على أساس أن تكون السّياسة إحدى وسائل التجارة، فالناس يرتبطون مثلاً بالمرشَّح أو النائب أو الوزير، على أساس أنه يكفل لهذا وظيفة ولذاك وظيفة.
إنّ آخر ما كان يفكّر فيه النَّاس هو الجانب السّياسيّ المتَّصل بطبيعة البرامج والأهداف السياسيّة الّتي يحملها هذا الحزب أو ذاك التيّار، ولهذا لاحظنا أنَّ الأحزاب في لبنان مثلاً، لا تتحرّك من خلال ارتباط الناس بالمبادئ، بل من خلال الارتباط بالأشخاص الَّذين يكفلون لهم ذلك.. ولعلَّ من المفارقات، أنَّ الزّعماء الذين كانوا إقطاعيّين أو شبه إقطاعيّين، تحوَّلوا إلى رؤساء أحزاب، وبات من المفروض أن يكون ولد الزّعيم هو رئيس الحزب بعد أبيه، حتى لو كانت هناك في الحزب أعلى الكفاءات وأقدمها في مجال التّجربة.
لبنان مركز الخدمات
ـ كيف تحدِّدون موقع لبنان من خارطة المنطقة؟ ما هي خياراته في قسوة التّجاذبات الّتي تعصف به بين القوى المحليَّة والإقليميَّة والعالميَّة؟
ـ في أيام السّلطنة العثمانيّة، كان لبنان البلد الوحيد في المنطقة الّذي تستطيع أوروبا من خلاله أن تدخل إلى المنطقة، بحجّة حماية الأقليّات المسيحيّة.. أما بعد ذلك، فإنَّ لبنان يتميّز بإنسانه الّذي يستطيع أن يقدِّم الخدمات لأيِّ فريق، نتيجة انفتاحه المبكر على الغرب قبل أيِّ بلد آخر.. وهذا ما جعل الكثيرين من اللّبنانيّين يتميَّزون بإمكانات وخبرات يستطيعون من خلالها أن يقدِّموا خدمات سياسيّة وخدمات مخابراتيّة وخدمات تجاريّة للغرب، وبالتّالي، فإنَّ هذا التنوّع الموجود في لبنان، يجعله يطلّ على المنطقة من خلال الطّبيعة الشّرقيّة الموجودة فيه، ويطلّ على الغرب من خلال المواقع الغربيّة الموجودة فيه، ما جعله بلداً مميّزاً، وجعل التنوّع الّذي لا تتغلّب فيه جهة على أخرى، مركزاً من مراكز التجاذب الذي تستطيع كلّ الفئات فيه أن تحصل على مواقع متوازنة، من دون أن تخاف تغلّب موقع على آخر.
ولهذا، استطاع لبنان أن يكون مركز المخابرات والملهى والفندق والمصرف والسياحة... يعني أنّ لبنان هو الخدمات، سواء كانت سياسيّة أو مخابراتيّة أو ثقافيّة (جامعيّة)، أو غيرها...
هذا التنوّع المتوازن، وهذا الجوّ، سمحا بحريَّة الحركة أمام أيّ فريق إقليميّ أو دوليّ للاستفادة من هذا الحقل المتنوّع في هذا البلد أكثر من أيّ بلد آخر...
العلاقة بين الإسلام والعروبة
ـ العروبة والإسلام؛ هل لنا أن نجادل فيهما بالّتي هي أحسن؟ ما هي التّوافقات؟ ما هي التّقاطعات؟ ما هي الافتراقات، وبخاصّة أنَّ أمامنا أفكاراً وتصوّرات في القوميّة العربيّة، ولدينا حقيقة واقعة هي الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة؟
ـ عندما نريد أن نتحدَّث في هذا الموضوع بعيداً من الخصوصيَّة، فينبغي أن نطرح عنواناً طالما يُثار في السَّاحة، وهو: ما موقع العروبة من الإسلام؟ وما موقع الإسلام من العروبة؟
عندما نريد أن نثير هذه المسألة بطريقة نحدِّد فيها المصطلحات، علينا أن نحدّد مصطلح العروبة ومصطلح الإسلام. ربما يحدّد البعض العروبة بالحالة الروحيّة والنفسيّة والثقافيّة والجغرافيّة واللغويّة الّتي تجمع شعباً معيّناً على ثوابت معيَّنة، يمكن أن تهيِّئ وحدة شعوريّة وثقافيّة في أكثر من جانب، بعيداً من أيِّ خطاب تنظيميّ، أو من أيّ تحديد لخطوط معيّنة تفصيليّة، وربما يراد من الإسلام أنّه هو الدّين الّذي يتحرك في مفهومه على الطّريقة الغربيّة، بأنّه عبادة أو علاقة بين الخالق والمخلوق، ومجرّد أحكام عباديّة ومبادئ أخلاقيّة مما يمكن أن تتَّسع لأيِّ حالة، ويمكن أن تلتقي مع أيِّ تخطيط ومع أيّ فكر.
ولكنَّ الإسلام دين يختزن الحياة كلَّها في داخله، إذ إنَّه ينطلق من الجانب الرّوحيّ والفكريّ والسياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ، من خلال تشريعاتٍ عامَّةٍ وخاصَّة، ومن خلال تجربةٍ طويلةٍ عاشت أكثر من ألف سنة، بقطع النَّظر عن تقويم التَّجربة.
وعندما نريد أن نتحدَّث عن العروبة بالمعنى الأوَّل، فلا نجد هناك أيَّ مشكلة بينها وبين الإسلام بهذا المعنى، لأنَّ العروبة هي بهذا المعنى العاطفيّ الشّعوريّ الثّقافيّ، والإسلام أيضاً هو هذا المعنى الروحيّ المطلق..
ليست هناك فوارق بين العروبة والإسلام، فحتّى العروبة بمفهومها الأوَّل، لا تختلف كلّياً ولا جزئيّاً عن الإسلام بالمعنى الّذي نطرحه كمضمونٍ فكريّ وتشريعيّ، والخلاف هنا يحصل فقط في بعض الحالات، لأنَّ العروبة كحالة ثقافيّة وشعوريّة وتاريخيّة وجغرافيّة لا يتنكّر لها الإسلام، وهي لا تتنكّر له كفكرٍ وتاريخٍ وتشريعٍ وما إلى ذلك، بل ربما أنّها كما اتّحدت معه في السّابق، تستطيع أن تتَّحد معه الآن، ولا نجد أيّ مشكلة بين العروبة التي لا يحدّدها إطار فكريّ تشريعيّ سياسيّ، وبين الإسلام في كِلا معنييه؛ المعنى الخاطئ الّذي لا نرتضيه، والمعنى الذي نتبنَّاه.
لقد أكَّد الإسلام اختلاف الشّعوب: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}[1]؛ أكَّد أنَّ هناك شعوباً لها خصائص ذاتيَّة معيَّنة، وربما نجد أكثر من هذا، أنَّ العروبة تتميّز بأنها هي الّتي نشأ الإسلام في أحضانها، وكان نبيّ الإسلام عربيّاً، كما أنَّ القرآن باللّغة العربيّة، وأغلب الثقافة الإسلاميّة باللّغة العربية. الإسلام عرّب كثيراً من الثّقافات؛ عرّب كثيراً من الناس غير العرب في فكرهم.. الإنسان المسلم لا يستطيع أن يبتعد عن العروبة بمعناها الواسع، لأنَّ العروبة تقتحم عليه فكره وصلاته وقرآنه وشعاراته أيضاً.
ما نريد أن نتوقَّف عنده، هو العروبة بالمعنى السّياسيّ؛ العروبة كإطار سياسيّ معيَّن، فيما تحركت به التّيارات الفكريّة الأخيرة، باعتبار القوميَّة إطاراً، في مقابل بقيَّة الأطر الأخرى. في هذا المجال، قد نجد هناك علامات استفهام تُثار في السَّاحة، عندما كنّا نتحدّث عن العروبة كقوميّة عربيّة، وكحركة فكريّة سياسيّة، هنا من الطبيعي أنّ القوميّة العربيّة عندما نشأت، نشأت عنصريّة، على الطّريقة الهتلريّة أو غيرها، في أوائل عهود نشوئها، أي أنّها نشأت بفكرة أنّ العرب فوق الجميع وما إلى ذلك، وهذه طبعاً تجاوزتها الحركة القوميّة العربيَّة، وأصبحت تحمل البعد الإنسانيّ بدلاً من البعد العنصريّ؛ القوميّة الّتي تنفتح على الآخرين، وتتفاعل معهم، وتعيش معهم.
في هذا المجال، علينا أن نقول، إذا كانت القوميّة العربيّة إطاراً تهتمّ بالبشر لتوحّدهم، على أساس أنَّ الآخرين يوحّدون شعوبهم، وعلينا أن نوحِّد شعوبنا، فقد لا تكون هناك أيّ مشكلة في هذه الدّائرة، ليست عندنا مشكلة أن تحبّ قومك، كما ورد في بعض كلمات أهل البيت(ع)، الإمام زين العابدين، الّذي قال: "العصبية الّتي يأثم عليها صاحبها، أن يرى الرّجل شرار قومه خيراً من خيار قومٍ آخرين، وليس من العصبيَّة أن يحبَّ الرّجل قومه، ولكن أن يعين الرّجل قومه على الظلم"[2].
إنّ الكلمة الّتي تقول إنّ وطني على حقّ دائماً ليست مقبولة، لأنّ علينا أن ننصر العدل دائماً...
ليست المشكلة أن تحبَّ قومك وأن ترعى أمورهم، في الوقت الّذي يرعى الآخرون قومهم. أمّا عندما يتغلّب الجانب القوميّ على الجانب المبدئيّ الفكريّ، فهنا تبتعد القوميّة عن الإنسانيّة.
ولهذا، فإنّ الكلمة التي تقول إنّ وطني على حقّ دائماً، أو إنّ العرب إذا قاتلوا غير العرب، فينبغي أن ننصر العرب على أيِّ حال، أو إنَّ الفرس إذا قاتلوا غير الفرس، فينبغي أن ننصر الفرس، هذا ليس مقبولاً، لأنّ علينا أن ننصر العدل دائماً، وعندما تنصر العدل حتى على حسابك، فسوف يكون ذلك لحسابك في المستقبل. في هذا المجال أقول إذا كانت القوميّة تهدف كإطار إلى توحيد العرب في دولة، فما هو فكر هذه الدّولة؟ ما هو قانونها؟ ما هي شريعتها؟ هل إنَّك تعطي هذا الإطار فكراً من خلال الفكر الماركسي، كما نجد أنّ بعض حركات القوميّة العربيّة تبنّت الفكر الماركسيّ، أو أنّك تتبنّى الليبراليَّة أيضاً، أو أنّك تتبنّى شيئاً مختلطاً، كما لاحظناه في القوميّة الناصريّة، حيث يُقال إنَّ هناك اشتراكيَّة عربيّة؟!
نحن نعرف أن لا معنى لأن تكون هناك اشتراكيّة عربيّة، لكن من قبيل أشياء نجمعها، من الليبراليّة نأخذ شيئاً ومن الاشتراكيّة نأخذ شيئاً، هذ المزيج ربما يتمظهر مشوّهاً، لأنه لا تحكمه قاعدة. عندما تريد أن تأخذ أنت القوميّة العربيّة هنا، وتتبنى الماركسيَّة، فمن الطّبيعيّ أن يقف الإسلام ضدّ القوميّة العربيّة، من خلال أنّه يقف ضدَّ الماركسيّة. عندما تتَّخذ أنت اللّيبراليّة، والإسلام قد يختلف مع الليبراليَّة في بعض الحالات، فسيقف ضدَّ القوميّة العربيَّة، من خلال وقوفه ضدَّ هذا الفكر.
الإسلام شريعة الحياة
ـ بعد الحديث عن التاريخ والتغيّر، كيف نستطيع تلمّس باب الاجتهاد في الإسلام أمام سرعة التطوّر في الحياة المعاصرة؟ هذا يحيلني إلى سؤالٍ آخر، حول طبيعة نظام الحكم في الإسلام. وكما نعرف، فقد طرح الأستاذ علي عبد الرّازق هذه المشكلة في كتابه "الإسلام وأصول الحكم"، فأثار عاصفةً من النّقد والتّشكيك.
بالنِّسبة إلى الأستاذ علي عبد الرّازق، فإنّه أحد رموز حالة ثقافيَّة معيَّنة في الوسط الإسلامي فيما يسمَّى بعصر النَّهضة، تحاول أن توفّق بين الإسلام والحضارة الغربية، وهذه الحالة ربما كانت ناشئة عن الانسحاق الثّقافي أمام الحالة الغربيَّة. لا نريد أن نناقش القضيّة فقط من هذا الإطار، لكنّنا نقول خلفيّاتها، ولهذا كانت المرحلة؛ مرحلة ما يسمّى بعصر النّهضة، مرحلة هيمنة الأسلوب التّوفيقي بين الإسلام والحضارة الغربيّة، وهذا ما تبنَّاه محمد عبده وتلميذه في البدايات رشيد رضا، أو مرحلة فهم بعض الجوانب في الإسلام بطريقةٍ لا تسيء إلى الموقف من الحضارة الغربيّة، كما لاحظناه في موقف قاسم أمين من المرأة ومسألة تحرّرها، ومسألة السّفور والحجاب، أو بالنِّسبة إلى نظريّة الإسلام وأصول الحكم للأستاذ علي عبد الرّازق، الّذي يعتبر أنَّ الإسلام ليس فيه نظريّة حكم، وأنَّ تجربة الحكم الّتي انطلقت في الإسلام لم تنطلق من نظريّة سياسيّة حدَّدها الإسلام، وإنّما انطلقت بفعل التطوّر الطّبيعيّ للمجتمع الإسلاميّ في ذلك الوقت، يعني على الطّريقة العشائريّة: "منكم أمير ومنّا أمير"، حكم الإمارة، حكم العشيرة، حكم المجموعة، فلم تكن المسألة مستمدّة من الحالة التشريعيّة للحكم، وإنما كانت مستمدّة من حالة واقعية تاريخيّة.
هنا في هذا المجال، هل نستطيع أن نتصوَّر عدلاً بدون حكم أو خطّ سياسيّ؟ إنَّ الله أرسل الرّسل والكتب والأنبياء حتى لا يترك فراغاً، وليقوم النّاس بالقسط.. الآيات تقول: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[3] الكافرون والظّالمون...{يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ}[4]...
الجانب الثّاني هو عندما ندرس الإسلام على أنَّه شريعة كاملة، لا شريعة المجتهدين. المجتهدون اعتمدوا على نصوص من الكتاب والسنَّة، وعلى القواعد العامَّة الّتي تركها الكتاب والسنَّة، لطريقة استلهام الأحكام الشرعيَّة.
عندما يكون عندك دين يأتي بنظام كامل، بتشريع كامل، وفيه قانون كامل، فيه جوانب تشريع اقتصاد الجماعة، فيه حرب، فيه سلم، فيه علاقات، تحالف، مهادنات...كيف يمكن أن تطبّق ذلك بدون حكم؟ كيف نتصوّر قانوناً تفصيليّاً دون أن يكون هناك حكم يركّزه، حكم يعلن الحرب، يعلن السّلم، حكم يطبّق الجوانب الجزائيّة والحدود، ينظّم العلاقات والواقع، يحفظ النّظام، كيف يمكن بناء هذا دون حكم؟
لهذا، فإنَّ القول إنّه لم يكن هناك حكم على أساس الإسلام، تنفيه الدّراسة المعمّقة للكثير من النّصوص في القرآن وفي السنّة، الّتي تعطينا الدَّليل على أنَّ الإسلام حمل رؤيةً حول الحكم. وقد اتّصف النبيّ بصفتين: صفة الدّاعية النبيّ، وصفة الحاكم؛ صفة الدّاعية: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً}[5]، {إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ}[6]، {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ}[7].
ثمّ إنَّنا نلاحظ الجانب التّاريخيّ، فنجد أنَّ المسلمين لو لم يكن لديهم رؤية حول الحكم، لما حدَّدوا الطّريقة الّتي ينبغي أن يتمّ فيها تأسيسه ليكون منسجماً مع الشّرعيّة الإسلاميّة، يعني أنَّ النبيّ دعا إلى البيعة، ما حاجته إلى البيعة إذا كان الدّخول في الإسلام مجرّد إيمان بحالة فكرية؟ القضيّة هي: لماذا يدعو النّبيّ المسلمين أن يبايعوه؟
عملية البيعة هي عملية التزام بالقيادة، وليست عملية التزام فكري فقط، فعندما تريد أن تؤمن بفكري، فلماذا تريد أن تبايعني؟ ليس هناك حاجة لأن تبايعني كخطّ فكريّ فقط، لكن متى أحتاج إلى البيعة؟ البيعة التزام بالحكم؛ التزام بالقيادة، التزام بالطاعة، {أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}[8].
بين الجهاد والإرهاب!
ـ كيف يحدِّد الإرهاب؟ ومتى يكون؟ ومن المسؤول عن العنف؛ المجاهدون والمستضعفون، أم المتجبّرون؟ ما مفهوم الحريّة والعدالة، الجهاد والعنف الثّوريّ؟
ـ إنّ قضيَّة أنَّ التحدّي يجعلك تستنفر طاقاتك، ومن خلال استنفار الطّاقات يمكن لك أن تولّد الإبداع، ويمكن لك أن تكتشف الجانب المتعفِّن في هذه الطاقات فتغيّره، هذا صحيح، ولكن عندما ننزل إلى الواقع، فإنّنا نواجه المسألة من خلال المقولة التي تتحرّك فيها الأجهزة الإعلاميّة التي تنطلق، كما نعلم، من أجهزة مخابراتيّة، ولذلك نعتقد أنّ دراستنا لهذه الإثارة الإعلاميّة، تجعلنا نتوقّف أمام عدّة مفردات؛ المفردة الأولى هي أنّ هناك قدراً كبيراً من الكذب وتشويه الحقيقة، بحيث إنّ الإعلام يصنع الخبر بالطّريقة التي تثير النّاس، وتشوّه الصّورة، ونحن نعرف الآن أنّ الإعلام ليست مهمّته كشف الحقيقة، ولكن صناعة حقائق سياسيّة على حساب حقائق أخرى.
هناك مفردات لتشويه الواقع، فمن يقرأ عن إيران في الصّحف الغربيَّة، أو يقرأ عن لبنان الإسلامي الأصولي كذا، ويعرف الواقع في إيران أو هنا، يشعر بأنّه يقرأ شيئاً آخر لا يدري أين هو، لأنّه وهم. لا أقول إنّه بعيد عن الواقع مئة في المئة، ولكن على الأقل هو بعيد عن الواقع بنسبة سبعين في المئة. إذاً، مسألة الكذب في الفكرة وفي الصورة وفي الجوّ والأسلوب، هذه ليست مجال بحثنا، لأنها لا تمثّل شيئاً واقعيّاً وحقيقيّاً.
إنّنا نتحدَّث عن الأفكار الّتي أثارها الإعلام الغربي في مسألة الإرهاب، لندرس من أين انطلقت مفردات هذا الإعلام؟! انطلقت مفردات هذا الإعلام من خلال العمليّات التي قام بها المجاهدون في مواجهة القوّات المتعدّدة الجنسيّة "المارينز والمظلّيّين الفرنسيّين"، فيما قام به المجاهدون في الجنوب ضدّ إسرائيل بطريقة العمليات الاستشهادية أو غيرها، وفيما قام به الفلسطينيّون أيضاً في هذا المجال، وفيما قامت به بعض الجهات؛ كالّذي قامت به منظّمة الجهاد الإسلامي من عمليّة الخطف، خطف الأجانب، خطف الطّائرات، عمليّات التفجير التي حدثت في أوروبّا من قبل فئات محسوبة على التيّار الفلسطيني أو التيّار الإسلامي أو العربي بشكلٍ خاصّ.
من خلال هذا، انطلقت فكرة الإرهاب، لكن عندما نريد أن ندرس هذه الأمور بعقل بارد، فهناك طريقتان لدراستها، ربما تدرسها وأنت مستغرق في الجانب الذاتي. إنك إن استغرقت في الجانب الذاتي، ستجد حالةً مأساويّةً تستثير في نفسك كلّ المشاعر الإنسانيّة؛ ستجد هذا الجنديّ الإسرائيليّ الّذي يبلغ الثامنة عشرة من العمر، أو تجد هؤلاء الجنود الصّباح الوجوه كذا، أو هؤلاء الشّباب من المارينز الذين جاؤوا وهم شباب يحملون أحلام الحياة كذا، أو هؤلاء المخطوفين من الصحفيّين، ومن الأطبّاء وما إلى ذلك...!!
عندما تريد أن تستغرق في الحالة الذاتية، فإنّك لا تملك إلا أن تعتبر أنَّ هؤلاء الذين قاموا بهذه الأمور إرهابيّون في العمق وفي الواقع، ولا يعيشون أيَّ حالة من حالات الإنسانيّة. وهناك حالة ثانية، وهي أن تضع هذه الأمور في دائرة الوضع السّياسيّ العام، وفي دائرة الضّغوط الصّعبة السّاحقة التي ينطلق بها الوضع السياسيّ الدّوليّ، سواء كان أوروبيّاً أو أمريكياً أو صهيونياً، وحالة التّشريد الّتي عاشها الشّعب الفلسطيني، وحالة التمزّق التي عاشها الشعب اللّبناني، وحالة الوضع الاقتصادي، سواء في نهب الثّروات الطبيعيّة التي تختزنها المنطقة، أو في منع عمليّات التصنيع، والاكتفاء الذّاتي لحساب أمريكا وأوروبّا وما إلى ذلك، والتحرك الإسرائيليّ الّذي يقصف أيّ بلد من البلدان العربيّة أو الإسلاميّة، دون أن يحدث أيّ ردّ فعل.
هذا الجوّ عندما تستجمعه، وتضع إلى جانبه القدرات الّتي تملكها شعوب المنطقة، سواء الشّعب الفلسطيني أو اللّبنانيّ، أو أيّ شعبّ عربيّ، أو حتى القوميّون الّذين يعيشون التحدّي وردّ التحدّي أمام القضايا المصيرية، تدرك أنّهم لا يملكون أيّ إمكانات حقيقيّة على مستوى السّلاح، لا دولاً ولا شعوباً، ولا يملكون أيَّ إمكانات حقيقيّة ضاغطة على مستوى الواقع السياسي بشكلٍ كبيرٍ جدّاً. عندما تدرس هذه الحالة وتدرس الإمكانات، ستجد أنَّ شعوب المنطقة محصورة في زاوية، ونحن نعرف أنَّ الإنسان عندما يحشر في زاوية لا يملك مجالاً لحرية الحركة فيها، فإنّه ينطح الجدار برأسه، حتى ولو تكسَّر رأسه، من أجل أن يفتح ثغرة.
عندما ندرس القضيَّة في هذه الزّاوية، عند ذلك، لا تعود المسألة الإنسانيّة مسألة أشخاص؛ تعود مسألة شعب ومسألة أمّة، ولا تعود المسألة عند ذلك مسألة العمل الأمنيّ أو العسكريّ، أو مسألة حالة أو دائرة محدودة، إنَّ المسألة عند ذلك، تكون عمليَّة حرب بطريقة أخرى. لقد دمَّر الحلفاء ألمانيا على أساس الحرب، ولا زالوا يقولون بأنّ الحرب تعطي لأيِّ تحرك شرعيّة معيّنة، حتى الأسلحة المحرّمة يعتبرونها محلّلة بطريقة أو بأخرى، فلماذا لا نفكِّر في أنَّ الحرب إنما تعطي شرعيّة لك لأن تقتل بريئاً، وأن تدمّر بيتاً، أو تدمِّر موقعاً عسكريّاً تضطرُّ إليه في مقام الدِّفاع، لماذا لا نعتبر أنَّ الحرب يمكن أن تعطيك شرعيّة أن تفعل مثل ذلك في حال الاضطرار؟
إذا كانت أهداف الحرب، كما في مثل حرب الحلفاء، تعطي لكلِّ ما يُستخدَم فيها شرعيّة أخلاقيّةً، فلماذا لا تمنح الأهداف الكبيرة للشّعوب الّتي تسعى للتحرّر، الشّرعيّة الأخلاقيّة للتصرّفات التي قد تقوم بها ضدّ مصالح دول معيّنة، أو شعوب دول معيّنة؟ نحن نقول من النّاحية الذاتيّة إنّ الشّعوب لا دخل لها في سياسة حكّامها، ولكن ربما تقف الشّعوب في دائرة تشعر فيها بالحصار من كلّ جانب، فتضطرّ إلى أن تعطي العمل اللاأخلاقيّ معنىً أخلاقيّاً.
إننا نريد أن نقول إنّ ما يحدث في المنطقة هو داخلٌ في مسألة حركة الحريّة لدى شعوب المنطقة.
هناك فرق بين أن تكون مجاهداً ينطلق من أجل قضيَّة، وأن تكون إرهابيّاً تنطلق من أجل حالة ذاتيّة
هل إنّ هذه التفاصيل قد تفيد وقد لا تفيد؟ هذه أمور تفصيلية جزئية، لكن نحن نريد أن نفرّق بين حركة الحريّة وحركة الإرهاب، إنّنا نفهم أنَّ حركة الإرهاب تنطلق من العمل الذي يؤدّي إلى قتل الأبرياء نتيجة دوافع شخصيَّة، ونتيجة حالات خاصَّة، أمّا الأعمال التي قد تؤدّي إلى قتل الأبرياء أو إثارة المأساة في حياتهم، انطلاقاً من خطّة تكون فيها القضيّة جزءاً من الخطّة، فهذا أمر يعترف به العالم كلّه.
هناك فرق بين أن تكون مجاهداً ينطلق من أجل قضيَّة، وأن تكون إرهابيّاً تنطلق من أجل حالة ذاتيّة.
فلسطين قضيَّة ضائعة!
ـ فلسطين قضيَّة العرب الأولى، ما هو السّبيل لتصبح قضيّة الإسلام؟
ـ إن تطوّر القضيّة الفلسطينيَّة جعلها قضيّة ضائعة، وبذلك تحوَّل الفلسطينيّون إلى شعب ضائع، وبدأت القضيّة الفلسطينيّة تستنفد كلّ شعاراتها، حتى وصلت إلى الدّائرة التي تبحث فيها عن موقع قدمٍ كيفما كان، في هذا الواقع الّذي استهلكت فيه الشعارات الإقليميّة والعربيَّة والتحرريّة، ووقفت الدّول جميعاً أمام جدار العدوّ الإسرائيلي، واعترفت بأجمعها بواقعيّة جدار العدوّ الإسرائيليّ، وأنه لا بدَّ من أن يبقى، وأن فكرة إزالته تطرّف ومثاليّة وخيال، وأنَّ علينا أن لا نتحدَّث عن حدود ما قبل 67، وأن لا نتحدَّث عن الحقوق المشروعة للشَّعب الفلسطيني، لكي لا يخرب أيّ معادلة إقليميّة أو دوليّة، وأن نشغله بمشاكل ومشاكل طويلة تجعله يأكل نفسه، وبالتّالي يأكل قضيّته.
يسعى الجميع بطريقةٍ وبأخرى لسدّ ثغرة الجنوب اللّبناني حتّى لا يفكّر أحد في إرباك أمن العدوّ الإسرائيلي
في هذا الجوّ، أصبحت الأرض مزروعةً بالألغام على كلّ المستويات، وأصبحت فلسطين محاصرةً من جميع الجهات، لا يسمح بالنّفاذ إليها إلا من هذه الثّغرة؛ ثغرة الجنوب الّتي يتعامل الجميع بطريقةٍ وبأخرى في سبيل أن يسدّوها ليغلقوا باب الأمل في أن يفكّر أحد بأن يربك أمن العدوّ الإسرائيلي في الدّاخل. في هذا الواقع، أصبحت المسألة صعبة جدّاً.
ربما نحتاج إلى أن نفسح المجال للفكرة الإسلاميّة لأن تتحرَّك في السّاحة؛ أن يفكّر النّاس المسلمون إسلاميّاً على أساس أنَّ الإسلام يعني لهم شيئاً في السياسة وفي الاقتصاد وفي الواقع.. وعلى أساس أنَّ مسألة حريّة الإنسان المسلم، وحريّة الأرض المسلمة، هي قضيَّة تتحرّك في عمق الجانب العباديّ من شخصيّة الإنسان، تماماً كما هي الصَّلاة والصَّوم، أن تتحرّك القضيَّة الفلسطينيَّة في مقاتلة العدوّ الإسرائيليّ، وإزالة وجوده من المنطقة كحكمٍ شرعيّ، تماماً كما تقول إنّه لا يجوز لك أن تغصب أرض إنسانٍ أو ماله، لا يجوز لك أن تغصب بلد شعب، أن تقول للنّاس إنَّ اليهود حتى لو تحوّلوا إلى مسلمين سنقول لهم ارجعوا إلى بلادكم، وأرجعوا الأرض إلى أهلها، لأنّ المسألة ليست مسألة أنكم يهود، حتى المسلمون لو غصبوا أرض ناس مسلمين، نقول إنّ عليكم أن تعيدوها إلى أهلها.
نحن نعرف أنَّ التيّار الإسلاميّ محاصر أيضاً، لأنّه يُخاف منه أن يخرّب المعادلات، لا أقصد التيَّار الإسلامي الذي يعيش في بلاطات الملوك والأمراء، والَّذي يحاول أن يستنزف الأموال الّتي يعطونه إيّاها، ويبرّر سياساتهم وما إلى ذلك؛ بل التيّار الإسلاميّ الّذي يعتبر قضيَّة الحرية كما هي الصّلاة والصّوم؛ التيار الإسلامي الذي يقول فيه الله سبحانه وتعالى: {وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}[9]، ويعلّق عليه الإمام جعفر الصّادق(ع) بقول: "إنّ الله عزَّ وجلَّ فوَّض إلى المؤمن أموره كلّها، ولم يفوّض إليه أن يُذلّ نفسه"[10]، التيار الذي يقول: "لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً"[11]، التيار الذي يقول للحاكمين: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحراراً!". هذا التيّار الحاسم في المسألة السياسيّة في قضيّة الحريّة، هذا التيار يحاصَر من كلّ جانب، من خلال إطلاق مصطلحات التطرّف والتعصّب والتزمّت والإرهاب والتخلّف، وما إلى ذلك، عليه، وهم يفهمون أنه ليس كذلك، ولكنهم يخافون أن يقترب من الخطوط الحمر المزروعة إقليمياً ودولياً، ولهذا فإنهم يحاصرونه كما يحاصرون القضية الفلسطينية التي تريد أن تتَّجه إلى الحسم في المسألة الفلسطينيّة.
من الطّبيعيّ جداً أنَّ هذا الواقع يشكّل صعوبات ومشاكل من الناحية الثقافية، ومن الناحية الواقعية، ومن الناحية الأمنية والعسكرية. ربما كانت المنطقة الجنوبيَّة في لبنان تملك الآن معطيات وحركات لمواجهة إسرائيل ولإرباكها، ولكنّنا نعرف أنَّ هناك أكثر من لعبة سياسيَّة تحاول أن تنطلق لتمنع أيّ مقاوم من أن يقاوم، ولو بطريقة الإخلاص للمقاومة، وحماية المقاومة، وحماية أمن الناس، وما إلى ذلك.
هذا إلى جانب أنَّ البلاد الإسلاميَّة بشكل عام، واقعة تحت تأثير الاستعمار الذي يحاول أن يثقّف البلاد الإسلاميّة بثقافة سياسة الأمر الواقع، والسّياسة الميكيافيليّة في القضايا وما إلى ذلك.
إنَّ هذا يخلق صعوبة كبيرة جدّاً، ولكنَّه لا يخلق استحالة. نحن نجد أنَّ هناك في داخل فلسطين أكثر من موقع من مواقع التحرك الإسلامي الواعي في هذا الاتجاه، ونجد في العالم الإسلامي يقظة إسلاميَّة، ونشعر بأنّ على الإسلاميّين في مواجهتهم لمسألة الصهيونية والاستعمار، أن يقوموا بعملية تكامل وتحالف مع الآخرين الّذين يخلصون لقضية الحرية.
إننا نفكّر أنَّ اليهود وصلوا إلى هذا الواقع في خلال مئة سنة أو أكثر، فلنخطّط لمئة سنة، وفي الوقت نفسه، نحن نعتقد أنّ اليهود يفكّرون في تخطيطهم السياسي في حجم المنطقة كلّها، وفي حجم العالم.
وعندما نستطيع أن نثقّف المسلمين والمستضعفين من غير المسلمين بهذه الطريقة الحاسمة في قضية الحريّة، نعتقد أنّ الحرية يمكن أن تنتظرنا في وقت لا يكون بعيداً كثيراً.
منظَّمة التَّحرير.. وياسر عرفات
ـ منظمة التّحرير الفلسطينيّة، أوضاعها، قياداتها، كيف ترى حالة ياسر عرفات؟
ـ مشكلة القيادة الفلسطينيَّة، أنها انطلقت من موقع الثقافة السّياسيّة للمدرسة العربيّة التي ربّتها الجامعات الأميركيّة والأوروبيّة؛ سياسة أن تبتعد عن كلّ تاريخك فيما تستلهمه من هذا التّاريخ، فتأخذ من التّاريخ فقط جوانب الإثارة، وتأخذ من الّذين استعبدوك كيف يمكن أن تتحرّك على أيديهم، ومن الطبيعي أنهم لن يعطوك شيئاً يخدم قضيّة الحريّة، بل إنّهم يعطونك كما أعطونا، مجرّد مرسومٍ بالاستقلال، ولكنَّهم حاصرونا من جميع الجهات، وفي كلّ المجالات.
إنني أعتقد أنَّ هذا الرّجل انطلق من سياسة المعادلات، فكّر أن لا يرهن قراره لأحد، لكنّه وقع تحت تأثير الصيغة المشتركة بين الجميع، ولهذا فقد أصبح ينتقل من حضن إلى حضن، ومن موقع إلى موقع. مشكلته أن الشعب الفلسطيني أعطاه الكثير من تأييده، ولكنه لا يعرف كيف يحرك طاقات الشعب الفلسطيني نحو قضيّة الحريّة من أوسع الأبواب، مشكلته أنّه احترم المعادلات الإقليميّة والدوليّة أكثر مما احترم قضيّته واحترم شعبه.
إنّ الثائرين لا يبحثون عن الخطوط الحمر، ولكنّهم يعتبرون الساحة لهم، وبعيداً عن كلّ خطّ أحمر أو أخضر. هناك فرق بين أن تكون ثائراً وأن تكون صاحب دولة؛ إنّ صاحب الدولة يتعامل بالوسائل الدبلوماسيَّة، ولكن صاحب الثّورة لا يفهم بالوسائل الدبلوماسيّة. مشكلته أنه عاش هذه الفترة الطويلة وهو يتحرّك في دائرة الخلافات العربيّة، بعيداً من قضيّة فلسطين.
لقد كان مع الكثيرين معه، يقولون إنَّ طريق فلسطين تنطلق من هنا وهناك.. ولكن الطريق الوحيد الّذي لم يقولوا إنّه طريق فلسطين، هو طريق فلسطين الحقيقي؛ طريق البندقية المقاتلة التي تحرق الأرض حتى تستطيع أن تحررها.
تسويات وشبهات!
ـ من زيارة السادات إلى القدس، إلى زيارة رئيس وزراء العدو إلى المغرب، ولقائه الملك الحسن الثاني، كيف تقيّمون ذلك من جانبكم وتفسّرونه؟ وما هو انعكاسه على المنطقة، في مدار شبهات التسوية والصَّفقات الاستسلاميّة المنفردة مع العدوّ؟
ـ إنني أعتقد أنَّ مسألة العلاقات مع العدوّ الإسرائيلي، أصبحت مسألة محسومة في مجمل السّاحة العربيّة، لا أقول في كلّها.. لذلك كانت المسألة وما تزال هي مسألة الإخراج، ومسألة احتواء مشاعر الشّعب العربيّ، حتى لا يعود يفكّر في القضيّة الفلسطينيّة، وحتى يشعر بأنَّ القضيّة الفلسطينيّة هي عبء عليه يجب أن يتخلَّص منه، وليست قضيّة يجب أن يجاهد في سبيلها.
ولعلَّ حرب المخيّمات، والحروب الّتي تتحرّك في السّاحة الفلسطينيّة العربيّة، هي أحد مظاهر ذلك؛ أن تخلق عقدةً في نفس الشّعب ضدّ الفلسطينيّين، وبالتّالي، من الطبيعيّ أن تكون هناك عقدة ضدّ القضيّة الفلسطينيَّة، لأنّ القضيّة الفلسطينيّة بدون فلسطينيّين، تبقى شيئاً لا يحمل أيَّ أساس..
إنَّ مسألة العلاقات مع العدوّ الإسرائيلي أصبحت مسألة محسومة في مجمل السَّاحة العربيّة، وما تزال المسألة هي مسألة الإخراج
إنني أعتقد أنّ عرب أميركا بشكل عامّ، لا يزالون يتحركون في سبيل إخضاع المنطقة للسياسة الأميركيّة، والصّمت على كلّ سلبيّات السياسة الأميركيّة ضدّ العرب، ولهذا فإن السياسة الأميركيّة قد تحرجهم، ولكن هذا الإحراج لا يثير في أنفسهم روح التحدّي، بل يثير في أنفسهم روح البحث عن كيفيّة التّخفيف من هذا الإحراج لدى شعوبهم بخدمة السياسة الأميركيّة أكثر.
ولهذا، فإنّ المسألة هي مسألة إعطاء الحلّ السلميّ على جرعات. ربما كانت قضيّة السادات جرعة أولى مثّلت حالة صدمة، ثم استهلكت، نتيجة أنها لم تحقّق شيئاً خارج سيناء، وأريد لهذا الحدث الجديد أن يكون جرعةً أخرى تربك الواقع، ليتحفَّظ البعض، وليؤيّد البعض، وليصرخ البعض، وقد تعوَّدنا أن الصراخ والتحفظ يمكن أن يقود الجميع إلى الحلّ.
المسألة هي مسألة أنّ المخرجين قد يختلفون في طريقة الإخراج، ولكن القصَّة واحدة..
[مقابلة مع مجلة "التصدي": 7 آب 1986م، العدد الأوّل]
[1] [الحجرات: 13].
[2] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج 15، ص 373.
[3] [المائدة: 47].
[4] [ص: 26].
[5] [الإسراء: 105].
[6] [الغاشية: 21، 22].
[7] [الكهف: 29].
[8] [النساء: 59].
[9] [المنافقون: 8].
[10] الكافي، الشيخ الكليني، ج 5، ص 63.
[11] نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 3، ص 51.