{وَالْفَجْرِ}. أقسم بالفجر؛ هذا الزّمن الخارج من قلب اللّيل، الذي يلتقط حبّات النور التي تنثرها الشّمس من بعيد، لتذكر الكون بأنّ هناك، في حركة الشروق في شعاعها، ميلاد يوم جديد.
إنه الزمن الذي يتنفّس فيه الكون لهاث اللّيل وشهيق النّهار، ليبدأ الإنسان صلاته لله، ليطهِّر بها قلبه وروحه وضميره، وليعدّ نفسه للمسؤوليّات الكبار التي تنتظره في مواعيد الشّروق أي النّهار، ليكون زمن التّخطيط للحركة والاندفاع نحو العمل.
{وَلَيالٍ عَشْرٍ} هذه اللّيالي التي تأخذ قيمتها من خلال الرّعاية التشريعيّة الرسوليّة المنطلقة من وحي الله، لتجعل منها أزمنةً تحمل معنى الطهارة، وترتفع فيها العبادة، وتخشع فيها النفوس، وتصعد فيها الأعمال، وتوحي بعمقٍ روحيٍّ مميَّزٍ، فلا خصوصيّة لها في ذاتها، ولكن في ما منحها الله من عنايته، ومن موقع القرب فيها إليه، ولكن أين هي؟ قيل: إنّ المراد بها اللّيالي العشر من أوّل ذي الحجّة إلى عاشرها، وقيل: المراد بها اللّيالي العشر من أوّل المحرّم، وقيل: المراد بها عبادة ليالٍ عشر، على تقدير أن يراد من الفجر صلاة الفجر.
{وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ}. قيل: إنّ المراد بهما صلاتا الشّفع والوتر في آخر اللّيل، وقيل: مطلق الصّلاة، ففيها شفع وفيها وتر، وهناك أقوالٌ أخر.
{وَاللّيْلِ إِذَا يَسْرِ} تماماً كما هو المخلوق الحيّ المتحرّك بإرادةٍ واختيار ليبسط ظلّه على الكون، فيطبع الفضاء ظلاماً، والأرض ظلاماً، وليتجوّل في كلّ مواقع الكون ساهراً في انتظار النهاية في آفاق بدايات الفجر.
{هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ}، أي لذي لبٍّ وعقل، يفكّر جيّداً في كلّ الأمور التي تطرح عليه ليميّز الحقّ من الباطل، وليؤكّد الفكرة الثابتة التي يؤكّدها الله بقسمه، لأنها تمثّل الحقيقة الحاسمة، وهي أنّ الله لن يترك الطّغيان وأهله في سلامٍ على الأرض، ولكنّه يعذّبهم ويزلزل قواعدهم بعذابه بطريقته الخاصّة، وأنّه يختبر عباده بالغنى والفقر، ليميّز الشّاكر من الكافر، والصّابر من الجازع، وليعطي لكلّ ذي حقّ ثوابه، ولكلّ ذي باطلٍ عقابه.
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ}، وهم قوم هود الذين يمثِّلون القوّة الجبّارة في التاريخ القديم، وكان مسكنهم في الأحقافِ، وهي كثبان الرّمال في جنوبي الجزيرة بين حضرموت واليمن.
{إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبلادِ}، فقد كانت مدينةً لا نظير لها، ذات قصور عاليةٍ، وعمد ممدّدة، ولا نعرف من هؤلاء الجماعة ومن تاريخهم شيئاً ذا بال، إلا ما قصّه القرآن علينا من أنهم كانوا ذوي بسطةٍ في الخلق أولي قوّةٍ وبطشٍ شديد، وكان لهم تقدّمٌ ورُقيٌّ في المدنيّة والحضارة، ولهم بلادٌ عامرةٌ وأراضٍ خصبة ذات جنّاتٍ ونخيل وزروع ومقامٍ كريم.
وقد اختلقت قصّة جنّة إرم المشهورة المرويّة عن كعب الأحبار ووهب ابن منبه، مما لم يثبت له أساس في الرّوايات الإسلاميّة الصحيحة.
{وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُواْ الصَّخْرَ بِالْوَادِ}، أي قطعوا الصّخر من الجبال، وشيدوا منها القصور، كما جاء في قوله تعالى: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ}[الشّعراء: 149].
وقيل: إنّ ثمود كانت تسكن بالحجر في شمال الجزيرة العربيّة بين المدينة والشام، وكانوا أولي قوّةٍ وبطشٍ شديدٍ.
{وَفِرْعَوْنَ ذِي الأوْتَادِ}، وهو ـ على الظاهر ـ صاحب موسى (ع)، وقد قيل: إنّ إطلاق هذا اللّقب عليه، «لأنه كان إذا أراد أن يعذّب رجلاً، بسطه على الأرض، ووتد يديه ورجليه بأربعة أوتاد في الأرض، وربما بسطه على خشبٍ وفعل به ذلك. ويؤيّده ما حكاه الله من قوله، يهدّد السحرة إذا آمنوا بموسى: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى}[طه: 71]. فإنهم كانوا يوتدون يدي المصلوب ورجليه على خشبة الصّليب».
واحتمل سيّد قطب في تفسيره "في ظلال القرآن"، أنّ الأرجح أنها «الأهرامات التي تشبه الأوتاد الثّابتة في الأرض المتينة البنيان»؛ والله العالم.
*من كتاب "تفسير من وحي القرآن".