وبعث معاوية بالسجل المختوم للإمام الحسن، ليشترك فيه ما يشاء لنفسه وأهل بيته
وشيعته، وكتب الإمام الشروط، وأخذ من معاوية العهد والميثاق على الوفاء، وأعطاه
معاوية ما أراد، مبطناً في داخله الحنث والنكول، كما هي طبيعة ذاته، وفي أي وقت صفا
الخبث الأموي للطهر الهاشمي؟ إنها سلسلة الفتنة والمكر، تحدرت من أُمية لتشتد
حلقاتها في يد معاوية ويضيق الخناق فيها على هاشم.
ولم تذكر لنا المصادر التاريخية نصاً صريحاً ومتناسقاً لكتاب الصلح، الذي يعتبر
الوثيقة التاريخية لنهاية مرحلة من أهم مراحل التاريخ الإسلامي في عصوره الأولى،
ولا نعرف سبباً وجيهاً لهذا الإهمال.
وقد اشتملت المصادر المختلفة على ذكر بعض النصوص، مع إهمال البعض الآخر، ويمكن أن
يؤلّف من مجموعها صورة الشروط التي أخذها الحسن على معاوية في الصلح، وقد نسّقها
بعض الباحثين وأوردها على صورة مواد خمس، ونحن نوردها هنا كما ذكرها، ونهمل ذكر
المصادر التي ذكرها في الهامش اعتماداً عليه.
وهي هذه:
1 ـ تسليم الأمر إلى معاوية على أن يعمل بكتاب الله وبسنّة رسوله (ص) وبسيرة
الخلفاء الصالحين.
2ـ أن يكون الأمر للحسن من بعده، فإن حدث به حدث فلأخيه الحسين، وليس لمعاوية أن
يعهد إلى أحد.
3 ـ أن يترك سبّ أمير المؤمنين والقنوت عليه بالصلاة، وأن لا يذكر عليّاً إلا بخير.
4 ـ استثناء ما في بيت مال الكوفة، وهو خمسة آلاف ألف، فلا يشمله تسليم الأمر، وعلى
معاوية أن يحمل إلى الحسين ألفي ألف درهم، وأن يفضِّل بني هاشم في العطاء والصِلات
على بني عبد شمس، وأن يفرِّق في أولاد من قتل مع أمير المؤمنين يوم الجمل، وأولاد
من قتل معه بصفين ألف ألف درهم، وأن يجعل ذلك من خراج دار أبجر.
5 ـ على أن الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله، في شامهم وعراقهم وحجازهم ويمنهم،
وأن يؤمن الأسود والأحمر، وأن يحتمل معاوية ما يكون من هفواتهم، وأن لا يتبع أحداً
بما مضى، ولا يأخذ أهل العراق بإحنة، وعلى أمان أصحاب عليّ حيث كانوا، وأن لا ينال
أحداً من شيعة عليّ بمكروه، وأن أصحاب عليّ وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم
ونسائهم وأولادهم، وأن لا يتعقب عليهم شيئاً ولا يتعرض لأحد منهم بسوء، ويوصل إلى
كلّ ذي حقّ حقّه، وعلى ما أصاب أصحاب عليّ حيث كانوا.
وعلى أن لا يبغي للحسن بن علي ولا لأخيه الحسين ولا لأحد من أهل بيت رسول الله
غائلة، سراً ولا جهراً، ولا يخيف أحداً منهم في أُفق من الآفاق.
هذه هي الموادّ الخمس، التي يمكن الظنّ قوياً أن تكون بنود الصلح التي تمّ عليها
الاتفاق بين الطرفين، ولا أقلّ من أنها تمثّل لنا طبيعة الشّروط التي أملاها الحسن
على معاوية.
فلم يكن الإمام ليهمل أمر الخلافة بعد موت معاوية، فقد اشترطها لنفسه فقط كما في
بعض المصادر، وأنها من بعده لأخيه الحسين كما في البعض الآخر، وأنه ليس لمعاوية أن
يعهد بها لأحد من بعده، كما في بعض المصادر الأخرى.
كما أنه ليس من الطبيعي أن يهمل الإمام مسألة السبّ لأبيه ورفعه، بعد أن جعله
معاوية فريضة على كل خطيب ومصلٍّ.
وكذا أخذ الأمان لشيعته وشيعة أبيه.. وللإمام شؤون كثيرة، فهو مثقل بعبء بني هاشم
وأصحابه الأدنين، وبحكم مركزه.. فلا بدّ له أن يكون في حوزته من المال ما يكفيه
لذلك، فأخذ على معاوية أن يكون له ما في بيت مال الكوفة وغيرها، وهو شرط طبيعي لا
بدّ أن يورده الإمام في بنود الصلح.
ومن الجدير بالبحث هنا، معرفة ما إذا كان الإمام الحسن قد تنازل عن الخلافة لمعاوية،
بما لكلمة التنازل من المعنى الخاص، واختار بعض الباحثين هذا المعنى بإصرار، معتمداً
في ذلك على مغالطات وجدليات ولعب بالألفاظ، وجاعلاً من ذلك وسيلة للنيل من مقام
الإمام الحسن والتجني عليه، وسنعرض للمسألة هنا، ونناقشها من خلال بعض النصوص
والوقائع، لنرى ما إذا كان الإمام قد تنازل فعلاً أم أن هذا أمر لم يقع.
والملاحظ هنا من مجموع كلمات المؤرّخين، أن الإمام لم يرِد على لسانه ولم يصدر عنه
ما يشعر بالتّنازل عن الخلافة بما لهذه الكلمة من معنى، بل الّذي نقلته المصادر، هو
أنّ الحسن سلّم الأمر أو ترك الأمر لمعاوية.
والتّرك والتّسليم، لا يعني التنازل وإعطاء الأحقيّة الواقعيّة في الحكم للطرف
الآخر، بل هي من باب التسليم بالأمر الواقع، وترك الأمر حيث لا حيلة للمغلوب على
أمره إلا التسليم والترك.
وقد حاول البعض أن يرجع صيغة الترك أو التسليم إلى مفاد صيغة التنازل، ولكنها لا
تعدو كونها مغالطة لغوية صريحة، فالتسليم والترك أعم من التنازل، فقد يتحقق الترك
والتسليم بلا أن يكون هناك تنازل، بل بتوسط القهر والغلبة.
على أنّا لو سلّمنا ذلك، فلا يمكن أن يكون التنازل وارداً في حساب الإمام الحسن
بحسب الموازين الشرعيّة للإمامة أو الخلافة.
فباعتباره الإمام الشرعي بالنصّ الإلهيّ، كما عليه الشيعة الإمامية، فالإمامة صفة
ملازمة لوجوده ولذاته لزوماً لا ينفك، ولا يمكن لأحد أن يسلبها عنه، ولا هو نفسه
يمكنه التنازل عنها، أو الانفصال عن مسؤولياتها، وإلا لكان مخالفة صريحة للحكم
الإلهي في اختياره هذا المنصب، فكما أنه ليس للنبي أن يخلع عن نفسه سمة النبوة،
فكذا الإمام ليس له أن يخلع عن نفسه سمة الإمامة، وهو أمر يلتزم به الشيعة في
عقيدتهم بالإمامة، ولهم أدلتهم الخاصة التي تدعم هذا الاعتقاد.
ولنفرض أن الإمام الحسن لم تكن إمامته بالنص الإلهي، وإنما باجتماع المسلمين على
بيعته وتسليم الأمر له، فليس من حقّه التنازل أيضاً، إلا أن يكون ما يقتضي ذلك،
كالعجز عن تصريف الأمور، أو عدم أهليّته لإدارة شؤون المسلمين، أو يظهر منه ما يخلّ
بقدسيّة المنصب وهيبته، ولم يسجل التاريخ من ذلك شيئاً فيما يرجع للإمام الحسن،
وعلى العكس، فقد أثبت له حسن الإدارة، والتّدبير، والحزم، والأهليّة للحكم، وبُعد
النظر، وغيرها مما يجب أن تتوفّر في رئيس الدولة الحاكم.
إذاً التنازل لا يمكن أن يرد في الحساب بما تحمله هذه اللفظة من المعنى الخاص،
وربما يدعم هذا الاتجاه في الاختيار كلمات صدرت عن الإمام الحسن، تحدد لنا بوضوح
موقفه من تسليم الأمر لمعاوية، وانه لم يكن تنازلاً بل تسليماً للملك.
قال في جوابه لبعضهم: "لا تقل ذلك يا أبا عامر، لم أذلّ المؤمنين، ولكن كرهت أن
أقتلهم على الملك".
وقال لآخر :"اضرب هؤلاء بعضهم ببعض في ملك الدنيا، لا حاجة لي به".
وغير ذلك من الكلمات التي توحي بأن الحسن لم يتنازل عن الخلافة، بل سلم أمر تصريف
أمور الدولة لمعاوية، وهو التعبير الآخر للملك، وكان ذلك منه قهراً وغلبة.. ويؤيد
ذلك أيضاً، ما رواه الكليني، أن الحسن اشترط على معاوية أن لا يسميه أمير المؤمنين،
وما ذكره الصدوق في العلل: أن الحسن اشترط على معاوية أن لا يقيم عنده شهادة.
هذا تلميح هو أقرب للصراحة، في عدم اعتراف الإمام بالخلافة الشرعية لمعاوية، فهو لا
يسميه أمير المؤمنين، ولا يقيم عنده شهادة، ولو كان معاوية خليفة شرعياً في نظر
الإمام الحسن بحكم تنازله له، فأيّ طلب هذا يطلبه الإمام الحسن من معاوية؟
على أنّا لو رجعنا إلى بعض خطبه بعد الصلح، لاتّضحت أمامنا الرؤية بصورة لا يخامرها
الريب.
فقد قال في خطابه يوم الاجتماع في الكوفة" :وإن معاوية زعم أني رأيته للخلافة أهلاً
ولم أرَ نفسي لها أهلاً، فكذب معاوية، نحن أولى الناس بالناس في كتاب الله عزّ وجلّ
وعلى لسان نبيّه".
وهو تصريح خطير، بأنّ الولاية له من الله على الناس لازالت قائمة، حتى بعد تسليم
الأمر لمعاوية، وأنّ التسليم ليس إلا ترك الملك. وقال في خطاب آخر، وكان معاوية
حاضراً: "وليس الخليفة من دان بالجور، وعطّل السّنن، واتخذ الدنيا أبا وأماً، ولكن
ذلك ملِك أصاب ملكاً تمتّع به، وكان قد انقطع عنه واستعجل لذّته، وبقيت عليه تبعته،
فكان كما قال الله عزّ وجلّ: وإن أدري لعلّه فتنة ومتاع إلى حين".
وهذا تعريض بمعاوية، وأنه ليس أهلاً للخلافة، وإنما هو ملك يطلب الدنيا، إشباعاً
لنهمه، واستعجالاً للذّته.
وإلى هنا، لا يمكننا إلا إسقاط تهمة التنازل التي اتخذها جملة من المؤرّخين
والباحثين وسيلةً للنيل من شخصيّة الإمام الحسن، وهي تهمة لم يجيدوا حبكها وصياغتها
بنحو تعمى عنها أبصار المخلصين.
*من كتاب: "صلح الإمام الحسن أسبابه نتائجه ".