بعد ما نُكب الإمام (عليه السلام) بشهادة أخيه وعضده مالك الأشتر، قلّد محمّد بن
أبي بكر ولاية مصر، وهو من ألمع الرجال في فضله وتقواه، ومن أكثرهم حبّاً وولاءً
للإمام (عليه السلام)، فكان ابناً بارّاً للإمام، وولداً مخلصاً له، وشفيقاً عليه.
زوَّد الإمام محمّد بن أبي بكر بالرّسالة التالية حينما قلّده ولاية مصر، وهذا
نصّها: "فاخفض لهم جناحك، وألن لهم جانبك، وابسط لهم وجهك، وآس بينهم في اللّحظة
والنّظرة، حتّى لا يطمع العظماء في حيفك لهم، ولا ييأس الضّعفاء من عدلك عليهم، فإنّ
الله تعالى يسائلكم معشر عباده عن الصّغيرة من أعمالكم والكبيرة، والظّاهرة
والمستورة، فإن يعذّب فأنتم أظلم، وإن يعف فهو أكرم".
ومثّلت هذه الكلمات روعة العدل الّذي لم يقنّن مثله في جميع ما شرّع من الشؤون
السياسية، فقد أمر الإمام (عليه السلام) محمّد بالموادّ التالية :
1 ـ أن يخفض للرّعية جناحه، فلا يتكبّر، ولا يعلو عليهم، بل يكون كأحدهم.
2 ـ أن يلين للنّاس جانبيه، فلا يظهر عليهم العظمة والكبرياء.
3 ـ أن يبسط للجميع وجهه، فلا يخصّ قوماً ببسماته ويقبض وجهه مع قوم آخرين.
4 ـ أن يساوي بين النّاس حتى في اللّحظة والنظرة، وهذا هو منتهى العدل ...
ويستأنف الإمام في رسالته قائلاً: "واعلموا عباد الله! أنّ المتّقين ذهبوا بعاجل
الدّنيا وآجل الآخرة، فشاركوا أهل الدّنيا في دنياهم، ولم يشاركهم أهل الدّنيا في
آخرتهم؛ سكنوا الدّنيا بأفضل ما سكنت، وأكلوها بأفضل ما أكلت، فحظوا من الدّنيا بما
حظي به المترفون، وأخذوا منها ما أخذه الجبابرة المتكبّرون؛ ثمّ انقلبوا عنها
بالزّاد المبلّغ؛ والمتجر الرّابح، أصابوا لذّة زهد الدّنيا في دنياهم، وتيقّنوا
أنّهم جيران الله غداً في آخرتهم، لا تردّ لهم دعوة، ولا ينقص لهم نصيب من لذّة،
فاحذروا عباد الله الموت وقربه، وأعدّوا له عدّته، فإنّه يأتي بأمر عظيم وخطب جليل،
بخير لا يكون معه شرّ أبداً، أو شرّ لا يكون معه خير أبداً، فمن أقرب إلى الجنّة من
عاملها! ومن أقرب إلى النّار من عاملها! وأنتم طرداء الموت، إن أقمتم له أخذكم، وإن
فررتم منه أدرككم، وهو ألزم لكم من ظلّكم. الموت معقود بنواصيكم؛ والدّنيا تطوى من
خلفكم، فاحذروا ناراً قعرها بعيد، وحرّها شديد، وعذابها جديد، دار ليس فيها رحمة،
ولا تسمع فيها دعوة، ولا تفرّج فيها كربة، وإن استطعتم أن يشتدّ خوفكم من الله، وأن
يحسن ظنّكم به، فاجمعوا بينهما، فإنّ العبد إنّما يكون حسن ظنّه بربّه على قدر خوفه
من ربّه، وإنّ أحسن النّاس ظنّاً بالله أشدّهم خوفاً لله".
وحكت هذه الكلمات النّصائح الرفيعة والمواعظ الكاملة التي يجب أن يعتبر بها الناس
ليكونوا بمأمن من عذاب الله تعالى ويفوزوا بمغفرته ورضوانه. ثمّ يستمرّ الإمام في
عهده قائلاً: "واعلم يا محمّد بن أبي بكر، أنّي قد ولّيتك أعظم أجنادي في نفسي أهل
مصر، فأنت محقوق أن تخالف على نفسك، وأن تنافح عن دينك، ولو لم يكن لك إلّا ساعة من
الدّهر، ولا تسخط الله برضى أحد من خلقه، فإنّ في الله خلفاً من غيره وليس من الله
خلف في غيره. صلّ الصّلاة لوقتها المؤقّت لها، ولا تعجّل وقتها لفراغ، ولا تؤخّرها
عن وقتها لاشتغال، واعلم أنّ كلّ شيء من عملك تبع لصلاتك".
وحفلت هذه الكلمات بدعوة محمّد بن أبي بكر بمخالفة هوى نفسه والمنافحة عن دينه، وأن
لا يسخط الله تعالى في أيّ عمل من أعماله، فإنّه ليس لله تعالى خلف في جميع
الكائنات. ثمّ أوصى الإمام (عليه السلام) محمّداً بأداء الصلاة في وقتها، فإنّها من
أفضل العبادات ومن أعظمها عند الله تعالى. ويأخذ الإمام في عهده قائلاً: "فإنّه لا
سواء إمام الهدى وإمام الرّدى، ووليّ النّبيّ وعدوّ النّبيّ، ولقد قال لي رسول الله
(صلى الله عليه وآله): إنّي لا أخاف على أمّتي مؤمناً ولا مشركاً، أمّا المؤمن،
فيمنعه الله بإيمانه، وأمّا المشرك، فيقمعه الله بشركه، ولكنّي أخاف عليكم كلّ
منافق الجنان، عالم اللّسان، يقول ما تعرفون ويفعل ما تنكرون ."
وتمثّلت روعة الإسلام وما ينشده من تقوى وهدى واستقامة في سلوك الإنسان بهذا العهد
المبارك الذي زوّد به الإمام (عليه السلام) واليه على مصر، لينشر في ربوعه العدل
والحقّ والمساواة بين المصريّين.
وهذه صورة أخرى من عهد الإمام (عليه السلام) لمحمّد رواها الطبري، وهذا نصّه: "بعد
البسملة: هذا ما عهد عبد الله عليّ أمير المؤمنين إلى محمّد بن أبي بكر حين ولاّه
مصر: أمره بتقوى الله في السّرّ والعلانية، وخوف الله عزّ وجلّ في المغيب والمشهد،
وأمره باللّين على المسلم والغلظة على الفاجر، وبالعدل على أهل الذّمّة، وبإنصاف
المظلوم، وبالشّدّة على الظّالم، وبالعفو عن النّاس، وبالإحسان ما استطاع، والله
يجزي المحسنين، ويعذّب المجرمين، وأمره أن يدعو من قبله إلى الطّاعة والجماعة، فإنّ
لهم في ذلك من العاقبة وعظيم المثوبة ما لا يقدرون قدره، ولا يعرفون كنهه، وأمره أن
يجبي خراج الأرض على ما كانت تجبى عليه من قبل، لا ينتقص منه، ولا يبتدع فيه، ثمّ
يقسمه بين أهله على ما كانوا يقسمون عليه من قبل، وأن يلين لهم جناحه، وأن يواسي
بينهم في مجلسه ووجهه، وليكن القريب والبعيد في الحقّ سواء، وأمره أن يحكم بين
النّاس بالحقّ، وأن يقوم بالقسط، ولا يتّبع الهوى، ولا يخف في الله عزّ وجلّ لومة
لائم، فإنّ الله جلّ ثناؤه مع من اتّقاه وآثر طاعته وأمره على ما سواه."
وكتب هذا العهد عبد الله بن أبي رافع مولى رسول الله (صلى الله عليه واله) لغرّة
رمضان سنة 36 ه .
وحفل هذا العهد بجميع ألوان التقوى والتمسّك بطاعة الله تعالى التي هي الدرع
الحصينة لمن التجأ إليها.
ولمّا استقرّ محمّد في مصر، كتب رسالة إلى معاوية يدعوه فيها إلى الجماعة والطاعة،
ويذكر فيها فضائل الإمام (عليه السلام)، وهذا نصّها: "من محمّد بن أبي بكر إلى
الغاوي معاوية بن صخر، سلام على أهل طاعة الله ممّن هو سلم لأهل ولاية الله. أمّا
بعد، فإنّ الله بجلاله وعظمته وسلطانه وقدرته، خلق خلقاً بلا عبث منه ولا ضعف في
قوّته ولا حاجة به إلى خلقهم؛ ولكنّه خلقهم عبيداً، وجعل منهم غوياً ورشيداً وشقيّاً
وسعيداً؛ ثمّ اختارهم على علمه، فاصطفى وانتخب منهم محمّداً (صلى الله عليه وآله)،
فاختصّه برسالته، واختاره لوحيه، وائتمنه على أثره، وبعثه رسولاً ومبشّراً ونذيراً
مصدّقاً لما بين يديه من الكتب، ودليلاً على الشّرائع، فدعا إلى سبيل ربّه بالحكمة
والموعظة الحسنة، فكان أوّل من أجاب وأناب وآمن وصدّق وأسلم وسلّم، أخوه وابن عمّه،
صدّقه بالغيب المكتوم، وآثره على كلّ حميم، ووقاه بنفسه كلّ هول، وواساه بنفسه في
كلّ خوف، وحارب حربه، وسالم سلمه، فلم يبرح مبتذلاً لنفسه في ساعات الأزل ومقامات
الرّوع، حتى برز سابقاً لا نظير له في جهاده، ولا مقارب له في فعله، وقد رأيتك
تساميه، وأنت أنت، وهو هو السابق المبرّز في كلّ خير، أوّل النّاس إسلاماً، وأصدق
الناس نيّةً، وأطيب الناس ذرّيّة، وخير الناس زوجة، وخير الناس ابن عمّ، أخوه
الشاري لنفسه يوم مؤتة، وعمّه سيّد الشهداء يوم أحد، وأبوه الذابّ عن رسول الله (صلى
الله عليه وآله) وعن حوزته، وأنت اللّعين ابن اللّعين، لم تزل أنت وأبوك تبغيان
لدين الله الغوائل، وتجهدان في إطفاء نور الله، وتجمعان على ذلك الجموع، وتبذلان
فيه المال، وتؤلّبان عليه القبائل، على هذا مات أبوك، وعلى ذلك خلفته، والشّاهد
عليك بذلك، من يأوي ويلجأ إليك من بقيّة الأحزاب ورؤوس النفاق والشقاق لرسول الله (صلى
الله عليه وآله)، والشاهد لعليّ مع فضله المبين وسابقته القديمة، أنصاره الذين معه،
الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن، ففضّلهم وأثنى عليهم من المهاجرين والأنصار، فهم
معه كتائب وعصائب، يجالدون حوله بأسيافهم، ويهريقون دماءهم دونه، يرون الحقّ في
اتّباعه، والشّقاق والعصيان في خلافه، فكيف - يا لك الويل - تعدل نفسك بعليّ، وهو
وارث رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ووصيّه وأبو ولده، وأوّل النّاس له اتّباعاً،
وأقربهم به عهداً، يخبره بسرّه، ويطلعه على أمره، وأنت عدوّه وابن عدوّه؟! فتمتّع
في دنياك ما استطعت بباطلك، وليمددك ابن العاص في غوايتك، فكأنّ أجلك قد انقضى،
وكيدك قد وهى، وسوف يستبين لك لمن تكون العاقبة العليا. واعلم أنّك إنّما تكايد
ربّك الّذي قد أمنت كيده، وأيست من روحه، وهو لك بالمرصاد، وأنت منه في غرور،
والسّلام على من اتّبع الهدى" .
وهذه الرّسالة ناطقة بالحقّ، ملمّة بالواقع، ليس فيها دجل ولا افتراء، فقد حكت جهاد
الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وعظيم مكانته عند النبيّ (صلى الله عليه وآله)،
كما حكت زيغ معاوية وضلاله وتطاوله على أخ النبيّ (صلى الله عليه وآله)، ومنازعته
له بغير حقّ. وعلى أي حال، فهذه الرسالة من غرر الرسائل الحافلة بالواقع والحقّ.
وأجاب معاوية عن رسالة محمّد بهذه الرسالة جاء فيها: "من معاوية بن صخر إلى الزّاري
على أبيه محمّد بن أبي بكر، سلام على أهل طاعة الله؛ أمّا بعد: فقد أتاني كتابك
تذكر فيه ما الله أهله في عظمته وقدرته وسلطانه، وما أصفى به نبيّه، مع كلام كثير
ألفته ووضعته لرأيك فيه تضعيف، ولأبيك فيه تعنيف، ذكرت فيه حقّ ابن أبي طالب وقديم
سوابقه وقرابته من نبيّ الله، ونصرته له، ومواساته إيّاه في كلّ هول وخوف، فكان
احتجاجك عليّ وفخرك بفضل غيرك لا بفضلك، فاحمد إلهاً صرف ذلك الفضل عنك وجعله لغيرك،
فقد كنّا وأبوك معنا في حياة نبيّنا، نعرف حقّ ابن أبي طالب لازماً لنا، وفضله
مبرزاً علينا، فلمّا اختار الله لنبيّه ما عنده، وأتمّ له ما وعده، وأظهر دعوته،
وأفلج حجّته، قبضه الله إليه، فكان أبوك وفاروقه أوّل من ابتزّه حقّه، وخالفه على
أمره، على ذلك اتّفقا واتّسقا، ثمّ إنّهما دعواه إلى أنفسهما، فأبطأ عنهما، فهمّا
به الهموم، وأرادا به العظيم - أي القتل - ثمّ إنّه بايعهما وسلّم لهما، وأقاما لا
يشركانه في أمرهما، ولا يطلعانه على سرّهما، حتى قبضا وانقضى أمرهما، ثمّ أقاما
بعدهما عثمان يهتدي بهديهما، ويسير بسيرتهما، فعبته أنت وصاحبك، حتى طمع فيه
الأقاصي من أهل المعاصي، وبطنتما وظهرتما وكشفتما له عداوتكما وغلّكما، حتى بلغتما
منه مناكما. فخذ حذرك يا بن أبي بكر، فسترى وبال أمرك، وقس شبرك بفترك، تقصر عن أن
توازي -أو تساوي - من يزن الجبال حلمه، ولا تلين على قسر قناته، ولا يدرك ذو مدى
أناته، أبوك مهّد له مهاده، وبنى ملكه وشاده، فإن يك ما نحن فيه صواباً، فأبوك
أوّله، وإن يك جوراً، فأبوك أسّه ونحن شركاؤه، فبهداه أخذنا، وبفعله اقتدينا، ولولا
ما فعل أبوك من قبل، ما خالفنا ابن أبي طالب، ولسلّمنا إليه، ولكنّا رأينا أباك فعل
ذلك به من قبلنا، فاحتذينا مثاله، واقتدينا بفعاله، فعب أباك بما بدا لك أو دع،
والسلام على من أناب ورجع من غوايته وتاب وناب...".
*من "موسوعة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب"، ج 10.