كان لسقوط الحسين بهذه الصورة المأساوية نتائج خطيرة في تاريخ العراق والدولة
الأموية عامة، فقد عاش الحزب الشيعي عقدة الذنب، مثقلاً بمرارة الموقف الانهزامي
الذي وقفه إزاء كربلاء.
وتحرّج النظام الأموي الذي لم يقدّر فظاعة المأساة، وكان عليه أن يجابه نتائجها
السريعة والمستقبلية التي أخذت تنعكس منذ ذلك الحين على بنية هذا النظام.
وليس ثمة شكّ أن يزيد كان المسؤول الأوّل عن مجزرة كربلاء، وكان مسوقاً إلى
ارتكابها بدافع من قصر النّظر وعدم صحة الرؤية، فقد أثبت فشله الذريع في تبوّؤ مركز
خطير كالخلافة، ذلك المركز الذي بذل في سبيله معاوية كل إمكانياته، وصرف كل جهوده
من أجل الحفاظ عليه.
ها هو يزيد يكاد يقضي بتصرّف أرعن على كل إنجازات أبيه، برغم توصيات هذا الأخير له
بعدم الصدام مع الحسين.
والواقع أن الدولة الأموية لم تلبث أن أخذت تجتني ثمرة كربلاء بصورة غير متوقّعة،
وبدت عاجزة عن صد تيار الثّورة الذي عمّ مختلف مناطق الدّولة.
ففي الحجاز، كانت المدينة مسرحاً لأول انتفاضة ضدّ السيادة الأموية تحركها عوامل
مختلفة، أهمها ما يتعلق بالعزلة السياسية التي فرضها معاوية على الحجاز منذ انتقال
الخلافة إلى البيت الأموي، وبنوعية العمال الذين انتدبتهم الدولة لحكم المدينة، لا
سيما عثمان بن محمد بن أبي سفيان، وهو من عناصر البيت الأمويّ، كان صغير السن، قليل
التجربة. وهكذا، فإن عوامل التحلل والنقمة كانت متوافرة في الحجاز، ولكنها تنتظر
المحرك والوقت الملائم، فجاءت حادثة كربلاء تفجر المواقف وتطلق النفوس من عقالها،
وقد حاول يزيد أن يتدارك الأمر في المدينة، عن طريق التلويح بإغداق الأموال عليها
حيناً، وبالتهديد أحياناً أخرى.
ولكن موقف المدينة كان حاسماً، ووصل قرارها في الثورة على النظام الأموي نقطة
اللارجوع. ففي المؤتمر الذي عقده زعماؤها في المسجد، اتخذ قرار بالإجماع، بخلع يزيد
ومبايعة عبد الله بن حنظلة الأنصاري الّذي أصبح زعيم الثورة، والمسؤول عن تنفيذ
مقرّرات المؤتمر، وكان أولها الهجوم على عناصر البيت الأموي في المدينة، وكانوا
مجتمعين بدورهم في منزل كبيرهم مروان بن الحكم، فطردوهم من المدينة كما طردوا
عاملها الأموي، وبذلك غدت عاصمة الإسلام الأولى خارج إطار السيادة الأموية. ولم يقف
يزيد الذي اصطبغت يداه بدم الحسين، موقف المتفرّج على أحداث المدينة، وإنما كان
متصلباً، ومصمّماً على ضرب الثّورة بمنتهى الشدّة والقسوة، ويبدو ذلك واضحاً من
خلال شخصية القائد العسكري الذي أوكل إليه مهمة القضاء على ثورة الحجاز، وهو مسلم
بن عقبة، الّذي يصفه المؤرخون بأنه أحد جبابرة العرب لصلافته وقسوته.
ولم يخيب مسلم أمل الخليفة به، فسرعان ما وصل بجيشه إلى المدينة، وضرب حولها الحصار،
ولكن أهلها جابهوا الموقف بشجاعة، وحفروا خندقاً حول مدينتهم استعداداً لحرب طويلة
وقاسية.
غير أن استعدادات المدينة لم تكن كافية للوقوف أمام جيش متفوّق في العدد والتنظيم
والقيادة، فانتهت أحلامها الاستقلاليّة بالسقوط في موقعة الحرّة (63 هجري / 683 م)،
وبانتهاك مسلم حرمتها، بإباحتها لجنوده أيّاماً ثلاثة: يقتلون الناس، ويأخذون
الأموال. وهكذا كان تحرك المدينة استنكاراً مباشراً لمقتل الحسين، ورفضاً للسيادة
الأموية التي حادت برأيهم عن الشرعية، وانحرفت عن روح الإسلام، ولم يكن إخضاع
المدينة معناه القضاء على الثّورة في الحجاز، لأن رايتها انتقلت إلى مكّة التي شهدت
تحركاً أكثر عنفاً وضراوة.
وفي مكة، بلغ التحرّك بعداً أشدّ خطورة، بإعلان عبد الله بن الزبير ثورته ورفضه
الاعتراف بخلافة يزيد، وقد جاء توقيت هذه الثّورة بعد سقوط الحسين في كربلاء،
ليضعها في إطار التحرّك العام الذي شمل المنطقة بكاملها، استنكاراً للمأساة، وردّ
فعل مباشر لها.
والحقّ أنه برغم ما كان لمقتل الحسين من تأثيرات على هذه الثّورة، إلا أننا لا
نستطيع أن نربطها بثورة الحسين والثورات الأخرى التي كانت امتداداً لها، ذلك أن ابن
الزبير كان يعدّ نفسه للثّورة بمعزل عن الحسين، وقبل أن يتحرّك هذا الأخير الذي وقف
عائقاً أمام طموحه إلى السلطة، لأن المكانة العظيمة التي احتلّها الحسين في نفوس
الجماهير، لم تدع أيّ مجال للمنافسة.
ونتيجة لذلك، كان على ابن الزبير أن يتسلّح بالصّبر، وأن يتصرّف بذكاء إلى أن
يتبلور الموقف وتتوضّح الأمور، وهو في الوقت نفسه، لا يألو جهداً في دفع الحسين
للاستجابة إلى نداء الكوفيّين في الذهاب إلى العراق وإعلان الثورة من هناك على
خلافة يزيد.
على أننا نخطئ إذا انزلقنا في تصوّرنا لمدى تأثير الحملة النفسيّة التي قام بها ابن
الزبير إزاء منافسه الرئيسي الحسين لدفعه على الخروج، لأنّ هذا الأخير كان يعمل وفق
خطة مرسومة، وفي إطار من الحذر وسلامة الرؤية، وكان يدرك جيّداً ما وراء هذا
التشجيع لتحديد موقفه والإسراع في مغادرة الحجاز: لو كان لي في الكوفة مثل شيعتك،
ما عدلت عنها. فوجوده في هذا الإقليم كان ثقيلاً على ابن الزبير الّذي عرف أنّ أهل
الحجاز لا يبايعونه ولا يتابعونه أبداً مادام الحسين بالبلد، وأن حسيناً أعظم في
أعينهم وأنفسهم منه، وأطوع في الناس منه.
إنها حقيقة أدركها الحسين بكلّ أبعادها، ومع ذلك، اتخذ الطريق إلى العراق للقيام
بمسيرته التاريخية، وهي الثّورة على الظلم ودكّ صروح الطغيان، وإقامة مجتمع عادل
متحرّر من الطبقية والقهر والاستغلال، وفي الوقت نفسه، لم تكن الحجاز بنظر الحسين
الأرض الصالحة لحركة سياسية ناجحة، فقد أفسدها تطاحن الأحزاب وشراء الضّمائر،
وإصرار معاوية على إبقائها معزولة عن الأحداث، فعاشت في الظلّ نحو ربع قرن من
الزّمن، فضلاً عن قلة مواردها الاقتصادية، وعدم اكتفائها الذّاتي، الأمر الذي كان
يجعل من استمراريتها وحيدة في التصدي للنظام الأموي أمراً في غاية الصعوبة. لذلك،
كان العراق بضخامة موارده البشرية والاقتصادية، الأرض الصلبة التي توفر الطمأنينة،
وتجعل فرص النجاح أقرب إلى التحقيق.
لبث ابن الزبير معتصماً في المدينة المقدَّسة، يرقب من بعيد سير الأحداث، حتى جاءته
الأخبار تنقل إليه مصرع الحسين في كربلاء، فلم يتردّد في اتخاذ الموقف الذي كان
يتوق إلى اتخاذه، وهو اعلان الثورة على النظام الأموي والاستقلال بالحجاز، مستغلاً
كما حدث في المدينة، بشاعة المجزرة في تكتيل الجماهير الغاضبة حوله، وتحريكها بشكل
عاصف ضدّ الأمويّين قتلة الحسين، ولكنّ ثورته اختلفت عن ثورة المدينة بأنّ هذه
الأخيرة انعكست عليها كربلاء بكلّ ما فجّرته من غضب وحقد، بينما كان الطّموح الشخصي
فقط هو جوهر الثّورة التي قام بها ابن الزبير وأكثر سماتها بروزاً.
وإذا كانت قوات الخلافة الأمويّة قد تمكّنت من حسم الموقف سريعاً في موقعة الحرّة
التي انتهت بفشل ثورة المدينة، فإن الموقف كان أشدّ حراجة في مكّة قاعدة ابن الزبير
التي أخذت تتوسّع بعدئذ لتشمل الحجاز كلّه، ثم العراق ومصر، ذلك أنّ هذه القوات
فقدت في الطريق قائدها الصلف متأثراً بشدة المرض وتقدّم السن.
فخلفه في القيادة بناءً على وصية من يزيد أحد معاونيه والمتفانين في خدمة النظام
الأموي، وهو الحصين بن نمير السكوني. وصل الحصين بن نمير بقواته إلى مكّة وضرب
حولها الحصار، وأثبت في صلافته أنه تلميذ متفوق لمسلم بن عقبة. أما ابن الزبير، فقد
تحصّن في الكعبة وسدّ منافذ المدينة، وكان قد قوي مركزه حينئذٍ بما انضم إليه من
الحلفاء، كبعض الهاربين من موقعة الحرّة، وجماعة الخوارج النجدية والأزارقة، فضلاً
عن المختار الثقفي الذي بدأ يبرز كشخصيّة قويّة إثر التطورات السياسية التي رافقت
كربلاء وتمخضت عنها.
وازداد مركز ابن الزبير قوّة، حين أصبح المعارض الأول للنظام الأموي، والرّجل الذي
يحظى بتأييد غالبية المسلمين، التي استنكرت إقدام جيش يزيد على غزو مكّة، واشتد
سخطها حين أخذت مجانيق هذا الجيش ترمي بقذائفها الكعبة، مرتكبة أوّل عمل جريء من
هذا النوع، سيظلّ يستثير حفيظة المسلمين على مرّ الأيّام. وفي غمرة هذه الاحداث،
تأتي الأنباء ناعية يزيد، الذي ترك الخلافة الأمويّة لمصيرها الغامض، وإذ ذاك،
توقفت العمليات الحربية في المدينة المقدَّسة (64 هجري)، ودخل القائد الأموي في
مفاوضات مع ابن الزّبير، انتهت باجتماع الرّجلين في (الأبطح) لمناقشة الوضع السياسي
العام، وقد حاول الحصين إقناع ابن الزبير بالذهاب إلى الشام ومبايعته بالخلافة،
ويبدو أن القائد الأموي أدرك أن الأمور تتجه لمصلحة ابن الزبير، فأراد أن يخوض به
معركة الخلافة في دمشق.
ولكنّ هذا الأخير رفض عروض الحصين الّذي سارع بالعودة إلى عاصمة الخلافة، ليكون على
مقربة من تطوّرات الأحداث فيها. والواقع أن استنكاف ابن الزّبير عن الاستماع إلى
نصيحة الحصين في الذهاب إلى دمشق، قد فوَّت عليه فرصة عظيمة من فرص الوصول إلى
الخلافة، فقد شغر هذا المنصب بوفاة يزيد، واحتدم الصّراع عليه بين أفراد الأسرة
الحاكمة، والعاصمة الأمويّة في غمرة ذلك، تبحث عن رجلها القويّ دون جدوى لفترة غير
قصيرة. ولا ريب أن غياب يزيد المفاجئ، قد أحدث بلبلة في مختلف أقاليم الدولة
الأمويّة، وأخذ التحرّك فيها يتصاعد ويحمل بعداً جديداً، ستحدّد على ضوئه موقفها من
مسألة الخلافة بصورة عامّة.
وكان من الطبيعي في غمرة هذا الفراغ السياسي وهذا الجوّ المشحون بالتناقضات، أن
يتبارى الطامحون إلى السلطة في استغلال المواقف وانتهاز الفرض لاستقطاب أكبر عدد من
الناس حول قضيّتهم، وكان العراق، الذي ما قبل يوماً السيادة الأموية إلا مرغماً،
المسرح الذي تمثّلت فيه صورة الرفض لهذه السيادة، وما تمخّضت عنه من أحداث عنف
واضطرابات متواصلة.
فالبصرة التي عرف عنها بعض التحفّظ في مواقفها العدائية من الحكم الأموي، كان عليها
هذه المرّة أن تأخذ قرارها بسرعة، إمّا الاعتراف بخلافة ابن الزبير، الرّجل الذي
اتجهت إليه الأنظار حينئذ كأقوى شخصية في العالم الإسلامي، وإما المضي في خضوعها
للسيادة الأموية التي يمثلها عبيد الله بن زياد.
وقد اغتنم هذا الأخير الفرصة، فحاول أخذ البيعة لنفسه باسم الأمويين، بانتظار ما
يسفر عنه الموقف في دمشق، ولكنّ محاولاته فشلت، وأرغم على الخروج مطروداً من
المدينة.
بايعت البصرة بعد ذلك أحد رجالها، وهو عبد الله بن الحارث بن نوفل، ولكنه فشل في
مهمّته، لأن المدينة تحوَّلت إلى مسرح للفوضى، تعاني من التطاحن القبلي واشتداد ضغط
الخوارج، وفشل أيضاً الذين جاؤوا بعده، فكتب أهلها إلى ابن الزبير يبايعونه ويطلبون
إليه انتداب رجل يتولى الأمر فيهم ويدفع عنهم خطر الخوارج.
والواقع أن تدهور الموقف في البصرة وصل إلى مرحلة بالغة الخطورة، الأمر الذي دفع
سكانها إلى توحيد كلمتهم والاحتكام إلى خليفة الحجاز، فلبى هذا الأخير طلبهم، وبعث
إليهم الحارث بن عبد الله بن ربيعة، فساعد كثيراً في إقرار السلام في تلك المنطقة،
حتى إذا جاء مصعب بن الزّبير بعد ذلك بقليل، عاد الهدوء تماماً إلى البصرة، وتحدَّد
موقفها بصورة واضحة.
وفي الكوفة، التي عاشت تحت وطأة التّقصير والخذلان في أعقاب مصر الحسين، كان الموقف
يزداد غلياناً، وخصوصاً أن الأسلوب الأموي التقليدي القائم على الضغط والإرهاب نحو
هذه المدينة المعروفة بميولها العلويّة المتطرفة، لم يتغير، ولم يطرأ عليه تعديل،
فقد استمر التنكيل الأموي يتصاعد بعد كربلاء، وكان الأداة التنفيذية له، نائب عبيد
الله بن زياد في الكوفة، عمرو بن حريث.
ومن البديهي القول إان هذه المدينة، كقاعدة أساسية للحركة الشيعيّة، اختلفت في
موقفها من النظام الأموي عن البصرة، فإذا كان موقف هذه الأخيرة قد امتزج ببعض
التحفّظ قبل أن تعلن قرارها الحاسم، فإن الكوفة لم تكن بحاجة إلى التردّد، فقد
اتخذت قرارها سريعاً، وهو طرد عاملها عمرو بن حريث، ممثّل النظام الأموي فيها،
وتولية عامر بن مسعود مكانه، ثم كتب أهلها إلى ابن الزّبير بشأن ذلك، فأقرّ ابن
مسعود في منصبه، وبذلك خرج العراق بكامله من السيادة الأموية وانضمّ إلى ابن
الزبير.
أما في دمشق، فإن وضع الخلافة الأموية ازداد تحرجاً بتنازل خليفة يزيد، معاوية
الثاني، عقب ظروف غامضة، مسدياً - دونما قصد - خدمة كبيرة لخلافة ابن الزّبير.
فأدّى ذلك إلى نشوب أزمة سياسية عنيفة في دمشق واجهت النظام الأموي، وكادت أن تقضي
عليه، وتفاقم التطاحن بين القبائل، حتى بلغ مرحلة من الخطورة بعيدة، فقد أيدت
القبائل القيسية بزعامة الضحاك بن قيس الفهري وزفر بن الحارث الكلابي ابن الزبير،
بينما أيدت القبائل اليمانية بزعامة حسان بن بحدل الكلبي، مروان بن الحكم، الذي طرح
نفسه كمرشّح للخلافة، والتفّ حوله المؤيدون لبني أميّة، وبايعوه في مؤتمر الجابية
سنة 64 هجري / 684 م، الذي عالج مسألة الخلافة والانقسامات في البيت الأموي، وكان
هذا المؤتمر خطوة أولى ومهمة لاجتياز المحنة وخروج الخلافة من مأزقها.
ثم كانت الخطوة الثانية والحاسمة، عندما التقت جيوش المتنافسين في مرج راهط في
معركة طاحنة انتهت بانتصار مروان وحلفائه من القبائل اليمانيّة، وهزيمة قاسية
للقبائل القيسية، حلفاء ابن الزبير، ومقتل زعيمها الضحّاك، وثلاثة من أبناء زفر بن
الحارث، وهكذا قدِّر للأمويين الاحتفاظ بالخلافة وانتزاعها مرّة ثانية بالقوّة، بعد
أن أوشكت على الضياع والانتقال إلى الحجاز، غير أن فرعاً آخر أمسك بزمامها، هو
الفرع المرواني الذي تقلّدها حتى سقوط الخلافة الأمويّة.
*من كتاب "التوّابون".