ماذا جرى في واقعة الجمل؟

ماذا جرى في واقعة الجمل؟

وكانت عائشة قد اختارت الإقامة في مكّة، ورجعت إليها بعد أن بلغها أنّ مصرع عثمان قد انتهى باستيلاء عليّ على السلطة، كما ذكرنا، وانضمّ إليها الحاقدون من بني أميّة وعبد الله بن عامر الحضرمي عامل عثمان على مكّة، وجعلت تدعو الناس للخروج والثورة، وكلما اجتمع عليها ملأ من الناس تقول:

أيّها الناس، إنّ هذا حدث عظيم، وأمر منكر، فانهضوا إلى إخوانكم من أهل البصرة فانكروه، فقد كفاكم أهل الشّام ما عندهم، ولعلّ الله عزّ وجلّ يدرك لعثمان وللمسلمين ثأرهم.

وكان عبد الله بن عامر رجّح لها الخروج إلى البصرة، وزعم أن له فيها أنصاراً يستجيبون لطلبه ويتداعون لنصرته، فاستجابت لطلبه بعد أن اتصلت بالزبير وطلحة، واتفقوا جميعا على ذلك، وأرسلت إلى نساء النبي (ص) تدعوهن إلى نصرتها والخروج معها لحرب عليّ بن أبي طالب، فوافقت على طلبها حفصة بنت عمر بن الخطاب، كما يروي المؤرخون، وما إن علم أخوها عبد الله بن عمر بذلك، حتى جاءها وأقنعها بالعدول عن رأيها، وتلا عليها الآية: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ولا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى‏}... ولكنّ عائشة ظلت في طريقها، ولم تستجب لنصيحتها، ومضت تستعدّ للثّورة، وتجمع حولها الموتورين من بني أميّة وغيرهم ممن أغراهم مروان بن الحكم وعبد الله بن عامر ويعلى بن أميّة بالأموال والمراكز إذا نجحوا في معركتهم مع عليّ بن أبي طالب.

موكب عائشة في طريقها إلى البصرة وما جرى فيها من أحداث:

ويدّعي المؤرخون أنها قد استدعت طلحة والزبير إلى مكّة لكي ينطلقوا منها جميعاً إلى البصرة، فجاءا إلى عليّ (ع) وطلبا منه أن يأذن لهما بالذهاب إلى مكّة لأداء العمرة، فقال لهما: والله ما أردتما العمرة بل أردتما الغدر، وظلا يلحّان عليه حتى أذن لهما، فخرجا والتحقا بعائشة في مكّة المكرّمة، حيث كان المناوئون لعليّ (ع) قد تجمّعوا بها، ولما أتموا عدّتهم وتكامل عددهم، اتجهوا نحو البصرة بناءً لرغبة عبد الله بن عامر وطلحة...

وأضاف الرواة إلى ذلك أنّه لما اجتمعت كلمتهم على المسير، حاولا إقناع عبد الله بن عمر بالمسير معهما وعرضا عليه الأمر، وقالا: يا أبا عبد الرّحمن، إنّ أمّنا عائشة قد خفت لهذا الأمر رجاء الإصلاح بين الناس، فاذهب معنا، فإنّ لك بها أسوة، فإن بايعنا الناس، فأنت أحقّ بالأمر، فقال لهما: أتريدان أن تخرجاني من بيتي وتلقياني بين مخالب ابن أبي طالب؟...

... تحرّك موكب الناكثين بقيادة طلحة والزبير وعائشة باتجاه البصرة، يحفّ به الطامعون والحاقدون الذين تستّروا بالثّأر لعثمان لتحقيق أطماعهم وانتزاع السلطة من أصحابها الشرعيّين، كما تؤكّد ذلك جميع مواقفهم.

وقبل أن تصل عائشة ومن معها إلى البصرة، أرسل عثمان بن حنيف أبا الأسود الدؤلي وعمران بن حصين، وأوصاهما أن يقابلا القوم قبل دخولهم البصرة، عسى أن يكفّ الله شرَّهم، وكان أبو الأسود المتكلّم الأول مع طلحة، فقال له: إنكم قتلتم عثمان غير مؤامرين لنا في قتله، وبايعتم علياً غير مؤامرين لنا في بيعته، فلم نغضب لعثمان إذ قتل، ولم نغضب لعليّ إذ بويع، فأردتم خلع عليّ ونحن على الأمر الأوّل، فعليكم المخرج مما دخلتم فيه. وتكلّم بعده عمران بن حصين بما يشبه ذلك، وكان جواب طلحة لهما كما يدّعي المؤرخون، أن صاحبكم لا يرى أنّ معه في هذا الأمر غيره، وليس على هذا بايعناه، والله ليسفكنّ دمه. فقال أبو الأسود لعمران: إنّ طلحة قد غضب للملك. ثم تكلّما مع الزبير فقال لهما: إن طلحة وإياي كروح واحدة في جسدين. وأضاف إلى ذلك: لقد كان لنا مع عثمان بن عفان فلتات احتجنا فيها إلى المعاذير، ولو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا، لنصرناه.

ثم أتيا عائشة فقالا لها: يا أمّ المؤمنين، ما هذا المسير؛ أمعك من رسول الله عهد بذلك؟ فقالت: إنّ عثمان قتل مظلوماً، لقد غضبنا لكم من السّوط والعصيّ، أفلا نغضب لقتل عثمان؟ فردّ عليها أبو الأسود بقوله: وما أنت من عصانا وسيفنا وسوطنا، وأنت حبيس رسول الله، أمرك أن تقرّي في بيتك، فجئت تضربين الناس بعضهم ببعض. فقالت: وهل أحد يقاتلني؟ فقال: أي والله، لتقاتلينّ قتالاً أهونه الشّديد. وقال لها جارية بن قدامة السعدي مرة أخرى: يا أمّ المؤمنين، والله لقتل عثمان بن عفان أهون من خروجك على هذا الجمل الملعون عرضة للسّلاح، لقد كان لك من الله ستر وحرمة، فهتكت سترك وأبحت حرمتك، وإنّ من رأى قتالك فقد رأى قتلك، فإن كنت قد أتيتنا طائعةً، فارجعي إلى منزلك، وإن كنت مستكرهة، فاستعيني بالناس. إلى كثير من المواقف التي وقفها جماعة من أهل البصرة وغيرهم مع طلحة والزبير وعائشة، وباءت جهودهم بالفشل. ومضى القوم على موقفهم المتصلب، حتى دخلوا البصرة، فانضمّ إليهم جماعة منها، بين طامع وحاقد، وبين من التبس عليهم الأمر وغرّهم موقف عائشة زوجة النبيّ وابنة الخليفة الأوّل.

وكان أمير المؤمنين (ع) بعد أن أحيط علماً بمواقف طلحة والزبير وعائشة، وبمسيرتهم إلى البصرة وإعلانهم العصيان المسلَّح... ولما يئس من تراجع القوم، وأيقن أنهم مصمّمون على المضيّ في طريقهم مهما كانت التكاليف والنتائج، زحف بمن معه من المسلمين إلى البصرة... ثم بعث إليهم من أصحابه من يناشدهم الله في الدماء والأموال، فلم يستجيبوا له، وأصرّوا على القتال، ولكنّ عليّاً (ع) ظلّ يحافظ على السِّلم، ويؤكّد على أصحابه أن يلتزموا الهدوء والصّبر، ولا يباشروا القتال، إيثاراً للعافية وإتمام الحجة، وأملاً منه في اجتماع الكلمة. هذا وعائشة تحرّض الناس عليه وهي على جمل، يحفّ بها أنصارها وتقول: أيّها الناس، لقد غضبنا لكم من سوط عثمان وعصاه، أفلا نغضب لعثمان من السيف؟ ألا إنّ خليفتكم قتل مظلوماً، لقد أنكرنا عليه أشياء وعاتبناه بها، فأعتب وتاب إلى الله، وما يطلب من المسلم إن أخطأ أكثر من أن يتوب إلى ربّه ويعتب الناس، ولكن أعداءه سطوا عليه فقتلوه، واستحلّوا الحرمات الثلاث: حرمة الدّم، والشهر الحرام، والبلد الحرام.

ولما يئس أمير المؤمنين من التوصّل إلى السِّلم بالمناظرة والحجة، أمر أحد رجاله أن يخرج بين الصفّين وبيده مصحف يدعوهم إلى الرّجوع إليه، وقد أخبره بأنّ الناكثين قد يرمونه بالنبل، وهو يدعوهم إلى الرجوع لحكم الكتاب، فلم يتردّد الفتى، ومضى بيده المصحف، حتى إذا كان بين الصفّين، رفعه بكلتا يديه، ووقف باتجاه عائشة وجندها، ودعاهم إلى الرجوع إلى حكمه، فكان جوابهم أن رموه بسهامهم من كلّ جانب، حتى وقع قتيلاً، فحملوه إلى أمير المؤمنين، فاسترجع وترحَّم عليه، وأمر أصحابه أن يدنوا من القوم، فزحفوا نحوهم، يتقدّمهم عمار بن ياسر ووجوه المهاجرين والأنصار...

ومجمل القول، أنَّ الفريقين في تلك المعركة قد اقتتلا قتالاً ضارياً لم يشهد تاريخ البصرة قتالاً أشدّ ضراوةً منه، واستمرّ حتى أصبح أصحاب أمير المؤمنين على أبواب النصر، وعائشة في هودجها تحرّض الناس على القتال، وتتحدّث مع من هم على يمينها وشمالها، ومن تزاحموا على حطام الجمل، بكلمات تلهب مشاعرهم بالحماس، ثم تعود فتخرج يدها من الهودج، تحمل بها بدرة من الدنانير، وتصيح بأعلى صوتها: من يأتيني برأس الأصلع وله هذه البدرة؟ وأصحابها يندفعون على الموت وهم يرتجزون:

يا أمّنا عائش لا تراعي كلّ بنيك بطل المصاع‏

وأصحاب أمير المؤمنين يحملون على أولئك الذين استماتوا حولها، وراجزهم يقول:

يا أمّنا أعقّ أمّ نعلم والأمّ تغذو ولدها وترحم‏

أما ترين كم شجاع يكلم وتختلي منه يد ومعصم‏

واستمرّ الحال لفترة من الزمن، لا يرى فيها الناس إلا أيدي تتناثر، وأرجلاً تقطع، وأجساداً تتهاوى هنا وهناك، وأولئك وهؤلاء يتسابقون إلى الموت، وكان لا يأخذ بخطام الجمل أحد إلا قتل من دونه، ولما رأى عليّ (ع) هذا الموقف الرهيب، راعه ما رأى، وعلم أن المعركة لن تنتهي مادام الجمل واقفاً على قوائمه، فصاح بأصحابه: اعقروا الجمل، فإن في بقائه فناء العرب. فأمر ولده محمد بن الحنفية أن يحمل بمن معه على تلك الجموع المحتشدة حول جمل عائشة، وكانت الراية بيده، فأبطأ ابن الحنفية ليتّقي سهام القوم ونبالهم التي اتجهت نحوه كالعواصف من كلّ جانب، فأتاه عليّ (ع) وقال له: هل حملت على القوم؟

فقال: لا أجد يا أمير المؤمنين متقدّماً إلا على سهم أو سنان، وإني منتظر نفاد سهامهم. فحمل بمن معه نحوهم ثم توقّف، فأتاه أمير المؤمنين وضربه بقائم سيفه، وقال له: لقد أخذك عرق من أمّك، كما جاء في رواية المسعودي، وأخذ الراية منه، وتقدّم بها، فحمل الناس معه، فكان القوم كرماد اشتدّت به الريح في يوم عاصف، وتناوب بنو ضبّة على خطام الجمل حتى قتل منهم جماعة، فأمرهم بأن يعقروا الجمل، فلمّا عقروه، هوى إلى الأرض وله ضجيج لم يسمع الناس بمثله، على حدّ تعبير الراوي، فتفرّق من كان حوله كالجراد المنتشر، وبقيت صاحبة الهودج وحدها في ميدان المعركة، فقال لأخيها محمد بن أبي بكر: أدرك أختك حتى لا تصاب بأذى، فأقبل يشتدّ نحوها، وأدخل يده في هودجها، وقال لها: أنا أخوك، أقرب الناس منك وأبغضهم إليك، يقول لك أمير المؤمنين: هل أصابك شي‏ء؟ فلم تتكلّم. ثم جاءها أمير المؤمنين، فوقف على هودجها، وضربه بقضيب كان في يده، وقال: يا حميراء، ألم يأمرك رسول الله أن تقرّي في بيتك، والله ما أنصفك الذين صانوا عقائلهم وأبرزوك، وأمر أخاها فأنزلها في دار صفيّة بنت الحرث بن أبي طلحة العبدي.

وانتهت المعركة بهزيمة المتمرّدين، وسقوط طلحة والزبير قتيلين مع آلاف القتلى من الطرفين، وحاول بعض أنصاره قتل عائشة، فأنكر عليهم، ووضعها تحت الحراسة الشديدة حتى لا يتعرّض لها أحد بسوء، وأمر من ينادي في أصحابه:

لا تجهزوا على جريح، ولا تتبعوا هارباً، ولا تطعنوا مدبراً، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن.

ووقف بين قتلاه وقتلى المتمرّدين عليه في حالة من القلق والتمزّق، وبين خصومه وأنصاره رجال من الذين أبلوا بلاءً حسناً في الإسلام، لقد حزن من أجل هؤلاء الذين قتلهم وأولئك الذين قاتل بهم، ومن أجل الرسالة السامية التي تتعرّض للفتنة في بداية عهد جديد تمنى فيه أن يتفرّغ لأهدافه التي كان يطالب بالخلافة من أجلها.

لقد حزن من أجل هذا العمى الذي أصاب فريقاً من المسلمين الذين قادتهم المطامع والأهواء إلى هذا المصير السيّئ الذي لم يكن يتمنّاه لهم ولا لأحد من المسلمين، وحزن من أجل نفسه، وقد وقفت قريش له بالمرصاد، كما وقفت‏ لابن عمّه من قبل، وقد كتب عليه أن يقاتلها على تطبيق الرسالة، كما قاتلها هو وابن عمّه رسول الله على تنزيلها.

وكان يتمنى أن يقاتل بهم أعداء الإسلام، لتبقى الرسالة وتتّجه في طريقها الصحيح. وعاد يتأمّل القتلى من الجانبين، وقلبه يتصدّع لهذا المشهد الذي وجد فيه رفاقه في الجهاد مع رسول الله صرعى أطماعهم وأهوائهم، وجعل يترحّم على هؤلاء، ثم صلّى عليهم، وأذن لذوي القتلى بدفن قتلاهم، ولم يفسح المجال لأحد ممن وترهم طلحة والزبير بأولادهم وإخوانهم وعشائرهم أن يأخذوا من أموال المنهزمين، إلا ما وجدوه في المعركة من أسلحة وأمتعة كانوا يحاربون بها، وأمرهم بردّ بقيّة الأموال إلى أصحابها، وقال: ليس في هذه الحرب مغنم لمنتصر. وأرسل من ينادي في البصرة: من عرف شيئاً له فليأخذه.

إنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب في جميع معاركه التي خاضها مع أخصامه الذين انشقّوا عليه، لم يحاربهم ليصنع انتصار جيش على جيش بالسّلاح والعتاد، كما كان يصنع أخصامه، بل كان يحارب ليصنع جيشاً من المسلمين يستعين به على إحقاق الحقّ وعلى الظلم والظالمين والطغاة المستبدّين، وتركيز المبادئ الإسلاميّة في النفوس، لتصبح وكأنها غريزة أو فطرة. ولذلك، لما دخل البصرة، لم يترك وسيلةً من الوسائل إلا واستعملها مع المتمرّدين، رغبةً في الصّلح والسّلام وجمع الكلمة، ولما يئس منهم وانتهت المعركة التي فرضت عليه بهزيمتهم‏، بكى وتصدّع قلبه، ولم يدخل البصرة بعد انتهاء المعركة بزهو الفاتح المنتصر على أخصامه، لأنه لم يحقق الأهداف التي كان ينشدها ويحارب من أجلها.

ويرى بعض الكتّاب القدامى والمحدثين، أن الأمر كاد يلتئم قبل المعركة، واتفق الطرفان على الصلح بواسطة القعقاع بن عمرو أحد الصحابة، ولكنّ الذين تولوا أمر الثورة على عثمان، وعلى رأسهم عبد الله بن سبأ، أحد اليهود الذين دخلوا في الإسلام للتخريب والفساد، وكانوا إلى جانب عليّ في البصرة، وحين أحّسوا أنّ أمر الناس صائر إلى الصلح، أشفقوا أن يكونوا الثمن لهذا الصّلح، فاتفقوا فيما بينهم على أنّه إذا التقى الجمعان للمصالحة، أن ينشبوا القتال ويفوّتوا على الطرفين الفرصة.

*من كتاب "سيرة الأئمّة الإثني عشر"، ج 1".

وكانت عائشة قد اختارت الإقامة في مكّة، ورجعت إليها بعد أن بلغها أنّ مصرع عثمان قد انتهى باستيلاء عليّ على السلطة، كما ذكرنا، وانضمّ إليها الحاقدون من بني أميّة وعبد الله بن عامر الحضرمي عامل عثمان على مكّة، وجعلت تدعو الناس للخروج والثورة، وكلما اجتمع عليها ملأ من الناس تقول:

أيّها الناس، إنّ هذا حدث عظيم، وأمر منكر، فانهضوا إلى إخوانكم من أهل البصرة فانكروه، فقد كفاكم أهل الشّام ما عندهم، ولعلّ الله عزّ وجلّ يدرك لعثمان وللمسلمين ثأرهم.

وكان عبد الله بن عامر رجّح لها الخروج إلى البصرة، وزعم أن له فيها أنصاراً يستجيبون لطلبه ويتداعون لنصرته، فاستجابت لطلبه بعد أن اتصلت بالزبير وطلحة، واتفقوا جميعا على ذلك، وأرسلت إلى نساء النبي (ص) تدعوهن إلى نصرتها والخروج معها لحرب عليّ بن أبي طالب، فوافقت على طلبها حفصة بنت عمر بن الخطاب، كما يروي المؤرخون، وما إن علم أخوها عبد الله بن عمر بذلك، حتى جاءها وأقنعها بالعدول عن رأيها، وتلا عليها الآية: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ولا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى‏}... ولكنّ عائشة ظلت في طريقها، ولم تستجب لنصيحتها، ومضت تستعدّ للثّورة، وتجمع حولها الموتورين من بني أميّة وغيرهم ممن أغراهم مروان بن الحكم وعبد الله بن عامر ويعلى بن أميّة بالأموال والمراكز إذا نجحوا في معركتهم مع عليّ بن أبي طالب.

موكب عائشة في طريقها إلى البصرة وما جرى فيها من أحداث:

ويدّعي المؤرخون أنها قد استدعت طلحة والزبير إلى مكّة لكي ينطلقوا منها جميعاً إلى البصرة، فجاءا إلى عليّ (ع) وطلبا منه أن يأذن لهما بالذهاب إلى مكّة لأداء العمرة، فقال لهما: والله ما أردتما العمرة بل أردتما الغدر، وظلا يلحّان عليه حتى أذن لهما، فخرجا والتحقا بعائشة في مكّة المكرّمة، حيث كان المناوئون لعليّ (ع) قد تجمّعوا بها، ولما أتموا عدّتهم وتكامل عددهم، اتجهوا نحو البصرة بناءً لرغبة عبد الله بن عامر وطلحة...

وأضاف الرواة إلى ذلك أنّه لما اجتمعت كلمتهم على المسير، حاولا إقناع عبد الله بن عمر بالمسير معهما وعرضا عليه الأمر، وقالا: يا أبا عبد الرّحمن، إنّ أمّنا عائشة قد خفت لهذا الأمر رجاء الإصلاح بين الناس، فاذهب معنا، فإنّ لك بها أسوة، فإن بايعنا الناس، فأنت أحقّ بالأمر، فقال لهما: أتريدان أن تخرجاني من بيتي وتلقياني بين مخالب ابن أبي طالب؟...

... تحرّك موكب الناكثين بقيادة طلحة والزبير وعائشة باتجاه البصرة، يحفّ به الطامعون والحاقدون الذين تستّروا بالثّأر لعثمان لتحقيق أطماعهم وانتزاع السلطة من أصحابها الشرعيّين، كما تؤكّد ذلك جميع مواقفهم.

وقبل أن تصل عائشة ومن معها إلى البصرة، أرسل عثمان بن حنيف أبا الأسود الدؤلي وعمران بن حصين، وأوصاهما أن يقابلا القوم قبل دخولهم البصرة، عسى أن يكفّ الله شرَّهم، وكان أبو الأسود المتكلّم الأول مع طلحة، فقال له: إنكم قتلتم عثمان غير مؤامرين لنا في قتله، وبايعتم علياً غير مؤامرين لنا في بيعته، فلم نغضب لعثمان إذ قتل، ولم نغضب لعليّ إذ بويع، فأردتم خلع عليّ ونحن على الأمر الأوّل، فعليكم المخرج مما دخلتم فيه. وتكلّم بعده عمران بن حصين بما يشبه ذلك، وكان جواب طلحة لهما كما يدّعي المؤرخون، أن صاحبكم لا يرى أنّ معه في هذا الأمر غيره، وليس على هذا بايعناه، والله ليسفكنّ دمه. فقال أبو الأسود لعمران: إنّ طلحة قد غضب للملك. ثم تكلّما مع الزبير فقال لهما: إن طلحة وإياي كروح واحدة في جسدين. وأضاف إلى ذلك: لقد كان لنا مع عثمان بن عفان فلتات احتجنا فيها إلى المعاذير، ولو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا، لنصرناه.

ثم أتيا عائشة فقالا لها: يا أمّ المؤمنين، ما هذا المسير؛ أمعك من رسول الله عهد بذلك؟ فقالت: إنّ عثمان قتل مظلوماً، لقد غضبنا لكم من السّوط والعصيّ، أفلا نغضب لقتل عثمان؟ فردّ عليها أبو الأسود بقوله: وما أنت من عصانا وسيفنا وسوطنا، وأنت حبيس رسول الله، أمرك أن تقرّي في بيتك، فجئت تضربين الناس بعضهم ببعض. فقالت: وهل أحد يقاتلني؟ فقال: أي والله، لتقاتلينّ قتالاً أهونه الشّديد. وقال لها جارية بن قدامة السعدي مرة أخرى: يا أمّ المؤمنين، والله لقتل عثمان بن عفان أهون من خروجك على هذا الجمل الملعون عرضة للسّلاح، لقد كان لك من الله ستر وحرمة، فهتكت سترك وأبحت حرمتك، وإنّ من رأى قتالك فقد رأى قتلك، فإن كنت قد أتيتنا طائعةً، فارجعي إلى منزلك، وإن كنت مستكرهة، فاستعيني بالناس. إلى كثير من المواقف التي وقفها جماعة من أهل البصرة وغيرهم مع طلحة والزبير وعائشة، وباءت جهودهم بالفشل. ومضى القوم على موقفهم المتصلب، حتى دخلوا البصرة، فانضمّ إليهم جماعة منها، بين طامع وحاقد، وبين من التبس عليهم الأمر وغرّهم موقف عائشة زوجة النبيّ وابنة الخليفة الأوّل.

وكان أمير المؤمنين (ع) بعد أن أحيط علماً بمواقف طلحة والزبير وعائشة، وبمسيرتهم إلى البصرة وإعلانهم العصيان المسلَّح... ولما يئس من تراجع القوم، وأيقن أنهم مصمّمون على المضيّ في طريقهم مهما كانت التكاليف والنتائج، زحف بمن معه من المسلمين إلى البصرة... ثم بعث إليهم من أصحابه من يناشدهم الله في الدماء والأموال، فلم يستجيبوا له، وأصرّوا على القتال، ولكنّ عليّاً (ع) ظلّ يحافظ على السِّلم، ويؤكّد على أصحابه أن يلتزموا الهدوء والصّبر، ولا يباشروا القتال، إيثاراً للعافية وإتمام الحجة، وأملاً منه في اجتماع الكلمة. هذا وعائشة تحرّض الناس عليه وهي على جمل، يحفّ بها أنصارها وتقول: أيّها الناس، لقد غضبنا لكم من سوط عثمان وعصاه، أفلا نغضب لعثمان من السيف؟ ألا إنّ خليفتكم قتل مظلوماً، لقد أنكرنا عليه أشياء وعاتبناه بها، فأعتب وتاب إلى الله، وما يطلب من المسلم إن أخطأ أكثر من أن يتوب إلى ربّه ويعتب الناس، ولكن أعداءه سطوا عليه فقتلوه، واستحلّوا الحرمات الثلاث: حرمة الدّم، والشهر الحرام، والبلد الحرام.

ولما يئس أمير المؤمنين من التوصّل إلى السِّلم بالمناظرة والحجة، أمر أحد رجاله أن يخرج بين الصفّين وبيده مصحف يدعوهم إلى الرّجوع إليه، وقد أخبره بأنّ الناكثين قد يرمونه بالنبل، وهو يدعوهم إلى الرجوع لحكم الكتاب، فلم يتردّد الفتى، ومضى بيده المصحف، حتى إذا كان بين الصفّين، رفعه بكلتا يديه، ووقف باتجاه عائشة وجندها، ودعاهم إلى الرجوع إلى حكمه، فكان جوابهم أن رموه بسهامهم من كلّ جانب، حتى وقع قتيلاً، فحملوه إلى أمير المؤمنين، فاسترجع وترحَّم عليه، وأمر أصحابه أن يدنوا من القوم، فزحفوا نحوهم، يتقدّمهم عمار بن ياسر ووجوه المهاجرين والأنصار...

ومجمل القول، أنَّ الفريقين في تلك المعركة قد اقتتلا قتالاً ضارياً لم يشهد تاريخ البصرة قتالاً أشدّ ضراوةً منه، واستمرّ حتى أصبح أصحاب أمير المؤمنين على أبواب النصر، وعائشة في هودجها تحرّض الناس على القتال، وتتحدّث مع من هم على يمينها وشمالها، ومن تزاحموا على حطام الجمل، بكلمات تلهب مشاعرهم بالحماس، ثم تعود فتخرج يدها من الهودج، تحمل بها بدرة من الدنانير، وتصيح بأعلى صوتها: من يأتيني برأس الأصلع وله هذه البدرة؟ وأصحابها يندفعون على الموت وهم يرتجزون:

يا أمّنا عائش لا تراعي كلّ بنيك بطل المصاع‏

وأصحاب أمير المؤمنين يحملون على أولئك الذين استماتوا حولها، وراجزهم يقول:

يا أمّنا أعقّ أمّ نعلم والأمّ تغذو ولدها وترحم‏

أما ترين كم شجاع يكلم وتختلي منه يد ومعصم‏

واستمرّ الحال لفترة من الزمن، لا يرى فيها الناس إلا أيدي تتناثر، وأرجلاً تقطع، وأجساداً تتهاوى هنا وهناك، وأولئك وهؤلاء يتسابقون إلى الموت، وكان لا يأخذ بخطام الجمل أحد إلا قتل من دونه، ولما رأى عليّ (ع) هذا الموقف الرهيب، راعه ما رأى، وعلم أن المعركة لن تنتهي مادام الجمل واقفاً على قوائمه، فصاح بأصحابه: اعقروا الجمل، فإن في بقائه فناء العرب. فأمر ولده محمد بن الحنفية أن يحمل بمن معه على تلك الجموع المحتشدة حول جمل عائشة، وكانت الراية بيده، فأبطأ ابن الحنفية ليتّقي سهام القوم ونبالهم التي اتجهت نحوه كالعواصف من كلّ جانب، فأتاه عليّ (ع) وقال له: هل حملت على القوم؟

فقال: لا أجد يا أمير المؤمنين متقدّماً إلا على سهم أو سنان، وإني منتظر نفاد سهامهم. فحمل بمن معه نحوهم ثم توقّف، فأتاه أمير المؤمنين وضربه بقائم سيفه، وقال له: لقد أخذك عرق من أمّك، كما جاء في رواية المسعودي، وأخذ الراية منه، وتقدّم بها، فحمل الناس معه، فكان القوم كرماد اشتدّت به الريح في يوم عاصف، وتناوب بنو ضبّة على خطام الجمل حتى قتل منهم جماعة، فأمرهم بأن يعقروا الجمل، فلمّا عقروه، هوى إلى الأرض وله ضجيج لم يسمع الناس بمثله، على حدّ تعبير الراوي، فتفرّق من كان حوله كالجراد المنتشر، وبقيت صاحبة الهودج وحدها في ميدان المعركة، فقال لأخيها محمد بن أبي بكر: أدرك أختك حتى لا تصاب بأذى، فأقبل يشتدّ نحوها، وأدخل يده في هودجها، وقال لها: أنا أخوك، أقرب الناس منك وأبغضهم إليك، يقول لك أمير المؤمنين: هل أصابك شي‏ء؟ فلم تتكلّم. ثم جاءها أمير المؤمنين، فوقف على هودجها، وضربه بقضيب كان في يده، وقال: يا حميراء، ألم يأمرك رسول الله أن تقرّي في بيتك، والله ما أنصفك الذين صانوا عقائلهم وأبرزوك، وأمر أخاها فأنزلها في دار صفيّة بنت الحرث بن أبي طلحة العبدي.

وانتهت المعركة بهزيمة المتمرّدين، وسقوط طلحة والزبير قتيلين مع آلاف القتلى من الطرفين، وحاول بعض أنصاره قتل عائشة، فأنكر عليهم، ووضعها تحت الحراسة الشديدة حتى لا يتعرّض لها أحد بسوء، وأمر من ينادي في أصحابه:

لا تجهزوا على جريح، ولا تتبعوا هارباً، ولا تطعنوا مدبراً، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن.

ووقف بين قتلاه وقتلى المتمرّدين عليه في حالة من القلق والتمزّق، وبين خصومه وأنصاره رجال من الذين أبلوا بلاءً حسناً في الإسلام، لقد حزن من أجل هؤلاء الذين قتلهم وأولئك الذين قاتل بهم، ومن أجل الرسالة السامية التي تتعرّض للفتنة في بداية عهد جديد تمنى فيه أن يتفرّغ لأهدافه التي كان يطالب بالخلافة من أجلها.

لقد حزن من أجل هذا العمى الذي أصاب فريقاً من المسلمين الذين قادتهم المطامع والأهواء إلى هذا المصير السيّئ الذي لم يكن يتمنّاه لهم ولا لأحد من المسلمين، وحزن من أجل نفسه، وقد وقفت قريش له بالمرصاد، كما وقفت‏ لابن عمّه من قبل، وقد كتب عليه أن يقاتلها على تطبيق الرسالة، كما قاتلها هو وابن عمّه رسول الله على تنزيلها.

وكان يتمنى أن يقاتل بهم أعداء الإسلام، لتبقى الرسالة وتتّجه في طريقها الصحيح. وعاد يتأمّل القتلى من الجانبين، وقلبه يتصدّع لهذا المشهد الذي وجد فيه رفاقه في الجهاد مع رسول الله صرعى أطماعهم وأهوائهم، وجعل يترحّم على هؤلاء، ثم صلّى عليهم، وأذن لذوي القتلى بدفن قتلاهم، ولم يفسح المجال لأحد ممن وترهم طلحة والزبير بأولادهم وإخوانهم وعشائرهم أن يأخذوا من أموال المنهزمين، إلا ما وجدوه في المعركة من أسلحة وأمتعة كانوا يحاربون بها، وأمرهم بردّ بقيّة الأموال إلى أصحابها، وقال: ليس في هذه الحرب مغنم لمنتصر. وأرسل من ينادي في البصرة: من عرف شيئاً له فليأخذه.

إنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب في جميع معاركه التي خاضها مع أخصامه الذين انشقّوا عليه، لم يحاربهم ليصنع انتصار جيش على جيش بالسّلاح والعتاد، كما كان يصنع أخصامه، بل كان يحارب ليصنع جيشاً من المسلمين يستعين به على إحقاق الحقّ وعلى الظلم والظالمين والطغاة المستبدّين، وتركيز المبادئ الإسلاميّة في النفوس، لتصبح وكأنها غريزة أو فطرة. ولذلك، لما دخل البصرة، لم يترك وسيلةً من الوسائل إلا واستعملها مع المتمرّدين، رغبةً في الصّلح والسّلام وجمع الكلمة، ولما يئس منهم وانتهت المعركة التي فرضت عليه بهزيمتهم‏، بكى وتصدّع قلبه، ولم يدخل البصرة بعد انتهاء المعركة بزهو الفاتح المنتصر على أخصامه، لأنه لم يحقق الأهداف التي كان ينشدها ويحارب من أجلها.

ويرى بعض الكتّاب القدامى والمحدثين، أن الأمر كاد يلتئم قبل المعركة، واتفق الطرفان على الصلح بواسطة القعقاع بن عمرو أحد الصحابة، ولكنّ الذين تولوا أمر الثورة على عثمان، وعلى رأسهم عبد الله بن سبأ، أحد اليهود الذين دخلوا في الإسلام للتخريب والفساد، وكانوا إلى جانب عليّ في البصرة، وحين أحّسوا أنّ أمر الناس صائر إلى الصلح، أشفقوا أن يكونوا الثمن لهذا الصّلح، فاتفقوا فيما بينهم على أنّه إذا التقى الجمعان للمصالحة، أن ينشبوا القتال ويفوّتوا على الطرفين الفرصة.

*من كتاب "سيرة الأئمّة الإثني عشر"، ج 1".

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية