في قصّة المباهلة

في قصّة المباهلة

{فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}[آل عمران: 61].

ورد في قصّة الحوار الذي أداره النبيّ محمَّد(ص) مع بعض النصارى من أهل الكتاب، أنَّ النبيّ(ص) قد سلك مسلكاً جديداً في معالجة الموقف معهم، بعد وصول الحوار إلى الطريق المسدود، وهو أسلوب المباهلة، الذي حدّثتنا عنه هذه الآية الكريمة.

أمّا قصة هذه الآية، فتشرحها لنا عدّة روايات قد تختلف في طولها وفي قصرها، ولكنَّها تتّفق في الفكرة العامّة التي نريد أن نستخلصها منها؛ ولذا، فإنَّنا سنكتفي بذكر بعضها، وهي رواية المحدّث الجليل عليّ بن إبراهيم القمي التي رواها في تفسيره عن الإمام جعفر الصادق(ع)، قال: "إنَّ نصارى نجران لما وفدوا على رسول الله(ص) ـ وكان سيِّدهم الأهتم والعاقب والسيِّد ـ وحضرت صلواتهم، فأقبلوا يضربون الناقوس وصلّوا، فقال أصحاب رسول الله(ص): يا رسول الله، هذا في مسجدك؟ فقال(ص): دعوهم. فلمّا فرغوا، دنوا من رسول الله(ص)، فقالوا: إلامَ تدعو؟ فقال: إلى شهادة أن لا إله إلاَّ الله، وأنّي رسول الله، وأنَّ عيسى(ع) عبدٌ مخلوق يأكل ويشرب ويُحدث. قالوا: فمن أبوه؟ فنـزل الوحي على رسول الله(ص) فقال: قل لهم: ما تقولون في آدم، أكان عبداً مخلوقاً يأكل ويشرب ويُحدث وينكح؟ فسألهم النبيّ(ص) فقالوا: نعم. قال: فمن أبوه؟ فبهتوا، فأنزل الله: { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ...} الآية، وقوله: {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ}، إلى قوله: {فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}.

فقال رسول الله(ص): فباهلوني، فإن كنت صادقاً، أنزلت اللعنة عليكم، وإن كنت كاذباً، أُنزلت عليَّ. فقالوا: أنصفت. فتواعدوا للمباهلة، فلمّا رجعوا إلى منازلهم، قال رؤساؤهم السيِّد والعاقب والأهتم: إن باهلنا بقومه باهلناه، فإنَّه ليس نبيّاً، وإن باهلنا بأهل بيته خاصّة لـم نباهله، فإنَّه لا يقدّم أهل بيته إلاَّ وهو صادق. فلمّا أصبحوا، جاؤوا إلى رسول الله(ص)، ومعه أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين(ع)، فقال النصارى: من هؤلاء؟ فقيل لهم: هذا ابن عمّه ووصيّه وختنه عليّ بن أبي طالب(ع)، وهذه ابنته فاطمة، وهذان ابناه الحسن والحسين(ع). ففرقوا، فقالوا لرسول الله(ص): نعطيك الرّضى فاعفنا من المباهلة. فصالحهم رسول الله (ص) على الجزية وانصرفوا".

أسلوب الحوار الإسلامي

ولعلّ قيمة هذه القصة، أنَّها تجسِّد لنا الأسلوب الإسلامي في الحوار، حين يريد الاحتجاج لفكره من جهة، ومواجهة الأفكار المضادّة من جهة أخرى، وتعرّفنا مبلغ التسامح الإسلامي الذي يريد لأتباعه أن يمارسوه مع الآخرين، انطلاقاً من الممارسات النبويّة الرائعة، من مركز القوّة لا من مركز الضعف.

فقد قدم هؤلاء إلى مركز الإسلام القويّ، من أجل أن يناقشوا الدين الجديد، فأعطاهم النبيّ كلّ الحرية في ذلك، إلى مستوى السماح لهم بأداء طقوسهم وعباداتهم في مسجد النبيّ تحت سمعه وبصره في مجتمع المسلمين الكبير، حتّى إنَّ النبيّ لـم يستجب لتساؤلهم وإنكارهم لذلك، بل طلب منهم أن يتركوا لهم الحريّة في ذلك، ليُشعرهم ـ على الطبيعة ـ كيف يُحافظ الإسلام على مشاعر الآخرين وحرياتهم في الإطار العام للنظام الكامل، وليُعطيهم انطباعاً ذاتياً، أنَّه لا يؤمن بالقوّة كسبيل من سُبُل إدخال الآخرين في الإسلام من دون اقتناع منهم بذلك...

وهكذا كان، وبدأ النبيّ حواره معهم من موقع الدليل والحجّة والبرهان، كما تنقله لنا القصّة... سؤالاً وجواباً، في حوارٍ هادئ قويّ، يستجيب للسؤال في البداية، ثُمَّ يطرح السؤال عليهم من جديد ليُلزمهم بالحجّة من خلال ذلك...

وقد أراد النبيّ(ص) أن يزيد الموقف تأثيراً في الإيحاء النفسي لدى الآخرين بالثّقة، فلم يقتصر على تقديـم نفسه للمباهلة والملاعنة، بل طرح القضيّة على أساس اشتراك أهل بيته معه في ذلك، مع أنَّ بإمكانه أن يحصر الأمر بنفسه، دون أن يترك ذلك أيّ تأثير سلبيّ في الموقف.

ولكنَّه ـ كما أشرنا ـ أراد أن يُعطيهم الإيحاء بالاطمئنان الكامل بصدق دعواه، لأنَّ الإنسان قد يعرِّض نفسه للخطر، ولكنَّه لا يعرِّض أبناءه وأهل بيته لما يعرِّض له نفسه مما يمكن أن يتفاداه.

ولهذا، أدرك القوم الموضوع وأبعاده، فاهتزَّت أعماقهم بالخوف من الخوض في هذه التجربة التي تستتبع اللّعنة الفعليّة التي تتجسّد في عذاب الله وعقابه، فأقلعوا عن الأمر وقبلوا الصّلح.

من كتاب "تفسير من وحي القرآن"، ج 6.

{فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}[آل عمران: 61].

ورد في قصّة الحوار الذي أداره النبيّ محمَّد(ص) مع بعض النصارى من أهل الكتاب، أنَّ النبيّ(ص) قد سلك مسلكاً جديداً في معالجة الموقف معهم، بعد وصول الحوار إلى الطريق المسدود، وهو أسلوب المباهلة، الذي حدّثتنا عنه هذه الآية الكريمة.

أمّا قصة هذه الآية، فتشرحها لنا عدّة روايات قد تختلف في طولها وفي قصرها، ولكنَّها تتّفق في الفكرة العامّة التي نريد أن نستخلصها منها؛ ولذا، فإنَّنا سنكتفي بذكر بعضها، وهي رواية المحدّث الجليل عليّ بن إبراهيم القمي التي رواها في تفسيره عن الإمام جعفر الصادق(ع)، قال: "إنَّ نصارى نجران لما وفدوا على رسول الله(ص) ـ وكان سيِّدهم الأهتم والعاقب والسيِّد ـ وحضرت صلواتهم، فأقبلوا يضربون الناقوس وصلّوا، فقال أصحاب رسول الله(ص): يا رسول الله، هذا في مسجدك؟ فقال(ص): دعوهم. فلمّا فرغوا، دنوا من رسول الله(ص)، فقالوا: إلامَ تدعو؟ فقال: إلى شهادة أن لا إله إلاَّ الله، وأنّي رسول الله، وأنَّ عيسى(ع) عبدٌ مخلوق يأكل ويشرب ويُحدث. قالوا: فمن أبوه؟ فنـزل الوحي على رسول الله(ص) فقال: قل لهم: ما تقولون في آدم، أكان عبداً مخلوقاً يأكل ويشرب ويُحدث وينكح؟ فسألهم النبيّ(ص) فقالوا: نعم. قال: فمن أبوه؟ فبهتوا، فأنزل الله: { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ...} الآية، وقوله: {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ}، إلى قوله: {فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}.

فقال رسول الله(ص): فباهلوني، فإن كنت صادقاً، أنزلت اللعنة عليكم، وإن كنت كاذباً، أُنزلت عليَّ. فقالوا: أنصفت. فتواعدوا للمباهلة، فلمّا رجعوا إلى منازلهم، قال رؤساؤهم السيِّد والعاقب والأهتم: إن باهلنا بقومه باهلناه، فإنَّه ليس نبيّاً، وإن باهلنا بأهل بيته خاصّة لـم نباهله، فإنَّه لا يقدّم أهل بيته إلاَّ وهو صادق. فلمّا أصبحوا، جاؤوا إلى رسول الله(ص)، ومعه أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين(ع)، فقال النصارى: من هؤلاء؟ فقيل لهم: هذا ابن عمّه ووصيّه وختنه عليّ بن أبي طالب(ع)، وهذه ابنته فاطمة، وهذان ابناه الحسن والحسين(ع). ففرقوا، فقالوا لرسول الله(ص): نعطيك الرّضى فاعفنا من المباهلة. فصالحهم رسول الله (ص) على الجزية وانصرفوا".

أسلوب الحوار الإسلامي

ولعلّ قيمة هذه القصة، أنَّها تجسِّد لنا الأسلوب الإسلامي في الحوار، حين يريد الاحتجاج لفكره من جهة، ومواجهة الأفكار المضادّة من جهة أخرى، وتعرّفنا مبلغ التسامح الإسلامي الذي يريد لأتباعه أن يمارسوه مع الآخرين، انطلاقاً من الممارسات النبويّة الرائعة، من مركز القوّة لا من مركز الضعف.

فقد قدم هؤلاء إلى مركز الإسلام القويّ، من أجل أن يناقشوا الدين الجديد، فأعطاهم النبيّ كلّ الحرية في ذلك، إلى مستوى السماح لهم بأداء طقوسهم وعباداتهم في مسجد النبيّ تحت سمعه وبصره في مجتمع المسلمين الكبير، حتّى إنَّ النبيّ لـم يستجب لتساؤلهم وإنكارهم لذلك، بل طلب منهم أن يتركوا لهم الحريّة في ذلك، ليُشعرهم ـ على الطبيعة ـ كيف يُحافظ الإسلام على مشاعر الآخرين وحرياتهم في الإطار العام للنظام الكامل، وليُعطيهم انطباعاً ذاتياً، أنَّه لا يؤمن بالقوّة كسبيل من سُبُل إدخال الآخرين في الإسلام من دون اقتناع منهم بذلك...

وهكذا كان، وبدأ النبيّ حواره معهم من موقع الدليل والحجّة والبرهان، كما تنقله لنا القصّة... سؤالاً وجواباً، في حوارٍ هادئ قويّ، يستجيب للسؤال في البداية، ثُمَّ يطرح السؤال عليهم من جديد ليُلزمهم بالحجّة من خلال ذلك...

وقد أراد النبيّ(ص) أن يزيد الموقف تأثيراً في الإيحاء النفسي لدى الآخرين بالثّقة، فلم يقتصر على تقديـم نفسه للمباهلة والملاعنة، بل طرح القضيّة على أساس اشتراك أهل بيته معه في ذلك، مع أنَّ بإمكانه أن يحصر الأمر بنفسه، دون أن يترك ذلك أيّ تأثير سلبيّ في الموقف.

ولكنَّه ـ كما أشرنا ـ أراد أن يُعطيهم الإيحاء بالاطمئنان الكامل بصدق دعواه، لأنَّ الإنسان قد يعرِّض نفسه للخطر، ولكنَّه لا يعرِّض أبناءه وأهل بيته لما يعرِّض له نفسه مما يمكن أن يتفاداه.

ولهذا، أدرك القوم الموضوع وأبعاده، فاهتزَّت أعماقهم بالخوف من الخوض في هذه التجربة التي تستتبع اللّعنة الفعليّة التي تتجسّد في عذاب الله وعقابه، فأقلعوا عن الأمر وقبلوا الصّلح.

من كتاب "تفسير من وحي القرآن"، ج 6.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية