أعدّ إمبراطور الروم قوّة عسكرية لمهاجمة المسلمين الذين ازدادت قوّتهم وأعدادهم
وخطرهم على الدولة الرومانية. وتألفت هذه القوّة من 40 ألف فارس، وكانت مجهَّزة
بأحدث الأسلحة والمعدّات، وتقدّمت إلى منطقة البلقاء، فأمر النبيّ(ص) عندها أصحابه
بالتهيّؤ والاستعداد لغزو الروم، في موسمٍ شديد الحرارة، وجدب وعسرة، إلا أنّ
الدوافع المقدّسة والجهاد في سبيل الله غَلَبَ على كل تلك الأمور الدنيوية، فشارك
30 ألفاً من المسلمين في هذه الغزوة، تحدّدت نفقاتها من الزكاة من أهل الغنى
والثّروة.
وقد اعتبرت هذه الغزوة خيرَ محَكٍّ لمعرفة المجاهدين الصادقين من المنافقين
والمبدعين، إذ إنّ بعضهم تخلّف بحجّة الخوف من أن يفتتن بالنساء الروميات، وهو عذر
صبياني أقبح من الذنب: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتنِّي أَلا
فِي الفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لمُحيطَةٌ بِالكافِرين}.
وكان منهم أيضاً المنافقون الذين تظاهروا بالاِسلام، فثبَّطوا الناس عن النبيّ (صلى
الله عليه وآله وسلم) وخوّفوهم من قوّة الرومان، واعتذروا بالحر الشديد: {وَقالُوا
لا تَنْفِرُوا فِي الحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّحرّاً لَوْ كانُوا
يَفْقَهُون}.
كما أنّ مجموعة من الخونة ألّفت شبكة جاسوسية في المدينة، تمكّن النبيّ (صلى الله
عليه وآله وسلم) من القضاء عليها بهدم المكان الذي اجتمعت به وحرقة، وهو بيت سويلم
اليهودي.
وكذلك تخلّف عنهم المخلّفون الثلاثة، الذين جاء ذكرهم في القرآن الكريم، حينما
قالوا بأنّهم سيلحقون بركبه (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ما يفرغون من الحصاد،
فوبّخهم الله تعالى وعاقبهم، ليكونوا عبرةً لغيرهم. كما تخلّف عن الغزوة، ولكن بنية
صادقة البكاؤون، وذلك لعدم تمكّنهم من المشاركة في الجهاد، لفقرهم وعدم حصولهم على
دوابّ تحملهم، ولم يستطع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجهّز ذلك لهم، فقال:
لا أجد ما أحملكم عليه. كما لم يشارك فيها الاِمام عليّ (عليه السلام)، فقد أبقاه
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة، خوفاً من إثارة فتنة أو قيام انقلاب
خلال غيابه، بمساعدة القوى المضادّة للإسلام. وبالرغم من أنّالنبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) قد استخلف على المدينة «محمد بن مسلمة»، فإنّه قال للإمام علي (عليه
السلام): «أنت خليفتي في أهل بيتي ودار هجرتي وقومي»، فكأنّه تعيّن كقائد عسكري في
المدينة يحفظ الأمن والاستقرار فيها.
ولذا، فإنّ المنافقين استغلّوا ذلك فرصةً لنشر الإشاعات والأقاويل في عدم اصطحاب
النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) للإمام علي (عليه السلام) معه في الجيش، ما جعل
الإمام (عليه السلام) يسير إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو على بعد ثلاثة
أميال من المدينة، ليسأله عن هذا الأمر، قائلاً: «يا نبيّ الله، زعم المنافقون أنّك
إنّما خلّفتني أنّك استثقلتني وتخففت عني»، فقال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
حينئذٍ كلمته التاريخيّة الخالدة التي اعتبرت من الأدلة القاطعة على إمامته وخلافته
بعده (صلى الله عليه وآله وسلم): «كَذِبوا، ولكنّي خلّفتُك لما تركت ورائي. فارجع
فاخلفني في أهلي وأهلك، أفلا ترضى يا عليّ أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى، إلاّ
أنّه لا نبيّ بعدي؟!».
وهكذا، فقد استعرض النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) المعسكر قبل تحرّك الجيش،
وألقى فيهم خطاباً مهماً لتقوية معنويات المجاهدين، وشرح فيه هدفه من هذه التعبئة
العامة الشاملة.
وفي الطريق، واجه متاعبَ ومشاقّ كثيرة، ولذا سمى هذا الجيش بجيش «العسرة»، إلّا أنّ
إيمانهم العميق، وحبّهم للهدف المقدَّس، سهّل عليهم الأمر. وعندما مروا بأرض ثمود،
غطى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وجهَه بثوبه، وأمر أصحابه بسرعة السير: «لا
تدخلوا بيوت الذين ظلموا إلّا وأنتم باكون، خوفاً أن يصيبكم مثلما أصابهم». كما
نهاهم أن يشربوا من مائها ولا يتوضّأوا به للصلاة ولا يطبخ به طعام.
ولكنّهم شربوا عندما وصلوا إلى البئر التي كانت تشرب منها ناقة صالح (عليه السلام)،
فنزلوا عليها بأمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
كما أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أظهر في الطريق بعض الأمور الغيبية، حتى
لا يؤثّر شكّ بعضهم في إيمان الآخرين، مثلما جرى لناقته التي ضلّت الطريق، وبدأ
المنافقون في التقليل من قوّة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واتّصاله بالله
سبحانه وتعالى، فأخبرهم بموقعها، بعلم من الله تعالى. وتنبأ عن أبي ذرّ وما سيجري
له عندما تأخّر عنهم، فقال: "رحم الله أبا ذرّ، يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده".
على كلّ حال، وصل الجيش في مطلع شهر شعبان إلى أرض تبوك، دون أن يجدوا أثراً لجيش
الروم الذي كان قد انسحب إلى داخل بلاده مفضّلاً عدم مواجهة المسلمين، ومؤكّدين
حيادهم تجاه الحوادث والوقائع التي تجري في الجزيرة العربيّة. فجمع النبيّ (صلى
الله عليه وآله وسلم) القادة، وشاوَرَهم في أمر التقدّم في أرض العدوّ، أو العودة
إلى العاصمة. فقرّروا العودة ليستعيد الجميعُ نشاطَه بعد المشاقّ والتعب، إضافةً
إلى أنّهم حقّقوا هدفهم بتخويف العدوّ وإلقاء الرعب في قلوبهم، فقالوا للنبيّ (صلى
الله عليه وآله وسلم): إن كنت أُمرت بالسير فَسِرْ، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم):
«لو أُمرت به ما استشرتُكم فيه».فاحترم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) آراء
هؤلاء وقرّر العودة إلى المدينة.
ورأى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ الوقت مناسب للاتّصال ببعض حكّام ورؤساء
المناطق الحدودية، ليعقد معهم معاهدات أمن وعدم اعتداء، ليأمن جانبهم. فاتصل شخصياً
بزعماء أيلة وأذرح والجرباء. وعندما قدم يوحنا بن رؤبة زعيم أيلة، إلى النبيّ (صلى
الله عليه وآله وسلم)، قدّم له فرساً أبيض، وأعلن عن طاعته له (صلى الله عليه وآله
وسلم)، فاحترمه (صلى الله عليه وآله وسلم) وصالحه وكساه برداً يمانياً، وقبل أن
يدفع جزيةً قدرها 300 دينار سنوياً على أن يبقى على دينه المسيحي، ووقّع الطرفان
على كتاب أمان، فضمن بذلك أمن المنطقة الاِسلاميّة شمالاً.
وفي طريق تبوك، تقع منطقة دومة الجندل ذات الخضرة والماء، وتبعد عن الشام 50 فرسخاً،
وعن المدينة عشرة أميال، حكمها رجلٌ مسيحي هو: أكيدر بن عبد الملك. فأرسل النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) قوّة بقيادة خالد بن الوليد لإخضاعه، فتمكن من السيطرة عليهم،
وإحضار أكيدر إلى الرسول «صلى الله عليه وآله وسلم»، فأعلن خضوعه، وقبل دفع الجزية
والبقاء على دينه، وكتب عهداً وصالحه، وأهداه، ثمّ أوصله إلى بلده بحراسة خاصة.
فانتهت بذلك الأعمال العسكرية في تبوك.
ويمكن تقييم نتائج تلك العمليات العسكرية كما يأتي:
1. إبراز مكانة وسمعة الجيش الإسلامي في المناطق الخارجية، ما أثّر في القبائل هناك،
فتسارعوا بالقدوم والوفود على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد عودته من تبوك،
لتعلن خضوعها وطاعتها، حتى سمّي ذلك العام بعام الوفود.
2. ضمان أمن الحدود بعد توقيع المعاهدات والاتفاقيات مع حكّام تلك المناطق.
3. تمهيد الطريق للمسلمين لفتح الشام بعد ذلك، عندما تعلموا منه «صلى الله عليه
وآله وسلم» أساليب تكوين وإعداد الجيوش الكبرى لمحاربة القوى العظمى.
4. تمييز الموَمن من المنافق.
وبعد أن مكث (صلى الله عليه وآله وسلم) عشرين يوماً في تبوك، توجه إلى المدينة،
إلّا أنّ اثني عشر منافقاً تآمروا لاغتيال النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» قبل أن
يصل إلى عاصمته، كان ثمانية منهم من قريش، والآخرون من أهل المدينة، وذلك بتنفير
ناقته في العقبة ـ بين المدينة والشام ـ ليطرحوه في الوادي، غير أنّه (صلى الله
عليه وآله وسلم) علم بمؤامرتهم، فأرعبهم بصياحه فيهم، فتركوا العقبة هاربين، ورفض (صلى
الله عليه وآله وسلم) أن يرسل من يقضي عليهم أو اللحاق بهم. ثمّ وصل الجيش إلى
المدينة فرحين مسرورين معتزين بما حقّقوه من انتصار على الأعداء، وإلقاء الرعب في
قلب دولة كبيرة. ولما أرادوا التفاخر والتباهي على الذين تخلّفوا بعذر وقلوبهم مع
جنود الإسلام، فإنّ النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» منعهم من ذلك، لأنّ النيّة
الصالحة والفكر الطيّب يقوم مقام العمل الصالح الطيّب.
ثمّ أقدم (صلى الله عليه وآله وسلم) على معاقبة الثلاثة الذين تخلّفوا عن الجيش
بأعذار واهية، وهم: هلال بن أُمية، كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، فقد أعرض بوجهه
الكريم عنهم، ولم يكترث بهم حينما قدّموا التهنئة بعودتهم مظفّرين، وقال فيهم: لا
تكلّموا أحداً من هؤلاء الثلاثة، ما أثّر في التعامل معهم تجارياً، فكسدت بضائعهم،
وانقطعت روابطهم مع أقربائهم، فأثّر ذلك في نفسياتهم: {حَتّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ
الأَرضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفسُهُمْ}.
فقاموا بالتوبة إلى الله، فأعلن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عفوه عنهم، ورفع
المقاطعة عنهم.
وكانت هذه آخر معركة اشترك فيها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، إذ لم يشارك
بعدها في أيّ قتال.
*من كتاب "السيرة المحمدية"، ص 219 – 224.