يصوِّر لنا القرآن الكريم مسؤوليَّة الإنسان مقارنةً بكلّ القوى الضّخمة في الحياة.. فكم هي السّماوات والأرض واسعة وضخمةٌ وممتدّة، فإذا قاس الإنسان نفسه إلى السّموات، هل يكون إلاّ ذرّة ضائعة؟ أو إلى الأرض، هل يحسب نفسه أكثر من حبّة تراب؟ أو إلى الجبال، هل يكون إلاّ حصاة من صخرة في صخورها؟ ومع ذلك، يقارن القرآن بين مسؤوليّة الإنسان وبين حجم هذا الكون
{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً}[الأحزاب: 72].
والأمانة هي التكليف والمسؤوليّة، وكأنَّ الله يصوّر السماوات والأرض والجبال على أنّها مخلوقاتٌ عاقلة، ويخاطبها مخاطبة السيّد للعبد العاقل الواعي: أيّتها السّماوات، إنّني أحمّلك مسؤوليّة حركتك في كلِّ الظّواهر الموجودة في داخلك، وعليك أن تقدّمي الحساب. وأنتِ أيّتها الأرض، أحمّلك مسؤوليّة كلَّ ما في داخلك وعلى سطحك وفي أعماقك في كلِّ هذه المخلوقات الجامدة والحيّة والنامية، وفي كلّ البحار والأنهار والأشجار، فتحمّلي مسؤوليّتك، ومارسي دورك في كلّ ما لله إرادةٌ فيه. وأنت أيّتها الجبال الشامخة في الفضاء، الممتدّة في الأرض، والواسعة الأبعاد، إنَّ في داخل وجودك حركة وقوانين وأوضاعاً، ولك دورٌ في طبيعة حركة الحياة ونظامها، فتحمّلي مسؤوليّتك في حركة الوجود..
وكان جواب هذه المخلوقات العظيمة {فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا} وتوسّلت إلى الله: ربَّنا، الأمانة ثقيلةٌ، صحيحٌ أنّ الجبال تحمل ما تحمل، والأرض تختزن ما تختزن، والسماوات تحوي ما تحوي، ولكنْ يا ربّنا، لا نستطيع تحمُّل الأمانة، لأنّنا سنقف بين يديك لنقدّم الحساب، ولا قدرة لنا على تقديم الحسابات بدقّة، ربّما ينحرف وضعٌ هنا أو هناك، أو ينحرف قانون في هذا المجال أو ذاك، وعندها نقع في خطأ إدارته. وهكذا {فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا}، فالخطأ يعرّضنا لعذاب الله وسخطه وغضبه، وكما يقول أمير المؤمنين (ع) في دعاء كميل: "وهذا ما لا تقوم له السموات والأرض"، ولأنّها لا تستطيع تحمّل غضب الله، تركت لله وحده أمر تنظيم القوانين والسّنن فيها، وليس لها إلا أن تطيع من خلال وجودها التكويني.
أمّا الإنسان، فقد وقف بعنفوانه، وقال: أنا الإنسان صاحب العقل الّذي يدير الكون، أنا الّذي أملك حريّة الإرادة والحركة بالمستوى الّذي أستطيع أن أكتشف أسرار الكون وأُديره. أنا للمسؤوليّة جدير، فحمِّلني، يا ربّ، كلّ المسؤوليّات، لكَ أن تأمر وسأُطيع أوامرك، إنهني ولن أعصيك فيما نهيتني، حدِّد لي البرامج والخطوط، وسأنفّذ كلَّ هذه البرامج.
{وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ} حمل الأمانة بكلّ غروره وكبريائه وجهله
{إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً}، ظلم نفسه، ولم يفكّر في حجم المسؤوليّة، فجهل النّتائج وغفل عن دوره، ولم يتحرَّك في طريق الاستقامة.
وماذا كانت النّتائج؟
{لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ}، هؤلاء الذين يُبطنون شيئاً ويُظهرون شيئاً آخر
{وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}[البقرة: 14]، فسيعذِّبُ الله هؤلاء {وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ}، لأنّهم عبدوا غير الله
{وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}، الذين يتحرّكون في خطِّ حفظ الأمانة، وهم قد يخطئون قليلاً، ولكنَّهم يرجعون إلى الصّواب والاستقامة
{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف: 201]، سيرحمهم لأنّهم يعيشون ذكر الله عملاً وبعداً عن معصيته
{وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحِيماً}[الأحزاب: 73]، فهو تعالى غفورٌ لمن استغفره وانفتح بإيمانه عليه، ورحيمٌ لمن استرحمه.
إنَّ الله لا يزال يطرح علينا الأمانة، فلنكن الأمناء على حلال الله وحرامه، ولنكن الأمناء على بلاد الله وعباده، ولنكن الأمناء على الإيمان والإسلام، والأمناء على حاضر المسلمين ومستقبلهم
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ}[التّوبة: 119].
*من كتاب "من عرفان القرآن".
يصوِّر لنا القرآن الكريم مسؤوليَّة الإنسان مقارنةً بكلّ القوى الضّخمة في الحياة.. فكم هي السّماوات والأرض واسعة وضخمةٌ وممتدّة، فإذا قاس الإنسان نفسه إلى السّموات، هل يكون إلاّ ذرّة ضائعة؟ أو إلى الأرض، هل يحسب نفسه أكثر من حبّة تراب؟ أو إلى الجبال، هل يكون إلاّ حصاة من صخرة في صخورها؟ ومع ذلك، يقارن القرآن بين مسؤوليّة الإنسان وبين حجم هذا الكون
{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً}[الأحزاب: 72].
والأمانة هي التكليف والمسؤوليّة، وكأنَّ الله يصوّر السماوات والأرض والجبال على أنّها مخلوقاتٌ عاقلة، ويخاطبها مخاطبة السيّد للعبد العاقل الواعي: أيّتها السّماوات، إنّني أحمّلك مسؤوليّة حركتك في كلِّ الظّواهر الموجودة في داخلك، وعليك أن تقدّمي الحساب. وأنتِ أيّتها الأرض، أحمّلك مسؤوليّة كلَّ ما في داخلك وعلى سطحك وفي أعماقك في كلِّ هذه المخلوقات الجامدة والحيّة والنامية، وفي كلّ البحار والأنهار والأشجار، فتحمّلي مسؤوليّتك، ومارسي دورك في كلّ ما لله إرادةٌ فيه. وأنت أيّتها الجبال الشامخة في الفضاء، الممتدّة في الأرض، والواسعة الأبعاد، إنَّ في داخل وجودك حركة وقوانين وأوضاعاً، ولك دورٌ في طبيعة حركة الحياة ونظامها، فتحمّلي مسؤوليّتك في حركة الوجود..
وكان جواب هذه المخلوقات العظيمة {فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا} وتوسّلت إلى الله: ربَّنا، الأمانة ثقيلةٌ، صحيحٌ أنّ الجبال تحمل ما تحمل، والأرض تختزن ما تختزن، والسماوات تحوي ما تحوي، ولكنْ يا ربّنا، لا نستطيع تحمُّل الأمانة، لأنّنا سنقف بين يديك لنقدّم الحساب، ولا قدرة لنا على تقديم الحسابات بدقّة، ربّما ينحرف وضعٌ هنا أو هناك، أو ينحرف قانون في هذا المجال أو ذاك، وعندها نقع في خطأ إدارته. وهكذا {فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا}، فالخطأ يعرّضنا لعذاب الله وسخطه وغضبه، وكما يقول أمير المؤمنين (ع) في دعاء كميل: "وهذا ما لا تقوم له السموات والأرض"، ولأنّها لا تستطيع تحمّل غضب الله، تركت لله وحده أمر تنظيم القوانين والسّنن فيها، وليس لها إلا أن تطيع من خلال وجودها التكويني.
أمّا الإنسان، فقد وقف بعنفوانه، وقال: أنا الإنسان صاحب العقل الّذي يدير الكون، أنا الّذي أملك حريّة الإرادة والحركة بالمستوى الّذي أستطيع أن أكتشف أسرار الكون وأُديره. أنا للمسؤوليّة جدير، فحمِّلني، يا ربّ، كلّ المسؤوليّات، لكَ أن تأمر وسأُطيع أوامرك، إنهني ولن أعصيك فيما نهيتني، حدِّد لي البرامج والخطوط، وسأنفّذ كلَّ هذه البرامج.
{وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ} حمل الأمانة بكلّ غروره وكبريائه وجهله
{إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً}، ظلم نفسه، ولم يفكّر في حجم المسؤوليّة، فجهل النّتائج وغفل عن دوره، ولم يتحرَّك في طريق الاستقامة.
وماذا كانت النّتائج؟
{لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ}، هؤلاء الذين يُبطنون شيئاً ويُظهرون شيئاً آخر
{وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}[البقرة: 14]، فسيعذِّبُ الله هؤلاء {وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ}، لأنّهم عبدوا غير الله
{وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}، الذين يتحرّكون في خطِّ حفظ الأمانة، وهم قد يخطئون قليلاً، ولكنَّهم يرجعون إلى الصّواب والاستقامة
{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف: 201]، سيرحمهم لأنّهم يعيشون ذكر الله عملاً وبعداً عن معصيته
{وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحِيماً}[الأحزاب: 73]، فهو تعالى غفورٌ لمن استغفره وانفتح بإيمانه عليه، ورحيمٌ لمن استرحمه.
إنَّ الله لا يزال يطرح علينا الأمانة، فلنكن الأمناء على حلال الله وحرامه، ولنكن الأمناء على بلاد الله وعباده، ولنكن الأمناء على الإيمان والإسلام، والأمناء على حاضر المسلمين ومستقبلهم
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ}[التّوبة: 119].
*من كتاب "من عرفان القرآن".