وردت في القرآن الكريم عند سرده لقصة نبي الله موسى(ع) مفردة طالما شغلت حيزاً كبيراً من تفكيري، ألا وهي (عصا موسى)!!
تلك العصا التي كان نبيّ الله يصفُ دورها في حياته قائلاً: {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} (طه/18).
عصا كبقيّة العصي، يستعين بها موسى(ع)، رجل من بني إسرائيل، على أمور حياته اليومية، وإذا بها تتحول بطرفة عين إلى: {قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى* فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى* قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى}(طه/ 19 - 21).
هذه العصا التي لعبت دوراً مهمّاً بوصفها معجزةً لنبي آنذاك، في دعم نبوته ورسالته، لأمة كانت تعد السحر علماً من علومها، وفناً من فنونها، وعقيدةً من عقائدها، كانت سبباً في تحويل سحرة فرعون الطالبين المال والمجد الدنيوي الى مؤمنين صادقين، ومخلصين لا تأخذهم في الله لومة لائم.
فتعالوا معي لنتصور ماذا حدث في تلك الأمسية التي خرج الناس فيها لمهرجان الفرح والمرح، كأني بتلك الجمهرة، فرحة جذلة.. مرتدية أجمل ثيابها، ناثرة زينتها، تنتظر ماذا سيحلّ بهذا الساحر الجديد الذي جاء ليغير دينهم وأفكارهم وعقائدهم، كانوا ينتظرون خيبته وانهياره أمام علم وإمكانية سحرة البلاط الفرعوني.
والسحرة آنذاك كانوا يمثّلون رجال العلم والفكر والمعرفة، كانوا يمثّلون ما نسميه في زماننا، بالمؤسّسات الإعلامية، صناع القرار.. وغيرها.
كأني أراهم.. ابتساماتهم الصفراء وسخريتهم من نبي الله(ع). أصواتهم تملأ الفراغات الممتدة من ذلك الزمن وحتى يومنا هذا:
{قال الملأ من قومِ فرعونَ إن هذا لساحرٌ عليم* يريدُ أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون* قالوا ارجه وأخاهُ وأرسل في المدائن حاشرين* يأتُوك بكلّ ساحر عليم* وجاء السحرة فرعون قالوا إنَّ لنا لأجراً إن كنا نحنُ الغالبين* قال نعم وإنكم لمن المقرَّبين* قالوا يا موسى إمّا أن تلقي وإمّا أن نكون نحنُ الملقين* قال ألقوا فلما ألقوا سَحَرُوا أعين الناسَ واسترهَبُوهُم وجاءوا بسحر عظيم* وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقفُ ما يأفكون* فوقع الحقُّ وبطلَ ما كانوا يعملون}(الأعراف/110 - 118).
ربّاه.. ماذا حدث؟
ها هم طالبو الأجر والنعيم الدنيوي، يسجدون لله الواحد القهار...
{فألقِي السحرة ساجدين* قالوا آمنَا بربّ العالمين* ربِّ موسى وهارون* قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ* قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ* إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ}.
يساومهم فرعون، يهددهم.. ولكن من دون جدوى، يا ترى، ماذا فعلت تلك العصا؟
هؤلاء السحرة كانوا علماء زمانهم، وكانوا أقدر من غيرهم على معرفة أن هذه العصا ليست بسحر كما سحرهم يسترهب الناس ويصرفهم إلى ما هو باطل وزيف، بل هو الحق، والحق وحده.. فهذه العصا معجزة نبيّ.. وليست عصا بيد عالم يؤجر علمه لمن يدفع.
فكان إيمانهم إيمان معرفة ويقين.. لذلك لم يتنازلوا عنه أبداً.
عجيبة هذه العصا، تلك التي كانت متّكأ لموسى(ع)، ومورداً لجلب رزقه ورزق غنمه، تكتسب تلك الإمكانية الرهيبة والقدرة الخارقة لتلقف ما يأفك الآخرون وما يكيدون!!
ألا تعتقدون معي أن هذا التحول في العصا جاء نتيجة لتحول دور صاحبها؟!
فموسى قبل النداء الإلهي، كان رجلاً يستعين بعصاه لقضاء حوائجه اليومية، ويستعين بها لإدارة شؤونه الحياتيّة، ولكن بعد أن تغيّر دوره وأصبح نبيّاً لله يحمل رسالةً وهمّاً وموقفاً، اكتسبت عصاه قوّتها الخارقة - بإذن ربها -، لأنها أكتست بالصبغة الإلهية.
فيما مضى، كان موسى(ع) يستعين بها في إدارة شؤونه اليومية كآليّة من الآليات المتاحة آنذاك، وإحدى الإمكانيات التي كانت بحوزته، ولكن عندما وظّفها موسى النبي(ع) في سبيل رسالته الإلهية، أصبحت قوة خارقة تلقف ما يأفكون. أصبحت قوة لدحض الباطل، وإظهار الزيف، قوة تساند النبي ليسجد العلماء والعارفين لله تعالى موحدين مخلصين.
أعتقد نحن بحاجة إلى أن نقف متأملين تلك العصا، لنتساءل: ألا يمكننا أن نملك واحدة مثلها؟!!
قبل أن تسألوني: ماذا دهاكِ؟ من أين لنا بتلك العصا السحرية المتوغلة في أعماق التأريخ؟ وما حاجتنا لعصا في زمن الأزرار السحرية وتقنيّة المعلومات وتكنولوجيا السرعة والمعرفة؟!!
دعوني أوضح لكم كيف يمكن أن تكون لنا جميعاً عصا موسى، بل دعوني أقول: جميعنا نمتلك عصا موسى، ولكننا لا نجيد استعمالها!
لنعد إلى القرآن الكريم، ونرى ما هي العصا؟؟
العصا في اللغة هي: (ما يؤخذ في اليد للاتكاء عليه أو لحاجات اُخرى، وبمناسبة كونها وسيلة في الحوائج ورفعها يستعار بها في سائر المعاني). (التحقيق في كلمات القرآن الكريم / المصطفوي / ج 8 / 155).
فالعصا كناية عن الوسائل التي نستعملها لقضاء حوائجنا، وكما في الآية المباركة، هي كانت متّكأً لموسى(ع)، ويستعين بها على رزقه ورزق غنمه، وهي بذلك قطب الرّحى لمفردات حياته اليومية.
العصا هي قدراتنا الذاتيّة والخارجيّة، هي القابليات التي أودعها الله فين
فالعصا هي المتّكأ، المسند، المعين، مصدر الرّزق، مورد لإدارة الشؤون. بعبارة أخرى: هي كلّ الإمكانيات والقابليات والقدرات المتاحة لشخص ما.
العصا: هي قدراتنا الذاتيّة والخارجيّة، هي القابليات التي أودعها الله فينا، سواء أكانت القابليات المادية أم المعنوية، هي الإمكانيات المتاحة من حولنا في عوالمنا الخاصّة والعامّة.
فإن جعلنا تلك الإمكانيات والقابليات والقدرات في إطار شخصي ضيّق، في إطار مفرداتنا الحياتية اليومية المختصة بشؤوننا الفردية، فستبقى عصا عادية مثل أيّ عصا أخرى، لا دور لها في الوجود، سوى سد تلك الاحتياجات الخاصة وإدارة الشأن الخاصّ الفردي الذي يدور في فلك ضيق لا يتعدى الذات الفردية وشأنها الخاص.
ولكن.. إن وظفناها في سبيل الله (كعصا النبيّ موسى(ع))، ستلقف كلّ إفك يسعى، وكل زيف ينتشر، وكل باطل يسود.
ستخرج من إطار الذات الفردية لتنتشر في فضاء الذات الجمعية، فيستنشق عبيرها كل الكائنات، فيما إذا عرّفنا سبيل الله، بأنه سبيل المجتمع.
فلو دقّقنا النظر في مفردة (سبيل الله) الواردة في القرآن الكريم، لوجدنا أنها تعني سبيل المجتمع، وكلّ ما يتعلق بالنفع العام.
فقدراتنا وقابلياتنا وإمكانياتنا، لو وظّفناها في سبيل المجتمع وفي سبيل الصالح العام ونفع البشرية بشكل عام، وأمّتنا الاسلامية بشكل خاص، ستكتسب قدرة خارقة وقوة عظمى، لن يقوى على كسرها أو سحقها كلّ سحرة العالم وجنوده.
أمسينا أفراداً متكئين على عصي دنيوية.. بالكاد تعيننا على سيرنا المتعب وانحناءات الزمن فينا.
إني أرى تلك العصا ملوية العنق تنظر إلينا بانكسار، وتعاتبنا، لأننا لم نتحسّس وجودها، ولم ندرك ذلك الوجود في ذواتنا، وبالتالي، سمحنا لإفك سحرة العالم أن يكسروها في دواخلنا.. وبالتالي، أن يكسروا العالم فينا!
أمسينا أفراداً متكئين على عصي دنيوية.. بالكاد تعيننا على سيرنا المتعب وانحناءات الزمن فينا.
فتملّكنا اليأس والإحباط، وانكفأ الأمل فينا، لنعتقد أنّنا أمّة لا خير فيها، أمّة منكسرة لن تقوى على النهوض، فتلوّنت أدبياتنا بالأمثال الشعبية والنكات اللاذعة، لتكرّس فينا جملة من القناعات (أمّة نائمة، أمّة ضائعة، أمّة منافقة، أمّة كسولة، أمّة لا نفع فيها، أمّة اتفقت على أن لا تتفق، أمّة الصّمت والخنوع، لن نقوى على أن نغير شيئاً، لأن الواقع أقوى منا... وغيرها).. وأمست هذه القناعات، حقائق.. تتحكم في أقدارنا كأفراد وفي مصائرنا كشعوب.
كلّ ما علينا فعله، هو تغيير رؤيتنا للحياة، لأنفسنا، وللآخر...
تغيير طريقة تفاعلنا مع الأشياء من حولنا.. أن نستشعر الله في كل شيء، بدل أن نستشعر كلّ شيء إلا الله.
أن نعقد العزم على النية: أن نحيا لله، وفي سبيل خدمة عياله.. أن نوظف كل ما لدينا من إمكانيات (علوم، فنون، معارف، تقنيات)، وكل ما أودعه الله فينا من قدرات وقابليات، وكل تلك المواهب والنعم التي تحيط بنا، نوظفها كلها لله، فسرعان ما سيتحول كلّ ذلك إلى قوى خارقة، إلى عصي إلهية لا تقوى كل قوى العالم، ولو اجتمعت، على سحقها أو إجبارها على الخنوع والاستسلام.
أن نوظف كل ما نملك من قوى وقابليات وقدرات وإمكانيات وآليات لإعمار الحياة، لخدمة الناس، عيال الله. قال الله عزّ وجلّ: "الخلق عيالي، فأحبّهم إليّ ألطفهم بهم، وأسعاهم في حوائجهم".(بحار الأنوار/ ج 74/ ص 336).
وحوائج الناس تشمل كلّ مفردات الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
حوائج الناس، هي الرغبة في الحياة الفضلى، في ظلّ أحسن الظروف وأفضل المناخات.. فمن يصنع كلّ هذا؟
تصنعه عصيّنا فيما إذا وظفناها لله وفي سبيله.
إنّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي الموقع، وإنّما عن وجهة نظر صاحبها.