في كلّ مظاهر الوجود، وأينما نظرنا وتحسّسنا، نجد كلّ خير وبركة ولطف ورحمة من الله تعالى تعمّ الخلق جميعاً، فهو تعالى الخير المطلق الّذي تفيض منه كلّ معاني الرحمة والبركة التي تنعم على الإنسان والمخلوقات جميعاً بالأفضال المتنوّعة.
العظمة لله وحده
يقول تعالى في محكم كتابه العزيز: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}[الملك: 1-2].
هذه العظمة المطلقة، والسّيطرة المطلقة على الكون كلّه، حريّ بالمخلوق أن يتفاعل معها ويقف عندها متأمّلاً متّعظاً، وأن يحاول تمثّل هذه العظمة مزيداً من الانفتاح على الله والتقرّب منه بوعيٍ وإخلاصٍ وطاعةٍ حقيقيّة.
تفسير الآيات
حول تفسير ما تقدَّم من آيات، يشير المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض) إلى التّالي:
{تَبَارَكَ}. قيل: إنّ معنى تبارك الشّيء هو كثرة صدور الخيرات والبركات منه، وربما كانت الكلمة متضمّنةً لأكثر من معنى إيحائيّ يلتقي بالتعظيم لذاته تعالى، من خلال امتداد الخير منه لكلّ الموجودات، كما أنها تلتقي بالفقرة التالية.
{الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ}، باعتبار أن هذه الكثرة المطلقة في الخيرات الصّادرة عنه، لا بدّ من أن تكون ممن بيده الملك، لأنّه هو الذي يبدعه ويخلقه وينمّيه ويحركه، ما يجعل الأمر غير محدود بحدٍّ معيّنٍ، لأنه لا مجال لنفاده. وهكذا توحي هذه الفقرة بالمعنى الكنائي في السيطرة المطلقة على كلّ ملك، لأنّ ذلك هو معنى كونه بيده، ليتصرّف فيه كما يتصرّف ذو اليد بما تحت يده، فيحركه كيف يشاء، فهو المالك لكلّ ملك، والمالك لكلّ مالك، لأنه هو الذي يعطي الخلق ما يملكونه، كما أعطاهم نعمة الوجود ذاته.
{وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، فلا حدَّ لقدرته، وكلّ شيء خاضع له، فلا مجال للتوقف عند أيّة فرضيةٍ وجوديةٍ، في ما يفعل في المستقبل، في عالم الغيب الذي لا يحيط به الإنسان ليستبعد وجودها، بعد أن كانت داخلةً في دائرة القدرة الإلهيّة المطلقة.
{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} وقدّرهما ليكونا القانون الطبيعيّ للموجودات الحيّة، ولا سيّما الإنسان الذي يمثّل وجوده حركة المسؤولية في ذاته. والموت يحيط بالإنسان من جانبين، فهناك الموت الذي يسبق الحياة، وهناك الموت الذي يتعقبها، وإذا كان الموت عدماً، فكيف يتعلّق به الخلق الذي لا بدّ من أن يكون متعلقه محلاًّ للوجود، وقيل: "إنّ الموت ـ على ما يظهر من تعاليم القرآن ـ انتقالٌ من نشأةٍ من نشآت الحياة إلى نشأةٍ أخرى".
ولكنَّ الملحوظ أنَّ النّشأة الأخرى ليست دخيلةً في معنى الموت، بل هي حياة تحدث بعده. وربما كان الوجه في هذا التّعبير، هو ملاحظة أسباب الموت المخلوقة في تكوين الذّات الحيَّة التي تؤدّي إليه، حتى كأنّه في ما يمثّله من سكون الجسد وجمود الحياة فيه، شيءٌ عارضٌ عليه، على نحو التّخييل الإيحائي... أمّا المعنى الحقيقيّ لخلق الموت، فهو التّقدير، كما عبّر عن ذلك في قوله تعالى: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ}"[الواقعة: 60].
ساحة اختبار وعمل
ويتحدّث سماحته عمّا تمثّله الحياة، قائلاً:
{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}، فقد جعل الحياة ساحة ابتلاء واختبار، ليتسابق النّاس إلى التحرك في نطاق المسؤولية، ليقوموا بما كلفهم الله من الأعمال التي تبني لهم حياتهم على هدى الله، في دائرة أوامره ونواهيه، لتظهر بذلك النّتائج النهائية التي تحدّد الإنسان الأفضل، من خلال العمل الأحسن. وفي الآية إيحاءٌ داخليٌّ بأنَّ على الناس أن تنطلق طموحاتهم العمليّة في حركة وجودهم المسؤول أمام الله، ليكونوا أحسن عملاً، لينالوا بذلك القرب من الله، لأنَّ أكرمهم عنده أتقاهم له، فيما تمثّله الأفضلية في التقوى من الأحسنيّة في العمل.
ونستوحي من ذلك، أنّ العنصر الذي يمنح العمل قيمته ومعناه، هو وعي العمل في العمق الفكريّ الذي يقود إليه، وفي المعنى الروحي الذي يختزنه ويحتويه، بما يتمثّل في ذلك من سرّ الإِخلاص وحقيقة العبوديّة لله في شخصيّة العامل، وفي النتائج المترتّبة عليه في الدنيا والآخرة. ولهذا، وردت الأحاديث التي فضَّلت الكميّة الضئيلة في عبادة العالم الواعي لعبادته، على الكميّة الكثيرة في عبادة العابد الّذي لا ينفتح على الآفاق الواسعة لعبادته، كما وردت الأحاديث الّتي تؤكّد أنّ الله يثيب العامل من عباده على مقدار عقله، الأمر الذي يجعلنا نرى أن العمل في الإسلام ينطلق في مستوى وعي العامل له، وفي نطاق الدّرجة التي يبلغها في امتداد المعاني الروحيّة في شخصيّته، ليتصاعد العمل في درجته من خلال نموّ الإنسان في وعيه وعقله وانفتاحه على أسرار العقيدة، في حركة الإيمان والحياة.
{وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}، لأنّه الّذي يملك الملك كلّه والقدرة كلّها، ولأنه الذي يعفو عن عباده في الدنيا والآخرة، ويغفر سيّئاتهم؛ وعليهم أن يراقبوه لموقع عزّته، وأن يطمعوا في عفوه لموقع مغفرته". [تفسير من وحي القرآن، ج 23، ص12-14].
تفسير العلّامة مغنيّة للآيات
ويقول العلّامة الشَّيخ محمَّد جواد مغنيّة في تفسير الآيات: "{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ}: تقدّس الذي لا أحد يملك معه شيئًا {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: ومن آثار قدرته أنّه:
{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}: أحياناً سبحانه على هذا الكوكب، لتظهر أفعالنا خيرها وشرّها، ويميتنا ثمّ يحيينا للحساب والجزاء. وفي الحديث: أنّ رسول الله حين تلا هذه الآية، فسّرها بقوله: {أيّكم أحسن عقلاً، وأورع عن محارم الله، وأسرع إلى طاعته}[الشّيخ مغنيّة/ التفسير المبين].
خلاصة
من كانت سلطته وقدرته مطلقتين، ولم يشارك في ملكه أحد، فهو الخالق الّذي يُطاع ويُعبَد كما يجب، حيث مظاهر عظمته تشمل كلّ خلقه، وأكرمهم الإنسان الذي لا بدّ وأن يسلّم لله من موقع إرادته وحريته واختياره، وأن يتحمّل الأمانة والمسؤوليّة، ويسعى جاهداً كي يتسابق ويتنافس على عمل الخير، ويجعل من الحياة ميداناً يكتب فيه عمله الصّالح، ويسجّل فيه مواقف الحقّ، ويتحرّك رافضاً للقهر والانحراف والظّلم، وساعياً بكلّ جهد وإخلاص حتى يؤكّد العدل في مشاعره وأفكاره وسلوكيّاته، كي يستحقّ نعمة الله عليه، ويكون على قدرها، وعلى قدر خطاب الله له وتكريمه له وتفضيله على بقيّة المخلوقات.
فهل نزرع الحياة بالخير والبركة، أم نبقى في الغيّ والضياع واتّباع الأهواء والعصبيّات؟!
إنّ َالآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي الموقع، وإنّما عن وجهة نظر صاحبها.