تحدّث الله تعالى في كتابه المجيد عن رسول الله(ص) وأصحابه المخلصين المنتجبين،
وما يتميّزون به من صفات، وما يمكن لنا أن نستفيده من دروس في سبيل بناء المجتمع
الإيماني المتراحم والمخلص والمضحّي في سبيل الله تعالى، والسّاعي إلى رضا الله
وفضله في الدّنيا والآخرة بكلّ همّة ومسؤوليّة ووعي.
فالمؤمنون هم المتراحمون فيما بينهم، يشدّ بعضهم بعضاً، ويؤازر بعضهم بعضاً، بحيث
يقدِّمون صورة المجتمع القويّ المنسجم مع إرادة الله، في مجتمع متوحّد على مشاعر
الرّحمة والمحبّة، ومتوحد على مواجهة المنحرفين والمبطلين، ومتوحّد حول الحقّ في
وجه الباطل وأهله، فهؤلاء المؤمنون يؤكّدون بتصرفاتهم وأقوالهم ومواقفهم أنهم
ينتمون إلى رسول الله عمليّاً، ويتحمّلون مسؤولية متابعة مسيرته من خلال حفظ
الرّسالة ونشرها بحكمة وتعقّل، بما يحقّق الهدف المنشود، ويجعل من الإيمان حركة نحو
التّغيير والإصلاح في كلّ المجالات.
إنّ الحياة تستقيم من خلال استقامة سلوك الإنسان في الواقع، بحيث يكون المستقيم على
الحقّ والعدل والمساواة، والمنضبط في مشاعره، فهو لا يحمل إلا رحمة ومحبة وخيراً
للناس جميعاً.
يقول تعالى: {محمّدٌ رسول الله والّذين معه أشدّاء على الكفَّار رحماء بينهم تراهم
ركّعاً سجّداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السّجود ذلك
مثلهم في التّوراة ومثلهم في الإنجيل كزرعٍ أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على
سوقِهِ يُعجِبُ الزرّاع ليغيظ بهم الكفّار وعَدَ الله الذين آمنوا وعملوا الصّالحات
منهم مغفرةً وأجراً عظيم}[الفتح: 29].
ويشير العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض) إلى صفات الرّسول الهادي إلى
الحقّ والّنور وأتباعه المهديّين، والتي هي صفات راقية لا بدّ من أن تدفعنا إلى
التربي على معانيها، كي يكون واقعنا صحيّاً ومستقيماً ومنيعاً في كلّ الميادين:
"ما هي ملامح محمد رسول الله الّذي أرسله الله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدّين
كله؟ وما هي ملامح أصحابه الذين تربّوا في أجواء رسالته، وفي دائرة تعاليمه ومواقفه
وأخلاقه؟ وما هي عناصر نجاح الحركة التي تريد أن تضغط على الواقع ليحتضن الدّين
كلّه، ليكون لله وحده؟
{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ}، هذه هي الصّفة التي يقدِّمه الله بها إلى النّاس، ولم
يقدّمه بصفته العائلية أو النّسَبية، لأنّ الله لا يريد للنّاس أن يرتبطوا به من
خلال قيمة النّسب والعلاقة بالعائلة، لذا قدّمه بصفته الرسالية، ليبقى الناس مع شخص
الرسول في خط الرسالة، لا مع الشخص ـ الذات في الخطّ الذاتي، ليتفاعلوا مع رسالته،
وليمتدّ تفاعلهم بها إلى ما بعد حياته، لأنّ الرسول يبقى برسالته من حيث الدّعوة
ومن حيث القدوة، أمَّا الشّخص، فإنه يموت بموت الجسد، ويتحوّل إلى مجرّد ذكرى. {وَالَّذِينَ
مَعَهُ} في حربه وسلمه، في المسجد، وفي ساحات يثرب كلّها، في سفره وحضره، هؤلاء
الذين عاشوا معه واعترفوا بنبوّته، والتزموا بقيادته، وشاركوا في دعوته، وتألّموا
معه، وعاشوا المعاناة في خطّ مسيرته".
ويلفت سماحته(رض) إلى أنّ هناك أثراً محوريّاً لا بدّ من أن يتركه القائد في
اتّباعه، من خلال تعويد الناس على المساهمة الطوعية والواعية في صنع القوّة في
الواقع. ومن هنا، لا بدّ من التركيز على الرسالة وما فيها من قيم وأفكار نتحرّك على
هديها، كي تكون هي المنطلق لحركتنا ومواقفنا بشكل منضبط في الخطى والمواقف والمشاعر:
"ويوحي إلينا الحديث عن أتباع الرسول في معرض الحديث عن الرّسول نفسه، أنّ الله
يريد أن يثير أمامنا قاعدةً رساليّة تطال علاقة القيادة بالقاعدة، وهي أنَّ القيادة
لا تلغي دور القاعدة، ولا تأثيرها في عملية صنع القوّة وتحريك النّصر، فالقيادة
ليست هي كلّ شيءٍ، ليكون الدّور كلّه لها، بل إنّ للقاعدة دوراً يتأكّد على أساس
التكامل مع القيادة، والتفاعل مع حركتها، والاندماج بأخلاقيتها الرسالية، ليشكّلا
معاً مجتمعاً موحَّداً.
هذا ما ينبغي لنا أن نتمثّله في وعينا الحركي في خطّ الرّسالة، فلا نستغرق في الشخص
إلا من خلال الفكرة التي يحركها ويقود الحياة من خلالها، ويطلّ من نافذتها على
الآخرين، بحيث يكون الشّخص بطل الخطّ، ولا تكون الرسالة خطّ البطل".
ويصوّر لنا القرآن الكريم حال أصحاب الرسول(ص)، فهم أشدّاء رحماء، أشدّاء في وجه
المستكبرين والمتآمرين على الحقّ وأهله، المفسدين في الحياة الّذين يعلمون ليل نهار
على تخريبها، ورحماء بينهم، انطلاقاً من أخوّتهم الإيمانيّة، حيث الرحمة عنوان أساس
وضابط لهذه الأخوَّة.
يقول السيّد فضل الله(رض) في هذا الخصوص:
"{أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ} من موقع أنهم أشدَّاء على الكفر بالتزامهم الإيمان
ودفاعهم عنه، ووقوفهم ضدّ كلّ من يريد تأكيد قوّة الكفر وإضعاف الإيمان، وشدَّتهم
هنا ليست حالةً لا إنسانيّةً، تمثّل القسوة والتعصّب والانغلاق، بل هي حالة
إنسانيّة غرضها الانفتاح على الإنسان من مواقع الحقّ الذي يمثّله الإيمان، لإغناء
قيم الحريّة والعدالة، وتحريكها في آفاق الانفتاح على الله، لتكون عنصراً إيجابيّاً
في معنى تعزيز الإنسانيّة، بدلاً من أن تكون عنصراً سلبيّاً مضمونه الكفر.
وفي ضوء ذلك، نفهم أنّ الشدّة هنا ناظرة إلى مواقع المسلمين في ساحة الصّراع، لا
إلى موقعهم في ساحة الدّعوة، أو في ساحة التّعايش، أو في أجواء الحوار، وهم كذلك {رُحَمَاء
بَيْنَهُمْ} من خلال روحانيّة الإسلام الذي يشدّ جميع النّاس إلى بعضهم البعض،
ليكونوا كالجسد الواحد، تتفاعل المعاناة بين أعضائه، وتنساب الرّحمة في كلّ خلاياه،
انطلاقاً من الخطّ الاجتماعي الذي أراد الله للمؤمنين أن يسيروا عليه في بناء
علاقاتهم الاجتماعيّة، وهو خطّ التواصي بالمرحمة، بكلّ ما يعنيه ذلك من تبادل
المشاعر الرّحيمة والأحاسيس الحميمة والتكافل الاجتماعي".
ومن علامات أصحاب الرسول(ص)، أنهم الراكعون السّاجدون الذين يعيشون روح العبادة في
عقلهم ووجدانهم وروحهم، بما يؤكّد عمق الارتباط بالله تعالى:
"{تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّد}، في مظهر العبودية الخالصة لله سبحانه، الّذي يعبّر
عن ركوع الكيان كلّه له، وسجود العقل والروح والوجدان والحياة كلّها لعظمته، بما
يوحيه ذلك من روحانيّة فيّاضة بالطّهر والحبّ والصّفاء والنقاء، {يَبْتَغُونَ
فَضْلاً مّنَ اللهِ وَرِضْوَان}، فهم مشدودون إلى الله في كلّ حاجات الحياة
الماديّة والمعنويّة، لا يتطلّعون إلى غيره في أيٍّ من حاجاتهم، ويتطلّعون إليه
بأحلامهم في الحياة الآخرة، حيث ينتظرون لطفه ورضوانه، ما يجعل حياة المجتمع
الإسلاميّ مرتبطةً بالله في جميع أوضاعها العامّة والخاصّة.
{سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السُّجُودِ}، وهي علامة الإيمان الواضح في
وجوههم، ذلك أنّ كثرة السجود على جباههم التي تلتصق بالأرض، يترك تأثيراً بارزاً
عليها يميّزهم من غيرهم.
{ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجِيلِ}، في ما جاءت
الإشارة فيهما إليهم عند الحديث عن رسول الله وأصحابه، {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ}،
وهو أفراخ الزّرع المتولِّدة منه، {فَآزَرَهُ}، أي: فأعانه، {فَاسْتَغْلَظَ}، أي
أخذ في الغلظة من حيث الحجم، {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ}، أي استطال على ساقه، {يُعْجِبُ
الزُّرَّاعَ} الّذين ينظرون إليه، فيجدون فيه زرعاً قويّاً يانعاً مثمراً.
وهذا تصوير للمجتمع المؤمن الذي يتكامل ويتنامى ويقوّي بعضه بعضاً، حتى يشكّل قوّة
كبيرة في العدد والعدّة، {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} الذين تزعجهم الوحدة التي
تشمل أفراد المجتمع الإسلاميّ والقوّة المتمثلة فيه {وَعَدَ الهُْ الَّذِينَ
آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيم}، لأنّ
الإيمان والعمل الصّالح هما الأساس الذي يرتكز عليه رضى الله عن عباده، وتنطلق منه
المغفرة، ويُستحقّ عليه الجزاء الكبير في ثواب الله سبحانه".[تفسير من وحي القرآن،
ج 21، ص 127- 129].
وجاء في تعليق العلّامة الشّيخ محمد جواد مغنيّة(رض) على هذه الآية المباركة:
"{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ
رُحَمَاء بَيْنَهُمْ}: جنود للحقّ وأهله، وحرب على الباطل وحزبه. وضرب طه حسين مثلاً
للصّحابة بعمار بن ياسر في كتاب "مرآة الإسلام"، وقال: كان شيخاً بلغ التّسعين أو
تجاوزها، ومع ذلك، قاتل مع عليّ في صفّين عن إيمان، أيّ إيمان، بأنّه يدافع عن الحقّ...
وكان قتله تثبيتاً لعليّ والصالحين، وتشكيكاً في معاوية ومن معه، لأنّ كثيراً من
الصحابة رأوا النبيّ يمسح رأس عمّار ويقول له: تقتلك الفئة الباغية {ذَلِكَ
مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ
شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ}: شطأ الزّرع: ما
يتفرّع عنه من أغصان وورق وثمر. فاستغلظ: صار غليظاً، واستوى: استقام، وعلى سوقه:
على أُصوله، والهدف الأوّل والأساس من هذه الآية، هو الثناء الجميل على من أسرع في
الاستجابة لدعوة محمّد(ص)، وجاهد لتثبيت نبوَّته، وإظهار دينه وكلمته، يرجو به
الأجر من الله دون سواه. وهو سبحانه المسؤول أن يفرّج عنا كلّ كرب بالنّبيّ
وآله(صلوات الله عليه وعليهم)".[التّفسير المبين، الشيخ مغنيّة].
ونحن في ذكرى وفاة الرّسول الأكرم(ص)، علينا تمثّل كلّ المعاني السامية التي
مثّلتها شخصيّة الرسول الرسالية، وشخصيات صحابته المخلصين الّذين أسّسوا لقيام
مجتمع إيمانيّ عامل، بما يبني الحياة ويجعل منها ساحة مواجهة للباطل وأهله، وبما
يعزّز الإيمان ويعمّق الارتباط بالله ارتباطاً حيويّاً يمتلك القيمة والتّأثير في
مجريات الأحداث، ولا يعزلنا عن التحدّيات.
إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبِّر بالضّرورة عن رأي الموقع، وإنّما عن
وجهة نظر صاحبها.