من الآيات المباركة، نأتي على ذكر الآية 46 من سورة الحجّ، وما تشير إليه من معانٍ جليلة، ترسم للإنسان الطّريق إلى الهداية. يقول تعالى في محكم كتابه العزيز: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}[الحجّ: 46].
في هذه الآية، دعوة صريحة للإنسان لتحريك ما أنعم الله به عليه من نعمة العقل، في سبيل التوقّف عند تجارب الأمم والشّعوب، واستخلاص الدّروس والعِبَر منها، والانطلاق بكلّ وعيٍ ومسؤوليّة لتصحيح كلّ أوضاعه وواقعه على أسس ثابتة، فالعقل هو القوّة التي يخطّط بها المرء، ويواجه المتاعب والتحدّيات، ويبني حياته ويحدِّد مساره في تعامله مع الحياة والنّاس من حوله، فبلا عقل، لا مجال لحركة الحياة، ويعني ذلك الموت والجماد والسّقوط في المهالك وضياع البوصلة.
ومشكلة الكثيرين أنهم لا يحرّكون عقولهم فيما يصلح دنياهم وآخرتهم، وفيما يجلب المنافع لهم وللحياة من حولهم، كما لا يحرّكون أسماعهم لذكر الله وآياته المتنوّعة؛ ولما جاء عن الأنبياء والرّسل(ع) من الوعظ والحِكَم، وبما يهدي الجميع إلى سواء السّبيل.
وفي هذا الإطار، وفي تعليقه على هذه الآيات، يقول سماحة المفسِّر المرجع السيّد محمّد حسين فضل الله(رض): "{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا}، لأنّ العقل يتغذّى من الملاحظات الدقيقة التي تكوِّنها آثار التجارب التي عاشها الآخرون... {أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} في ما يستمعون إليه من آيات الله التي يتلوها عليهم الأنبياء، أو من المواعظ البليغة التي يقدّمها الوعّاظ، مما ينفعهم ولا يضرُّهم... فإنّ الله خلق للناس الآذان لتكون النوافذ التي تطلّ على القلوب، فتعطيها كلّ ما فكّر فيه الآخرون أو أثاروه في حديثهم، لتكون بذلك انطلاقة في الوعي، وحركة في الفكر، ووضوحاً في الرؤية للأشياء"... [من وحي القرآن، ج 16، ص 90، 91].
ولكن قد يقع الكثيرون من البشر في المحذور الإلهي، فيحرمون أنفسهم والحياة من كلّ خير ومنفعة، إذ يجمّدون عقولهم، ويصمّون آذانهم، وهو ما يؤدّي إلى عمى بصيرتهم، فهم لا يحسنون صنعاً، بل يعيشون حالة الضّياع والتّيه والفوضى على مستوى وعي الأمور ومعايشتها، وهو ما ينعكس حالة لاتوازن في مختلف شؤونهم، وبالتّالي، تصبح حياتهم وأوضاعهم في مهبّ الرّيح، إذ لا تقوم على أسس متينة من الإيمان المستند إلى حركة العقل الواعي المسؤول، وحركة الحواس والشعور المتفاعل بشكل إيجابي وحيّ ومنتج مع كل آيات الله في خلقه.
وإلى هذا، يلفت سماحته(رض) بالقول: "ولكنّ مشكلة هؤلاء أنهم يعيشون العمى في حياتهم، فيتخبّطون في أفكارهم ومواقفهم، ويفقدون الرؤية الواضحة للأشياء، وليس هذا العمى ناشئاً من فقدان النور في عيونهم، فهم يملكون عيوناً حادّة البصر، ولكنه عمى القلب الذي يغلق فيه الإنسان بجهله وعناده كلّ نوافد المعرفة التي تطلّ به على الله... {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}، أمّا عمى القلب، فإنّه يمنعه من تحديد الموقف أمام كل القضايا التي تتصل بالمصير... وهذه اللفتة القرآنية التي تؤكد قيمة العقل الكبيرة ـ الذي يعبِّر عنه القرآن بالقلب ـ في حياة الإنسان التي تدفعه إلى أن يعقل ويهتدي به، فلا يجمّده ويستسلم إلى رواسبه المتخلّفة، ليشدّه ذلك إلى عمق الهاوية في المصير... إن هذه اللفتة توحي بأن للعقل مركزاً حيوياً في معرفة الإسلام، باعتباره القوة الحقيقية التي تخطط للحياة من موقع الثبات والتوازن والعمق والانفتاح... [من وحي القرآن، ج 16، ص 91، 92].
وفي تفسير "القرطبي" عن قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ}، يقول: "يعني كفّار مكّة، فيشاهدوا هذه القرى، ويتعظوا ويحذروا عقاب الله أن ينزل بهم، كما نزل بمن قبلهم، {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا}، أضاف العقل إلى القلب، لأنه محله، كما أن السمع محلّه الأذن، {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ}، أي أبصار العيون ثابتة لهم، {وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}، أي عن درك الحقّ والاعتبار".
إن مجتمع الإيمان هو مجتمع العقل المنفتح على كل آيات الله، والذي يقوم بدوره في التخطيط والتأمل والمتابعة والإدراك، ليتمّ إحداث التّوازن المطلوب على مستوى الشخصيّة وممارساتها في القول والعمل.
إن الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبِّر بالضرورة عن رأي الموقع ، وإنما عن رأي صاحبه .
من الآيات المباركة، نأتي على ذكر الآية 46 من سورة الحجّ، وما تشير إليه من معانٍ جليلة، ترسم للإنسان الطّريق إلى الهداية. يقول تعالى في محكم كتابه العزيز: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}[الحجّ: 46].
في هذه الآية، دعوة صريحة للإنسان لتحريك ما أنعم الله به عليه من نعمة العقل، في سبيل التوقّف عند تجارب الأمم والشّعوب، واستخلاص الدّروس والعِبَر منها، والانطلاق بكلّ وعيٍ ومسؤوليّة لتصحيح كلّ أوضاعه وواقعه على أسس ثابتة، فالعقل هو القوّة التي يخطّط بها المرء، ويواجه المتاعب والتحدّيات، ويبني حياته ويحدِّد مساره في تعامله مع الحياة والنّاس من حوله، فبلا عقل، لا مجال لحركة الحياة، ويعني ذلك الموت والجماد والسّقوط في المهالك وضياع البوصلة.
ومشكلة الكثيرين أنهم لا يحرّكون عقولهم فيما يصلح دنياهم وآخرتهم، وفيما يجلب المنافع لهم وللحياة من حولهم، كما لا يحرّكون أسماعهم لذكر الله وآياته المتنوّعة؛ ولما جاء عن الأنبياء والرّسل(ع) من الوعظ والحِكَم، وبما يهدي الجميع إلى سواء السّبيل.
وفي هذا الإطار، وفي تعليقه على هذه الآيات، يقول سماحة المفسِّر المرجع السيّد محمّد حسين فضل الله(رض): "{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا}، لأنّ العقل يتغذّى من الملاحظات الدقيقة التي تكوِّنها آثار التجارب التي عاشها الآخرون... {أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} في ما يستمعون إليه من آيات الله التي يتلوها عليهم الأنبياء، أو من المواعظ البليغة التي يقدّمها الوعّاظ، مما ينفعهم ولا يضرُّهم... فإنّ الله خلق للناس الآذان لتكون النوافذ التي تطلّ على القلوب، فتعطيها كلّ ما فكّر فيه الآخرون أو أثاروه في حديثهم، لتكون بذلك انطلاقة في الوعي، وحركة في الفكر، ووضوحاً في الرؤية للأشياء"... [من وحي القرآن، ج 16، ص 90، 91].
ولكن قد يقع الكثيرون من البشر في المحذور الإلهي، فيحرمون أنفسهم والحياة من كلّ خير ومنفعة، إذ يجمّدون عقولهم، ويصمّون آذانهم، وهو ما يؤدّي إلى عمى بصيرتهم، فهم لا يحسنون صنعاً، بل يعيشون حالة الضّياع والتّيه والفوضى على مستوى وعي الأمور ومعايشتها، وهو ما ينعكس حالة لاتوازن في مختلف شؤونهم، وبالتّالي، تصبح حياتهم وأوضاعهم في مهبّ الرّيح، إذ لا تقوم على أسس متينة من الإيمان المستند إلى حركة العقل الواعي المسؤول، وحركة الحواس والشعور المتفاعل بشكل إيجابي وحيّ ومنتج مع كل آيات الله في خلقه.
وإلى هذا، يلفت سماحته(رض) بالقول: "ولكنّ مشكلة هؤلاء أنهم يعيشون العمى في حياتهم، فيتخبّطون في أفكارهم ومواقفهم، ويفقدون الرؤية الواضحة للأشياء، وليس هذا العمى ناشئاً من فقدان النور في عيونهم، فهم يملكون عيوناً حادّة البصر، ولكنه عمى القلب الذي يغلق فيه الإنسان بجهله وعناده كلّ نوافد المعرفة التي تطلّ به على الله... {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}، أمّا عمى القلب، فإنّه يمنعه من تحديد الموقف أمام كل القضايا التي تتصل بالمصير... وهذه اللفتة القرآنية التي تؤكد قيمة العقل الكبيرة ـ الذي يعبِّر عنه القرآن بالقلب ـ في حياة الإنسان التي تدفعه إلى أن يعقل ويهتدي به، فلا يجمّده ويستسلم إلى رواسبه المتخلّفة، ليشدّه ذلك إلى عمق الهاوية في المصير... إن هذه اللفتة توحي بأن للعقل مركزاً حيوياً في معرفة الإسلام، باعتباره القوة الحقيقية التي تخطط للحياة من موقع الثبات والتوازن والعمق والانفتاح... [من وحي القرآن، ج 16، ص 91، 92].
وفي تفسير "القرطبي" عن قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ}، يقول: "يعني كفّار مكّة، فيشاهدوا هذه القرى، ويتعظوا ويحذروا عقاب الله أن ينزل بهم، كما نزل بمن قبلهم، {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا}، أضاف العقل إلى القلب، لأنه محله، كما أن السمع محلّه الأذن، {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ}، أي أبصار العيون ثابتة لهم، {وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}، أي عن درك الحقّ والاعتبار".
إن مجتمع الإيمان هو مجتمع العقل المنفتح على كل آيات الله، والذي يقوم بدوره في التخطيط والتأمل والمتابعة والإدراك، ليتمّ إحداث التّوازن المطلوب على مستوى الشخصيّة وممارساتها في القول والعمل.
إن الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبِّر بالضرورة عن رأي الموقع ، وإنما عن رأي صاحبه .