عاشوراء: تأمّلات في السّيرة والرّوايات

عاشوراء: تأمّلات في السّيرة والرّوايات

في قضيّة كربلاء أو حركة الإمام الحسين(ع)، تبرز عدّة علامات استفهام حول مجموعة من الأفكار، والعديد من الطّرائق المتّبعة في دراسة واقعة عاشوراء، ممّا تحرّك فيه (البكّاؤون) و(المفجوعون) بعيداً من المنهجيّة العلميّة في قراءة التّاريخ، ولا سيّما في دراسة ما يتعلّق بالتّعارض بين النّصوص التّاريخيّة والأحاديث الّتي قد يتّجه بعضها اتجاهاً معيّناً، في حين يتّجه بعضها الآخر في اتّجاه مختلف.

هل خرج الإمام الحسين(ع) ليقتل؟:

وربما كانت هذه الفوضى التاريخية الروائية، تفسح في المجال للكثيرين ممّن يتحرّكون في إنتاج العادات التي لم تنطلق من طبيعة الذّكرى، ولا من خطّ أهل البيت(ع). ولذلك، فإنّنا نرى البعض في موسم عاشوراء ينتجون بعض أشكال العادات التي توحي بالتخلّف، أو بما يعبّر عنه أستاذنا السيّد الخوئي رحمه الله بـ "هتك حرمة المذهب"، باعتبارها تسيء إلى الصّورة المشرقة التي يتمثّل فيها مذهب أهل البيت(ع) الّذي هو الخطّ الإسلاميّ الأصيل.

هناك عدّة أسئلة لا بدّ من أن نثيرها: هل كانت حركة الإمام الحسين(ع) حركةً استشهاديةً؟ هل خرج ليقتل؟ هل كانت مسيرته من أجل أن يصل إلى مرحلة يسقط فيها مع وُلده وأصحابه وأهل بيته شهيداً؟ هل كانت المسألة عنده تنطلق من خلال مزاج الشّهادة؟

ربما يقرأ خطباء العزاء بعض الأحاديث التي تنسب إلى الإمام الحسين(ع) في أوّل انطلاقته من مكّة، حيث يقول: "وخير لي مصرع أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات بين النّووايس وكربلاء..."، إلى آخر الحديث. كما يتحدّثون أنّ الحسين(ع) أغفى إغفاءةًً عند قبر رسول الله(ص) ورأى جدّه في المنام، وتوسّل الحسين(ع) إليه أن يأخذه معه لأنّه لا يطيق البقاء في هذه الدّنيا، ولكن النبي(ص) ـ حسب الرواية ـ قال له: إنّ لك درجةً لا تنالها إلا بالشّهادة فاخرج لتستشهد.

تمثّل الإمامة حركيّة الإسلام الذي لا بدّ للأئمة(ع) من أن يحملوه رسالةً يبلّغونها للناس، ويتحرّكون من خلالها من أجل تغيير الواقع الفاسد إلى واقع صالح

وكذلك في ما ينقله الرواة، أن أخاه محمّد بن الحنفية عندما تحدّث معه حول مسيرته، أجابه الإمام(ع):"شاء الله أن يراني قتيلاً"، فقال له: ما معنى حملك هؤلاء النسوة؟ فأجابه الإمام بحسب الرواية: "شاء الله أن يراهنّ سبايا".

كيف نستطيع دراسة هذه الروايات دراسةً علميةً، مقارنةً بشخصيّة الإمام الحسين(ع) كإمام يشعر بمسؤوليّة الإمامة في تغيير الواقع في الخطّ الذي جاء به رسول الله(ص)، فالإمامة تمثّل حركيّة الإسلام الذي لا بدّ للأئمة(ع) من أن يحملوه رسالةً يبلّغونها للناس، ويتحرّكون من خلالها من أجل تغيير الواقع الفاسد إلى واقع صالح. ثم، لو كان الإمام الحسين(ع) قد خرج استشهادياً، فلماذا خرج من مكة وقد كان الأمويون يخطّطون لكي يُقتل حتى لو كان متعلّقاً بأستار الكعبة؟ هل لأنّه لا يريد هتك حرمة الكعبة، أو لسبب آخر؟

مسؤوليّة التّغيير:

لنقرأ حديثاً آخر يذكر الرّواة أنه تحدّث به عند خروجه من مكّة، ولنقارن بين تلك الأحاديث وبينه. يقول في حديث توجّه به إلى الجماهير: " أيّها النّاس، إنّ رسول الله(ص) قال: من رأى منكم سلطانا جائراً، مستحلاً لحُرم الله، ناكثاً لعهده، مخالفاً لسنّة رسول الله(ص) يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغرْ عليه ـ أي لم يثرـ ]أو فلم يغير ما عليه[ بقولٍ أو بفعل، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله".

فالإنسان المسؤول، ولا سيّما إذا كان في خطّ مسؤوليّة الإمامة أو الدّعوة إلى الله، لا يمكن أن يقف حياديّاً أمام هذا الواقع ـ واقع نموذج السّلطان الجائر بل لا بدّ له من أن يثور عليه وأن يغيّر الواقع القائم. ويعتبر حديث رسول الله(ص) الأساس الشّرعيّ للثورة على الحاكم الجائر، خلافاً لما يقوله بعض الفقهاء بأنه لا بدّ من إطاعة أولي الأمر حتى لو كانوا ظالمين، ونكتفي بنصحهم وإرشادهم.

انطلق الإمام الحسين(ع) في حركة تغييريّة، ولم ينطلق من أجل أن يسقط شهيداً، وإن كان مستعدّاً للشّهادة فيما لو فرضت عليه في نهاية المطاف، من خلال انطلاقه في خطّ التغيير

ثم يتابع الإمام(ع) خطبته ليتحدّث عن الواقع، ليطابق بين خطّ النظريّة في حديث رسول الله(ص)، وخطّ التطبيق في رسم صورة الواقع، ثم مسؤوليته عن ذلك: "ألا وإنّ هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرّحمن، وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله، واستأثروا بالفيء ـ بمال الأمّة ـ وعطّلوا الحدود، وأنا أحقّ من غيّر". حيث يتوجّه بخطابه هذا إلى الجماهير، ليقول لهم إنه يتحرك من أجل أن يغيّر هذا السّلطان ويغيّر هذا الواقع الفاسد الذي استسلم لهذا السّلطان.

إذاً نستوحي من هذا الخطاب، أنّ الإمام الحسين(ع) انطلق في حركة تغييريّة، أي أنّه كان تغييرياً، ولم ينطلق من أجل أن يسقط شهيداً، وإن كان مستعدّاً للشّهادة فيما لو فرضت عليه في نهاية المطاف، من خلال انطلاقه في خطّ التغيير.

فالإمام الحسين(ع) يشير إلى أنّ الواقع ليس إسلاميّاً، وأنّه سيعمل كي يجعله إسلاميّاً، لأنّ الإسلام أمانة الله عنده. وهكذا نقرأ مثلاً في نقده للحكم في تلك المرحلة قوله: "اتّخذوا مال الله دولاً"، يعني مال الأمّة يتداولونه فيما بينهم تبعاً لأطماعهم ومصالحهم، "وعباده خولاً"، أي اتخذوا عباد الله عبيداً. وهذا ما تمثَّل في السنة الثانية من حكم يزيد، عندما أراد من واليه أن يفرض بيعته على أهل المدينة ليكونوا عبيداً له. ثم نقرأ بعد ذلك كلمته المشهورة: "إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً، إنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فمن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ، ومن ردّ عليّ أصبر حتّى يحكم الله وهو خير الحاكمين".

فالإمام(ع) يتحدّث عن حركته ليؤكّد أنّها حركة إصلاحيّة في الأمّة، باعتبار أنّه يحمل مسؤوليّة الأمّة، لأنّ الإمامة تمثّل حركة الإمام في تحمّل مسؤوليّة الأمّة، من خلال تقويم ما انحرف، وإصلاح ما فسد فيها.

تحديد الهدف:

ثم إنّ هذا الحديث يدلّ على أنّ الإمام الحسين(ع) لم يخرج مقاتلاً، حيث يقول: "فمن ردَّ عليَّ أصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين"، فهو قد انطلق، كما انطلق رسول الله(ص) قبل الهجرة بشكل سلميّ، لينفتح على الناس بالحكمة والموعظة الحسنة والكلمة الطيّبة والأسلوب الليّن: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}[آل عمران : 159].

وهذا ما دعا الإمام(ع) إلى أن يستقبل الكتب التي وصلته من الكوفة، ويقال إنها بلغت ثمانية عشر ألف كتاب "أن أقدم إلينا"، وإلى أن يرسل إلى أهل البصرة كتابه الذي يؤكّد فيه أنّنا أحقّ بهذا الأمر ممن قام به قبلنا.

إذاً، فالإمام الحسين(ع) لم يتحرّك على أساس أنّه يستهدف القتل أو الشّهادة، لذا علينا أن نعيد النظر في كثير من الروايات التي تتحدّث عن أنّه خرج من أجل الشّهادة.

والصّحيح أنّ الإمام(ع) انطلق مغيّراً ومصلحاً، وإذا أردنا أن نتحدّث بمصطلحات هذا الزّمن، يمكن أن نقول إنه خرج ثائراً بما للثّورة من معنى في تغيير الواقع من جذوره وتحويله إلى واقع صالح، وهذا ما ينبغي لنا أن ننطلق به.

الذهنيّة البكائيّة:

والمشكلة بالنّسبة إلينا، بل السّبب الّذي منع دراسة النّصوص التّاريخيّة الواردة في أحداث نهضة الإمام الحسين(ع)، هو التّقاليد والعادات والذهنيّة البكائيّة الموجودة عندنا، والتي تتفاعل مع المأساة أكثر مما تتفاعل مع القضيّة والرّسالة، فهذه الذهنيّة أدمنت كربلاء المأساة، فدخل الوضّاعون في هذا الاتجاه، ودخل الشّعراء في هذا الاتجاه، ونحن نسمع أغلب القرّاء يقرأون :"إن كان دين محمدٍ لم يستقم إلا بقتلي فيا سيوف خذيني".

فهذا البيت لشاعر من كربلاء، وفي قصيدته جانب وجدانيّ، لكنّه أصبح متعارفاً لدى النّاس أنّه من أقوال الإمام الحسين(ع).

كيف يكون قتل الإمام الحسين(ع) هو الّذي يقيم دين النبيّ(ص)، فيما نحن نعرف أنّ قتله بهذه الطّريقة يسيء إلى الخطّ الذي كان الإمام(ع) يتحمّل السّير عليه من أجل إصلاح الأمّة ومن أجل تغيير الواقع، فكيف له أن يقول "يا سيوف خذيني"؟...

كما أنّنا قد نسمع أو نقرأ فيما ترويه كتب السّيرة، الكثير من الأحاديث التي تظهر الإمام الحسين(ع) بمظهر الضّعف. صحيح أنّ الإمام الحسين(ع) إنسان يعيش العاطفة تجاه أولاده وأهل بيته وأصحابه، ولكن ليس بالصّورة التي يبدو فيها إنساناً جازعاً متهالكاً.

كان الحسين(ع) في أقصى حالات التّماسك في ساحة المعركة، وحتّى بعد أن بقي وحيداً، نراه في أعلى درجات العنفوان والعزّة والكرامة

لا بدّ من أنكم سمعتم في اللّيلة التي يتلى فيها سيرة عليّ الأكبر والقاسم بن الحسن، كيف أنّ الحسين(ع) بعد استشهادهما، استلقى بينهما، ساعةً يخاطب عليّ الأكبر ويبكي، وساعةً يخاطب القاسم ويبكي، بطريقة توحي أنّ الإمام الحسين(ع) لم يستطع أن يتمالك نفسه أمام هذه الفاجعة المأساة. صحيح أنّه من الممكن أن يبكي، لأنّ البكاء عاطفة إنسانية، ولكن ليس بالطّريقة التي تروى، بحيث إنّ النساء كنّ يتألمّن له، فذلك إنما يدلّ على ضعف في الإمام(ع) لا يمكن قبوله، مع أنّ السّيرة تروي له موقفاً عندما كان يصلح سيفه ويقول: "يا دهر أفّ لك من خليل"، إلى آخر الأبيات المعروفة، بحيث شعرت أخته السيّدة زينب(ع) بأنّه ينعى نفسه، بعد أن رأى ما رأى من عزم القوم على قتاله، ما أثار مشاعر السيّدة زينب(ع) التي عاشت كلّ المأساة في تلك اللّحظة، وعبّرت عنها بطريقة بكائيّة عاطفيّة، ولكنّ الإمام الحسين طلب منها أن تتماسك، وأن لا تلطم بعد شهادته عليه خداً، وأن لا تدعو بالويل والثّبور ولا تشمت به الأعداء. فقد كان(ع) في أقصى حالات التّماسك حتى عندما كان يذهب إلى الشّهداء في ساحة المعركة، وحتّى إنّنا عندما ندرس قوّته وصلابته وهو يقاتل، بعد أن بقي وحيداً، نراه في أعلى درجات العنفوان والعزّة والكرامة.

شجاعة الحسين(ع):

ويتحدّث أحد الرواة عن حالته في ذلك الموقف الذي برز فيه إلى الأعداء، فيقول: "فوالله ما رأيت مكثوراً قطّ ـ أي مصاباً قد قُتل ولده وأهل بيته وأصحابه، أربط جأشاً ولا أمضى جناناً ولا أجرأ مقدماً منه. والله ما رأيت قبله ولا بعده، ولقد كانت الرّجال تشدّ عليه فيشدّ عليها بسيفه، فتنكشف عن يمينه وعن شماله انكشاف المعزى إذا شدّ فيها الذّئب". ثم يتابع الراوي: "ولقد كان يحمل فيهم وقد تكاملوا ثلاثين ألفاً، فينهزمون بين يديه كأنهم الجراد المنتشر، ثم يرجع إلى مركزه وهو يقول: لا حول و لا قوّة إلا بالله".

لقد كان الإمام الحسين(ع) كأبيه أمير المؤمنين عليّ(ع) في شجاعته وصلابته وقوّته، ولذلك ناداهم ابن سعد ـ حسب الرّواية ـ قائلاً : " أتدرون من تقاتلون، هذا ابن الأنزع البطين، هذا ابن قتّال العرب ...".

هذا الإنسان الّذي يعيش العنفوان في هذه السّاعات الصّعبة التي مرّت عليه، كيف يمكن أن يكون ضعيفاً أو يوحي لأعدائه بالضّعف، أو حتى يوحي لأهل بيته ونسائه بالضّعف؟!

لقد كان الإمام(ع) صاحب قضيّة وصاحب رسالة. كان يريد أن يغيّر العالم الإسلاميّ على خطّ الإسلام، وكان يريد أن يصلح ما فسد من أمور المؤمنين، وكان يريد أن يتابع كلّ المعروف ليأمر به، وكلّ المنكر لينهى عنه، حتى إنّه كان يقف أمام معسكر الأعداء لينصحهم ويحاورهم ويرشدهم؛ لذلك لا بدّ من أن نصحّح الصّورة في هذا المجال.

كانت زينب أخت الحسين(ع) جهاداً ورسالةً، لكنّنا أسقطنا كلّ هذا العنفوان الزينبيّ حتّى أصبحت زينب مادّةً للبكاء لا مادّةً للقدوة!

النّموذج الزينبي:

وزينب(ع)، الموصوفة ببطلة كربلاء، هذه الإنسانة القويّة التي تقول لابن زياد: "ثكلتك أمّك يا ابن مرجانة"، وتواجه يزيد بكلّ قوّة قائلةً: "فكد كيدك، واسعَ سعيك، وناصب جهدك، فإنّك لن تمحو ذكرنا، ولن تميت وحينا"؛ هذه الإنسانة القويّة الصّلبة التي يمكن أن نقدّمها إلى العالم كنموذج للمرأة المسلمة القوية المجاهدة البطلة والقائدة، يتمّ تصويرها كبدويّة تبكي على أهلها وتناديهم، مع أنّه عندما ندرس زينب(ع)، نجد أنها كانت أخت الحسين(ع) جهاداً ورسالةً، وكانت تفهم معنى الحسين(ع) ورسالته. لكنّنا أسقطنا كلّ هذا العنفوان الزينبيّ بالأشعار التي يقرأها النّاس حتى يبكوا، حتّى أصبحت زينب مادّةً للبكاء لا مادّةً للقدوة!

النموذج الحسيني ومسؤولية الأمة:

وفي ضوء ما ذكرناه، يفرض السّؤال التّالي نفسه: متى قرر الإمام(ع) أن يدخل المعركة؟

لقد اتخذ هذا القرار عندما فُرض عليه أن يعطي الشّرعية لبني أميّة، حيث طلب ابن زياد من الإمام(ع) أن ينـزل عند حكمه وحكم يزيد. عند ذلك رأى الإمام(ع) أنّ المسألة وصلت إلى مستوى الخطر بأن يعطي الشّرعيّة لمن لا شرعيّة له، بل لمن هو ضدّ الشرعيّة، لذا قال كلمته المشهورة: "لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذّليل، ولا أقر لكم إقرار العبيد... ألا إنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين، بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلة! يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت، وجدودٌ طهرت، ونفوس أبيّة، وأنوفٌ حميّة، من أن نؤثر طاعة اللّئام على مصارع الكرام". عند ذلك، دخل الإمام الحسين(ع) مقاتلاً واستعدّ لخوض المعركة.

وعلى هذا الأساس، لا بدّ لنا من أن ندرس شخصيّة الإمام الحسين(ع) في مسيرته إلى كربلاء والشّعارات التي أطلقها. فإذا كنّا نلتزم الاحتفال بموسم عاشوراء، فيجب أن يكون عنوان هذا الاحتفال من وحي شعارات الإمام الحسين(ع)، لأنّنا نواجه في مجتمعنا الإسلاميّ أكثر من سلطان جائر يتّصف بما وصف به الإمام(ع) السّلطان الجائر. وعلينا كأمّة إسلاميّة أن نعمل على تحويل هذا الموقف إلى موقف عمليّ نخطّط له وننفّذه، لأنّ المسألة القيادية التي يقوم بها الظّالمون من القادة والرؤساء والملوك، تمثّل تهديماً للواقع الإسلاميّ. وهذا ما نلاحظه الآن في أكثر حكّام المسلمين الذين خضعوا للكفر والاستكبار العالمي، حتى يمنحهم البقاء في مراكزهم، ووظّفهم حراساً للسجن الذي أراد لهم أن يحبسوا شعوبهم فيه، وهذا ما نواجهه في الرؤساء و الملوك والحكّام والكثير من أتباعهم من السياسيين والإداريين، ممن يغريهم المال والسلطة، حيث نلاحظ كيف يقفون ضدّ الذين يأمرون بالقسط، وكيف يقفون ضدّ المقاومة الإسلاميّة في لبنان وفلسطين، وكيف يخطّطون مع "إسرائيل" لارتكاب المذابح التي يمارسها الجيش الصهيونيّ ضدّ الأطفال والنساء والشيوخ وكل المدنيين، وكيف يخطّطون من أجل إسقاط كل حالات الممانعة، لأنّ المطلوب هو أن تباع القضيّة الفلسطينية لليهود ولأمريكا ولأوروبا أيضاً، بالطّريقة التي يلعب فيها اللاعبون ويعبث فيها العابثون.

إنّ علينا أن ننطلق من خلال حديث رسول الله(ص): "من رأى منكم سلطاناً جائراً، مستحلاً لحُرم الله، ناكثاً لعهده، مخالفاً لسنّة رسول الله(ص)، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير ما عليه بقولٍ أو بفعل، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله"، لأنّ الأمّة تتحمّل مسؤوليّة السّكوت على الحاكم الظّالم، وعليها أن تعمل بكلّ أطيافها من أجل الثورة عليه وإسقاطه، لأنّ الحكّام الظّلمة ساهموا مساهمةً كبرى في إضعاف الشّعوب الإسلاميّة، بحيث لم تعد تملك إلا الصراخ بالشّعارات الرافضة، حتى إنهم لم يسمحوا في بعض هذه الدول لشعوبهم بالتّظاهر.

التزام شعار الإصلاح ومواجهة التّشويه:

وهكذا أيّها الأحبّة، لا بدّ لنا أيضاً من أن نلتزم شعار الإمام الحسين(ع)، وهو الإصلاح في أمّة جدّه رسول الله(ص)، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، فنحاول أن نخطّط بوعيٍ، من أجل دراسة مفاصل الفساد السياسيّ والأمنيّ والاقتصاديّ والثّقافيّ في مجتمعاتنا.

وهذا يفرض علينا أن نعمل على أساس إبعاد كلّ هؤلاء الذي يشوّهون صورة كربلاء والإمام الحسين(ع)، لأنّ المشكلة التي نعيشها تمثّل شراكةً بين من يعتلون المنبر وبين النّاس، فالكثيرون من معتلي المنابر هم أميّون لا يفهمون ما يقرأون، بمعنى أنّهم أميّون ثقافياً وإن كانوا يقرأون ويكتبون. هؤلاء هم الذين يأتون إلينا بالخرافات المأساويّة حتى يجتذبوا الدّموع.

من الملاحظ أنّ الكثير من أبيات الشعر بات يعتبرها الناس أقوالا مقدّسةً، مع أن كلّ شاعر ينظمها بحسب ذهنيّته وفهمه

ونحن نلاحظ عند إحياء مجالس عاشوراء، أنّ البحث يتمّ عادةً عن القارئ الذي يملك صوتاً مطرباً يطرب الحاضرين، وربّما يكون للطّرب في بعض الحالات طابع مأساويّ. لكن في المقابل، يتمّ تجاهل وجود الكثير من المثقّفين الذين يملكون الثقافة التاريخيّة التي يدرسون من خلالها أحداث التاريخ بطريقة علميّة، كما أنّ هناك الكثير ممن يملكون ثقافةً أدبيّةً، بحيث يدرسون كثيراً من الأشعار التي يوردها قرّاء العزاء. ومن الملاحظ أنّ الكثير من أبيات الشعر بات يعتبرها الناس أقوالا مقدّسةً، مع أن كلّ شاعر ينظم بحسب ذهنيّته وفهمه.

وعلى سبيل المثال، فإنّ بعض الشّعراء ينظم في أبي الفضل العبّاس(ع) قائلاً : "لولا القضا لمحا الوجود بسيفه"... فهل يعقل هذا؟ ويقول آخر: "إن كان دين محمّد لم يستقم إلا بقتلي فيا سيوف خذيني"، بحيث يبدو الإمام الحسين(ع) وكأنّه يطلب من السّيوف أن تأخذ حياته حتى يستقيم دين النبيّ(ص)، فكأنّ دين النبيّ(ص) لا يستقيم إن بقي الحسين(ع) حيّاً وإماماً مبشّراً ومصلحاً ومغيّراً! لكنّ هذه الأقوال أصبحت مما يتداوله النّاس، ونجد مثلها الكثير من الشّعر الذي يلقى في المجالس، سواء بالفصحى أو باللّهجة الشّعبيّة .

العادات والتّقاليد المتخلّفة:

ثم إنّنا نقف أمام الكثير من العادات والتقاليد التي أُعطيت عنوان المواساة للإمام الحسين(ع)، مثل ضرب الرؤوس بالسّيف، حتى إنّ بعض الناس من غير المسلمين قالوا إنّ سيوف الشيعة كانت ترتفع ضدّ أعدائهم فأصبحت ترتفع كي يضربوا بها رؤوسهم، وأصبح هذا من المقدّسات لديهم! مع أنّ كلّ هذا ليس له أصل في سيرة الأئمّة(ع) ومنهجهم. لكن يُذكر أنّ بعض الأشخاص ـ ويقال إنّه تركيّ ـ ضرب رأسه بالسّيف بعد أن سمع مصيبة الإمام الحسين(ع)، ليقلّده النّاس فيما بعد، وليستمرّ هذا التّقليد منذ قرن من الزّمن.

كما تنقل شاشات التّلفزيون بعض الاحتفالات ـ والتي للأسف يوجد إشراف ديني عليها ـ حيث "يَنذر" بعض النّاس أطفالهم فيشجّون رؤوسهم، لتتناقل الصّحف ووسائل الإعلام هذه الصّور. وقد اطّلعت على مجلّة كنديّة تصوّر شخصاً أشيب، وهو يحمل طفلاً يبكي بكاءً شديداً، بعد أن شجّ رأسه، وتعلّق الصّحيفة على هذا المشهد: "هذا يفعل باسم الله!". فإذا كان تعذيب النّفس محرّم شرعاً من خلال حرمة الإضرار بالنّفس، فكيف بتعذيب الطّفولة؟! إنّ هذا حرام شرعاً! بل هو جريمة! فلا ولاية للأب أو للأمّ أن يفعلوا بأطفالهم ذلك، فالولاية إنما جعلت للأب من أجل رعاية الطّفل وإصلاح أمره. ولكن للأسف، فإنّ هذه العادات المتخلّفة أصبحت من المقدّسات، وأصبح الكثير من العلماء يفتون بأنّ هذا مستحبّ. كما أنّ الكثير من العلماء ـ هداهم الله ـ يعتبر أنّ التشيّع يكبر من خلال هذه العادات والتّقاليد.

نعرّج في هذا المجال على عادة ضرب الظّهور بالسّلاسل التي مازالت تمارس في بعض المناطق، كما أنّ البعض يضع في هذه السّلاسل أشياء حادّة كي يجرح ظهره، إضافةً إلى أنّ بعض النّاس في كربلاء كانوا يمشون على النّار احتفالاً بالإمام الحسين(ع)، وقد حرّم السيّد محسن الحكيم(رحمه الله) هذه الممارسات.

ونشاهد، أيضاً، تقاليد جديدة على الشّاشات، ففي بعض البلدان يزحف بعض النّاس واضعين خدودهم على الأرض مواساةً للحسين(ع)، كما يقفل آخرون لحمهم بالقفل مواساةً للحسين(ع)، ويمشي بعضهم مشي الكلاب بعنوان التّواضع للإمام الحسين(ع). وهكذا تطالعنا كلّ سنة أشياء جديدة. وقد سُئل السيّد الخوئي عن هذه الممارسات وأمثالها: هل هي من الشّعائر؟ فأجاب: إنها ليست من الشّعائر. كما سئل عن جوازها فأجاب: إذا أوجبت هتك حرمة المذهب فلا تجوز. قالوا: كيف تؤدّي إلى هتك حرمة المذهب؟ قال: إذا أوجبت سخرية النّاس من المذهب. وقد نشر ذلك في كتاب "المسائل الشّرعيّة" للسيّد الخوئي.

إنّ الّذين يواسون الإمام الحسين(ع) حقّاً هم الشّباب المخلصون الطيّبون المجاهدون الذين واجهوا الصّهاينة في جميع المواجهات

ونحن نؤكّد أنّ المواساة لا تكون بهذه الصّورة. وعلى سبيل المثال، لو أنّ أحداً ما أُخبر بأنّ ابنه قد قتل، فهل يضرب رأسه بالسيف، أو يضرب ظهره بالسّلاسل حتى يعبّر عن حزنه؟ هذا ليس عقلائيّاً أبداً.

لقد قلت لهؤلاء: ليست هذه طريقةً لمواساة الإمام الحسين(ع). إنّ الذين يواسونه هم الذين واجهوا الصّهاينة في جبل صافي، وفي حرب تموز وفي جميع المواجهات مع الصّهاينة... هؤلاء الشّباب المخلصون الطيّبون المجاهدون، هم الذين يواسون الإمام الحسين(ع) حقّاً، لأنّ الإمام جرح واستشهد وهو يجاهد.

كربلاء ثروة إنسانيّة عظيمة:

أيّها الأحبّة، إنّ كربلاء ثروة عظيمة، وهي تمثّل التاريخ الذي نستطيع أن نقدّمه إلى العالم كي نثبت أنّ هذه البطولة الروحيّة الإنسانيّة قد انتصرت في مواجهة الوحشيّة التي تمثّلت في قتلة الإمام الحسين(ع)؛ ولذا نقول إنّه لا بدّ من أن نجمع بين العاطفة والقضيّة، لأنّ القضيّة إذا لم تمتزج بالعاطفة فقد تموت في التّاريخ كما ماتت الكثير من القضايا التاريخيّة في هذا المجال. لكن علينا أن نعقلن العاطفة ونرشدها ونصلحها حتى تتكامل مع القضيّة، ولتكون العاطفة في خدمة الرّسالة.

كما أنّ قيمة إثارة العاطفة بطريقة إنسانيّة وعقلانيّة، تجعلنا نتفاعل مع كلّ المآسي التي تمتدّ في العالم. فالكثير من النّاس الّذين يعيشون مأساة كربلاء، يتفاعلون ضدّ المجازر الوحشيّة التي يقوم بها الصّهاينة بدعمٍ من أمريكا والاتحاد الأوروبيّ وبعض الدّول العربيّة، كما لاحظنا في مجزرة غزّة. فعندما ننطلق لنرفض المأساة في كربلاء، فإنّ هذا الموقف يدفعنا لنرفض جميع من يصنعون المأساة في العالم، سواء كانوا من المسلمين أو من غير المسلمين، لأنّ قضيّة المأساة هي قضيّة إنسانيّة لا يملك الإنسان إلا أن يتفاعل معها.

وليس نقدنا لهذه الطّرق وبعض أشكال الاحتفاء بعاشوراء يعني أنّنا نتنكّر للعاطفة، ولكن ينبغي أن تتمثّل العاطفة بالبكاء الهادئ، وحتى اللّطم الهادئ، لا اللّطم الفلكلوري والاستعراضي الذي لا يوحي بالحزن.

نحن مع أن نعقلن العاطفة ونرشدها، وأن نعمل من أجل تجديد القضيّة، وتجديد إحيائها، وإبعاد كلّ الجهلة الّذين يصعدون المنابر، لأنّهم يتحرّكون على أساس الخرافة الّتي يغذّون النّاس بها من أجل اجتذاب الدّمعة.

أيّها الأحبة، هذه عاشوراء الإسلام، عاشوراء الرّسالة وعاشوراء القضيّة، عاشوراء الجهاد، التي تنطلق من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الشّيطان هي السّفلى.

المصدر : محاضرة عاشورائية .

في قضيّة كربلاء أو حركة الإمام الحسين(ع)، تبرز عدّة علامات استفهام حول مجموعة من الأفكار، والعديد من الطّرائق المتّبعة في دراسة واقعة عاشوراء، ممّا تحرّك فيه (البكّاؤون) و(المفجوعون) بعيداً من المنهجيّة العلميّة في قراءة التّاريخ، ولا سيّما في دراسة ما يتعلّق بالتّعارض بين النّصوص التّاريخيّة والأحاديث الّتي قد يتّجه بعضها اتجاهاً معيّناً، في حين يتّجه بعضها الآخر في اتّجاه مختلف.

هل خرج الإمام الحسين(ع) ليقتل؟:

وربما كانت هذه الفوضى التاريخية الروائية، تفسح في المجال للكثيرين ممّن يتحرّكون في إنتاج العادات التي لم تنطلق من طبيعة الذّكرى، ولا من خطّ أهل البيت(ع). ولذلك، فإنّنا نرى البعض في موسم عاشوراء ينتجون بعض أشكال العادات التي توحي بالتخلّف، أو بما يعبّر عنه أستاذنا السيّد الخوئي رحمه الله بـ "هتك حرمة المذهب"، باعتبارها تسيء إلى الصّورة المشرقة التي يتمثّل فيها مذهب أهل البيت(ع) الّذي هو الخطّ الإسلاميّ الأصيل.

هناك عدّة أسئلة لا بدّ من أن نثيرها: هل كانت حركة الإمام الحسين(ع) حركةً استشهاديةً؟ هل خرج ليقتل؟ هل كانت مسيرته من أجل أن يصل إلى مرحلة يسقط فيها مع وُلده وأصحابه وأهل بيته شهيداً؟ هل كانت المسألة عنده تنطلق من خلال مزاج الشّهادة؟

ربما يقرأ خطباء العزاء بعض الأحاديث التي تنسب إلى الإمام الحسين(ع) في أوّل انطلاقته من مكّة، حيث يقول: "وخير لي مصرع أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات بين النّووايس وكربلاء..."، إلى آخر الحديث. كما يتحدّثون أنّ الحسين(ع) أغفى إغفاءةًً عند قبر رسول الله(ص) ورأى جدّه في المنام، وتوسّل الحسين(ع) إليه أن يأخذه معه لأنّه لا يطيق البقاء في هذه الدّنيا، ولكن النبي(ص) ـ حسب الرواية ـ قال له: إنّ لك درجةً لا تنالها إلا بالشّهادة فاخرج لتستشهد.

تمثّل الإمامة حركيّة الإسلام الذي لا بدّ للأئمة(ع) من أن يحملوه رسالةً يبلّغونها للناس، ويتحرّكون من خلالها من أجل تغيير الواقع الفاسد إلى واقع صالح

وكذلك في ما ينقله الرواة، أن أخاه محمّد بن الحنفية عندما تحدّث معه حول مسيرته، أجابه الإمام(ع):"شاء الله أن يراني قتيلاً"، فقال له: ما معنى حملك هؤلاء النسوة؟ فأجابه الإمام بحسب الرواية: "شاء الله أن يراهنّ سبايا".

كيف نستطيع دراسة هذه الروايات دراسةً علميةً، مقارنةً بشخصيّة الإمام الحسين(ع) كإمام يشعر بمسؤوليّة الإمامة في تغيير الواقع في الخطّ الذي جاء به رسول الله(ص)، فالإمامة تمثّل حركيّة الإسلام الذي لا بدّ للأئمة(ع) من أن يحملوه رسالةً يبلّغونها للناس، ويتحرّكون من خلالها من أجل تغيير الواقع الفاسد إلى واقع صالح. ثم، لو كان الإمام الحسين(ع) قد خرج استشهادياً، فلماذا خرج من مكة وقد كان الأمويون يخطّطون لكي يُقتل حتى لو كان متعلّقاً بأستار الكعبة؟ هل لأنّه لا يريد هتك حرمة الكعبة، أو لسبب آخر؟

مسؤوليّة التّغيير:

لنقرأ حديثاً آخر يذكر الرّواة أنه تحدّث به عند خروجه من مكّة، ولنقارن بين تلك الأحاديث وبينه. يقول في حديث توجّه به إلى الجماهير: " أيّها النّاس، إنّ رسول الله(ص) قال: من رأى منكم سلطانا جائراً، مستحلاً لحُرم الله، ناكثاً لعهده، مخالفاً لسنّة رسول الله(ص) يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغرْ عليه ـ أي لم يثرـ ]أو فلم يغير ما عليه[ بقولٍ أو بفعل، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله".

فالإنسان المسؤول، ولا سيّما إذا كان في خطّ مسؤوليّة الإمامة أو الدّعوة إلى الله، لا يمكن أن يقف حياديّاً أمام هذا الواقع ـ واقع نموذج السّلطان الجائر بل لا بدّ له من أن يثور عليه وأن يغيّر الواقع القائم. ويعتبر حديث رسول الله(ص) الأساس الشّرعيّ للثورة على الحاكم الجائر، خلافاً لما يقوله بعض الفقهاء بأنه لا بدّ من إطاعة أولي الأمر حتى لو كانوا ظالمين، ونكتفي بنصحهم وإرشادهم.

انطلق الإمام الحسين(ع) في حركة تغييريّة، ولم ينطلق من أجل أن يسقط شهيداً، وإن كان مستعدّاً للشّهادة فيما لو فرضت عليه في نهاية المطاف، من خلال انطلاقه في خطّ التغيير

ثم يتابع الإمام(ع) خطبته ليتحدّث عن الواقع، ليطابق بين خطّ النظريّة في حديث رسول الله(ص)، وخطّ التطبيق في رسم صورة الواقع، ثم مسؤوليته عن ذلك: "ألا وإنّ هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرّحمن، وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله، واستأثروا بالفيء ـ بمال الأمّة ـ وعطّلوا الحدود، وأنا أحقّ من غيّر". حيث يتوجّه بخطابه هذا إلى الجماهير، ليقول لهم إنه يتحرك من أجل أن يغيّر هذا السّلطان ويغيّر هذا الواقع الفاسد الذي استسلم لهذا السّلطان.

إذاً نستوحي من هذا الخطاب، أنّ الإمام الحسين(ع) انطلق في حركة تغييريّة، أي أنّه كان تغييرياً، ولم ينطلق من أجل أن يسقط شهيداً، وإن كان مستعدّاً للشّهادة فيما لو فرضت عليه في نهاية المطاف، من خلال انطلاقه في خطّ التغيير.

فالإمام الحسين(ع) يشير إلى أنّ الواقع ليس إسلاميّاً، وأنّه سيعمل كي يجعله إسلاميّاً، لأنّ الإسلام أمانة الله عنده. وهكذا نقرأ مثلاً في نقده للحكم في تلك المرحلة قوله: "اتّخذوا مال الله دولاً"، يعني مال الأمّة يتداولونه فيما بينهم تبعاً لأطماعهم ومصالحهم، "وعباده خولاً"، أي اتخذوا عباد الله عبيداً. وهذا ما تمثَّل في السنة الثانية من حكم يزيد، عندما أراد من واليه أن يفرض بيعته على أهل المدينة ليكونوا عبيداً له. ثم نقرأ بعد ذلك كلمته المشهورة: "إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً، إنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فمن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ، ومن ردّ عليّ أصبر حتّى يحكم الله وهو خير الحاكمين".

فالإمام(ع) يتحدّث عن حركته ليؤكّد أنّها حركة إصلاحيّة في الأمّة، باعتبار أنّه يحمل مسؤوليّة الأمّة، لأنّ الإمامة تمثّل حركة الإمام في تحمّل مسؤوليّة الأمّة، من خلال تقويم ما انحرف، وإصلاح ما فسد فيها.

تحديد الهدف:

ثم إنّ هذا الحديث يدلّ على أنّ الإمام الحسين(ع) لم يخرج مقاتلاً، حيث يقول: "فمن ردَّ عليَّ أصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين"، فهو قد انطلق، كما انطلق رسول الله(ص) قبل الهجرة بشكل سلميّ، لينفتح على الناس بالحكمة والموعظة الحسنة والكلمة الطيّبة والأسلوب الليّن: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}[آل عمران : 159].

وهذا ما دعا الإمام(ع) إلى أن يستقبل الكتب التي وصلته من الكوفة، ويقال إنها بلغت ثمانية عشر ألف كتاب "أن أقدم إلينا"، وإلى أن يرسل إلى أهل البصرة كتابه الذي يؤكّد فيه أنّنا أحقّ بهذا الأمر ممن قام به قبلنا.

إذاً، فالإمام الحسين(ع) لم يتحرّك على أساس أنّه يستهدف القتل أو الشّهادة، لذا علينا أن نعيد النظر في كثير من الروايات التي تتحدّث عن أنّه خرج من أجل الشّهادة.

والصّحيح أنّ الإمام(ع) انطلق مغيّراً ومصلحاً، وإذا أردنا أن نتحدّث بمصطلحات هذا الزّمن، يمكن أن نقول إنه خرج ثائراً بما للثّورة من معنى في تغيير الواقع من جذوره وتحويله إلى واقع صالح، وهذا ما ينبغي لنا أن ننطلق به.

الذهنيّة البكائيّة:

والمشكلة بالنّسبة إلينا، بل السّبب الّذي منع دراسة النّصوص التّاريخيّة الواردة في أحداث نهضة الإمام الحسين(ع)، هو التّقاليد والعادات والذهنيّة البكائيّة الموجودة عندنا، والتي تتفاعل مع المأساة أكثر مما تتفاعل مع القضيّة والرّسالة، فهذه الذهنيّة أدمنت كربلاء المأساة، فدخل الوضّاعون في هذا الاتجاه، ودخل الشّعراء في هذا الاتجاه، ونحن نسمع أغلب القرّاء يقرأون :"إن كان دين محمدٍ لم يستقم إلا بقتلي فيا سيوف خذيني".

فهذا البيت لشاعر من كربلاء، وفي قصيدته جانب وجدانيّ، لكنّه أصبح متعارفاً لدى النّاس أنّه من أقوال الإمام الحسين(ع).

كيف يكون قتل الإمام الحسين(ع) هو الّذي يقيم دين النبيّ(ص)، فيما نحن نعرف أنّ قتله بهذه الطّريقة يسيء إلى الخطّ الذي كان الإمام(ع) يتحمّل السّير عليه من أجل إصلاح الأمّة ومن أجل تغيير الواقع، فكيف له أن يقول "يا سيوف خذيني"؟...

كما أنّنا قد نسمع أو نقرأ فيما ترويه كتب السّيرة، الكثير من الأحاديث التي تظهر الإمام الحسين(ع) بمظهر الضّعف. صحيح أنّ الإمام الحسين(ع) إنسان يعيش العاطفة تجاه أولاده وأهل بيته وأصحابه، ولكن ليس بالصّورة التي يبدو فيها إنساناً جازعاً متهالكاً.

كان الحسين(ع) في أقصى حالات التّماسك في ساحة المعركة، وحتّى بعد أن بقي وحيداً، نراه في أعلى درجات العنفوان والعزّة والكرامة

لا بدّ من أنكم سمعتم في اللّيلة التي يتلى فيها سيرة عليّ الأكبر والقاسم بن الحسن، كيف أنّ الحسين(ع) بعد استشهادهما، استلقى بينهما، ساعةً يخاطب عليّ الأكبر ويبكي، وساعةً يخاطب القاسم ويبكي، بطريقة توحي أنّ الإمام الحسين(ع) لم يستطع أن يتمالك نفسه أمام هذه الفاجعة المأساة. صحيح أنّه من الممكن أن يبكي، لأنّ البكاء عاطفة إنسانية، ولكن ليس بالطّريقة التي تروى، بحيث إنّ النساء كنّ يتألمّن له، فذلك إنما يدلّ على ضعف في الإمام(ع) لا يمكن قبوله، مع أنّ السّيرة تروي له موقفاً عندما كان يصلح سيفه ويقول: "يا دهر أفّ لك من خليل"، إلى آخر الأبيات المعروفة، بحيث شعرت أخته السيّدة زينب(ع) بأنّه ينعى نفسه، بعد أن رأى ما رأى من عزم القوم على قتاله، ما أثار مشاعر السيّدة زينب(ع) التي عاشت كلّ المأساة في تلك اللّحظة، وعبّرت عنها بطريقة بكائيّة عاطفيّة، ولكنّ الإمام الحسين طلب منها أن تتماسك، وأن لا تلطم بعد شهادته عليه خداً، وأن لا تدعو بالويل والثّبور ولا تشمت به الأعداء. فقد كان(ع) في أقصى حالات التّماسك حتى عندما كان يذهب إلى الشّهداء في ساحة المعركة، وحتّى إنّنا عندما ندرس قوّته وصلابته وهو يقاتل، بعد أن بقي وحيداً، نراه في أعلى درجات العنفوان والعزّة والكرامة.

شجاعة الحسين(ع):

ويتحدّث أحد الرواة عن حالته في ذلك الموقف الذي برز فيه إلى الأعداء، فيقول: "فوالله ما رأيت مكثوراً قطّ ـ أي مصاباً قد قُتل ولده وأهل بيته وأصحابه، أربط جأشاً ولا أمضى جناناً ولا أجرأ مقدماً منه. والله ما رأيت قبله ولا بعده، ولقد كانت الرّجال تشدّ عليه فيشدّ عليها بسيفه، فتنكشف عن يمينه وعن شماله انكشاف المعزى إذا شدّ فيها الذّئب". ثم يتابع الراوي: "ولقد كان يحمل فيهم وقد تكاملوا ثلاثين ألفاً، فينهزمون بين يديه كأنهم الجراد المنتشر، ثم يرجع إلى مركزه وهو يقول: لا حول و لا قوّة إلا بالله".

لقد كان الإمام الحسين(ع) كأبيه أمير المؤمنين عليّ(ع) في شجاعته وصلابته وقوّته، ولذلك ناداهم ابن سعد ـ حسب الرّواية ـ قائلاً : " أتدرون من تقاتلون، هذا ابن الأنزع البطين، هذا ابن قتّال العرب ...".

هذا الإنسان الّذي يعيش العنفوان في هذه السّاعات الصّعبة التي مرّت عليه، كيف يمكن أن يكون ضعيفاً أو يوحي لأعدائه بالضّعف، أو حتى يوحي لأهل بيته ونسائه بالضّعف؟!

لقد كان الإمام(ع) صاحب قضيّة وصاحب رسالة. كان يريد أن يغيّر العالم الإسلاميّ على خطّ الإسلام، وكان يريد أن يصلح ما فسد من أمور المؤمنين، وكان يريد أن يتابع كلّ المعروف ليأمر به، وكلّ المنكر لينهى عنه، حتى إنّه كان يقف أمام معسكر الأعداء لينصحهم ويحاورهم ويرشدهم؛ لذلك لا بدّ من أن نصحّح الصّورة في هذا المجال.

كانت زينب أخت الحسين(ع) جهاداً ورسالةً، لكنّنا أسقطنا كلّ هذا العنفوان الزينبيّ حتّى أصبحت زينب مادّةً للبكاء لا مادّةً للقدوة!

النّموذج الزينبي:

وزينب(ع)، الموصوفة ببطلة كربلاء، هذه الإنسانة القويّة التي تقول لابن زياد: "ثكلتك أمّك يا ابن مرجانة"، وتواجه يزيد بكلّ قوّة قائلةً: "فكد كيدك، واسعَ سعيك، وناصب جهدك، فإنّك لن تمحو ذكرنا، ولن تميت وحينا"؛ هذه الإنسانة القويّة الصّلبة التي يمكن أن نقدّمها إلى العالم كنموذج للمرأة المسلمة القوية المجاهدة البطلة والقائدة، يتمّ تصويرها كبدويّة تبكي على أهلها وتناديهم، مع أنّه عندما ندرس زينب(ع)، نجد أنها كانت أخت الحسين(ع) جهاداً ورسالةً، وكانت تفهم معنى الحسين(ع) ورسالته. لكنّنا أسقطنا كلّ هذا العنفوان الزينبيّ بالأشعار التي يقرأها النّاس حتى يبكوا، حتّى أصبحت زينب مادّةً للبكاء لا مادّةً للقدوة!

النموذج الحسيني ومسؤولية الأمة:

وفي ضوء ما ذكرناه، يفرض السّؤال التّالي نفسه: متى قرر الإمام(ع) أن يدخل المعركة؟

لقد اتخذ هذا القرار عندما فُرض عليه أن يعطي الشّرعية لبني أميّة، حيث طلب ابن زياد من الإمام(ع) أن ينـزل عند حكمه وحكم يزيد. عند ذلك رأى الإمام(ع) أنّ المسألة وصلت إلى مستوى الخطر بأن يعطي الشّرعيّة لمن لا شرعيّة له، بل لمن هو ضدّ الشرعيّة، لذا قال كلمته المشهورة: "لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذّليل، ولا أقر لكم إقرار العبيد... ألا إنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين، بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلة! يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت، وجدودٌ طهرت، ونفوس أبيّة، وأنوفٌ حميّة، من أن نؤثر طاعة اللّئام على مصارع الكرام". عند ذلك، دخل الإمام الحسين(ع) مقاتلاً واستعدّ لخوض المعركة.

وعلى هذا الأساس، لا بدّ لنا من أن ندرس شخصيّة الإمام الحسين(ع) في مسيرته إلى كربلاء والشّعارات التي أطلقها. فإذا كنّا نلتزم الاحتفال بموسم عاشوراء، فيجب أن يكون عنوان هذا الاحتفال من وحي شعارات الإمام الحسين(ع)، لأنّنا نواجه في مجتمعنا الإسلاميّ أكثر من سلطان جائر يتّصف بما وصف به الإمام(ع) السّلطان الجائر. وعلينا كأمّة إسلاميّة أن نعمل على تحويل هذا الموقف إلى موقف عمليّ نخطّط له وننفّذه، لأنّ المسألة القيادية التي يقوم بها الظّالمون من القادة والرؤساء والملوك، تمثّل تهديماً للواقع الإسلاميّ. وهذا ما نلاحظه الآن في أكثر حكّام المسلمين الذين خضعوا للكفر والاستكبار العالمي، حتى يمنحهم البقاء في مراكزهم، ووظّفهم حراساً للسجن الذي أراد لهم أن يحبسوا شعوبهم فيه، وهذا ما نواجهه في الرؤساء و الملوك والحكّام والكثير من أتباعهم من السياسيين والإداريين، ممن يغريهم المال والسلطة، حيث نلاحظ كيف يقفون ضدّ الذين يأمرون بالقسط، وكيف يقفون ضدّ المقاومة الإسلاميّة في لبنان وفلسطين، وكيف يخطّطون مع "إسرائيل" لارتكاب المذابح التي يمارسها الجيش الصهيونيّ ضدّ الأطفال والنساء والشيوخ وكل المدنيين، وكيف يخطّطون من أجل إسقاط كل حالات الممانعة، لأنّ المطلوب هو أن تباع القضيّة الفلسطينية لليهود ولأمريكا ولأوروبا أيضاً، بالطّريقة التي يلعب فيها اللاعبون ويعبث فيها العابثون.

إنّ علينا أن ننطلق من خلال حديث رسول الله(ص): "من رأى منكم سلطاناً جائراً، مستحلاً لحُرم الله، ناكثاً لعهده، مخالفاً لسنّة رسول الله(ص)، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير ما عليه بقولٍ أو بفعل، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله"، لأنّ الأمّة تتحمّل مسؤوليّة السّكوت على الحاكم الظّالم، وعليها أن تعمل بكلّ أطيافها من أجل الثورة عليه وإسقاطه، لأنّ الحكّام الظّلمة ساهموا مساهمةً كبرى في إضعاف الشّعوب الإسلاميّة، بحيث لم تعد تملك إلا الصراخ بالشّعارات الرافضة، حتى إنهم لم يسمحوا في بعض هذه الدول لشعوبهم بالتّظاهر.

التزام شعار الإصلاح ومواجهة التّشويه:

وهكذا أيّها الأحبّة، لا بدّ لنا أيضاً من أن نلتزم شعار الإمام الحسين(ع)، وهو الإصلاح في أمّة جدّه رسول الله(ص)، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، فنحاول أن نخطّط بوعيٍ، من أجل دراسة مفاصل الفساد السياسيّ والأمنيّ والاقتصاديّ والثّقافيّ في مجتمعاتنا.

وهذا يفرض علينا أن نعمل على أساس إبعاد كلّ هؤلاء الذي يشوّهون صورة كربلاء والإمام الحسين(ع)، لأنّ المشكلة التي نعيشها تمثّل شراكةً بين من يعتلون المنبر وبين النّاس، فالكثيرون من معتلي المنابر هم أميّون لا يفهمون ما يقرأون، بمعنى أنّهم أميّون ثقافياً وإن كانوا يقرأون ويكتبون. هؤلاء هم الذين يأتون إلينا بالخرافات المأساويّة حتى يجتذبوا الدّموع.

من الملاحظ أنّ الكثير من أبيات الشعر بات يعتبرها الناس أقوالا مقدّسةً، مع أن كلّ شاعر ينظمها بحسب ذهنيّته وفهمه

ونحن نلاحظ عند إحياء مجالس عاشوراء، أنّ البحث يتمّ عادةً عن القارئ الذي يملك صوتاً مطرباً يطرب الحاضرين، وربّما يكون للطّرب في بعض الحالات طابع مأساويّ. لكن في المقابل، يتمّ تجاهل وجود الكثير من المثقّفين الذين يملكون الثقافة التاريخيّة التي يدرسون من خلالها أحداث التاريخ بطريقة علميّة، كما أنّ هناك الكثير ممن يملكون ثقافةً أدبيّةً، بحيث يدرسون كثيراً من الأشعار التي يوردها قرّاء العزاء. ومن الملاحظ أنّ الكثير من أبيات الشعر بات يعتبرها الناس أقوالا مقدّسةً، مع أن كلّ شاعر ينظم بحسب ذهنيّته وفهمه.

وعلى سبيل المثال، فإنّ بعض الشّعراء ينظم في أبي الفضل العبّاس(ع) قائلاً : "لولا القضا لمحا الوجود بسيفه"... فهل يعقل هذا؟ ويقول آخر: "إن كان دين محمّد لم يستقم إلا بقتلي فيا سيوف خذيني"، بحيث يبدو الإمام الحسين(ع) وكأنّه يطلب من السّيوف أن تأخذ حياته حتى يستقيم دين النبيّ(ص)، فكأنّ دين النبيّ(ص) لا يستقيم إن بقي الحسين(ع) حيّاً وإماماً مبشّراً ومصلحاً ومغيّراً! لكنّ هذه الأقوال أصبحت مما يتداوله النّاس، ونجد مثلها الكثير من الشّعر الذي يلقى في المجالس، سواء بالفصحى أو باللّهجة الشّعبيّة .

العادات والتّقاليد المتخلّفة:

ثم إنّنا نقف أمام الكثير من العادات والتقاليد التي أُعطيت عنوان المواساة للإمام الحسين(ع)، مثل ضرب الرؤوس بالسّيف، حتى إنّ بعض الناس من غير المسلمين قالوا إنّ سيوف الشيعة كانت ترتفع ضدّ أعدائهم فأصبحت ترتفع كي يضربوا بها رؤوسهم، وأصبح هذا من المقدّسات لديهم! مع أنّ كلّ هذا ليس له أصل في سيرة الأئمّة(ع) ومنهجهم. لكن يُذكر أنّ بعض الأشخاص ـ ويقال إنّه تركيّ ـ ضرب رأسه بالسّيف بعد أن سمع مصيبة الإمام الحسين(ع)، ليقلّده النّاس فيما بعد، وليستمرّ هذا التّقليد منذ قرن من الزّمن.

كما تنقل شاشات التّلفزيون بعض الاحتفالات ـ والتي للأسف يوجد إشراف ديني عليها ـ حيث "يَنذر" بعض النّاس أطفالهم فيشجّون رؤوسهم، لتتناقل الصّحف ووسائل الإعلام هذه الصّور. وقد اطّلعت على مجلّة كنديّة تصوّر شخصاً أشيب، وهو يحمل طفلاً يبكي بكاءً شديداً، بعد أن شجّ رأسه، وتعلّق الصّحيفة على هذا المشهد: "هذا يفعل باسم الله!". فإذا كان تعذيب النّفس محرّم شرعاً من خلال حرمة الإضرار بالنّفس، فكيف بتعذيب الطّفولة؟! إنّ هذا حرام شرعاً! بل هو جريمة! فلا ولاية للأب أو للأمّ أن يفعلوا بأطفالهم ذلك، فالولاية إنما جعلت للأب من أجل رعاية الطّفل وإصلاح أمره. ولكن للأسف، فإنّ هذه العادات المتخلّفة أصبحت من المقدّسات، وأصبح الكثير من العلماء يفتون بأنّ هذا مستحبّ. كما أنّ الكثير من العلماء ـ هداهم الله ـ يعتبر أنّ التشيّع يكبر من خلال هذه العادات والتّقاليد.

نعرّج في هذا المجال على عادة ضرب الظّهور بالسّلاسل التي مازالت تمارس في بعض المناطق، كما أنّ البعض يضع في هذه السّلاسل أشياء حادّة كي يجرح ظهره، إضافةً إلى أنّ بعض النّاس في كربلاء كانوا يمشون على النّار احتفالاً بالإمام الحسين(ع)، وقد حرّم السيّد محسن الحكيم(رحمه الله) هذه الممارسات.

ونشاهد، أيضاً، تقاليد جديدة على الشّاشات، ففي بعض البلدان يزحف بعض النّاس واضعين خدودهم على الأرض مواساةً للحسين(ع)، كما يقفل آخرون لحمهم بالقفل مواساةً للحسين(ع)، ويمشي بعضهم مشي الكلاب بعنوان التّواضع للإمام الحسين(ع). وهكذا تطالعنا كلّ سنة أشياء جديدة. وقد سُئل السيّد الخوئي عن هذه الممارسات وأمثالها: هل هي من الشّعائر؟ فأجاب: إنها ليست من الشّعائر. كما سئل عن جوازها فأجاب: إذا أوجبت هتك حرمة المذهب فلا تجوز. قالوا: كيف تؤدّي إلى هتك حرمة المذهب؟ قال: إذا أوجبت سخرية النّاس من المذهب. وقد نشر ذلك في كتاب "المسائل الشّرعيّة" للسيّد الخوئي.

إنّ الّذين يواسون الإمام الحسين(ع) حقّاً هم الشّباب المخلصون الطيّبون المجاهدون الذين واجهوا الصّهاينة في جميع المواجهات

ونحن نؤكّد أنّ المواساة لا تكون بهذه الصّورة. وعلى سبيل المثال، لو أنّ أحداً ما أُخبر بأنّ ابنه قد قتل، فهل يضرب رأسه بالسيف، أو يضرب ظهره بالسّلاسل حتى يعبّر عن حزنه؟ هذا ليس عقلائيّاً أبداً.

لقد قلت لهؤلاء: ليست هذه طريقةً لمواساة الإمام الحسين(ع). إنّ الذين يواسونه هم الذين واجهوا الصّهاينة في جبل صافي، وفي حرب تموز وفي جميع المواجهات مع الصّهاينة... هؤلاء الشّباب المخلصون الطيّبون المجاهدون، هم الذين يواسون الإمام الحسين(ع) حقّاً، لأنّ الإمام جرح واستشهد وهو يجاهد.

كربلاء ثروة إنسانيّة عظيمة:

أيّها الأحبّة، إنّ كربلاء ثروة عظيمة، وهي تمثّل التاريخ الذي نستطيع أن نقدّمه إلى العالم كي نثبت أنّ هذه البطولة الروحيّة الإنسانيّة قد انتصرت في مواجهة الوحشيّة التي تمثّلت في قتلة الإمام الحسين(ع)؛ ولذا نقول إنّه لا بدّ من أن نجمع بين العاطفة والقضيّة، لأنّ القضيّة إذا لم تمتزج بالعاطفة فقد تموت في التّاريخ كما ماتت الكثير من القضايا التاريخيّة في هذا المجال. لكن علينا أن نعقلن العاطفة ونرشدها ونصلحها حتى تتكامل مع القضيّة، ولتكون العاطفة في خدمة الرّسالة.

كما أنّ قيمة إثارة العاطفة بطريقة إنسانيّة وعقلانيّة، تجعلنا نتفاعل مع كلّ المآسي التي تمتدّ في العالم. فالكثير من النّاس الّذين يعيشون مأساة كربلاء، يتفاعلون ضدّ المجازر الوحشيّة التي يقوم بها الصّهاينة بدعمٍ من أمريكا والاتحاد الأوروبيّ وبعض الدّول العربيّة، كما لاحظنا في مجزرة غزّة. فعندما ننطلق لنرفض المأساة في كربلاء، فإنّ هذا الموقف يدفعنا لنرفض جميع من يصنعون المأساة في العالم، سواء كانوا من المسلمين أو من غير المسلمين، لأنّ قضيّة المأساة هي قضيّة إنسانيّة لا يملك الإنسان إلا أن يتفاعل معها.

وليس نقدنا لهذه الطّرق وبعض أشكال الاحتفاء بعاشوراء يعني أنّنا نتنكّر للعاطفة، ولكن ينبغي أن تتمثّل العاطفة بالبكاء الهادئ، وحتى اللّطم الهادئ، لا اللّطم الفلكلوري والاستعراضي الذي لا يوحي بالحزن.

نحن مع أن نعقلن العاطفة ونرشدها، وأن نعمل من أجل تجديد القضيّة، وتجديد إحيائها، وإبعاد كلّ الجهلة الّذين يصعدون المنابر، لأنّهم يتحرّكون على أساس الخرافة الّتي يغذّون النّاس بها من أجل اجتذاب الدّمعة.

أيّها الأحبة، هذه عاشوراء الإسلام، عاشوراء الرّسالة وعاشوراء القضيّة، عاشوراء الجهاد، التي تنطلق من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الشّيطان هي السّفلى.

المصدر : محاضرة عاشورائية .

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية