عاشوراء بين الوعي والتقليد

عاشوراء بين الوعي والتقليد

وتبقى لنا في كلّ سنة عاشوراء، ونتطلّع إلى كلّ الرّحلة التي قطعتها في مدى الزمن لنراقب، ثم لنعتبر، ثم لنتحرّك.

انطلقت عاشوراء في معنى الذكرى، في وعي أكثر من جيل من أجيالنا التي سبقتنا، دموعاً تستذكر المأساة، وتعي مأساة كلّ أوضاعها من خلال ما تنفتح به على مأساة كربلاء، وربما كان الكثيرون من النّاس ينزفون دموعهم الكربلائيّة لتلتقي بدموعهم الذاتيّة أو المجتمعيّة، في ساحات لا يملك فيها الكثيرون من هؤلاء النّاس أيّة فرصة لتغيير الواقع، وكانت كلّ قضيّتهم كيف يمكن أن يتفادوا شرور هذا الواقع وحصاره، ولذلك كانت الدّموع تعبيراً عن الإحساس بالمأساة الّتي تضيف إلى تلك الأجيال أكثر من مأساة جديدة يستحضرون فيها الحكم المنحرف في الواقع الإسلامي الّذي كان سرّ حركة عاشوراء، وكانوا يتطلّعون إليه في الواقع الّذي يعيشون فيه.

وهكذا تحرّكت عاشوراء وكانت وعياً، إلى أن تحوّلت تقليداً، وأصبحت تلك الدموع الاحتجاجية أشبه بدموع تقليدية باردة، نعتصرها لأننا لا نعيش حرارتها، ونحن جميعاً نعرف أن أية قضية عندما تتحول إلى تقليد من تقاليد الناس فإنها تجمد.

ولذلك أصبح الشّعراء عندما ينظمون الشعر في عاشوراء، يتحرّكون في استغراق باكٍ في المأساة، ويحاولون أن يتخيّلوا من خلال ظروفهم البدويّة، ليحرّكوا زينب(ع) في أحاديث عاشوراء على أساس تقاليد نساء البدو، فتتصوّر وأنت تقرأ الشّعر القريض أو الشعر الشعبي، أنّك تلتقي ببدويّة تعرف كيف تبكي وكيف تسقط أمام المأساة، وتواجه عشيرتها لتستثيرهم، كأنّ المسألة قضيّة ذاتٍ تستنفر العشيرة، لا قضيّة بطلة تستنفر الأمّة.

ولذلك، فقد أصبحت زينب(ع) في الذهنيّة الشعبيّة، وربما في المستوى الأعلى من الذهنية الشعبية، رمزاً للمأساة أكثر مما هي رمزٌ للقضيّة، لأن الذين كتبوا المأساة من خيالاتهم، أو الذين صوّروا المأساة في أشعارهم ونثرهم، أرادوا لأبطال كربلاء أن يتحوّلوا إلى شيء يبكي لا إلى قوّة تتحدّى، وحتى عندما يتحدّثون عن القوّة وعن كلمات القوّة، فإنهم يحدّثونك عنها بطريقة بكائيّة؛ هل يمكن لك أن تبكي وأنت تسمع الحسين(ع) يقول: "لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذّليل، ولا أقرّ لكم إقرار العبيد"؟ هل يمكن لك أن تبكي أو أن تستحضر أيّة دمعة من الدّموع، وأنت تسمع الحسين(ع) يقول: "ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين؛ بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة!".

ومع ذلك، يريدون لك أن تبكي معها، حتّى تأكل المأساة الموسيقيّة في اللّحن العزائي، كلّ معنى للقوّة في الكلمات.

وأصبحت لنا الشخصيّة البكائيّة الّتي تبكي حتى وهي تفرح، وقد قال قائلهم:

يفرح هذا الورى بعيدهم ونحن أعيـادنـا مآتمن

وهكذا أدمنت عاشوراء البكاء وأدمنت المأساة، حتى أصبح الكثيرون من الناس ممن يقومون بعاشوراء عزاءً أو موكباً ، ينكرون عليك أن تُدخل في عاشوراء شيئاً إسلامياً يتحدّى، أو تدخل فيها موقفاً سياسياً يهزّ حاضرك ويتحدّى وجودك، لتستلهم عاشوراء التحدّي وعاشوراء الانفتاح والثّورة.

حتّى وهم يقرأون ما قيل عن لسان الحسين(ع):

إن كان دين محمد لم يستقم إلا بقتلي فيا سيوف خذيني

فهم لا يحاولون أن ينفذوا إلى عمق الكلمة ليعرفوا ما هي مسألة استقامة دين النبيّ(ص) بهذه الدّماء، وماذا كانت تطلب هذه الدمّاء؛ هل كانت تطلب تغييراً جزئياً بأن يترك يزيد شرب الخمر ولعب القمار وقتل النفس المحترمة، ليعترف بشرعيّته ويبقى الحاكم، لأنّ المسألة هي قضيّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليست هي قضيّة حكم يُطلب ويغيّر ويُسقط ليستبدل به حكم آخر يملك الشرعيّة في العمق والامتداد والحركة؟!

هناك عنوان من العناوين الكربلائيّة التي أطلقناها منذ أكثر من أربعين سنة ونحن في الخط الإسلامي الحركي، والتي فجّرها الإمام الخميني(رض) في ثورته، أنّ أيّة حركة إسلاميّة تنطلق بها جهة شرعيّة، لا بدّ من أن تضع في عنوانها لتغيير المجتمع أن تحكم، والحركة الّتي لا تضع في استراتيجيتها أن تحكم، وأن تجعل الواقع على صورة فكرها وشريعتها وسياستها واقتصادها، هي ليست حركة فكريّة سياسيّة، بل هي مجرّد جمعيّة إصلاحيّة تأمر بمفردات المعروف الشخصيّة، وتنهى عن مفردات المنكر الشخصيّة.

نحن نعتبر أنّ مسألة الصّراع الّتي لا تزال تتحرك في خلاف المسلمين في مدرستي الإمامة والخلافة، هي: من الذي يملك شرعية الحكم؛ عليّ(ع) أو الآخرون؟ وعلي(ع) عندما تحدّث عن حقّه، انطلق على أساس أن يحكم، وليس المقصود من أنّ الإنسان يريد الحكم أنّه يريده لشهوة.

صاحب القضية يجب عليه أن يطالب بالحكم، لا من خلال شخصه، ولكن من خلال القضيّة، وهذا ما عبّر عنه أمير المؤمنين(ع) عندما كان يناجي ربّه وهو يشير إلى هذا الصّراع الّذي كان يدور بينه وبين الآخرين: "اللّهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن الّذي كان منّا منافسةً في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونُظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتُقام المعطَّلة من حدودك".

فهل يمكن أن يتحقّق كلّ ذلك بدون أن يحكم؟ هل يمكن أن يقيم المعطّلة من الحدود، أو أن يؤمن المظلومين من العباد؟! أم كيف يمكن أن يرد المعالم من دينه، وأن ينشرها ويوضّحها وينثرها في الواقع كله، بدون أن تكون له سلطة أن يحرّك هذه المعالم في الواقع؟! وكيف يمكن أن يُصلح الواقع؟! وإصلاح الواقع ليس مجرّد كلمة تقولها، بل هي خطّة تتّصل بالاقتصاد والسياسة والاجتماع وغير ذلك.

وعلى هذا، كان الحسين(ع) طالب حكم، لأنّه كان هو الشرعية، ولا يملك الحسين(ع) إذا تهيّأت له الظّروف ـ ومن خلال عصمته وهو المعصوم ـ ومن خلال شرعيّته وهو الإمام ـ لا يملك إلا أن يطالب بالحكم.

كان أوّل بيان سياسيّ للإمام الحسين(ع) كما تروي السّيرة، يتحدّث عن الجانب القياديّ في الإسلام في حركته في الواقع الإسلاميّ في كلّ ما يعيشه المسلمون: "أيها النّاس، إنّ رسول الله قال: مَن رأى منكم سلطاناً جائراً ـ والسّلطان الجائر كان في ذاك الوقت عنوان الدّولة ـ مستحلاً لحرم الله ـ في كلّ ما حرّمه الله في عباده وبلاده واقتصاد النّاس وسياستهم وغير ذلك ـ ناكثاً بعهده ـ عهد الإخلاص لله عزّ وجلّ، وللأمّة عندما يحكم ـ مخالفاً لسنّة رسول الله ـ في حركته في السّير القانونيّ والتّطبيقيّ ـ يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول، كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله"..

وهذا الخطّ الّذي يحرّك الحسين(ع) فيه الشرعيّة لحركته وثورته، يريد أن يبيّن للنّاس أنّه ينطلق من كلام رسول الله(ص) في مواجهة الواقع والثّورة عليه.

ثم يبدأ(ع) في تصوير الواقع: "ألا وإنّ هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشّيطان، وتركوا طاعة الرّحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ من غيّر، قد أتتني كتبكم، وقدمت عليّ رسلكم ببيعتكم أنّكم لا تسلمونني ولا تخذلونني، فإن وفيتم لي ببيعتكم، فقد أصبتم حظّكم ورشدكم".

كيف يغيّر الحسين؛ هل يقول ليزيد: اتّق الله، ولا تشرب الخمر ولا تلعب القمار وابق خليفة على المسلمين؟!

لا يملك الحسين إذا سقط الحكم وكان متمكّناً، من خلال شرعيّته ومن خلال عصمته، إلا أن يكون هو الحاكم، لأنّ قضيّة إمامته فيما نعتقد، ليست قضيّة تنطلق من أصوات الجماهير، ولكنّها قضية تنطلق من الله سبحانه وتعالى بنصّ رسول الله(ص): "الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا"، ولذلك فإنّ الإمام لا يستطيع أن يتخلّى عن معنى الإمامة في حركته في الحياة. نعم، قد يجمد حركته لأنّ الظّروف لا تسمح له بذلك، ولكن لا يمكن أن يُلغي إمامته ليقبل بإمامة أخرى.

حتّى إنّ الإمام الحسين(ع) قال لوالي المدينة عندما عرض عليه أن يبايع يزيد: "إنّا أهل بيت النبوّة، ومعدن الرّسالة، ومختلف الملائكة... بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق، شارب للخمر، قاتل النّفس المحترمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون، وننتظر وتنتظرون، أيّنا أحقّ بالخلافة والبيعة".. فهل كان الإمام(ع) يريد أن يقول فقط إنّه لا يبايع، أو أنّه كان يريد أن يقول: نحن الّذين نملك البيعة لأنّنا أهل بيت النبوّة؟...

وفي قوله(ع): "خرجت لطلب الإصلاح في أمَّة جدّي"، نفهم أنّ أيّ إصلاح لا يمكن أن يكون جزئيّاً، ولا سيَّما إذا كان الإصلاح في الأمّة، وخصوصاً مع ملاحظة تتمّة قوله هذا بقوله: "وأسير بسيرة جدّي وأبي".

ولذلك فالحسين(ع) تحرّك بعد أن قامت عليه الحجّة، عندما أرسل إليه القوم أن أقدم على جنود لك مجنَّدة، فهل كان ذلك ليأتي الحسين(ع) إليهم ليعظهم ويرشدهم، أو أنهم طلبوه ليحكم فيهم؟ كانت قصّة الحكم هي قصّة الواقع.. ولو عرف يزيد أن الحسين(ع) يتحرّك لمجرّد أن يأمره بترك شرب الخمر ولعب القمار وما إلى ذلك، لاستقبله وتحدّث معه بكلّ هدوء، لكنّ المسألة كانت هي أنّه خاف على حكمه وشعر بالتّهديد في واقعه.

المصدر: حديث عاشوراء

وتبقى لنا في كلّ سنة عاشوراء، ونتطلّع إلى كلّ الرّحلة التي قطعتها في مدى الزمن لنراقب، ثم لنعتبر، ثم لنتحرّك.

انطلقت عاشوراء في معنى الذكرى، في وعي أكثر من جيل من أجيالنا التي سبقتنا، دموعاً تستذكر المأساة، وتعي مأساة كلّ أوضاعها من خلال ما تنفتح به على مأساة كربلاء، وربما كان الكثيرون من النّاس ينزفون دموعهم الكربلائيّة لتلتقي بدموعهم الذاتيّة أو المجتمعيّة، في ساحات لا يملك فيها الكثيرون من هؤلاء النّاس أيّة فرصة لتغيير الواقع، وكانت كلّ قضيّتهم كيف يمكن أن يتفادوا شرور هذا الواقع وحصاره، ولذلك كانت الدّموع تعبيراً عن الإحساس بالمأساة الّتي تضيف إلى تلك الأجيال أكثر من مأساة جديدة يستحضرون فيها الحكم المنحرف في الواقع الإسلامي الّذي كان سرّ حركة عاشوراء، وكانوا يتطلّعون إليه في الواقع الّذي يعيشون فيه.

وهكذا تحرّكت عاشوراء وكانت وعياً، إلى أن تحوّلت تقليداً، وأصبحت تلك الدموع الاحتجاجية أشبه بدموع تقليدية باردة، نعتصرها لأننا لا نعيش حرارتها، ونحن جميعاً نعرف أن أية قضية عندما تتحول إلى تقليد من تقاليد الناس فإنها تجمد.

ولذلك أصبح الشّعراء عندما ينظمون الشعر في عاشوراء، يتحرّكون في استغراق باكٍ في المأساة، ويحاولون أن يتخيّلوا من خلال ظروفهم البدويّة، ليحرّكوا زينب(ع) في أحاديث عاشوراء على أساس تقاليد نساء البدو، فتتصوّر وأنت تقرأ الشّعر القريض أو الشعر الشعبي، أنّك تلتقي ببدويّة تعرف كيف تبكي وكيف تسقط أمام المأساة، وتواجه عشيرتها لتستثيرهم، كأنّ المسألة قضيّة ذاتٍ تستنفر العشيرة، لا قضيّة بطلة تستنفر الأمّة.

ولذلك، فقد أصبحت زينب(ع) في الذهنيّة الشعبيّة، وربما في المستوى الأعلى من الذهنية الشعبية، رمزاً للمأساة أكثر مما هي رمزٌ للقضيّة، لأن الذين كتبوا المأساة من خيالاتهم، أو الذين صوّروا المأساة في أشعارهم ونثرهم، أرادوا لأبطال كربلاء أن يتحوّلوا إلى شيء يبكي لا إلى قوّة تتحدّى، وحتى عندما يتحدّثون عن القوّة وعن كلمات القوّة، فإنهم يحدّثونك عنها بطريقة بكائيّة؛ هل يمكن لك أن تبكي وأنت تسمع الحسين(ع) يقول: "لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذّليل، ولا أقرّ لكم إقرار العبيد"؟ هل يمكن لك أن تبكي أو أن تستحضر أيّة دمعة من الدّموع، وأنت تسمع الحسين(ع) يقول: "ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين؛ بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة!".

ومع ذلك، يريدون لك أن تبكي معها، حتّى تأكل المأساة الموسيقيّة في اللّحن العزائي، كلّ معنى للقوّة في الكلمات.

وأصبحت لنا الشخصيّة البكائيّة الّتي تبكي حتى وهي تفرح، وقد قال قائلهم:

يفرح هذا الورى بعيدهم ونحن أعيـادنـا مآتمن

وهكذا أدمنت عاشوراء البكاء وأدمنت المأساة، حتى أصبح الكثيرون من الناس ممن يقومون بعاشوراء عزاءً أو موكباً ، ينكرون عليك أن تُدخل في عاشوراء شيئاً إسلامياً يتحدّى، أو تدخل فيها موقفاً سياسياً يهزّ حاضرك ويتحدّى وجودك، لتستلهم عاشوراء التحدّي وعاشوراء الانفتاح والثّورة.

حتّى وهم يقرأون ما قيل عن لسان الحسين(ع):

إن كان دين محمد لم يستقم إلا بقتلي فيا سيوف خذيني

فهم لا يحاولون أن ينفذوا إلى عمق الكلمة ليعرفوا ما هي مسألة استقامة دين النبيّ(ص) بهذه الدّماء، وماذا كانت تطلب هذه الدمّاء؛ هل كانت تطلب تغييراً جزئياً بأن يترك يزيد شرب الخمر ولعب القمار وقتل النفس المحترمة، ليعترف بشرعيّته ويبقى الحاكم، لأنّ المسألة هي قضيّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليست هي قضيّة حكم يُطلب ويغيّر ويُسقط ليستبدل به حكم آخر يملك الشرعيّة في العمق والامتداد والحركة؟!

هناك عنوان من العناوين الكربلائيّة التي أطلقناها منذ أكثر من أربعين سنة ونحن في الخط الإسلامي الحركي، والتي فجّرها الإمام الخميني(رض) في ثورته، أنّ أيّة حركة إسلاميّة تنطلق بها جهة شرعيّة، لا بدّ من أن تضع في عنوانها لتغيير المجتمع أن تحكم، والحركة الّتي لا تضع في استراتيجيتها أن تحكم، وأن تجعل الواقع على صورة فكرها وشريعتها وسياستها واقتصادها، هي ليست حركة فكريّة سياسيّة، بل هي مجرّد جمعيّة إصلاحيّة تأمر بمفردات المعروف الشخصيّة، وتنهى عن مفردات المنكر الشخصيّة.

نحن نعتبر أنّ مسألة الصّراع الّتي لا تزال تتحرك في خلاف المسلمين في مدرستي الإمامة والخلافة، هي: من الذي يملك شرعية الحكم؛ عليّ(ع) أو الآخرون؟ وعلي(ع) عندما تحدّث عن حقّه، انطلق على أساس أن يحكم، وليس المقصود من أنّ الإنسان يريد الحكم أنّه يريده لشهوة.

صاحب القضية يجب عليه أن يطالب بالحكم، لا من خلال شخصه، ولكن من خلال القضيّة، وهذا ما عبّر عنه أمير المؤمنين(ع) عندما كان يناجي ربّه وهو يشير إلى هذا الصّراع الّذي كان يدور بينه وبين الآخرين: "اللّهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن الّذي كان منّا منافسةً في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونُظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتُقام المعطَّلة من حدودك".

فهل يمكن أن يتحقّق كلّ ذلك بدون أن يحكم؟ هل يمكن أن يقيم المعطّلة من الحدود، أو أن يؤمن المظلومين من العباد؟! أم كيف يمكن أن يرد المعالم من دينه، وأن ينشرها ويوضّحها وينثرها في الواقع كله، بدون أن تكون له سلطة أن يحرّك هذه المعالم في الواقع؟! وكيف يمكن أن يُصلح الواقع؟! وإصلاح الواقع ليس مجرّد كلمة تقولها، بل هي خطّة تتّصل بالاقتصاد والسياسة والاجتماع وغير ذلك.

وعلى هذا، كان الحسين(ع) طالب حكم، لأنّه كان هو الشرعية، ولا يملك الحسين(ع) إذا تهيّأت له الظّروف ـ ومن خلال عصمته وهو المعصوم ـ ومن خلال شرعيّته وهو الإمام ـ لا يملك إلا أن يطالب بالحكم.

كان أوّل بيان سياسيّ للإمام الحسين(ع) كما تروي السّيرة، يتحدّث عن الجانب القياديّ في الإسلام في حركته في الواقع الإسلاميّ في كلّ ما يعيشه المسلمون: "أيها النّاس، إنّ رسول الله قال: مَن رأى منكم سلطاناً جائراً ـ والسّلطان الجائر كان في ذاك الوقت عنوان الدّولة ـ مستحلاً لحرم الله ـ في كلّ ما حرّمه الله في عباده وبلاده واقتصاد النّاس وسياستهم وغير ذلك ـ ناكثاً بعهده ـ عهد الإخلاص لله عزّ وجلّ، وللأمّة عندما يحكم ـ مخالفاً لسنّة رسول الله ـ في حركته في السّير القانونيّ والتّطبيقيّ ـ يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول، كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله"..

وهذا الخطّ الّذي يحرّك الحسين(ع) فيه الشرعيّة لحركته وثورته، يريد أن يبيّن للنّاس أنّه ينطلق من كلام رسول الله(ص) في مواجهة الواقع والثّورة عليه.

ثم يبدأ(ع) في تصوير الواقع: "ألا وإنّ هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشّيطان، وتركوا طاعة الرّحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ من غيّر، قد أتتني كتبكم، وقدمت عليّ رسلكم ببيعتكم أنّكم لا تسلمونني ولا تخذلونني، فإن وفيتم لي ببيعتكم، فقد أصبتم حظّكم ورشدكم".

كيف يغيّر الحسين؛ هل يقول ليزيد: اتّق الله، ولا تشرب الخمر ولا تلعب القمار وابق خليفة على المسلمين؟!

لا يملك الحسين إذا سقط الحكم وكان متمكّناً، من خلال شرعيّته ومن خلال عصمته، إلا أن يكون هو الحاكم، لأنّ قضيّة إمامته فيما نعتقد، ليست قضيّة تنطلق من أصوات الجماهير، ولكنّها قضية تنطلق من الله سبحانه وتعالى بنصّ رسول الله(ص): "الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا"، ولذلك فإنّ الإمام لا يستطيع أن يتخلّى عن معنى الإمامة في حركته في الحياة. نعم، قد يجمد حركته لأنّ الظّروف لا تسمح له بذلك، ولكن لا يمكن أن يُلغي إمامته ليقبل بإمامة أخرى.

حتّى إنّ الإمام الحسين(ع) قال لوالي المدينة عندما عرض عليه أن يبايع يزيد: "إنّا أهل بيت النبوّة، ومعدن الرّسالة، ومختلف الملائكة... بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق، شارب للخمر، قاتل النّفس المحترمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون، وننتظر وتنتظرون، أيّنا أحقّ بالخلافة والبيعة".. فهل كان الإمام(ع) يريد أن يقول فقط إنّه لا يبايع، أو أنّه كان يريد أن يقول: نحن الّذين نملك البيعة لأنّنا أهل بيت النبوّة؟...

وفي قوله(ع): "خرجت لطلب الإصلاح في أمَّة جدّي"، نفهم أنّ أيّ إصلاح لا يمكن أن يكون جزئيّاً، ولا سيَّما إذا كان الإصلاح في الأمّة، وخصوصاً مع ملاحظة تتمّة قوله هذا بقوله: "وأسير بسيرة جدّي وأبي".

ولذلك فالحسين(ع) تحرّك بعد أن قامت عليه الحجّة، عندما أرسل إليه القوم أن أقدم على جنود لك مجنَّدة، فهل كان ذلك ليأتي الحسين(ع) إليهم ليعظهم ويرشدهم، أو أنهم طلبوه ليحكم فيهم؟ كانت قصّة الحكم هي قصّة الواقع.. ولو عرف يزيد أن الحسين(ع) يتحرّك لمجرّد أن يأمره بترك شرب الخمر ولعب القمار وما إلى ذلك، لاستقبله وتحدّث معه بكلّ هدوء، لكنّ المسألة كانت هي أنّه خاف على حكمه وشعر بالتّهديد في واقعه.

المصدر: حديث عاشوراء

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية