في هذه اللَّيلة؛ ليلة الأول من محرم، يبدأ موسم ذكرى عاشوراء؛ هذه الذكرى التي أريد لها أن تبقى مستمرة، من أجل أن تكون التاريخ الَّذي نجد فيه الإسلام المتحرّك المقاوم الممانع، المعترض على كلّ حكم منحرف يخالف سنة الله ورسوله ويعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، ليجد كلّ جيل في ذكرى عاشوراء قدوته وخطّه وشرعيَّة حركته، وليأخذ منها وعياً إسلامياً ووعياً سياسياً ومنهجاً في ساحة الصّراع.
وقد استطاعت عاشوراء كذكرى، أن تربي أجيالاً كثيرة من المسلمين في مدى التاريخ، وتصنع الكربلائيين في مدى الزمن، حيث نشأ لدينا في كلّ هذه المسيرة الكبرى الكثيرون من المسلمين في خطِّ الحسين(ع)، الذين عاشوا الإسلام ثورة ضد الظالم، ورفضاً للباطل، إلى جانب المسلمين الآخرين الذين كان الإسلام يمثل لهم استرخاءً وراحةً، وهروباً من المسؤولية، وابتعاداً عن الحركة، كما هم موجودون في كل زمان ومكان.
هؤلاء الذين إذا حدّثتهم عن المعارضة حدّثوك عن التقية، وإذا حدثتهم عن الثورة حدَّثوك عن إلقاء النفس بالتهلكة، وإذا حدَّثتهم عن التحرك، قالوا لك إنَّ هناك أكثر من حديث يقول: "اخلدوا إلى الأرض حتى يظهر قائمنا". هؤلاء منخذلون ومهزومون نفسياً، ويريدون للأمة أن تعيش بروحية الانهزام التي تحبّب لها الحياة وتكرِّه لها الموت.
تنوّع الأساليب في خطّ الثورة
ليس من الضَّروري أن يكون الكربلائيون العاشورائيون الحسينيون هم من يمسكون السيف دائماً، فكربلاء قبل أن تمسك السيف كانت حركة ممانعة.. فالحسين(ع) لم يختر الحرب كأسلوب أراد له أن يتركَّز في حياة الناس دائماً، وكيفما كان، بل أراد أن يصلح في أمة جده، أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بالكلمة أولاً.
ولذلك، نجد أنَّ من أوائل الخطب الَّتي خطبها الحسين(ع) قوله: "وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن ردّ عليّ ـ ولم يقبل مني دعوتي ولم ينسجم مع خط الإصلاح في حركته ولم يستجب للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ ومن ردّ عليّ أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق، وهو خير الحاكمين".
حتى إنه كان لا يريد لأصحابه أن يبدأوهم بالقتال، لأنه لا يريد أن يتحرَّك بالعنف ما دام هناك للرفق مجال، كما هو الخطّ الإسلامي: الرفق أولاً، فإذا فرض عليك الآخرون العنف، فإنك تأخذ به حينئذٍ.
ولذلك، نعتبر أنَّ الحسين(ع) لم يخرج محارباً، بمعنى أنَّ هدفه كان الحرب، بل خرج مصلحاً وداعية للحق، وثائراً لتغيير المجتمع والواقع، ولكن عندما فُرضَتْ عليه الحرب، وأُريد له أن يعطي بيده إعطاء الذليل ويقرّ إقرار العبيد قال: "والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرّ لكم إقرار العبيد".
المسألة أن نصنع تاريخنا
لذلك، عندما تدخلون موسم عاشوراء، لا بدَّ لكم من أن تدخلوه بوعي، لا كمناسبة تقليدية تعيشون فيها تقاليدكم، بل أن تفتحوا عقولكم لتفكّروا من جديد، فقد مضى أبطال عاشوراء لربهم وقاموا بمسؤولياتهم، وعلينا أن نفكّر ونسأل: أين كربلاؤنا نحن؟ فنحن لسنا مسؤولين عن كربلاء التاريخ، فكربلاء التاريخ بالنسبة إلينا مدرسة نتعلَّم منها، ونأخذ من دروسها مما يبقى للحياة، وهم قد صنعوا تاريخهم بالكلمة، وبالموقف، والممانعة، وبالدماء، وكان المسألة عندهم مما تحدثوا به وثاروا من أجله، وعاشوه من أوضاع، كله ينطلق من خلال الإسلام..
فلذلك، نحن نعتبر أنَّ الإنسان كلَّما ارتبط بأهل البيت(ع) أكثر، ارتبط بالإسلام أكثر، لأن أهل البيت(ع) جسّدوا الإسلام بالفكر وبالحركة وبكلّ الحياة التي عاشوها.
ولهذا، لا يمكن لإنسان أن يحبّ أهل البيت(ع) كما يجب أن يُحَبُّوا، ويتعقّد من مسلم مجاهد، أو يتعقّد من مسلم داعية إلى الله، أو يتعقّد من مسلم معارض يعارض الحكم والواقع الفاسدَيْن، لأن أهل البيت(ع) كانوا في خط المعارضة في مدى الزمن. ولذلك، كل من يكون في خط الموالاة للظلم وفي خط الرضى للفساد، فهو لا يرتبط بأهل البيت(ع) بأي رابط.
من يكون حاشية وبطانة للظالمين، ويحاول دائماً أن يبرر للظالمين ظلمهم، ومن يكون محباً ومخلصاً للذين يتمثلون باسم الإسلام، في الوقت الذي يعيشون في حياتهم الفساد الأخلاقي والفساد الروحي والانحراف عن طاعة الله وعن عبادته، لا يمكن أن يكون قريباً لمحمد(ص) وللأئمة من أهل بيته(ع)، لأنهم كانوا يريدون لنا أن نعمل على أن نكون في خطٍ مواجه لكلّ هؤلاء... [كتاب "حديث عاشوراء"، ص:37-39].