الهجرة إلى المدينة وبناء المجتمع المسلم فيها

الهجرة إلى المدينة وبناء المجتمع المسلم فيها

لانزال مع النبيّ(ص) وهو في طريقه إلى المدينة، في الهجرة التي أراد الله له أن يقوم بها من أجل إنشاء المجتمع الجديد، الذي ينطلق فيه الإسلام ليعيش في ساحة الصّراع، ليتحدّى الكفر والشّرك والاستكبار، وليردّ التحدّي.

الصّادق الأمين

ووصل النبي(ص) إلى مشارف المدينة إلى قباء، وبقي هناك 3 أيام ينتظر علياً(ع)، لأنه بقي في مكة بأمر من رسول الله، من أجل أن يردّ للناس ودائعهم... وهذه ملحوظة لا بدّ من أن نلمّ بها، وهي أنّ الناس حتى بعد أن بعث الله نبيه بالرّسالة، وبعد ما واجهته كلّ وسائل التحدّي والمواجهة، بقي الناس يودعون عنده ودائعهم، لأنّ مسألة صدق النبي وأمانته كانت من الأمور التي التقى عليها كلّ الناس، حتى تحولت هاتان الصفتان إلى اسم للنبيّ عندهم، فكانوا يقولون جاء الصادق الأمين، والتقينا بالصادق الأمين، بدلاً من أن يقولوا جاء محمد والتقينا بمحمد.

ويروى عن شخص من أصحاب الإمام جعفر الصادق(ع) أنه قال له، إني أحبّ أن أكون قريباً منك ـ بمعنى من خواصّك ـ فكيف أكون كذلك؟ قال(ع): "انظر ما بلغ به عليّ(ع) عند رسول الله(ص) فالزمه، فإنّ عليّاً(ع) إنما بلغ ما بلغ به عند رسول الله(ص) بصدق الحديث وأداء الأمانة".

فكان عليّ الصادق الأمين، كما كان رسول الله الصادق الأمين، لأنّ مسألة الصدق والأمانة تشملان كلّ مواقع الأخلاق الإسلامية، لأنّ الإنسان إذا كان صادقاً، فلا يمكن أن يكذب في قول أو يكذب في نيّة أو يكذب في موقف أو يكذب في معاملة أو يكذب في أيّ حالة من الحالات، لأنّ الإنسان الصادق هو الإنسان الذي لا يعيش الازدواجية بين الحقيقة وبين ما يظهره للنّاس، فظاهره كباطنه، وكلماته وفق للواقع، وموقفه لا يختلف عن إيمانه.

أما الأمانة، فإنها لا تنحصر عند أمانة المال، ولكنها تمتدّ حتى تشمل كلّ المسؤوليات، لأن الإنسان إذا كان أميناً على أموال الناس، فلأنه يتحسس المسؤولية في المال الذي عنده. ولذلك، لا بدّ من أن يكون أميناً على وظيفته، فلا يخون وظيفته، ولا بدّ من أن يكون أميناً فيما يقدّمه للناس من بضاعة فلا يغشّها، ولا يحاول أن يقدّم، مثلاً، بضاعةً للناس بعنوان أنَّ مصدرها البلد الفلاني، ويكون مصدرها في الواقع محليّاً، كما يفعل الكثير من الناس.

وهكذا، إذا كان أميناً في المال، فلا بدّ من أن يكون أميناً على دماء الناس، وعلى أعراض الناس، وعلى كرامات الناس، وعلى سياسة الناس، وعلى الواقع الاجتماعي للناس، لأن الشخصية لا تتجزأ؛ فمن كان أميناً في نفسه، فإنه لا بدّ من أن يكون أميناً على المجتمع كلّه. ولذلك، لاحظوا أن الله سبحانه وتعالى أعطى كلمة الأمانة معنى المسؤوليّة {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا – يعني الله قال للأرض من باب التشبيه: أيّتها الأرض، تحمّلي مسؤوليّة وجودك وسأحاسبك على ذلك.. أيّتها السماوات، تحمّلي مسؤولية وجودك وسأحاسبك على ذلك.. أيّتها الجبال، تحمّلي مسؤولية وجودك... قالت: يا ربّ، لا نقبل، لأننا لا نضمن أن لا نخون الأمانة - فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَ} مع ضخامة الأرض وامتدادها، وضخامة السماء وامتدادها، وضخامة الجبال وارتفاعها، ومع ذلك، قالت يا ربّ، هذه المسألة كبيرة، ومسؤوليتنا بيدك {فقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}..

{فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا - خفنا من النتائج - وحَمَلَهَا الْإِنسَانُ- قال له أنا لها يا ربّ، عندي عقل وإرادة {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُول}، ظلم نفسه بالانحراف عن خطّ الأمانة، وجهل سعة الأمانة وامتدادها.

لذلك، عندما أرسل الله رسوله، وكان صادقا ًأميناً، فإنه أراد أن يقول للناس، إن هاتين الصفتين تمثّلان كلّ ما يفرض الوثوق بالرّسالة، لأن الصادق لا يكذب على الله ولا على الناس، ولأن الأمين لا يخون الله ولا يخون الناس، وبذلك يجتمع للرّسول كلّ امتداد المسؤولية.

عليّ(ع) لا يعرف إلا الحقّ

وهكذا، عندما أراد الرسول(ص) أن يجعل عليّاً مكانه أيضاً، كان عليّ الصادق الأمين. ولذلك، فهو عندما يتحمَّل مسؤوليَّة الإمامة، فإنَّه يبقى ينطلق من خلال أنّه الصادق مع نفسه ومع ربِّه ومع الناس، الّذي لا يكذب على رسول الله، ولا يكذب على الله، والأمين على كلّ مسؤوليات الناس.

ولذلك، عندما بدأت اللّعبة السياسيَّة التي قام بها من وقفوا ضدّ عليّ(ع)، قال(ع): "قد يرى الحوَّل القلَّب ـ الشخص الذي يدرس تقلّبات الأمور وتحوّلاتها ـ وجه الحيلة ـ يعني هناك مجال للتحايل وللّفّ والدوران ـ ودونه مانع من أمر الله ونهيه ـ الحيلة موجودة، ولكن، هل يمكن لعليّ أن يغدر وهو يملك الفكر الّذي يتّسع للعالم؟! وعليّ بن أبي طالب الذي يملك فكر الحقّ، يعرف فكر التحايل والدّوران واللّعب على الحبال، لكنَّه لا يفعل ذلك أبداً، لأنَّ عليّاً لا يسير إلّا على الحقّ، وإلّا بما يرضي الله ـ فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين".

لذلك، علي بن أبي طالب كان يتقن اللعبة السياسة، وليس كما يقال إنّ عليّاً كان لا يعرف السياسة، هو كان يقول: "ما معاوية بأدهى مني، ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر، لكنت من أدهى الناس". وكان يقول: "الوفاء توأم الصدق". الصادق لا يمكن أن يخون أو يغدر، ولما كان هو الصادق، فلا يرضى أن يغدر حتى بعدوّه، وهذه أخلاقيّات الإسلام.

وهذه، أيّها الأحبّة، هي الأخلاقيّة التي ينبغي للأمّة أن تراعيها في كلّ الأشخاص الذين يتحمّلون مسؤوليّات صغيرة أو كبيرة.

انظروا إلى كلّ مسؤول، سواء كان مسؤولاً اجتماعياً، سياسياً، أو دينياً.. انظروا إلى صدقه وأمانته، فإذا رأيتموه يكذب ويخون ويلعب على الحبال، فإيّاكم أن تحملوه إلى مستوى المسؤوليّة، لا بأصواتكم ولا بمواقفكم كلّها.

بناء أوّل مسجد

المهمّ، لقد أبقى الصادق الأمين عليّاً(ع) في مكّة من أجل تسليم الودائع، وليأتي بعياله. وجاء عليّ(ع) بعد ثلاثة أيام، وأمر النبيّ كلّ المسلمين الذين بقوا في مكة أن يهاجروا لينشئ مجتمعاً جديداً تتحرك فيه الطاقات، لأنّ بقاءهم في مكّة سوف يجعلهم تحت تأثير الضغط من دون أيّ فائدة ونتيجة، وربما يخدعون عن دينهم. ولذلك، أنزل الله: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ}، ليس لهم حقوق المسلمين، لأنّه كان يريد للمسلمين أن يهاجروا بأجمعهم، حتى يقوى المجتمع الجديد بالمهاجرين والأنصار، لأنّ المدينة لم يكن سكّانها بأجمعها مسلمين.

هنا دخل النبيّ(ص) المدينة، واستقبله زعماء القبائل، كلّ واحد منهم يعرض عليه أن ينزل(ص) عنده، ولم يكن(ص) يريد أن يعطي أيّ واحد منهم امتيازاً معيّناً يحسب عليه. فما كان منه(ص) إلا أن قال لهم أنزل حيث تذهب النّاقة: "دعوها فإنَّها مأمورة".

فسارت الناقة، إلى أن بركت في مكان، سأل(ص): لمن هذا المكان؟ قالوا: ليتيمين. فأمر النبيّ(ص) بصنع المسجد في ذلك المكان.

وبدأ النبيّ أوَّل عمل في المدينة، وهو بناء المسجد، وبدأ(ص) يعمل في بناء المسجد بنفسه حتى يشجِّع المسلمين، وعندما رأى المسلمون ذلك، قال شخص ارتجازاً:

لئن قعدنا والنبيّ يعمل فذاك منّا العمل المضلَّل

وانطلق المسلمون، حتى إنّ بعض المسلمين كان من المترفين، ولكنّه وضع جانباً ترفه، وراح يشارك في العمل. حتّى إنّه يقال إنّ عليّاً(ع) ارتجز:

لا يستوي من يعمر المساجد يدأب فيها قائماً وقاعد

ومن يُرَى عن الغبار حائد

المسجد الجامع

ونزل النبيّ(ص) عند بيت شخصٍ فقير، وكان يستقبل النّاس فيه، إلى أن انتهى من بناء المسجد. ويقال إنّ سقف المسجد كان متواضعاً جدّاً، كما قال(ص): "عريش كعريش أخي موسى".

كيف نفهم المسألة؟ إنّ النبيّ(ص) عمّر المسجد من أجل أن يكون الملتقى لكلّ المسلمين، لم يرد للمسجد أن يكون مسجد قبيلة، {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ للهِ}، حتى إنّ النبيّ(ص) عندما بنى مسجداً في قباء، ليبنوا في مقابل ذلك، شجب الله ذلك، وسمّاه مسجد ضرار، لأنّه يبنى على أساس العصبيّة العائلية.. ولكنّ المسجد لله، وقد أراد أن يجتمعوا فيه على الصلاة، وأن يجتمعوا فيه على الوعظ والإرشاد، وعلى الدّراسة وعلى الجهاد، كان الناس يصلحون سيوفهم في المسجد، وكان يستقبل وفود العرب فيه، وكان يستقبل النصارى في المسجد، حتى عندما جاء نصارى نجران ليباهلوا النبيّ(ص)، أنزلهم في مسجده، وأعطاهم حريّة أن يدقّوا الناقوس في المسجد، حتى إنّ بعض المسلمين تضايق من ذلك، فقال النبيّ(ص): اتركوهم على حريتهم... لذلك، نحن نقول إنّه لا يحرم دخول الكافر إلى المسجد من خلال هذه القضية وقضايا أخرى.

فالمسجد كان هو القاعدة والمشروع الإسلاميّ الأوَّل الذي يراد أن يجمع المسلمين، أن لا يكون مسجد قبيلة، ولا مسجد شخص، بل مسجد المسلمين جميعاً. وهكذا كانت سيرة أهل البيت(ع) تقريباً، أنهم أرادوا لشيعتهم أن يصلّوا في مساجد المسلمين، وليس كما نعيشها الآن، حيث هناك مسجد شيعي ومسجد سني.

الخط الإسلامي أن يكون المسجد للجميع، ولكن التطورات والتعقيدات والتمذهب في الواقع الإسلامي، والعصبيات من هنا وهناك، جعل المسلمين من هذا المذهب لا يصلّون في المسجد إذا كان محسوبا على مسلمين من المذهب الآخر. ولذلك، افترق المسلمون وافترقت مساجدهم، وهذا الذي أدّى إلى أن يكون للمسلمين مسجد واحد يجتمعون عليه، ليتحاوروا وليتداركوا وليصلّوا.

أهميّة الصّلاة في المسجد

وهناك خصوصية، أيّها الأحبَّة، في المسجد؛ أنَّ الصلاة فيه أكثر فضلاً من الصلاة في غيره. وأيضاً، عندنا: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد"، يعني الشخص الذي يكون جارا ًللمسجد، إذا صلّى في غير المسجد، كأنّه لم يصلّ من ناحية الثواب، إذا لم تكن عنده موانع أخرى مثلاً، ولكن صلاته صحيحة.

والصلاة أيضاً في المسجد الجامع الكبير، مثل مسجد البلد، مقدَّم على الصلاة في مسجد المحلّة ومسجد القبيلة. ثم هناك، منذ أن بدأ النبيّ(ص) ببناء المسجد والصلاة فيه، أراد للمسلمين أن يصلّوا الجماعة، وهدّد في أحاديث عن الناس الذين لا يحضرون صلاة الجماعة في أوقاتها إذا لم يكن عندهم عذر. قال ما مضمونه: "لقد هممت أني آتي هؤلاء الذين يتخلّفون عن الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم".

ونعرف أيضاً أن صلاة الجماعة إذا زاد عددها على العشرة، لا يحصي ثوابها إلا الله. "لو كانت البحار مداداً، والشجر أقلاماً، والجنّ والإنس كتّاباً، لما استطاعوا أن يحصوا ثواب صلاة الجماعة إذا زاد عددهم عن العشرة". لو قالوا لكم: كلّ من يصلّي صلاة الجماعة له عشر طولارات، لما رأينا مكاناً لنصلّي. {وما تقدّموا لأنفسكم من خيرٍ تجدوه عند الله}، {وتزوّدوا فإنّ خير الزاد التقوى}، {يوم لا ينفع مال ولا بنون* إلا من أتى الله بقلب سليم}، {فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره* ومن يعمل مثقال ذرّة شرّاً يره}.

والله عزَّ وجلّ لم يهتمّ بصلاة في القرآن كما اهتمّ بصلاة الجمعة: {يا أيّها الذين آمنوا إذا نودي للصّلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون* فإذا قضيت الصّلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. البعض يخاف إذا جاء إلى صلاة الجمعة أن يفقد بعض التّجارة. وهذا كان موجوداً في زمان النبيّ(ص)، إذ كان النبيّ يصلّي، ويأتي شخصٌ ينادي على بضاعته، وأنها بضاعة جديدة، وتذهب الناس إليه، وتترك الصلاة: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}.

الله أراد للمسلمين أن يصلّوا جماعةً بحسب ظروفهم، وفي كلّ وقت للصّلاة، وأن يصلّوا الجمعة في كلّ أسبوع، ليتعارفوا، وليتعاونوا، وليتكاملوا، بحيث يصبح المسجد ملتقى للمسلمين في كلّ موقع وفي كلّ منطقة، ملتقى يوميّاً وملتقى أسبوعيّاً، وبذلك قد يكتشفون الكثير من المشاكل ومن نقاط الضّعف.

النبيّ(ص) كان يقول عن الناس الذين لا يحضرون الجماعة: "لقد هممت أني آتي هؤلاء الذين يتخلّفون عن الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم". هناك كثير من النّاس لا يصلّي جماعةً، ولا يريد لغيره أن يصلّي الجماعة أيضاً {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} ولا يريد أن يحصّل ثواباً، ويمنع الناس من تحصيل الثواب.

هذه العقد النفسية الموجودة في الساحة؛ عقد العصبيّات التي دخلت إلى مجتمعنا المؤمن، فجلعنا نخذّل عن عبادة الله وعن بيوت الله باسم الإسلام.

لذلك، عندما نذكر الهجرة، نتذكّر دور المسجد في الإسلام، ودور المسجد في توحيد المسلمين، ودور المسجد في التقاء المسلمين وتشاورهم وتعارفهم وتعاونهم في هذا المجال.

تنظيم المجتمع

ثم بدأ النبيّ(ص) ينظّم المجتمع. وذكرنا لكم بالأمس كيف أنه بدأ يؤاخي بين المسلمين المهاجرين الغرباء عن المدينة، وأهل المدينة. وأهل المدينة كان جماعة منهم من الأوس، وجماعة منهم من الخزرج، وقد عاشوا حرباً طويلة فيما بينهم دامت عشرات السنين، كما أنّ اليهود أيضاً كانوا موجودين هناك.

وأوّل ما بدأ به الرّسول(ص)، هو المؤاخاة بين المسلمين، فكان يؤاخي بين مسلمٍ من الأوس ومسلمٍ من الخزرج، وبين مسلمٍ من المهاجرين ومسلمٍ من الأنصار... وكانوا يقولون إنّه بلغ إحساس المسلمين بالإخوّة، أنه إذا آخى النبيّ بين شخص وشخص، وكان أحدهما غنياً والآخر فقيراً، يقول الغنيّ للفقير: أصبحت أخي، فتعال أشاطرك مالي، بحيث يقاسمه ماله. هكذا كانت الإخوّة. وفهم المسلمون الإخوّة بهذا النحو.

ثم بعد ذلك، أراد النبيّ(ص) أن ينظّم المجتمع، وكان أوّل مجتمع إسلاميّ يتقبّل الآخر. فنحن نعرف أنّه كان أهل المدينة وكان اليهود معهم، وكان اليهود يمثّلون مجتمعاً كبيراً، وكانوا موجودين في الأماكن العالية والاستراتيجيّة، ومن الطبيعي أن يكون عندهم سيطرة على المدينة.

كان النبيّ يواجه مجتمعاً مختلفاً. طبعاً الأكثرية دخلت في الإسلام، ولكن هناك بعض عوائل المدينة بقيت على الشّرك، وكان هناك أيضاً اليهود. فالنبيّ(ص) جاء وعقد معاهدة بين المسلمين في المدينة أنفسهم، ثم أدخل اليهود في المعاهدة، بحيث إنه إذا أردنا أن نعبّر كما في هذه الأيّام، أنه خلق شخصية المواطنية...

وبهذا، بدأ الإسلام في أوّل وثيقة حقوقيّة للمعاهدة في المجتمع المتنوّع بين الإسلام وغيره، ومن خلال ذلك، نفهم أنّ علاقة المسلمين بأهل الكتاب لا تنحصر بقانون الذمّة، بل إنها تمتدّ إلى قانون المعاهدة، فيمكن للمسلمين أو النصارى أو اليهود عندما يعيشون في مجتمع واحد تحكمه مصالح واحدة وقضايا واحدة، من الممكن جداً أن يكون هناك عقد اجتماعيّ فيما بينهم يحكم علاقاتهم؛ أن لا يضرّ أحدهم الآخر ولا يؤذيه ولا يخونه... ولهذا، أراد النبيّ(ص) في أوّل انطلاقته في بناء المجتمع الإسلامي في أوّل الهجرة، أن يركز قواعد المجتمع على أساس الاحترام المتبادل، والمؤاخاة المتبادلة، والواقع العمليّ أيضاً الذي يرتبط كلّ واحد فيه بالآخر.

ولكنّ اليهود خانوه وخانوا المعاهدة، وهذا شغلهم في كلّ التاريخ: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ}. لذلك، بدأوا يكيدون للنبيّ وللإسلام والمسلمين، ومن الطبيعي أن تتطوّر الأمور إلى أن أخرج اليهود من المدينة، بعد أن تحالفوا مع المشركين ومع المنافقين، وكانت وقعة الأحزاب، ثم بعد ذلك وقعة بني النضير وبني قريظة... وأخرجهم من المدينة بعد أن خانوا المعاهدة.

ثم بدأ النبيّ(ص) تركيز القواعد القانونيّة والاجتماعيّة العامّة والأخلاقيّة للمجتمع الجديد، حتى يكون مجتمعاً يحكمه قانون وقيم، وتحكمه أوضاع في المعاملات وغيرها، من أجل أن يبني الدّولة الإسلاميّة الجديدة.

وهذا ما نرجو أن نوفَّق للحديث عنه غداً إن شاء الله تعالى.

والحمد لله ربِّ العالمين، والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

محاضرة ألقاها سماحته في اللّيلة الرّابعة من عاشوراء، بتاريخ: 19-4-1999.

لانزال مع النبيّ(ص) وهو في طريقه إلى المدينة، في الهجرة التي أراد الله له أن يقوم بها من أجل إنشاء المجتمع الجديد، الذي ينطلق فيه الإسلام ليعيش في ساحة الصّراع، ليتحدّى الكفر والشّرك والاستكبار، وليردّ التحدّي.

الصّادق الأمين

ووصل النبي(ص) إلى مشارف المدينة إلى قباء، وبقي هناك 3 أيام ينتظر علياً(ع)، لأنه بقي في مكة بأمر من رسول الله، من أجل أن يردّ للناس ودائعهم... وهذه ملحوظة لا بدّ من أن نلمّ بها، وهي أنّ الناس حتى بعد أن بعث الله نبيه بالرّسالة، وبعد ما واجهته كلّ وسائل التحدّي والمواجهة، بقي الناس يودعون عنده ودائعهم، لأنّ مسألة صدق النبي وأمانته كانت من الأمور التي التقى عليها كلّ الناس، حتى تحولت هاتان الصفتان إلى اسم للنبيّ عندهم، فكانوا يقولون جاء الصادق الأمين، والتقينا بالصادق الأمين، بدلاً من أن يقولوا جاء محمد والتقينا بمحمد.

ويروى عن شخص من أصحاب الإمام جعفر الصادق(ع) أنه قال له، إني أحبّ أن أكون قريباً منك ـ بمعنى من خواصّك ـ فكيف أكون كذلك؟ قال(ع): "انظر ما بلغ به عليّ(ع) عند رسول الله(ص) فالزمه، فإنّ عليّاً(ع) إنما بلغ ما بلغ به عند رسول الله(ص) بصدق الحديث وأداء الأمانة".

فكان عليّ الصادق الأمين، كما كان رسول الله الصادق الأمين، لأنّ مسألة الصدق والأمانة تشملان كلّ مواقع الأخلاق الإسلامية، لأنّ الإنسان إذا كان صادقاً، فلا يمكن أن يكذب في قول أو يكذب في نيّة أو يكذب في موقف أو يكذب في معاملة أو يكذب في أيّ حالة من الحالات، لأنّ الإنسان الصادق هو الإنسان الذي لا يعيش الازدواجية بين الحقيقة وبين ما يظهره للنّاس، فظاهره كباطنه، وكلماته وفق للواقع، وموقفه لا يختلف عن إيمانه.

أما الأمانة، فإنها لا تنحصر عند أمانة المال، ولكنها تمتدّ حتى تشمل كلّ المسؤوليات، لأن الإنسان إذا كان أميناً على أموال الناس، فلأنه يتحسس المسؤولية في المال الذي عنده. ولذلك، لا بدّ من أن يكون أميناً على وظيفته، فلا يخون وظيفته، ولا بدّ من أن يكون أميناً فيما يقدّمه للناس من بضاعة فلا يغشّها، ولا يحاول أن يقدّم، مثلاً، بضاعةً للناس بعنوان أنَّ مصدرها البلد الفلاني، ويكون مصدرها في الواقع محليّاً، كما يفعل الكثير من الناس.

وهكذا، إذا كان أميناً في المال، فلا بدّ من أن يكون أميناً على دماء الناس، وعلى أعراض الناس، وعلى كرامات الناس، وعلى سياسة الناس، وعلى الواقع الاجتماعي للناس، لأن الشخصية لا تتجزأ؛ فمن كان أميناً في نفسه، فإنه لا بدّ من أن يكون أميناً على المجتمع كلّه. ولذلك، لاحظوا أن الله سبحانه وتعالى أعطى كلمة الأمانة معنى المسؤوليّة {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا – يعني الله قال للأرض من باب التشبيه: أيّتها الأرض، تحمّلي مسؤوليّة وجودك وسأحاسبك على ذلك.. أيّتها السماوات، تحمّلي مسؤولية وجودك وسأحاسبك على ذلك.. أيّتها الجبال، تحمّلي مسؤولية وجودك... قالت: يا ربّ، لا نقبل، لأننا لا نضمن أن لا نخون الأمانة - فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَ} مع ضخامة الأرض وامتدادها، وضخامة السماء وامتدادها، وضخامة الجبال وارتفاعها، ومع ذلك، قالت يا ربّ، هذه المسألة كبيرة، ومسؤوليتنا بيدك {فقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}..

{فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا - خفنا من النتائج - وحَمَلَهَا الْإِنسَانُ- قال له أنا لها يا ربّ، عندي عقل وإرادة {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُول}، ظلم نفسه بالانحراف عن خطّ الأمانة، وجهل سعة الأمانة وامتدادها.

لذلك، عندما أرسل الله رسوله، وكان صادقا ًأميناً، فإنه أراد أن يقول للناس، إن هاتين الصفتين تمثّلان كلّ ما يفرض الوثوق بالرّسالة، لأن الصادق لا يكذب على الله ولا على الناس، ولأن الأمين لا يخون الله ولا يخون الناس، وبذلك يجتمع للرّسول كلّ امتداد المسؤولية.

عليّ(ع) لا يعرف إلا الحقّ

وهكذا، عندما أراد الرسول(ص) أن يجعل عليّاً مكانه أيضاً، كان عليّ الصادق الأمين. ولذلك، فهو عندما يتحمَّل مسؤوليَّة الإمامة، فإنَّه يبقى ينطلق من خلال أنّه الصادق مع نفسه ومع ربِّه ومع الناس، الّذي لا يكذب على رسول الله، ولا يكذب على الله، والأمين على كلّ مسؤوليات الناس.

ولذلك، عندما بدأت اللّعبة السياسيَّة التي قام بها من وقفوا ضدّ عليّ(ع)، قال(ع): "قد يرى الحوَّل القلَّب ـ الشخص الذي يدرس تقلّبات الأمور وتحوّلاتها ـ وجه الحيلة ـ يعني هناك مجال للتحايل وللّفّ والدوران ـ ودونه مانع من أمر الله ونهيه ـ الحيلة موجودة، ولكن، هل يمكن لعليّ أن يغدر وهو يملك الفكر الّذي يتّسع للعالم؟! وعليّ بن أبي طالب الذي يملك فكر الحقّ، يعرف فكر التحايل والدّوران واللّعب على الحبال، لكنَّه لا يفعل ذلك أبداً، لأنَّ عليّاً لا يسير إلّا على الحقّ، وإلّا بما يرضي الله ـ فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين".

لذلك، علي بن أبي طالب كان يتقن اللعبة السياسة، وليس كما يقال إنّ عليّاً كان لا يعرف السياسة، هو كان يقول: "ما معاوية بأدهى مني، ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر، لكنت من أدهى الناس". وكان يقول: "الوفاء توأم الصدق". الصادق لا يمكن أن يخون أو يغدر، ولما كان هو الصادق، فلا يرضى أن يغدر حتى بعدوّه، وهذه أخلاقيّات الإسلام.

وهذه، أيّها الأحبّة، هي الأخلاقيّة التي ينبغي للأمّة أن تراعيها في كلّ الأشخاص الذين يتحمّلون مسؤوليّات صغيرة أو كبيرة.

انظروا إلى كلّ مسؤول، سواء كان مسؤولاً اجتماعياً، سياسياً، أو دينياً.. انظروا إلى صدقه وأمانته، فإذا رأيتموه يكذب ويخون ويلعب على الحبال، فإيّاكم أن تحملوه إلى مستوى المسؤوليّة، لا بأصواتكم ولا بمواقفكم كلّها.

بناء أوّل مسجد

المهمّ، لقد أبقى الصادق الأمين عليّاً(ع) في مكّة من أجل تسليم الودائع، وليأتي بعياله. وجاء عليّ(ع) بعد ثلاثة أيام، وأمر النبيّ كلّ المسلمين الذين بقوا في مكة أن يهاجروا لينشئ مجتمعاً جديداً تتحرك فيه الطاقات، لأنّ بقاءهم في مكّة سوف يجعلهم تحت تأثير الضغط من دون أيّ فائدة ونتيجة، وربما يخدعون عن دينهم. ولذلك، أنزل الله: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ}، ليس لهم حقوق المسلمين، لأنّه كان يريد للمسلمين أن يهاجروا بأجمعهم، حتى يقوى المجتمع الجديد بالمهاجرين والأنصار، لأنّ المدينة لم يكن سكّانها بأجمعها مسلمين.

هنا دخل النبيّ(ص) المدينة، واستقبله زعماء القبائل، كلّ واحد منهم يعرض عليه أن ينزل(ص) عنده، ولم يكن(ص) يريد أن يعطي أيّ واحد منهم امتيازاً معيّناً يحسب عليه. فما كان منه(ص) إلا أن قال لهم أنزل حيث تذهب النّاقة: "دعوها فإنَّها مأمورة".

فسارت الناقة، إلى أن بركت في مكان، سأل(ص): لمن هذا المكان؟ قالوا: ليتيمين. فأمر النبيّ(ص) بصنع المسجد في ذلك المكان.

وبدأ النبيّ أوَّل عمل في المدينة، وهو بناء المسجد، وبدأ(ص) يعمل في بناء المسجد بنفسه حتى يشجِّع المسلمين، وعندما رأى المسلمون ذلك، قال شخص ارتجازاً:

لئن قعدنا والنبيّ يعمل فذاك منّا العمل المضلَّل

وانطلق المسلمون، حتى إنّ بعض المسلمين كان من المترفين، ولكنّه وضع جانباً ترفه، وراح يشارك في العمل. حتّى إنّه يقال إنّ عليّاً(ع) ارتجز:

لا يستوي من يعمر المساجد يدأب فيها قائماً وقاعد

ومن يُرَى عن الغبار حائد

المسجد الجامع

ونزل النبيّ(ص) عند بيت شخصٍ فقير، وكان يستقبل النّاس فيه، إلى أن انتهى من بناء المسجد. ويقال إنّ سقف المسجد كان متواضعاً جدّاً، كما قال(ص): "عريش كعريش أخي موسى".

كيف نفهم المسألة؟ إنّ النبيّ(ص) عمّر المسجد من أجل أن يكون الملتقى لكلّ المسلمين، لم يرد للمسجد أن يكون مسجد قبيلة، {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ للهِ}، حتى إنّ النبيّ(ص) عندما بنى مسجداً في قباء، ليبنوا في مقابل ذلك، شجب الله ذلك، وسمّاه مسجد ضرار، لأنّه يبنى على أساس العصبيّة العائلية.. ولكنّ المسجد لله، وقد أراد أن يجتمعوا فيه على الصلاة، وأن يجتمعوا فيه على الوعظ والإرشاد، وعلى الدّراسة وعلى الجهاد، كان الناس يصلحون سيوفهم في المسجد، وكان يستقبل وفود العرب فيه، وكان يستقبل النصارى في المسجد، حتى عندما جاء نصارى نجران ليباهلوا النبيّ(ص)، أنزلهم في مسجده، وأعطاهم حريّة أن يدقّوا الناقوس في المسجد، حتى إنّ بعض المسلمين تضايق من ذلك، فقال النبيّ(ص): اتركوهم على حريتهم... لذلك، نحن نقول إنّه لا يحرم دخول الكافر إلى المسجد من خلال هذه القضية وقضايا أخرى.

فالمسجد كان هو القاعدة والمشروع الإسلاميّ الأوَّل الذي يراد أن يجمع المسلمين، أن لا يكون مسجد قبيلة، ولا مسجد شخص، بل مسجد المسلمين جميعاً. وهكذا كانت سيرة أهل البيت(ع) تقريباً، أنهم أرادوا لشيعتهم أن يصلّوا في مساجد المسلمين، وليس كما نعيشها الآن، حيث هناك مسجد شيعي ومسجد سني.

الخط الإسلامي أن يكون المسجد للجميع، ولكن التطورات والتعقيدات والتمذهب في الواقع الإسلامي، والعصبيات من هنا وهناك، جعل المسلمين من هذا المذهب لا يصلّون في المسجد إذا كان محسوبا على مسلمين من المذهب الآخر. ولذلك، افترق المسلمون وافترقت مساجدهم، وهذا الذي أدّى إلى أن يكون للمسلمين مسجد واحد يجتمعون عليه، ليتحاوروا وليتداركوا وليصلّوا.

أهميّة الصّلاة في المسجد

وهناك خصوصية، أيّها الأحبَّة، في المسجد؛ أنَّ الصلاة فيه أكثر فضلاً من الصلاة في غيره. وأيضاً، عندنا: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد"، يعني الشخص الذي يكون جارا ًللمسجد، إذا صلّى في غير المسجد، كأنّه لم يصلّ من ناحية الثواب، إذا لم تكن عنده موانع أخرى مثلاً، ولكن صلاته صحيحة.

والصلاة أيضاً في المسجد الجامع الكبير، مثل مسجد البلد، مقدَّم على الصلاة في مسجد المحلّة ومسجد القبيلة. ثم هناك، منذ أن بدأ النبيّ(ص) ببناء المسجد والصلاة فيه، أراد للمسلمين أن يصلّوا الجماعة، وهدّد في أحاديث عن الناس الذين لا يحضرون صلاة الجماعة في أوقاتها إذا لم يكن عندهم عذر. قال ما مضمونه: "لقد هممت أني آتي هؤلاء الذين يتخلّفون عن الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم".

ونعرف أيضاً أن صلاة الجماعة إذا زاد عددها على العشرة، لا يحصي ثوابها إلا الله. "لو كانت البحار مداداً، والشجر أقلاماً، والجنّ والإنس كتّاباً، لما استطاعوا أن يحصوا ثواب صلاة الجماعة إذا زاد عددهم عن العشرة". لو قالوا لكم: كلّ من يصلّي صلاة الجماعة له عشر طولارات، لما رأينا مكاناً لنصلّي. {وما تقدّموا لأنفسكم من خيرٍ تجدوه عند الله}، {وتزوّدوا فإنّ خير الزاد التقوى}، {يوم لا ينفع مال ولا بنون* إلا من أتى الله بقلب سليم}، {فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره* ومن يعمل مثقال ذرّة شرّاً يره}.

والله عزَّ وجلّ لم يهتمّ بصلاة في القرآن كما اهتمّ بصلاة الجمعة: {يا أيّها الذين آمنوا إذا نودي للصّلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون* فإذا قضيت الصّلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. البعض يخاف إذا جاء إلى صلاة الجمعة أن يفقد بعض التّجارة. وهذا كان موجوداً في زمان النبيّ(ص)، إذ كان النبيّ يصلّي، ويأتي شخصٌ ينادي على بضاعته، وأنها بضاعة جديدة، وتذهب الناس إليه، وتترك الصلاة: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}.

الله أراد للمسلمين أن يصلّوا جماعةً بحسب ظروفهم، وفي كلّ وقت للصّلاة، وأن يصلّوا الجمعة في كلّ أسبوع، ليتعارفوا، وليتعاونوا، وليتكاملوا، بحيث يصبح المسجد ملتقى للمسلمين في كلّ موقع وفي كلّ منطقة، ملتقى يوميّاً وملتقى أسبوعيّاً، وبذلك قد يكتشفون الكثير من المشاكل ومن نقاط الضّعف.

النبيّ(ص) كان يقول عن الناس الذين لا يحضرون الجماعة: "لقد هممت أني آتي هؤلاء الذين يتخلّفون عن الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم". هناك كثير من النّاس لا يصلّي جماعةً، ولا يريد لغيره أن يصلّي الجماعة أيضاً {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} ولا يريد أن يحصّل ثواباً، ويمنع الناس من تحصيل الثواب.

هذه العقد النفسية الموجودة في الساحة؛ عقد العصبيّات التي دخلت إلى مجتمعنا المؤمن، فجلعنا نخذّل عن عبادة الله وعن بيوت الله باسم الإسلام.

لذلك، عندما نذكر الهجرة، نتذكّر دور المسجد في الإسلام، ودور المسجد في توحيد المسلمين، ودور المسجد في التقاء المسلمين وتشاورهم وتعارفهم وتعاونهم في هذا المجال.

تنظيم المجتمع

ثم بدأ النبيّ(ص) ينظّم المجتمع. وذكرنا لكم بالأمس كيف أنه بدأ يؤاخي بين المسلمين المهاجرين الغرباء عن المدينة، وأهل المدينة. وأهل المدينة كان جماعة منهم من الأوس، وجماعة منهم من الخزرج، وقد عاشوا حرباً طويلة فيما بينهم دامت عشرات السنين، كما أنّ اليهود أيضاً كانوا موجودين هناك.

وأوّل ما بدأ به الرّسول(ص)، هو المؤاخاة بين المسلمين، فكان يؤاخي بين مسلمٍ من الأوس ومسلمٍ من الخزرج، وبين مسلمٍ من المهاجرين ومسلمٍ من الأنصار... وكانوا يقولون إنّه بلغ إحساس المسلمين بالإخوّة، أنه إذا آخى النبيّ بين شخص وشخص، وكان أحدهما غنياً والآخر فقيراً، يقول الغنيّ للفقير: أصبحت أخي، فتعال أشاطرك مالي، بحيث يقاسمه ماله. هكذا كانت الإخوّة. وفهم المسلمون الإخوّة بهذا النحو.

ثم بعد ذلك، أراد النبيّ(ص) أن ينظّم المجتمع، وكان أوّل مجتمع إسلاميّ يتقبّل الآخر. فنحن نعرف أنّه كان أهل المدينة وكان اليهود معهم، وكان اليهود يمثّلون مجتمعاً كبيراً، وكانوا موجودين في الأماكن العالية والاستراتيجيّة، ومن الطبيعي أن يكون عندهم سيطرة على المدينة.

كان النبيّ يواجه مجتمعاً مختلفاً. طبعاً الأكثرية دخلت في الإسلام، ولكن هناك بعض عوائل المدينة بقيت على الشّرك، وكان هناك أيضاً اليهود. فالنبيّ(ص) جاء وعقد معاهدة بين المسلمين في المدينة أنفسهم، ثم أدخل اليهود في المعاهدة، بحيث إنه إذا أردنا أن نعبّر كما في هذه الأيّام، أنه خلق شخصية المواطنية...

وبهذا، بدأ الإسلام في أوّل وثيقة حقوقيّة للمعاهدة في المجتمع المتنوّع بين الإسلام وغيره، ومن خلال ذلك، نفهم أنّ علاقة المسلمين بأهل الكتاب لا تنحصر بقانون الذمّة، بل إنها تمتدّ إلى قانون المعاهدة، فيمكن للمسلمين أو النصارى أو اليهود عندما يعيشون في مجتمع واحد تحكمه مصالح واحدة وقضايا واحدة، من الممكن جداً أن يكون هناك عقد اجتماعيّ فيما بينهم يحكم علاقاتهم؛ أن لا يضرّ أحدهم الآخر ولا يؤذيه ولا يخونه... ولهذا، أراد النبيّ(ص) في أوّل انطلاقته في بناء المجتمع الإسلامي في أوّل الهجرة، أن يركز قواعد المجتمع على أساس الاحترام المتبادل، والمؤاخاة المتبادلة، والواقع العمليّ أيضاً الذي يرتبط كلّ واحد فيه بالآخر.

ولكنّ اليهود خانوه وخانوا المعاهدة، وهذا شغلهم في كلّ التاريخ: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ}. لذلك، بدأوا يكيدون للنبيّ وللإسلام والمسلمين، ومن الطبيعي أن تتطوّر الأمور إلى أن أخرج اليهود من المدينة، بعد أن تحالفوا مع المشركين ومع المنافقين، وكانت وقعة الأحزاب، ثم بعد ذلك وقعة بني النضير وبني قريظة... وأخرجهم من المدينة بعد أن خانوا المعاهدة.

ثم بدأ النبيّ(ص) تركيز القواعد القانونيّة والاجتماعيّة العامّة والأخلاقيّة للمجتمع الجديد، حتى يكون مجتمعاً يحكمه قانون وقيم، وتحكمه أوضاع في المعاملات وغيرها، من أجل أن يبني الدّولة الإسلاميّة الجديدة.

وهذا ما نرجو أن نوفَّق للحديث عنه غداً إن شاء الله تعالى.

والحمد لله ربِّ العالمين، والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

محاضرة ألقاها سماحته في اللّيلة الرّابعة من عاشوراء، بتاريخ: 19-4-1999.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية